السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{صِرَٰطَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِمۡ غَيۡرِ ٱلۡمَغۡضُوبِ عَلَيۡهِمۡ وَلَا ٱلضَّآلِّينَ} (7)

{ صراط الذين أنعمت عليهم } بالهداية بدل من الأوّل بدل كل من كل والعامل فيه مقدّر على رأي الجمهور ، وقيل : العامل فيه هو العامل في المبدل منه وهو ظاهر مذهب سيبويه ، واختاره ابن لك .

فإن قيل : ما فائدة ذكر صراط الذين أنعمت عليهم بدلاً تابعاً ؟ وهلا اقتصر عليه مع أنه المقصود بالنسبة ؟ أجيب : بأنّ فائدته التوكيد والتنصيص على أنّ طريق المسلمين هو المشهود عليه بالاستقامة على آكد وجه وأبلغه لأنه جعل كالتفسير والبيان له فكأنه من البين الذي لا خفاء فيه أنّ الطريق المستقيم ما يكون طريق المؤمنين وهذا هو الموافق لما خرّج ابن جرير عن ابن عباس ، إن المراد بالذين أنعمت عليهم الأنبياء والملائكة والصدّيقون والشهداء ومن أطاعه وعبده وقيل : الذين أنعمت عليهم الأنبياء خاصة صلوات الله وسلامه عليهم ، وقيل : أصحاب موسى وعيسى قبل التحريف والنسخ .

تنبيه : أطلق الإنعام ليشمل كل إنعام لأنّ من أنعم الله عليه بنعمة الإسلام لم تبق نعمة إلا أصابته واشتملت عليه ويبدل من الذين بصلته . { غير المغضوب عليهم } وهم اليهود ، لقوله تعالى : { فيهم من لعنه الله وغضب عليه } ( المائدة ، 60 ) { ولا } أي : وغير { الضالين } وهم النصارى ، لقوله تعالى : { قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا } ( المائدة ، 77 ) الآية ، ونكتة البدل إفادة أنّ المهتدين ليسوا يهوداً ولا نصارى وقيل : إنّ غير صفة على معنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة وهي نعمة الإيمان وبين السلامة من غضب الله تعالى والضلال ، وقيل : المغضوب عليهم هم الكفار والضالون هم المنافقون ؛ وذلك لأنه تعالى بدأ في أوّل البقرة بذكر المؤمنين والثناء عليهم في خمس آيات ثم أتبعه بذكر الكفار وهو المراد من قوله تعالى : { إنّ الذين كفروا } ( البقرة ، 6 ) ثم أتبعهم بذكر المنافقين وهو قوله تعالى : { ومن الناس من يقول آمنا بالله } ( البقرة ، 8 ) الخ . . وكذا ههنا بدأ بذكر المؤمنين وهو قوله : { أنعمت عليهم } ثم أتبعهم بذكر الكفار وهو قوله { غير المغضوب عليهم } ثم أتبعهم بذكر المنافقين بقوله : { ولا الضالين } .

فإن قيل : كيف صح أن يقع غير صفة للمعرفة وهو لا يتعرّف وإن أضيف إلى المعارف ؟ أجيب : بأنه يصح بأحد تأويلين ؛ أحدهما : إجراء الموصول مجرى النكرة إذ لم يقصد به معهود كالمحلى باللام في قول القائل :

ولقد أمرّ على اللئيم يسبني***

أي : لئيما يسبني إذ لا مرور على الكل ، والثاني : جعل غير معرفة بالإضافة لأنه أضيف إلى ما له ضدّ واحد وهو المنعم عليه فليس في غير إذن الإبهام الذي يأبى عليه أن يتعرّف .

تنبيه : إنما سمى كل من اليهود والنصارى بما ذكر مع أنه مغضوب عليه وضالّ لاختصاص كل منهما بما غلب عليه ، وقال صلى الله عليه وسلم ( إن المغضوب عليهم اليهود وإنّ الضالين النصارى ) رواه ابن حبان وصححه ، وقيل : المغضوب عليهم العصاة والضالين الجاهلون بالله لأنّ المنعم عليه من وفق للجمع بين معرفة الحق لذاته والخير للعمل ، به فكان المقابل له من اختلّ إحدى قوّتيه العاقلة والعاملة والمخل بالعمل فاسق مغضوب عليه لقوله تعالى في القاتل عمداً : { وغضب الله عليه } ( النساء ، 93 ) والمخل بالعمل جاهل ضال لقوله تعالى : { فماذا بعد الحق إلا الضلال } ( يونس : 32 )

فإن قيل : ما معنى غضب الله لأنّ الغضب ثوران النفس عند إرادة الانتقام أو تغير يحصل عند ثوران دم القلب إرادة الانتقام وهو محال في حقه تعالى ؟ أجيب : بأنه إذا أسند إلى الله تعالى أريد به المنتهى والغاية فمعناه إرادة الانتقام من العصاة وإنزال العقوبة بهم وأن يفعل بهم ما يفعل الملك إذا غضب على من تحت يده نعوذ بالله من غضبه ونسأله رضاه ورحمته .

فإن قيل : أيّ فرق بين عليهم الأولى والثانية ؟ أجيب : بأنّ محل مجرور الأولى النصب على المفعولية ومحل مجرور الثانية الرفع لأنه نائب مناب الفاعل .

