قوله تعالى : { صراط الذين أنعمت عليهم } . أي مننت عليهم بالهداية والتوفيق قال عكرمة : مننت عليهم بالثبات على الإيمان والاستقامة ، وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وقيل : هم كل من ثبته الله على الإيمان من النبيين والمؤمنين الذين ذكرهم الله تعالى في قوله : ( فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين ) الآية وقال ابن عباس : هم قوم موسى وعيسى عليهما السلام قبل أن غيروا دينهم ، وقال عبد الرحمن : هم النبي ومن معه ، وقال أبو العالية : هم الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما ، قال عبد الرحمن بن زيد : إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته ، وقال شهر بن حوشب : هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته . قرأ حمزة : ( عليهم ، ولديهم ، وإليهم ) ، بضم هاءاتها ، ويضم يعقوب كل هاء قبلها ياء ساكنة تثنية وجمعاً إلا قوله : ( بين أيديهن وأرجلهن ) وقرأ الآخرون بكسرهما ، فمن ضم الهاء ردها إلى الأصل ، لأنها مضمومة عند الانفراد ومن كسرها فلأجل الياء الساكنة و الياء أخت الكسرة ، وضم ابن كثير و أبو جعفر كل ميم جمع مشبعاً في الوصل إذا لم يلقها ساكن ، فإن لقيها ساكن فلا يشبع ، ونافع يخير ، ويضم ورش عند ألف القطع ، فإذا تلقته ألف وصل وقبل الهاء كسر أو ياء ساكنة ضم الهاء والميم حمزة و الكسائي ، وكسرهما أبو عمرو ، وكذلك يعقوب إذا انكسر ما قبله ، والآخرون يقرؤون بضم الميم وكسر الهاء في الكل لأجل الياء ، أو لكسر ما قبلها وضم الميم على الأصل .
قوله تعالى : { غير المغضوب عليهم } . يعني غير صراط الذين غضبت عليهم ، والغضب هو : إرادة الانتقام من العصاة ، وغضب الله تعالى لا يلحق عصاة المؤمنين إنما يلحق الكافرين .
قوله تعالى : { ولا الضالين } . أي وغير الضالين عن الهدى . وأصل الضلال الهلاك والغيبوبة ، يقال : ضل الماء في اللبن إذا هلك وغاب . و( غير ) هاهنا بمعنى لا ، ولا بمعنى غير ، ولذلك جاز العطف عليها ، كما يقال : فلان غير محسن ولا مجمل ، فإذا كان ( غير ) بمعنى سوى فلا يجوز العطف عليها بلا ، ولا يجوز في الكلام : عندي سوى عبد الله ولا زيد . وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه " صراط من أنعمت عليهم " لأن الله تعالى حكم على اليهود بالغضب فقال : ( من لعنه الله وغضب عليه ) وحكم على النصارى بالضلال ( غير المغضوب عليهم ) وغير الضالين وقيل المغضوب عليهم هم اليهود ، والضالون هم النصارى فقال : ( ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل ) وقال سهل بن عبد الله ( غير المغضوب عليهم ) بالبدعة ( ولا الضالين ) عن السنة .
والسنة للقارئ أن يقول بعد فراغه من قراءة الفاتحة { آمين } . مفصولا عن الفاتحة بسكتة وهو مخفف ، ويجوز ممدودا ومقصورا ومعناه : اللهم اسمع واستجب . وقال ابن عباس و قتادة : معناه كذلك يكون ، وقال مجاهد : هو اسم من أسماء الله تعالى ، وقيل : هو طابع الدعاء ، وقيل هو خاتم الله على عباده يدفع به الآفات عنهم ، كخاتم الكتاب يمنعه من الفساد وظهور ما فيه .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، و أبو حامد أحمد بن عبد الله الصالحي قالا : أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري ، أنا أبو علي محمد ابن أحمد بن محمد بن معقل الميداني ، ثنا محمد بن يحيى ، ثنا عبد الرزاق ، أنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا قال الإمام غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا آمين ، فإن الملائكة تقول آمين ، وإن الإمام يقول آمين ، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه " صحيح .
