حكم البسملة في مفتتح هذه السورة
لقد اختلفت الأقوال التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل في هذه المسألة . فهناك من قال : إن البسملة في هذه السورة آية أصلية خلافها للسور الأخرى ، وهناك من قال : إن البسملة آية أصلية في كل سورة . وهناك من قال : إنها ليست آية أصلية لا في هذه السورة ولا في السور الأخرى .
وهناك أحاديث يوردها المفسرون في صدد هذه المسألة{[1]} منها حديث يرويه الدارقطني عن أبي هريرة عن النبي صلى الله قال : { إذا قرأتم الحمد فأقروا بسم الله الرحمن الرحيم فإنها أم القرآن والسبع المثاني وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها " . وحديث يرويه مسلم عن أنس جاء فيه : " كان إذا نزل على رسول الله سورة قال أنزلت عليّ آنفا سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم " . وحديث يرويه أبو داود في " سننه " والحاكم في " مستدركه " عن ابن عباس جاء فيه : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم " . وحديث عن ابن مسعود جاء فيه : " كنا لا نعلم فصلاً بين سورتين حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم " ، وحديث رواه الترمذي والحاكم عن ابن عباس قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر بقراءة بسم الله الرحمن الرحيم قبل سائر آيات السورة " . وحديث رواه أبو داود والحاكم عن أم سلمة : " أنه كان يقرأ البسملة مع سائر آيات السورة " .
وليس شيء حاسم في الصدد الذي نحن فيه إلا في الحديث الأول ويظهر أنه لم يثبت عند أصحاب الأقوال الأخرى . وليس في الأحاديث الأخرى حسم بدليل اختلاف الأقوال في المسألة . ومما استدل عليه الذين قالوا : إنها آية في كل سورة وضعها في مفتتح كل سورة باستثناء سورة التوبة لسبب خاص سوف نشرحه في مناسبتها . وقال غيرهم عن وضعها هو للتبرك وحسب . والذين قالوا : إنها آية أصلية في الفاتحة اعتبروا جملة { صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } آية والذين قالوا : إنها ليست أصلية قطعوا هذه الجملة إلى آيتين . والجمهور على أن البسملة آية أصلية في هذه السورة دون غيرها . والله تعالى أعلم . وننبه على أن هذا الخلاف لا يمسّ كون جملة { بسم الله الرحمن الرحيم } جزءا من آية أصلية في الآية ( 30 ) من سورة النمل .
ولقد أورد ابن كثير حديثا في سياق البسملة عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه : " كل أمر لا يُبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أجذمُ " {[2]} . ولقد درج المسلمون منذ النبي صلى الله عليه وسلم على أن يبدأوا رسائلهم وكتبهم وعزماتهم وأكلهم وشربهم بالبسملة حتى غدت طابعاً مميزاً لهم . وهناك من يختصره ويكتفي بجملة باسم الله . حيث رويت أحاديث نبوية يأمر النبي فيها بعض المسلمين بقولها إذا أكلوا أو باشروا عملاً أو عثروا{[3]} .
ولقد أكثر المفسرون القول في صددها ومداها وبركاتها{[4]} . وقالوا فيما قالوه : إنها احتوت رموزاً لكل ما جاء في القرآن من مواضيع . ففيها التوحيد وفيها الثناء على الله وتقرير ربوبيته العامة وفيها العبادة لله والاستعانة به . وفيها إشارة إلى اليوم الآخر ، وإشارة إلى الأمم على اختلافها من مهتدين ومغضوب عليهم وضالين . وفيها إشارة إلى ملكوت الله وما فيه من عوالم إلخ . ورأوا فيها من أجل ذلك كله براعة استهلال رائعة للقرآن وعنواناً لمواضيعه . ولمحوا من هذا حكمة جعلها في ترتيب المصحف فاتحة القرآن وفي الصلاة مفتتح التلاوة وتكرارها في كل ركعة . ولعل في كل هذا تدعيم لأولية نزولها كسورة تامة ولاسيما أنها لا تحتوي إشارة ما إلى وقائع السيرة التي وقعت بعد أن سار النبي صلى الله عليه وسلم شوطا في الدعوة ، وأن ما فيها هو تعليم وتلقين عامان مما يصح أن يكون طابع الآيات والسور الأولى .
وأسلوب السورة يلهم أنها بسبيل تعليم المسلمين ما يجب عليهم من حمد الله وعبادته وطلب الهداية منه . وفيها تلقينات جليلة : فالإله الذي يؤمن به المسلمون هو رب جميع العالمين ورحمته شاملة عامة ، وهو ملك يوم الآخرة . وعليهم أن يفرغوا أنفسهم وقلوبهم من غيره فلا يخضعوها لأحد ولا يبالوا في الحق أحداً ؛ لأنه هو النافع والضار والخالق والرازق والشامل برحمته جميع الخلق . وهم مدينون له في حياتهم ومماتهم وهدايتهم ورزقهم وكيانهم وفي هذا ما فيه من إنقاذ المسلم وروحه من تأثير غيره فيه ، وبثّ القوة والاعتماد والكرامة فيه .
والصراط المستقيم يصح أن يكون الطريق القويم في أمور الدين والدنيا معاً . فالإيمان بالله وبما جاء به رسوله هو طريق قويم . والقيام بالواجبات التعبدية هو طريق قويم . والتزام الصدق والوفاء وسائر مكارم الأخلاق هو طريق قويم ، وكل ما يغاير هذا هو طريق أعوج لا يسير فيه إلاّ الضالون والمستحقون لغضب الله .