فإن قيل : لم دخلت لا في { ولا الضالين } ؟ أجيب : بأنها بمعنى غير كما قرّرته تبعاً للجلال المحلى ، وأنها مزيدة كما قال الزمخشري لتأكيد ما في غير من معنى النفي ، كأنه قال : لا المغضوب عليهم ولا الضالين ، وللتصريح بتعلق النفي بكل من المعطوف والمعطوف عليه .

فائدة : أوّل السورة مشتمل على الحمد لله والثناء عليه والمدح له وآخرها مشتمل على الذمّ للمعرضين عن الإيمان به والإقرار بطاعته وذلك يدلّ على أنّ مطلع الخيرات وعنوان السعادات هو الإقبال على الله ومطلع الآفات ورأس المخالفات هو الإعراض عن الله تعالى والبعد عن طاعته والاجتناب عن خدمته .

فإن قيل : ما فائدة { غير المغضوب } إلخ بعد ذكر { أنعمت عليهم } ؟ أجيب : بأنّ الإيمان إنما يكمل بالرجاء والخوف كما قال عليه الصلاة والسلام : ( لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا ) فقوله : { صراط الذين أنعمت عليهم } يوجب الرجاء الكامل وقوله : { غير المغضوب عليهم } الخ يوجب الخوف الكامل وحينئذٍ يتقوّى الإيمان بركنيه وطرفيه وينتهي إلى حدّ الكمال وقرأ حمزة عليهم : غير المغضوب عليهم بضمّ الهاء وفقاً ووصلاً ، وكذا جميع ما في القرآن ، وقرأ ابن كثير : عليهم بواو ، بعد الميم في الوصل فإذا وقف أسقط الواو وكذا يفعل في كل ميم جمع بعدها حرف متحرّك ، وأمّا قالون فهو مخير في ميم الجمع إن شاء وصلها بواو كابن كثير وإن شاء لا يصلها بواو ، وأمّا ورش فإنه يصل ميم الجمع بواو وإن كان بعدها همزة قطع فيصير عنده مدّ منفصل ، وفي { ولا الضالين } مدّان لازم وعارض فاللازم هو الذي على الألف بعد الضاد قبل اللام المشدّدة ، والعارض هو الذي على الياء قبل النون .

ختام السورة:

والسنة للقارئ أن يقول بعد فراغه من الفاتحة آمين مفصولاً عن الفاتحة بسكتة وهو اسم الفعل الذي هو استجب ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معناه فقال : «افعل » بني على الفتح كأين لالتقاء الساكنين وجاز مدّ ألفه وقصرها قال مجنون ليلى .

يا رب لا تسلبني حبها أبداً *** ويرحم الله عبداً قال آمينا

أي : بالمدّ ، وقال جبير لما سأل الأسدي المسمى بفطحل :

تباعد عني فطحل إذ سألته *** آمين فزاد الله ما بيننا بعدا

فذكر مقصوراً وكان من حقه التأخير لأنّ التأمين إنما يكون بعد الدعاء ولكن قدّمه للضرورة وليس آمين من القرآن اتفاقاً بدليل أنه لم يثبت في المصاحف كما مرّت الإشارة إليه ولكن يسنّ ختم السورة به لقوله صلى الله عليه وسلم ( علمني جبريل عليه السلام آمين عند فراغي من قراءة الفاتحة ) كما رواه البيهقيّ وغيره ، وقال صلى الله عليه وسلم «إنه كالختم على الكتاب » كما رواه أبو داود في «سننه » وقال عليّ رضي الله تعالى عنه : آمين خاتم رب العالمين ختم به دعاء عبده ، رواه الطبرانيّ وغيره لكن بسند ضعيف ، يقوله الإمام ويجهر به في الجهرية لما روي عن وائل بن حجر : «أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا قرأ ولا الضالين قال آمين ورفع بها صوته ) . وعن الحسن لا يقوله الإمام لأنه الداعي ، وعن أبي حنيفة مثله والمشهور عنه وعن أصحابه أنه يخفيه ، والمأموم يؤمن مع إمامه لقوله صلى الله عليه وسلم ( إذا قال الإمام ولا الضالين فقولوا آمين فإن الملائكة تقول : آمين وإن الإمام يقول : آمين فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدّم من ذنبه ) . زاد الجرجانيّ في «أماليه » وما تأخر . وأحسن ما فسر به هذا الخبر ما رواه عبد الرزاق عن عكرمة قال : صفوف أهل الأرض تلي صفوف أهل السماء ، فإذا وافق تأمين من في الأرض تأمين من في السماء غفر للعبد ، قال ابن حجر ومثل هذا لا يقال بالرأي فالمصير إليه أولى .

وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبيّ : ( ألا أخبرك بسورة لم ينزل في التوراة والإنجيل والقرآن مثلها ؟ قال : بلى يا رسول الله قال : فاتحة الكتاب إنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته ) رواه الترمذيّ وقال حسن صحيح ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ( بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ناداه منادٍ فقال : أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبيّ قبلك : فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة ، لن تقرأ حرفاً منهما إلا أعطيته ) وما رواه البيضاويّ عن حذيفة بن اليمان أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : ( إنّ القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتماً مقضياً فيقرأ صبيّ من صبيانهم في الكتاب الحمد لله رب العالمين فيسمعه الله تعالى فيرفع عنهم بذلك العذاب أربعين سنة ) حديث موضوع .