أخبرنا أبو الحسن أحمد بن عبد الرحمن بن محمد الكناني ، أنا أبو نصر محمد ابن علي بن الفضل الخزاعي ، أنا أبو عثمان عمر بن عبد الله البصري ، ثنا محمد ابن عبد الوهاب ، ثنا خالد بن مخلد القطراني ، حدثني محمد بن جعفر بن أبي كثير ، هو أخو إسماعيل بن جعفر ، عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال : " مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبيّ بن كعب وهو قائم يصلي فصاح به فقال : تعال يا أبي ، فعجل أبي في صلاته ، ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما منعك يا أبي أن تجيبني إذ دعوتك ؟ أليس الله يقول : ( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذ دعاكم لما يحييكم ) قال أبي : لا جرم يا رسول الله لا تدعوني إلا أجبتك وإن كنت مصليا . قال : أتحب أن أعلمك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها ؟ فقال أبيّ : نعم يا رسول الله فقال : لا تخرج من باب المسجد حتى تعلمها والنبي صلى الله عليه وسلم يمشي يريد أن يخرج من المسجد ، فلما بلغ الباب ليخرج قال له أبي : السورة يا رسول الله ؟ فوقف فقال : نعم كيف تقرأ في صلاتك ؟ فقرأ أبي أم القرآن ، فقال رسول الله : صلى الله عليه وسلم " والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها ، وإنما هي السبع من المثاني التي آتاني الله عز وجل " هذا حديث حسن صحيح .
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الصمد الترابي ، أنا الحاكم أبو الفضل محمد ابن الحسين الحدادي ، أنا أبو يزيد محمد بن يحيى بن خالد ، أنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ، ثنا يحيى بن آدم ، ثنا أبو الأحوص عن عمار بن ذريق عن عبد الله بن عيسى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : " بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جبريل إذ سمع نقضا من فوقه ، فرفع جبريل بصره إلى السماء ، فقال : هذا باب فتح من السماء ما فتح قط ، قال : فنزل منه ملك ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك ، فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة ، لن تقرأ حرفا منهما إلا أعطيته " صحيح .
أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد الشيرازي ، ثنا زاهر بن أحمد السرخسي ، أنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أنا أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري ، عن مالك عن العلاء بن عبد الرحمن أنه سمع أبا السائب مولى هشام بن زهرة ، يقول : سمعت أبا هريرة يقول ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج غير تمام " قال : فقلت يا أبا هريرة إني أحيانا أكون وراء الإمام ؟ فغمز ذراعي وقال : اقرأ بها يا فارسي في نفسك ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " قال الله عز وجل : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقرؤوا يقول العبد : ( الحمد لله رب العالمين ) يقول الله : حمدني عبدي ، يقول العبد : ( الرحمن الرحيم ) يقول الله : أثنى علي عبدي ، يقول العبد : ( مالك يوم الدين ) يقول الله : مجدني عبدي . يقول العبد : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) يقول الله عز وجل : هذه الآية بيني وبين عبدي ، فلعبدي ما سأل . يقول العبد : ( اهدنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) يقول الله : فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل " صحيح .
وهذا الصراط المستقيم هو : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين . { غَيْرِ } صراط { الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } الذين عرفوا الحق وتركوه كاليهود ونحوهم . وغير صراط { الضَّالِّينَ } الذين تركوا الحق على جهل وضلال ، كالنصارى ونحوهم .
فهذه السورة على إيجازها ، قد احتوت على ما لم تحتو عليه سورة من سور القرآن ، فتضمنت أنواع التوحيد الثلاثة : توحيد الربوبية يؤخذ من قوله : { رَبِّ الْعَالَمِينَ }
وتوحيد الألوهية وهو إفراد الله بالعبادة ، يؤخذ من لفظ : { اللَّهِ } ومن قوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } وتوحيد الأسماء والصفات ، وهو إثبات صفات الكمال لله تعالى ، التي أثبتها لنفسه ، وأثبتها له رسوله من غير تعطيل ولا تمثيل ولا تشبيه ، وقد دل على ذلك لفظ { الْحَمْدُ } كما تقدم . وتضمنت إثبات النبوة في قوله : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } لأن ذلك ممتنع بدون الرسالة .
وإثبات الجزاء على الأعمال في قوله : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } وأن الجزاء يكون بالعدل ، لأن الدين معناه الجزاء بالعدل .