وهناك أحاديث نبوية وردت في كتب الأحاديث الصحيحة في خطورة هذه السورة ووجوب قراءتها في كل ركعة من كل صلاة . منها حديث رواه الخمسة عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " {[5]} ، وحديث رواه الخمسة إلا البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج ثلاثاً غير تمام . قيل لأبي هريرة : إنا نكون وراء الإمام ، فقال : اقرأ بها في نفسك " {[6]} . وحديث رواه البخاري وأبو داود والترمذي عن أبي سعيد بن المعَلّى قال : " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد ، فأخذ بيدي فلما أردنا الخروج قلت له : يا رسول الله إنك قلت لأعلمنك أعظم سورة في القرآن ، قال : الحمد لله رب العالمين ، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته " {[7]} .
وحديث رواه مسلم عن ابن عباس قال : " بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسمع نقيضا من فوقه فرفع رأسه فقال هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم فنزل منه ملَك فقال هذا ملَك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم فسلم فقال : أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك : فاتحة الكتاب وخواتم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته " {[8]} . وحديث رواه الخمسة إلا البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين . ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد : الحمد لله رب العالمين قال الله : حمدني عبدي . وإذا قال : الرحمن الرحيم ، قال الله تعالى : أثنى علي عبدي . وإذا قال : مالك يوم الدين ، قال : مجّدني عبدي . فإذا قال : إياك نعبد وإياك نستعين ، قال : هذا بيني وبينَ عبدي . ولعبدي ما سأل . فإذا قال : أهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ، قال : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل " {[9]} .
وهذا الحديث الأخير مما يسمى في اصطلاح علماء الحديث بالحديث القدسي ؛ لأن الكلام فيه مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل ، وبهذه المناسبة نقول : إن هناك أحاديث كثيرة مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن الله عز وجل ، أو عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل . ومنها ما ورد في الكتب الخمسة . ومن واجب المؤمن أن يؤمن ويصدق بكل ما ثبت صدوره عن النبي صلى الله عليه وسلم . ولما كان القرآن يبلغ عن الله تعالى بواسطة الوحي الرباني أو جبريل عليه السلام فقد تكون مسألة الأحاديث القدسية موضوع سؤال عن الفرق بين الوحي بالحديث القدسي والوحي بالقرآن وحكمة ذلك .
ولما كان هناك كما قلنا أحاديث قدسية صحيحة ، فالذي يمكن أن يقال في صددها : إنها هي الأخرى من سرّ النبوة مثل سرّ الوحي القرآني الذي لا يدرك بالعقول العادية ويجب الإيمان به ؛ لأنه ثابت بنص القرآن والحديث النبوي مع فارقين : أولهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفرق بين الحديث القدسي وبين والوحي القرآني ، فيأمر بتدوين الوحي القرآن حال نزوله ويبلّغه كقرآن ، ويخبر بالحديث القدسي إخباراً مروياً عن الله ولا يأمر بتدوينه بل كان يدخل في متناول النهي النبوي كتابة غير القرآن ؛ حيث روى مسلم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تكتبوا عني غير القرآن ومن كتب شيئا فليمحه " . ومن الحكمة الملموحة في هذا الحديث الحرص على عدم اختلاط أي كلام غير قرآني بالقرآن . وهو أمر ذو دلالة خطيرة في صدد عمق اليقين النبوي بالوحي القرآني وتمييزه عن أي معنى آخر يحبك في صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحدث به أصحابه ، أو أي معنى آخر يوحي الله به إليه أو يلهمه إياه ويحدث به أصحابه دون أن يتصف بأنه قرآن .
وهذا يشمل كما هو المتبادر الأحاديث القدسية التي يحدث بها النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى والأحاديث العادية التي كان يقولها لأصحابه في مناسبة ما . ويبدو ذلك السرّ وهذه الدلالة الخطيرة أقوى صورة إذا لوحظ أن السنن النبوية القولية والفعلية واجبة الاتباع ، مثل القرآن ، وهي مصدر التشريع الإسلامي مثله ، وكل ما في الأمر أنها تأتي بعده{[10]} . ولقد جاء في سورة النساء هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً( 59 ) } ، والقرآن يمثل الله تعالى والحديث يمثل رسوله بعد موته . وفي ذلك السر وهذه الدلالة ردّ مفحم على الأغيار الذين ينسبون القرآن إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
أما الفارق الثاني فهو أن أسلوب الأحاديث القدسية مماثل لأسلوب الأحاديث النبوية العادية أي أسلوب مخاطبة عادية دون أسلوب القرآن من حيث التقطيع والتوازن والتركيز في أواخر المقاطع أو الآيات كما هو ملموح في الحديث الذي أوردناه عن أبي ذر وفي غيره مما سوف نورده في مناسبات أخرى والله تعالى أعلم{[11]} .