وتضمنت إثبات القدر ، وأن العبد فاعل حقيقة ، خلافا للقدرية والجبرية . بل تضمنت الرد على جميع أهل البدع [ والضلال ] في قوله : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } لأنه معرفة الحق والعمل به . وكل مبتدع [ وضال ] فهو مخالف لذلك .
وتضمنت إخلاص الدين لله تعالى ، عبادة واستعانة في قوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فالحمد لله رب العالمين .
وجملة { صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } بدل من الصراط المستقيم . ولم يقل : اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم مستغنيًا عن ذكر الصراط المستقيم ، ليدل أن صراط هؤلاء المنعم عليهم هو الصراط المستقيم .
وقال : { صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ولم يقل صراط الأنبياء أو الصالحين ، ليدل على أن الدين فى ذاته نعمة عظيمة ، ويكفى للدلالة على عظمتها إسنادها إليه - تعالى - فى قوله : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } لأن المراد بالإِنعام هنا - على الراجح - الإِنعام الدينى . فالمنعم عليهم هم من عرفوا الحق فتمسكوا به ، وعرفوا الخير فعملوا به . قال بعض العلماء : " وإنما اختار فى البيان أن يضيف الصراط إلى المنعم عليهم لمعنيين : أولهما : هو إبراز نفسية المحب المخلص ، وأنه يكون شديد الاحتياط دقيق التحرى عن الطريق الموصل إلى ساحة الرضا فى ثقة تملأ نفسه ، وتفعم قلبه ، ولا يجد فى مثل هذا المقام ما يملأ نفسه ثقة إلا أن يبين الطريق ، بأنه الطريق الذى وصل بالسير عليه من قبله الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون . وثانيهما : أن من خواطر المؤمل فى نعيم ربه أن يكون تمام أنسه فى رفقة من الناس صالحين ، وصحب منهم محسنين ) .
وقوله - تعالى - { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم } بدل من { الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } وأتى فى وصف الإِنعام بالفعل المسند إلى الله - تعالى - فقال : { أنعمت عليهم } فى وصف الغضب باسم المفعول فقال : { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم } وفى ذلك تعليم لأدب جميل ، وهو أن الإِنسان يجمل به أن يسند أفعال الإِحسان إلى الله ، ويتحامى أن يسند إليه أفعال العقاب والابتلاء ، وإن كان كل من الإِحسان والعقاب صادرًا منه ، ومن شواهد هذا قوله - تعالى - حكاية عن مؤمنى الجن { وَأَنَّا لاَ ندري أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرض أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً } وحرف ( لا ) فى قوله { وَلاَ الضآلين } جئ به لتأكيد معنى النفى المستفاد من كلمة غير . والمراد بالمغضوب عليهم اليهود . وبالضالين النصارى . وقد ورد هذا التفسير عن النبى صلى الله عليه وسلم فى حديث رواه الإِمام أحمد فى مسنده وابن حبان فى صحيحه . ومن المفسرين من قال بأن المراد بالمغضوب عليهم من فسدت إرادتهم حيث علموا الحق ولكنهم تركوه عنادًا وجحودا ، وأن المراد بالضالين من فقدوا العلم فهم تائهون فى الضلالات دون أن يهتدوا إلى طريق قويم . وقدم المغضوب عليهم على الضالين ، لأن معنى المغضوب عليهم كالضد لمعنى المنعم عليهم ، ولأن المقابلة بينهما أوضح منها بين المنعم عليهم والضالين ، فكان جديرًا بأن يوضع فى مقابلته قبل الضالين .
قال العلماء : ويستحب لمن يقرأ الفاتحة أن يقول بعدها ( آمين ) ومعناه اللهم استجب وليس هذا اللفظ من القرآن بدليل أنه لم يثبت فى المصاحف والدليل على استحباب التأمين ما رواه الإِمام أحمد وأبو داود والترمذى عن وائل بن حجر قال : سمعت النبى صلى الله عليه وسلم قرأ { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين } فقال : ( آمين ) مد بها صوته .
وفى الصحيحين عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أمن الإِمام فأمنوا ، فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر الله له ما تقدم من ذنبه " .