وبمناسبة ورود اسم الجلالة ( الله ) لأول مرة في البسملة والسورة نقول إن من المفسرين{[12]} من قال إن الكلمة مضعفة أو معدلة من لفظ ( إله ) وإنها من جذر ( أَلهَ ) بمعنى عبد أو ( وَلهَ ) بمعنى حار من شدة الوجد أو ( لاَهَ ) بمعنى سكن إلى الشيء . ومما قاله بعضهم إن كلمة ( اللاة ) المعبود الجاهلي المشهور المذكور في سورة النجم هي مؤنث ( الله ) . ويقتضي القول الأخير أن تكون كلمة ( اللاة ) عربية فصحى أصلا مع أن هذه الكلمة قرئت بصيغ متنوعة متقاربة مثل ( اللاتو ) و( اللت ) و( هاللت ) على آثار قديمة بابلية ونبطية وثمودية وتدمرية ولحيانية{[13]} قبل البعثة بأمد طويل قد يصل إلى ألفي عام ولا يقل عن أربعمائة عام أي قبل أن تصبح اللغة العربية فصحى مثل لغة القرآن وعصر النبي صلى الله عليه وسلم .
ولما كانت لغة البابليين ، والثموديين واللحيانيين والأنباط والتدمريين واللغة العربية الفصحى من أصل قديم واحد فلا يبعد أن يكون أصل الكلمة يعني الرب المعبود ، وأن تكون من جذر من الجذور السابقة الذكر . وأن تكون كلمة ( الله ) الفصحى هي تطور من ذلك . وفي اللغات العربية القديمة وردت كلمة ( ايل ) بمعنى الله أو الإله أو المعبود . وكانت تطلق على المعبود الأعظم أحياناً وعلى بعض المعبودات أحياناً في بلاد اليمن والعراق والشام وقبل البعثة النبوية بمئات السنين . وكانوا يضمون إليها كلمات متنوعة ويسمون أنفسهم بها تسجيلاً لعبوديتهم للمعبود الذي كانت ترمز إليه . ومن ذلك يسمع ايل ( إسماعيل ) ويصدق ايل وحي ايل وباب ايل وإسرائيل . وقد يكون من هذا الباب جبرائيل وميكائيل وعزرائيل وإسرافيل إلخ . . .
فليس من المستبعد أن تكون كلمة ( الله ) في الفصحى وكلمة ( اللاة ) تطوراً عن تلك الكلمات وأن يكون أحد الجذور المذكورة مشتركة بين هذه اللغات وأن تكون الكلمة من أحدها .
وفي اللغة العبرانية التي هي شقيقة من شقائق اللغة العربية كلمة ( الوهيم ) معنى الآلهة ؛ حيث يبدو من ذلك صورة من صور تطور الكلمة من أحد تلك الجذور .
وعلى كل حال فإن كلمة ( الله ) قد غدت في اللغة العربية الفصحى قبل الإسلام علماً على القوة العظمى العاقلة الخالقة المدبرة الرازقة المحيية المميتة ، أو اسما رئيسياً وأصيلاً لها . وقد كان العرب يستعملونها في هذه الدلالة على اعتبار أنه لا بد لهذا الكون العظيم البديع من صانع عاقل حكيم مدبر والدينونة له بالعبودية والعبادة . وكانوا يعبدونه ويحلفون بكلمتي ( الله ) و ( اللهم ) ويسمون أنفسهم ( عبد الله ) للدلالة على ذلك . وإن كانوا يشركون معه شركاء للتقرب إليه والاستشفاع بهم عنده مما حكته آيات قرآنية كثيرة تغني عن التمثيل .
ولقد استعمل القرآن هذا اللفظ علماً أو اسماً رئيسياً على تلك القوة أيضاً . وورد فيه لحدته أحيانا ومع صفات الله وأسمائه الحسنى أحياناً . ومع تقرير وجوب وجود القوة العظمى التي يرمز إليها ووجوب الاعتقاد بها وشمول ربوبيتها ووجوب الدينونة لها بالعبادة والخضوع ، والإخلاص لها وحدها ، ووجوب تنزيهها عن أية شائبة ومماثلة وشراكة بأي اعتبار كان ، ووصفها بجميع صفات الكمال مما احتوت تقريره والتدليل عليه آيات كثيرة كثرة تغني عن التمثيل كذلك . ومما غدا الطابع المميز للعقيدة الإسلامية . وقد جرى المسلمون على إطلاق لفظ ( الجلالة ) على الله تقويا ًوتعظيماً .
في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم والتي كتبت بأقلام بشرية بعد موسى عليه السلام تكرر وصف الله تعالى برب إسرائيل وإله إسرائيل ، وتكررت حكاية أقوال بني إسرائيل بأن الرب رب إسرائيل والإله إله إسرائيل على معنى الاختصاص والحصر حتى صار ذلك عندهم عقدة وعقيدة . وبلغ الأمر بهم أنهم رفضوا أن يشترك أهل منطقة السامرة في فلسطين الذين كانوا يدينون بالدين الموسوي في تجديد معبد أورشليم ، حين سمح لهم كورش ملك الفرس بالعودة من بابل إلى أورشليم وتجديد المعبد . فقد حكى سفر نحميا أحد أسفار الكهنة القديم : أن أهل السامرة جاؤوا إليهم وقالوا لهم نبني معكم معبد الرب الذي نعبد مثلكم فرفضوا وقالوا لهم : إننا نبني معبد إله إسرائيل . وهذا من دون ريب تحريف وتشويه للحق والحقيقة بكون الله عز وجل جميع الأكوان والمخلوقات .
ومن هذا الاعتبار فإن تقرير هذا المعنى لله عزّ وجلّ في أولى سور القرآن يصح أن يعتبر تصحيحاً ربانياً لذلك النشوز والتحريف ، ووضعاً للأمر في نصاب الحق المحكم ليكون عقيدة الدين الإسلامي الذي شاء الله سبحانه أن يكون دين الناس جميعهم على اختلاف أجناسهم وألوانهم وبلادهم ولغاتهم . ووعد أن يظهره على الدين كله كما جاء في هذه الآية من سورة الفتح : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا( 28 ) }{[14]} .
و{ يوم الدين } في الآية الثالثة يعني يوم القضاء بين الناس ويوم جزائهم على أعمالهم . والمقصود منه هو الحياة الأخروية التي يبعث الناس فيها ويقفون في يومها الأول أمام ربهم عز وجل ليحاسبوا على ما فعلوه في الدنيا ويجزوا عليه .
وهذه أولى إشارة إلى هذه الحياة ، تأتي في أولى سور القرآن التي يجب تلاوتها في كل ركعة من ركعات كل صلا ة مما يسبغ عليها مغزى هام وخطير . ثم توالت الإشارات إليها بأساليب متنوعة حتى شغلت حيزاً عظيماً في القرآن وحتى يمكن أن يقال إنها ذكرت في معظم سوره بإسهاب حيناً واقتضاب حيناً آخر . وصار الإيمان بها بمقتضى النصوص القرآنية ركناً من أركان الإسلام كما ترى في آية سورة البقرة هذه : { لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ . . . } ( 177 ) ، وهذه الآية في سورة النساء : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا( 136 ) } ، وحتى صارت تشغل حيزاً كبيراً في القرآن وخاصة في المكي منه بحيث يمكن أن يقال : إنه كانت من أقوى وسائل الدعوة وتنبيه الناس وحثّهم على الإيمان بالله وحده والعمل الصالح وتحذيرهم من الآثام والمنكرات والفواحش .
ولقد احتوت الآيات القرآنية فيما احتوته بياناً للأهداف والمقاصد يمكن تلخيصها بأن الله تعالى لا يمكن أن يكون خلق الكون عبثا ، وأن حياة الإنسان الذي شاء أن يكون أكمل مخلوقاته الأرضية عقلاً لا يمكن أن تكون قاصرة على الزمن القصير الذي يحياه في الدنيا . وأنه لا بد من أن يكون لها تتمة أكمل وأفضل وأدوم يسود فيها أهل الإيمان والحق والعدل والخير وينخذل فيها أهل الجحود والباطل والظلم والشر . وأنه لا يتسق مع عدل الله ، وأن يفلت الشرير مما يرتكبه من الآثام التي كثيراً ما ينجو من عواقبها في الدنيا ومن عقاب جحوده لخالقه وما أسبغه عليه من نعم ، وأن يذهب عمل المؤمن الصالح وما قد يناله في سبيل الحق والخير من أذى وحرمان كثيراً ما لا ينال عليه مكافأة في الدنيا هدراً وهباء ، وأن يكون الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالجاحدين لله المفسدين في الأرض والمتقون كالفجار ، وأن حكمة الله اقتضت من أجل ذلك تلك التتمة المسماة بالحياة الأخرى . يرجع فيها الناس إلى ربهم ويكافأ المؤمن المحسن ، ويعاقب فيها الجاحد المسيء .
والمؤمن بالله الذي ينعم النظر في مشاهد الكون ونواميسه ويلمس فيها ما يذهب بلبّه ويملك عليه مشاعره من العظمة والإتقان والنظام واجد كل الطمأنينة والحق في هذه المقاصد والأهداف . وواجد أن الحياة الأخروية ليست مما يخرج عن نطاق قدرة الله مبدع هذا الكون ومدبره وحكمته السامية . ومن المتبادر بالإضافة على ما تقدم أن فكرة الحياة الأخروية وثوابها وعقابها تنطوي على الحافز على الخير والوازع عن الإثم . فالذين لا يخافون الآخرة وحسابها ولا يعتقدون بها قلما يأبهون للحق والخير في شتى مجالاتهما . ويندفعون فيهما اندفاعا ذاتياً وجدانياً دون انتظار مقابلة أو جزاء في الدنيا ، وقلما يتورعون عن الإثم والمنكرات والفواحش إذا ما تيقنوا من النجاة من العقوبة وأمنوا منها في الدنيا . وفي هذا ما فيه من مقاصد صلاح الإنسانية وخيرها على مختلف المستويات .
وفي القرآن آيات عديدة تتضمن ذلك صراحة وضمناً ، مثل آية سورة النحل هذه : { إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُون( 22 )َ } ، وآيات سورة المؤمنون هذه : { إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ( 57 ) وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ( 58 ) وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ ( 59 ) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ( 60 ) أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ( 61 ) } ( 57-61 ) وآية سورة المؤمنون هذه : { وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ( 74 ) } .
وهذا يعني فيما يعنيه أن الإيمان بالآخرة يجعل صاحبه يتحمل المكاره ويصبر على الشدائد ويقوم على التضحية بماله ونفسه في سبيل الله والحق دون أن يهتم كثيرا لما قد يصيبه أو يناله من جزاء دنيوي أو حرمان أو أذى أو نكران لأنه يعتقد أنه سوف يستوفي جزاءه على أوفى ما يكون في ذلك اليوم أكثر بكثير من غير المؤمن بها وعلى أي مستوى .