هذا ، وقد أفاض العلماء فى الحديث عما اشتملت عليه سورة الفاتحة من آداب وعقائد وعبادات وأحكام ، ومن ذلك قول ابن كثير : ( اشتملت هذه السورة الكريمة ، وهى سبع آيات - على حمد الله وتمجيده والثناء عليه بذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العليا ، وعلى ذكر المعاد وهو يوم الدين ، وعلى إرشاد عبيده إلى سؤاله والتضرع إليه والتبرى من حولهم وقوتهم ، إلى إخلاص العبادة له وتوحيده بالألوهية ، وتنزيهه عن أن يكون له شريك أو نظير ، وإلى سؤالهم إياه الهداية إلى الصراط المستقيم ، وهو الدين القويم وتثبيتهم عليه ، واشتملت على الترغيب فى الأعمال الصالحة ليكونوا مع أهلها يوم القيامة ، والتحذير من مسالك الباطل لئلا يحشروا مع سالكيها يوم القيامة ، وهم المغضوب عليهم والضالون ) . وقال بعض العلماء : سورة الفاتحة مشتملة على أربعة أنواع من العلوم هى مناط الدين . أحدها : علم الأصول وإليه الإِشارة بقوله { الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين الرحمن الرحيم } ، ومعرفة النبوات وإليه الإشارة بقوله : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ومعرفة المعاد وإليه الإشارة بقوله { مالك يَوْمِ الدين } . وثانيها : علم الفروع وأعظمه العبادات وإليه الإِشارة بقوله { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } . وثالثها : علم الأخلاق ، وإليه الإِشارة بقوله { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهدنا الصراط المستقيم } . ورابعها : علم القصص والأخبار عن الأمم السابقة السعداء منه والأشقياء ، وهو المراد بقوله { صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين } . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
{ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ }
قد تقدم الحديث فيما إذا قال العبد : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } إلى آخرها أن الله يقول : " هذا لعبدي ولعبدي ما سأل " .
وقوله : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } مفسر للصراط المستقيم . وهو بدل منه عند النحاة ، ويجوز أن يكون عطف بيان ، والله أعلم .
و{ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ{[955]} عَلَيْهِمْ } هم المذكورون في سورة النساء ، حيث قال : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا } [ النساء : 69 ، 70 ] .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : صراط الذين أنعمت عليهم بطاعتك وعبادتك ، من ملائكتك ، وأنبيائك ، والصديقين ، والشهداء ، والصالحين ؛ وذلك نظير ما قال ربنا تعالى : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } الآية [ النساء : 69 ] .
وقال أبو جعفر ، عن الربيع بن أنس : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } قال : هم النبيون . وقال ابن جُرَيْج ، عن ابن عباس : هم المؤمنون . وكذا قال مجاهد . وقال وَكِيع : هم المسلمون . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هم النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه . والتفسير المتقدم ، عن ابن عباس أعم ، وأشمل ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } [ قرأ الجمهور : " غير " بالجر على النعت ، قال الزمخشري : وقرئ بالنصب على الحال ، وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب ، ورويت عن ابن كثير ، وذو الحال الضمير في { عليهم } والعامل : { أنعمت } والمعنى ]{[956]} اهدنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم ممن تقدم وصفهم ونعتهم ، وهم أهل الهداية والاستقامة والطاعة لله ورسله ، وامتثال أوامره وترك نواهيه وزواجره ، غير صراط المغضوب عليهم ، [ وهم ]{[957]} الذين فسدت إرادتهم ، فعلموا الحق وعدلوا عنه ، ولا صراط الضالين وهم الذين فقدوا العلم فهم هائمون في الضلالة لا يهتدون إلى الحق ، وأكد الكلام بلا ليدل على أن ثَمّ مسلكين فاسدين ، وهما طريقتا اليهود والنصارى .
وقد زعم بعض النحاة أن { غير } هاهنا استثنائية ، فيكون على هذا منقطعًا لاستثنائهم من المنعم عليهم وليسوا منهم ، وما أوردناه أولى ، لقول الشاعر{[958]}
كأنَّك من جِمال بني أقَيش *** يُقَعْقَعُ عند{[959]} رِجْلَيْه بشَنِّ
أي : كأنك جمل من جمال بني أقيش ، فحذف الموصوف واكتفى بالصفة{[960]} ، وهكذا ، { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } أي : غير صراط المغضوب عليهم .
اكتفى بالمضاف إليه عن ذكر المضاف ، وقد دل عليه سياق الكلام ، وهو قوله تعالى : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ثم قال تعالى : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } ومنهم من زعم أن( لا ) في قوله : { ولا الضالين } زائدة ، وأن تقدير الكلام عنده : غير المغضوب عليهم والضالين ، واستشهد ببيت العجاج : في بئْر لا حُورٍ *** سرى{[961]} وما شَعَر{[962]}
والصحيح ما قدمناه . ولهذا روى أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب فضائل القرآن ، عن أبي معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه : أنه كان يقرأ : " غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَغَيْر الضَّالّين " . وهذا إسناد صحيح{[963]} ، [ وكذا حكي عن أبي بن كعب أنه قرأ كذلك ]{[964]} وهو محمول على أنه صدر منه على وجه التفسير ، فيدل على ما قلناه من أنه إنما جيء بها لتأكيد النفي ، [ لئلا يتوهم أنه معطوف على { الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ]{[965]} ، وللفرق بين الطريقتين ، لتجتنب كل منهما ؛ فإن طريقة أهل الإيمان مشتملة على العلم بالحق والعمل به ، واليهود فقدوا العمل ، والنصارى فقدوا العلم ؛ ولهذا كان الغضب لليهود ، والضلال للنصارى ، لأن من علم وترك استحق الغضب ، بخلاف من لم يعلم . والنصارى لما كانوا قاصدين شيئًا لكنهم لا يهتدون إلى طريقه ، لأنهم لم يأتوا الأمر من بابه ، وهو اتباع الرسول الحق ، ضلوا ، وكل من اليهود والنصارى ضال مغضوب عليه ، لكن أخص أوصاف اليهود الغضب [ كما قال فيهم : { مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ } ]{[966]} [ المائدة : 60 ] وأخص أوصاف النصارى الضلال [ كما قال : { قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيل " ]{[967]} } [ المائدة : 77 ] ، وبهذا جاءت الأحاديث والآثار . [ وذلك واضح بين ]{[968]} . قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، قال : سمعت سِماك بن حرب ، يقول : سمعت عبَّاد بن حُبَيش ، يحدث عن عدي بن حاتم ، قال : جاءت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذوا عمتي وناسًا ، فلما أتوا بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صُفُّوا له ، فقالت : يا رسول الله ، ناء الوافد وانقطع الولد ، وأنا عجوز كبيرة ، ما بي من خدمة ، فمُنّ علي مَنّ الله عليك ، قال : «من وافدك ؟ » قالت : عدي بن حاتم ، قال : «الذي فر من الله ورسوله ! » قالت : فمنَّ علي ، فلما رجع ، ورجل إلى جنبه{[969]} ، ترى أنه علي ، قال : سليه حُمْلانا ، فسألته ، فأمر لها ، قال : فأتتني فقالت : لقد فعل فعلة ما كان أبوك يفعلها ، فإنه قد أتاه فلان فأصاب منه ، وأتاه فلان فأصاب منه ، فأتيته فإذا عنده امرأة وصبيان أو صبي ، وذكر قربهم من النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : فعرفت أنه ليس بملك كسرى ولا قيصر ، فقال :
«يا عدي ، ما أفرك{[970]} أن يقال{[971]} لا إله إلا الله ؟ فهل من إله إلا الله ؟ قال : ما أفرك{[972]} أن يقال : الله أكبر ، فهل شيء أكبر{[973]} من الله ، عز وجل ؟ » . قال : فأسلمت ، فرأيت وجهه استبشر ، وقال : «المغضوب{[974]} عليهم اليهود ، وإن الضالين النصارى »{[975]} . وذكر الحديث ، ورواه الترمذي ، من حديث سماك بن حرب{[976]} ، وقال : حسن غريب لا نعرفه إلا من حديثه . قلت : وقد رواه حماد بن سلمة ، عن سماك ، عن مُرِّيّ بن قَطَريّ ، عن عدي بن حاتم ، قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } قال : «هم اليهود » { ولا الضالين } قال : «النصارى هم الضالون » . وهكذا رواه سفيان بن عيينة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ، عن عدي بن حاتم به{[977]} . وقد روي حديث عدي هذا من طرق ، وله ألفاظ كثيرة يطول ذكرها .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن بُدَيْل العُقَيْلي ، أخبرني عبد الله بن شَقِيق ، أنه أخبره من سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القُرَى ، وهو على فرسه ، وسأله رجل من بني القين ، فقال : يا رسول الله ، من هؤلاء ؟ قال : «المغضوب عليهم - وأشار إلى اليهود - والضالون هم النصارى »{[978]} . وقد رواه الجُرَيري وعروة ، وخالد الحَذَّاء ، عن عبد الله بن شقيق ، فأرسلوه{[979]} ، ولم يذكروا من سمع النبي صلى الله عليه وسلم . ووقع في رواية عروة تسمية عبد الله بن عمر ، فالله أعلم .