ونحن نعرف أن من الذين لا يؤمنون بالآخرة من يقول : إنه ليس لفكرتها التأثير الخلقي العميق ؛ لأنها سبب خارجي أو نظري ليس من كيان النفس وأعماق الضمير . وإن أقل صدمة لهذا السبب تجهل ما أوجده من الحافز والوازع عدماً . وإن تربية خلقية عميقة نافذة هي التي تستطيع أن تكون الحافز والوازع الذاتيين . وينسى القائلون- ونقول هذا من قبيل المساجلة- إن الأمل في هذه التربية وشمولها خيال مستحيل التحقيق بالنسبة لجميع البشر أو جمهورهم أو لكثرة ما منهم . وإنه إذا أمكن أن تكون في أناس فإنهم من الندرة والقلة في الدرجة التي لا يكون منها أي أثر إيجابي محسوس بالنسبة للمجموع ، بل إن هناك ظروفاً اجتماعية ونفسية يفقد فيها الحافز والوازع في هذه الطبقة القليلة النادرة ، وتصبح تحت حكم الغرائز والطبائع البهيمية .
هذا إلى أن الكثرة العظمى من المجتمع لا يمكن أن تستغني عن حافز ووازع مؤثرين وما اضطرار الهيئات الحاكمة في الجماعات وما اضطرار الهيئات الاجتماعية إلى وضع القوانين والحدود والتقاليد إلا مظهر من مظاهر هذه الحاجة وتثبيت لها . ولم يقل أحد إنه ليس من حاجة إلى هذه القوانين والحدود لمنع الناس من الشذوذ والبغي والآثام وحفزهم على العمل الصالح والاستقامة على طريق الحق . وإن هذا وذاك يمكن التحقيق ذاتياً . وما دامت التجربة قد أثبتت أن كثيراً من الأفراد ينزعون إلى التفلّت من القوانين والتقاليد والقيود ومعاكستها بشتى الأساليب تحقيقاً لمنافعهم وأهوائهم الخاصة حينما يأمنون المغبة ولا يقلبون على الخير لذاته ولا يستقيمون على طريق الحق ، إذا أمنوا اللوم والمهانة والحرج والخطر فإن الحاجة تظل ماسة إلى حافز ووازع أقوى تأثيراً وأعمق أثراً في النفوس من القوانين والتقاليد يجعلان المرء رقيباً على نفسه ولو لم يكن عليه رقيب ويحملانه على الرهبة من الإثم والشر والشذوذ والرغبة في المعروف والخير والاستقامة في حال سرّه وعلنه وفي داخل نفسه وأعماقها . والإيمان بالآخرة وثوابها وعقابها هو الذي يستطيع أن يسد هذه الحاجة .
وإذا كان كثير من المؤمنين بالآخرة ينزعون أيضا إلى الإثم والشر ولا يندفعون إلى الخير فإن غير المؤمنين أكثر نزوعاً إلى التفلّت من وازع الضمير ووازع الرهبة من القوانين والتقاليد ؛ لأن أثراً ما من إيمان المؤمنين والخوف من الحساب الأخروي يظل في هؤلاء قد يوقظهم في لحظة ما ويجعلهم يندمون ويثوبون ويصلحون . . . بينما لا يكون في الجاحدين أثر من شيء ما داموا مستطيعين التّفلت من العقوبة المانعة والفوز بالمنفعة الذاتية .
ويمكن أن يضاف على هذا أمر خطير آخر ، وهو ما تكون عليه قلوب ونفوس الجاحدين من فراغ ويأس وحيرة وتساؤل لا جواب عليه من أمر هذه الحياة التي يحيونها غاية ومدى بدءاً وسيرة ونهاية . في حين أن المؤمنين بالله واليوم الآخر تكون قلوبهم مطمئنة بحكمة الله السامية في خلقهم وحياتهم وسيرتهم ومماتهم ويملأ نفوسهم الأمل بتتمة أفضل وأسعد لكل ذلك .
ولقد قلنا : إننا نقول هذا من قبيل المساجلة وحسب ، وإلا فإن فكرة الآخرة متصلة أشد الاتصال بفكرة الإيمان بالله وعظمته وعدله وقدرته وحكمته . ثم هي متصلة بما في أعماق النفس البشرية من فكرة الدين . وبما تثيره عظمة الكون وبدائعه ونواميسه في هذه النفس من يقين عميق ذاتي بوجود واجب الوجود وعظمته وحكمته وعدله واستحالة أن يكون خلق ما خلق من أكوان ومخلوقات عبثاً لا يكاد يستطيع أن يتفلت منها أحد ، حتى الذين يظنون أحيانا أنهم استطاعوا التفلت منها وبخاصة في وقت الرخاء والسعة ؛ حيث إنهم لا يشعرون إلا وهم تحت تأثيرها حينما تلمّ بهم النائبات وتجتاحهم الأخطار .
ولقد كانت الحياة الأخروية كما قلنا من أكثر ما دار حولها الجدل بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار على ما حكته الآيات الكثيرة جداً . وكان ذلك من أسباب هذه الكثرة على ما هو المتبادر . ولقد احتوت ردوداً متنوعة على جحود الكفار المتنوع الصور والأساليب للحياة الأخروية فيها توكيد وبراهين على قدرة الله على ذلك وحكمته السامية المتوخية للحق والعدل في هذه الحياة . وقد جاءت بأساليب نافذة إلى أعماق النفوس والقلوب باعثة أشد اليقين فيها بحقيقة هذه الحياة على ما سوف ننبه عليه في مناسباته الآتية .