وقد روى ابن مَرْدُويه ، من حديث إبراهيم بن طَهْمان ، عن بديل بن ميسرة ، عن عبد الله بن شقيق ، عن أبي ذر قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المغضوب عليهم قال : «اليهود » ، [ قال ]{[980]} قلت : الضالين ، قال : «النصارى »{[981]} . وقال السُّدِّي ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } هم اليهود ، { ولا الضالين } هم النصارى .
وقال الضحاك ، وابن جُرَيْج ، عن ابن عباس : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } اليهود ، { ولا الضالين } [ هم ]{[982]} النصارى .
وكذلك قال الربيع بن أنس ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغير واحد ، وقال ابن أبي حاتم : ولا أعلم بين المفسرين في هذا اختلافًا .
وشاهد ما قاله هؤلاء الأئمة من أن اليهود مغضوب عليهم ، والنصارى ضالون ، الحديث المتقدم ، وقوله تعالى في خطابه مع بني إسرائيل في سورة البقرة : { بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنزلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ } [ البقرة : 90 ] ، وقال في المائدة{[983]} { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } [ المائدة : 60 ] ، وقال تعالى : { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } [ المائدة : 78 ، 79 ] .
وفي السيرة{[984]} {[985]}عن زيد بن عمرو بن نفيل ؛ أنه لما خرج هو وجماعة من أصحابه إلى الشام يطلبون الدين الحنيف ، قالت له اليهود : إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله . فقال : أنا من غضب الله أفر . وقالت له النصارى : إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ بنصيبك من سَخَط الله فقال : لا أستطيعه . فاستمر على فطرته ، وجانب عبادة الأوثان ودين المشركين ، ولم يدخل مع أحد من اليهود ولا النصارى ، وأما أصحابه فتنصروا ودخلوا في دين النصرانية ؛ لأنهم وجدوه أقرب من دين اليهود إذ ذاك ، وكان منهم ورقة بن نوفل ، حتى هداه الله بنبيه لما بعثه آمن بما وجد من الوحي ، رضي الله عنه .
( مسألة ) : والصحيح من مذاهب العلماء أنه يغتفر الإخلال بتحرير ما بين الضاد والظاء لقرب مخرجيهما ؛ وذلك أن الضاد مخرجها من أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس ، ومخرج الظاء من طرف اللسان وأطراف الثنايا العليا ، ولأن كلا من الحرفين من الحروف المجهورة ومن الحروف الرخوة ومن الحروف المطبقة ، فلهذا كله اغتفر استعمال أحدهما مكان الآخر لمن لا يميز ذلك والله أعلم . وأما حديث : " أنا أفصح من نطق بالضاد " فلا أصل له والله أعلم .
اشتملت هذه السورة الكريمة وهي سبع آيات ، على حمد الله وتمجيده والثناء عليه ، بذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العليا{[1]} ، وعلى ذكر المعاد وهو يوم الدين ، وعلى إرشاده عبيده{[2]} إلى سؤاله والتضرع إليه ، والتبرؤ من حولهم وقوتهم ، وإلى إخلاص العبادة له وتوحيده بالألوهية تبارك وتعالى ، وتنزيهه أن يكون له شريك أو نظير أو مماثل ، وإلى سؤالهم إياه الهداية إلى الصراط المستقيم ، وهو الدين القويم ، وتثبيتهم عليه حتى يُفضي بهم ذلك إلى جواز الصراط الحسي يوم القيامة ، المفضي بهم إلى جنات النعيم في جوار النبيين ، والصديقين ، والشهداء ، والصالحين .
واشتملت على الترغيب في الأعمال الصالحة ، ليكونوا مع أهلها يوم القيامة ، والتحذير من مسالك الباطل ؛ لئلا يحشروا مع سالكيها يوم القيامة ، وهم المغضوب عليهم والضالون . وما أحسن ما جاء إسناد الإنعام إليه في قوله تعالى : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } وحذف الفاعل في الغضب في قوله تعالى : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } وإن كان هو الفاعل لذلك في الحقيقة ، كما قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } الآية [ المجادلة : 14 ] ،
وكذلك إسناد الضلال إلى من قام به ، وإن كان هو الذي أضلهم بقدَره ، كما قال تعالى : { مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا } [ الكهف : 17 ] . وقال : { مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الأعراف : 186 ] . إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه سبحانه هو المنفرد بالهداية والإضلال ، لا كما تقوله الفرقة القدرية ومن حذا حذوهم ، من أن العباد هم الذين يختارون ذلك ويفعلونه{[3]} ، ويحتجون على بدعتهم{[4]} بمتشابه من القرآن ، ويتركون ما يكون فيه صريحا في الرد عليهم ، وهذا حال أهل الضلال والغي ، وقد ورد في الحديث الصحيح : «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه ، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم »{[5]} . يعني في قوله تعالى : { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } [ آل عمران : 7 ] ، فليس - بحمد الله - لمبتدع في القرآن حجة صحيحة ؛ لأن القرآن جاء ليفصل الحق من الباطل مفرقًا بين الهدى والضلال ، وليس فيه تناقض ولا اختلاف ؛ لأنه من عند الله ، تنزيل من حكيم حميد{[6]} .
يستحب لمن قرأ الفاتحة أن يقول بعدها : آمين [ مثل : يس ]{[7]} ، ويقال : أمين . بالقصر أيضًا [ مثل : يمين ]{[8]} ، ومعناه : اللهم استجب ، والدليل على ذلك{[9]} ما رواه الإمام أحمد وأبو داود ، والترمذي ، عن وائل بن حجر ، قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } فقال : " آمين " ، مد{[10]} بها صوته ، ولأبي داود : رفع بها صوته{[11]} ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن . وروي عن علي ، وابن مسعود وغيرهم .
وعن أبي هريرة ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تلا { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } قال : " آمين " حتى يسمع من يليه من الصف الأول ، رواه أبو داود ، وابن ماجه ، وزاد : يرتج{[12]} بها المسجد{[13]} ، والدارقطني وقال : هذا إسناد حسن .
وعن بلال أنه قال : يا رسول الله ، لا تسبقني بآمين . رواه أبو داود{[14]} .
ونقل أبو نصر القشيري{[15]} عن الحسن وجعفر الصادق أنهما شددا الميم من آمين مثل : { آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ } [ المائدة : 2 ] .
قال أصحابنا وغيرهم : ويستحب ذلك لمن هو خارج الصلاة ، ويتأكد في حق المصلي ، وسواء كان منفردًا أو إمامًا أو مأمومًا ، وفي جميع الأحوال ، لما جاء في الصحيحين ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أمن الإمام فأمنوا ، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة ، غفر له ما تقدم من ذنبه " ولمسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إذا قال أحدكم في الصلاة : آمين ، والملائكة{[16]} في السماء : آمين ، فوافقت إحداهما الأخرى ، غفر له ما تقدم من ذنبه »{[17]} . [ قيل : بمعنى من وافق تأمينه تأمين الملائكة في الزمان ، وقيل : في الإجابة ، وقيل : في صفة الإخلاص ]{[18]} . وفي صحيح مسلم عن أبي موسى مرفوعا : «إذا{[19]} قال ، يعني الإمام : { ولا الضالين } ، فقولوا : آمين . يجبكم الله »{[20]} . وقال جُوَيبر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : قلت : يا رسول الله ، ما معنى آمين ؟ قال : «رب افعل »{[21]} . وقال الجوهري : معنى آمين : كذلك فليكن ، وقال الترمذي : معناه : لا تخيب رجاءنا ، وقال الأكثرون : معناه : اللهم استجب لنا ، وحكى القرطبي عن مجاهد وجعفر الصادق وهلال بن كيسان : أن آمين اسم من أسماء الله تعالى وروي عن ابن عباس مرفوعًا ولا يصح ، قاله أبو بكر بن العربي المالكي{[22]} . وقال أصحاب مالك : لا يؤمن الإمام ويؤمن المأموم ، لما رواه مالك عن سُمَيّ ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «وإذا قال ، يعني الإمام : { ولا الضالين } ، فقولوا : آمين » . الحديث{[23]} . واستأنسوا - أيضا - بحديث أبي موسى : " وإذا قرأ : { ولا الضالين } ، فقولوا : «آمين » .