هذا ، ويلحظ أولاً أن كثيراً من الآيات التي ذكرت فيها الحياة الأخروية قد جاءت بأساليب تلهم أنها بالإضافة إلى حقيقتها الإيمانية استهدفت في جملة ما استهدفته الترغيب والترهيب وحمل الناس على الإيمان بالله وحده واليوم الآخر ، والتزام ما رسمه من حدود وأحكام من الإقبال على الخير والعدل والحق والابتعاد عن الشر والظلم والباطل ، كما جاء مثلا في آيات سورة الزمر هذه : { قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي( 14 ) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ( 15 ) لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ( 16 ) } ( 14- 16 ) ، وآيات سورة الشورى هذه : { تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ( 22 ) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ . . . } ( 22-23 ) ، وفي سورة طه آية مهمة في هذا الباب وهي : { وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا( 113 ) } .
ويلحظ ثانياً : أن مشاهد الحياة الأخروية وأهوالها وحسابها وثوابها وعقابها في القرآن متساوقة مع مألوفات الناس في الحياة الدنيا مما يتمثل في آيات لا تكاد تحصى كثرة . والإيمان بكل ما ورد في القرآن وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من المشاهد الأخروية على مختلف أنواعها وكونه في نطاق قدرة الله عز وجل واجب مع واجب الإيمان بأنه لا بدّ من أن يكون للأسلوب والعبارات التي ذكرت بها تلك المشاهد حكمة ، ولعل من ذلك قصد التأثير في النفوس التي لا تتأثر إلا بما تعرفه وتحس به . والله أعلم .
وننبّه على أن هناك أحاديث نبوية واردة في كتب الأحاديث الصحيحة المشهورة وغيرها في صور مشاهد الحياة الأخروية على أنواعها متساوقة مع ما ورد من ذلك في القرآن . وقد أجّلنا إيرادها إلى مناسبات آتية أكثر ملائمة .
والحياة الأخروية ليست عقيدة إسلامية فقط ، بل هي عقيدة مشتركة بين جميع الأديان والنحل والملل وفي جميع الأدوار البشرية . ومنها ما شملت هذه الحياة ومشاهدها ونعيمها وعذابها حيزاً غير يسير فيها يشبه ما ورد عنها في النصوص الإسلامية . غير أن وصفها بالأوصاف والسعة التي جاءت في القرآن هو من الخصوصيات القرآنية ؛ لأنها لم ترد بسعة وصراحة وتركيز إلا في القرآن . وليس من ذلك في الأسفار اليهود والنصارى المتداولة اليوم إلاّ إشارات غامضة ومقتضبة وخاطفة .
والجاحدون للحياة الأخروية يركزون على ناحية من أمر هذه الحياة ، وهي أنها تجعلهم ينفضون أيديهم من الحياة الدنيا ويعتبرون أنفسهم عابري سبيل فيها . ونقول : إنهم بالنسبة للمسلمين يقيسون الأمر على الواقع الذي لا يتحمل الإسلام والقرآن مسؤوليته . فكل ما في القرآن حتى العبادات من صلاة وصيام وحج هادف إلى إصلاح الإنسان في الحياة الدنيا على ما سوف نشرحه في مناسباته . وحتى الحياة الأخروية نفسها قد انطوت على هذا الهدف على ما مر شرحه .
وصلاح الإنسان في الدنيا أمر عام يشمل كل شيء ، ولقد { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا } ( النور : 55 ) ، والصالحات التي قرنت بالإيمان كل شيء يجعل المسلمين صالحين لهذه الخلافة من علم وعمل وعزة وكرامة وقوة وتقدم في كل مجال من مجالات الحياة . وكل هذا هو عماد النجاح للاستخلاف في الأرض والتمكن منها . ولا يصح أن يكون الله قد رشحهم لذلك ، ويرضى منهم أن ينفضوا أيديهم منه بطبيعة الحال . ولقد توقع الله منهم أن يكونوا عند هذا حينما هتف بهم : { وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( 104 ) وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ( 105 ) } ( آل عمران : 104- 105 ) ، و{ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } ( آل عمران 110 ) ، و{ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ } ( الحج : 41 ) ، والمعروف هو كل ما فيه خير ونفع ومصلحة وعزة وكرامة وعدل واستقامة وصلاح وحق . والمنكر هو كل ما فيه أضداد ذلك . { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ } ( البقرة : 143 ) ، أي حاملي مشعل الهداية لهم والخير العادل المستقيم على الحق الذي برئ من الإفراط والتفريط والغلو والتقصير .
وقد استكبر الله تحريم طيباته وجعل للمسلمين حقهم فيها مثل غيرهم في الدنيا مع أن اختصاصهم بها في الآخرة : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ( 32 ) } ( الأعراف : 32 ) .
ويحسن أن ننبه في هذه المناسبة على نقطة هامة ، وهي أن الوعد والوعيد في القرآن للمؤمنين الصالحين المتقين والجاحدين والآثمين الباغين ليسا قاصرين على الحياة الأخروية . ففيه آيات كثيرة وعد فيها الأولون بالحياة السعيدة الرضية والآخرون بالخيبة والشقاء والعذاب في الحياة الدنيا أيضاً ؛ حيث يبدو من هذا تساوق حكمة التنزيل مع الحاجات النفسية العاجلة والآجلة معاً لتحقيق أهدافها بصلاح البشر وسعادتهم في الدنيا والآخرة .
والآيات في ذلك كثيرة كما قلنا فنكتفي بالأمثلة التالية :
1- { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } ( الأعراف : 96 ) .
2- { وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ } ( النحل : 30 )
3- { أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } ( النحل : 45 ) .
4- { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } ( النور : 55 ) .
هذا ، وبعض الذين ينحون في تأويل الآيات القرآنية تأويلاً باطنياً أو صوفياً يذهبون إلى تأويل الحياة الأخروية وآياتها إلى مذهب يتناسب مع نحوهم حتى يصل أمرهم إلى إنكارها كما جاء خبرها وتفصيلاتها بالعبارات الصريحة القرآنية . وهذا لا يستقيم لا من حيث اللغة ولا من حيث مقاصد الله عز وجل المبينة في كثير من الآيات بصراحة قطعية لا تتحمل أي تأويل غير تأويل الحياة الأخروية الفعلية بعد الموت . فضلاً عن هذه الحياة بهذا الوصف من عقائد البشر التي كانت عامة شاملة وقت نزول القرآن . وحمل الآيات القرآنية على غير ذلك شطح بل هذيان ، والله تعالى أعلم .
ومن الذين يؤمنون بالحياة الأخروية من يرى أنها ستكون حياة روحية أو عالماً روحياً لا جسدياً . وآيات القرآن صريحة صراحة قطعية بأن البعث سيكون بالجسد أيضا . وإنكار ذلك أو التمحّل فيه مراء إزاء هذه الصراحة . ولقد أنكر ذلك الكفار فرد عليهم رداً قوياً في آيات كثيرة وبأساليب متنوعة ، وواجب المؤمن أن يؤمن بما جاء بالقرآن بدون تمحل ولا مراء ، وأن يؤمن بأن ما ورد فيه هو في نطاق قدرة الله وأن لا يقيس الأشياء بعقله ، وأن يكل ما يعجز عن إدراكه إلى الله عز وجل . وسنزيد هذا الموضوع شرحاً في مناسبات آتية ، والله تعالى أعلم .
وكثير من المفسرين فسروا المغضوب عليهم باليهود والضالين بالنصارى والصراط المستقيم بالدين الإسلامي . ورووا حديثاً مرفوعاً بأن اليهود هم المغضوب عليهم والنصارى هم الضالون{[15]} . وهناك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه الإمام أحمد وابن حبان والترمذي عن عدي بن حاتم جاء فيه : " اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون " {[16]} . والذي نلاحظه أن السورة أولى سور القرآن نزولاً وعلى الأقل من أبكر ما نزل من القرآن .
والقرآن المكي قد جرى على ذكر أهل الكتاب اليهود والنصارى إجمالاً بأسلوب محبب وعلى سبيل الاستشهاد بهم على صحة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وصدق الوحي القرآني . وذكرت آيات عديدة فيه خبر إيمانهم وإظهار الخشوع الخضوع حينما كان يتلى عليهم كما ترى في الأمثلة التالية :
1- { أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } ( الأنعام : 114 ) .
2- { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } ( يونس : 94 ) .
3- { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ } ( الرعد : 36 ) .
4- { قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا ( 107 ) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً ( 108 ) وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا( 109 ) } ( الإسراء : 107-109 .
5- { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ( 52 ) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ( 53 ) } ( القصص : 52-53 ) .
6- { وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِه } ( العنكبوت : 47 ) .
7- { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ( 23 ) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ( 24 ) } ( السجدة : 23-24 ) .
8- { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } ( الأحقاف : 10 ) .
حيث يلهم كل ذلك أن المسلمين كانوا يعتبرون أنفسهم والكتابيين حزباً واحداً . والمستفاد من نصوص الآيات القرآنية المدنية أو مواقف الصدّ والجحود والمناوأة والعداء من جمهرة اليهود ، ومن بعض فئات النصارى إنما كانت بعد الهجرة ، ولهذا كله نقول : إن الحديث مدني وإذا صحّ فإنه يكون من قبيل تطبيق مدى الآية على اليهود والنصارى الذين كابروا وعاندوا تطبيقاً مؤخراً من حيث إن اليهود فعلوا ذلك عن بينة وعلم فاستحقوا غضب الله الذي سجلته عليهم آيات مدنية عديدة مثل آيات سورة البقرة هذه : { وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ( 89 ) بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ فَبَاؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ( 90 ) } ( 89- 90 ) ومن حيث إن النصارى فعلوا ذلك عن ضلال مما انطوى في آيات عديدة منها آيات المائدة هذه : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ( 72 ) لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ( 73 ) أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ( 74 ) مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ( 75 ) } ( 72- 75 ) .
ولقد كان استدلال المفسرين على أن المقصود من { المغضوب عليهم } هم اليهود من الآيات التي سجل فيها غضب الله عليهم والتي أوردناها آنفا . وعلى أن المقصود من { الضالين } هم النصارى من آية في سورة المائدة جاءت بعد آيات كان موضوع الكلام والخطاب فيها النصارى وعقيدتهم في المسيح وأمه وهي هذه : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ( 77 ) } ( المائدة 77 ) .
وهذه الآيات مدنية حيث ينطوي في هذا تدعيم لما قلناه من أن القول هو من قبيل التطبيق في العهد المدني نتيجة لمواقف النصارى واليهود في هذا العهد ، والله أعلم .