وقد قدمنا في المتفق عليه : «إذا أمن الإمام فأمنوا » وأنه عليه الصلاة والسلام كان يؤمن إذا قرأ{[24]} { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } .
وقد اختلف أصحابنا في الجهر بالتأمين للمأموم في الجهرية ، وحاصل الخلاف أن الإمام إن نسي التأمين جهر المأموم به قولا واحدًا ، وإن أمَّن الإمام جهرًا فالجديد أنه لا يجهر المأموم وهو مذهب أبي حنيفة ، ورواية عن مالك ؛ لأنه ذكر من الأذكار فلا يجهر به كسائر أذكار الصلاة . والقديم أنه يجهر به ، وهو مذهب الإمام أحمد بن حنبل ، والرواية الأخرى عن مالك ، لما{[25]} تقدم : " حتى يرتج المسجد " .
ولنا قول آخر ثالث : أنه إن كان المسجد صغيرًا لم يجهر المأموم{[26]} ، لأنهم يسمعون قراءة الإمام ، وإن كان كبيرا جهر ليبلغ التأمين مَنْ في أرجاء المسجد ، والله أعلم .
وقد روى الإمام أحمد في مسنده ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت عنده اليهود ، فقال : " إنهم لن يحسدونا{[27]} على شيء كما يحسدونا{[28]} على الجمعة التي هدانا الله لها وضلوا عنها ، وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلوا عنها ، وعلى قولنا خلف الإمام : آمين " {[29]} ، ورواه ابن ماجه ، ولفظه : " ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين " {[30]} ، وله عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على قول : آمين ، فأكثروا من قول : " آمين " {[31]} وفي إسناده طلحة بن عمرو ، وهو ضعيف .
وروى ابن مَرْدُويه ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «آمين : خاتم رب العالمين على عباده المؤمنين »{[32]} . وعن أنس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أعطيت آمين في الصلاة وعند الدعاء ، لم يعط أحد قبلي إلا أن يكون موسى ، كان موسى يدعو ، وهارون يؤمن ، فاختموا الدعاء بآمين ، فإن الله يستجيبه لكم »{[33]} .
قلت : ومن هنا نزع بعضهم في الدلالة بهذه الآية الكريمة ، وهي قوله تعالى : { وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } [ يونس : 88 ، 89 ] ، فذكر الدعاء عن موسى وحده ، ومن سياق الكلام ما يدل على أن هارون أمَّن ، فنزل منزلة من دعا ، لقوله تعالى : { قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا } [ يونس : 89 ] ، فدلّ ذلك على أن من أمَّن على دعاء فكأنما قاله ؛ فلهذا قال من قال : إن المأموم لا يقرأ لأن تأمينه على قراءة الفاتحة بمنزلة قراءتها ؛ ولهذا جاء في الحديث : " من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة " ، وكان بلال يقول : لا تسبقني بآمين . فدل هذا المنزع على أن المأموم لا قراءة عليه في الجهرية ، والله أعلم .
ولهذا قال ابن مَرْدُويه : حدثنا أحمد بن الحسن ، حدثنا عبد الله بن محمد بن سلام ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا جرير ، عن ليث بن أبي سليم ، عن كعب ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا قال الإمام : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } فقال : آمين ، فتوافق{[34]} آمين أهل الأرض آمين أهل السماء ، غفر الله للعبد ما تقدم من ذنبه ، ومثل من لا يقول : آمين ، كمثل رجل غزا مع قوم ، فاقترعوا ، فخرجت سهامهم ، ولم يخرج سهمه ، فقال : لِمَ لَمْ يخرج سهمي ؟ فقيل : إنك لم تقل : آمين " {[35]} .