وبناء على ذلك يتبادر لنا والله أعلم أن جملة { الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } في أولى سور القرآن قد تضمنت التنبيه على أن صنوف الناس عند الله ثلاثة ، صنف أنعم الله عليه فاهتدى وسار على طريقه المستقيم . وصنف انحرف عن هذا الطريق عن علم ومكر واستكبار فاستحق غضب الله . وصنف انحرف عن هذا الطريق ضلالاً بغير علم وبينة ثم ظل منحرفاً دون أن يهتدي بما أنزل الله على رسله فلزمته صفة الضلالة . والتصنيف رائع جليل شامل .
وفي القرآن الذي جاءت سورة الفاتحة براعة استهلال له صور متنوعة منه في صدد أهل الكتاب وغيرهم . وقد أوردنا آنفا بعض الآيات بالنسبة لأهل الكتاب . وهذه بعض آيات بالنسبة لغيرهم : { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا ( 42 ) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ } ( فاطر : 42-43 ) ، وفي هذه الآيات نموذج لمن ينحرف مكراً واستكباراً .
وهذه آيات فيها نماذج عن الضلال بغير علم والاستمرار فيه : { فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ( 30 ) } ( الأعراف : 30 ) ، و{ يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ ( 12 ) يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ( 13 ) } ( الحج : 12- 13 ) . والأمثلة كثيرة سوف تأتي في السور الآتية فنكتفي بما تقدم .
بعض أحاديث واردة في واجب حمد الله تعالى
في مناسبة جملة { الحمد لله رب العالمين }
ومع أن جملة { الحمد لله } هي تقرير رباني مباشر بما الله تعالى أهل له وحده من الحمد فقد أورد المفسرون في سياق الجملة أحاديث عديدة فيما يجب على المسلم من حمد الله تعالى . منها حديث رواه الإمام أحمد عن الأسود بن سريع قال : " قلت : يا رسول الله ألا أنشدك محامد حمدت بها ربي تبارك وتعالى ؟ فقال : أما أن ربّك يحب الحمد " . وحديث رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه عن جابر بن عبد الله قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله " . وحديث رواه ابن ماجه عن أنس بن مالك قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أنعم الله على عبد نعمة فقال : الحمد لله إلا كان الذي أعطي أفضل مما أخذ " والأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة . ولكن هذا لا يمنع صحتها ، والتعليم والتنويه اللذان ينطويان فيها حقّ واجب على كل مسلم في كل ظرف ومناسبة .
التأمين بعد الآية الأخيرة من السورة
ولقد جرى المسلمون جيلا بعد جيل على أن يقولوا : ( آمين ) بعد سماع الآية الأخيرة من السورة وتلاوتها وليست هذه الكلمة من السورة . وإنما كان ذلك سنة نبوية قولية وفعلية ؛ حيث روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن وائل بن حجر قال : " سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ : { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } فقال آمين مدَّ بها صوتََه " . وحيث روى أبو داود عن أبي هريرة قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تلا { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } قال آمين حتى َيسمعَ من يليه من الصف الأول{[17]} " وحيث روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أمّن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر الله ما تقدم من ذنبه " {[18]} .
ومع أن المتبادر أن معنى آمين هو دعاء بالاستجابة فقد روى الزمخشري حديثاً عن ابن عباس أنه سأل النبي عن معناها فقال له : ( افعل ) . وقد روى كذلك في خطورة آمين وفي تعليم قولها للنبي من قبل جبريل حديثين آخرين واحد منهما عن أبي هريرة جاء فيه : " قال النبي : آمين خاتم ربّ العباد على عباده المؤمنين " . وثانيهما : عن أبي ميسرة التابعي جاء فيه : " أقرأ جبريل النبيّ فاتحة الكتاب فلما قال { ولا الضالين ) قال له قلْ آمين فقال آمين " {[19]} .
وبعض هذه الأحاديث لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة ولكنه ورد في كتب حديث أخرى مثل الطبراني وابن مردويه والإمام أحمد{[20]} . ولا تبعد في مآلها عن الحديث الوارد في هذه الكتب والله تعالى أعلم .
تعليق على تفسير شيعي باطني لكلمة الصراط
واستطراد إلى روايات ومذاهب مفسري الشيعة وأثرها
هذا ، وبمناسبة ورود كلمة الصراط في السورة نقول : إن بعض مفسري غلاة الشيعة الباطنية يروون عن أبي جعفر الطوسي أنه قال لأبي عبد الله أحد الأئمة الإثني عشر الذين يدين لهم الشيعة بالولاية دون غيرهم : أنتم الصراط في كتاب الله وأنتم الزكاة وأنتم الحج ؟ فقال يا فلان : نحن الصراط في كتاب الله عز وجل ، ونحن الزكاة ، ونحن الصيام ونحن الحج ، ونحن الشهر الحرام ونحن البلد الحرام ونحن كعبة الله ونحن قبلة الله ونحن وجه الله " {[21]} .
وفي هذا ما هو ظاهر من الغلو الحزبي الذي ننّزه أبا عبد الله عنه ، ونرجّح أنه منحول له نحلا . ً ومثل هذا كثير مما سوف نعرض أمثلة منه في مناسبات آتية . بل هذا ديدن الشيعة غلاتهم ومعتدليهم وباطنييهم حيث يصرفون العبارات القرآنية إلى ما يوافق هواهم ومقالاتهم مهما كان في ذلك من تعسف وغرابة وسخف وشطط وبعد عن الفحوى والمناسبة والسياق ، حتى ولو كان في سياق قصص الأمم السابقة وأنبائهم أو مشاهد الآخرة أو في مشاهد الكون أو في حق الكفار بالله ورسالات رسله والمشر?