{ صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين 7 } .
أي : بطاعتك وعبادتك ، وهم المذكورون في قوله تعالى : { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصّدّيقين والشهداء والصالحين } {[428]} .
{ غير المغضوب عليهم ولا الضالين } قال الأصفهاني : وإنما ذكر تعالى هذه الجملة لأن الكفار قد شاركوا المؤمنين في إنعام كثير عليهم ، فبين بالوصف أن المراد بالدعاء ليس هو النعم العامة ، بل ذلك نعمة خاصة . ثم إن المراد بالمغضوب عليهم والضالين : كل من حاد عن جادة الإسلام من أي فرقة ونحلة . وتعيين بعض المفسرين فرقة منهم من باب تمثيل العام بأوضح أفراده وأشهرها ، وهذا هو المراد بقول ابن أبي حاتم : لا أعلم بين المفسرين اختلافا في أن المغضوب عليهم اليهود ، والضالين النصارى .
الأولى : يستحب لمن يقرأ الفاتحة أن يقول بعدها : " آمين " ومعناه : اللهم استجب ، أو كذلك فليكن ، أو كذلك فافعل . وليس من القرآن . بدليل أنه لم يثبت في المصاحف . والدليل على استحباب التأمين ما رواه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي{[1]} عن وائل بن حُجر قال : ( سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } فقال : " آمين " مدّ بها صوته ) . ولأبي داود : ( رفع بها صوته ) . قال الترمذي : هذا حديث حسن ، وفي الباب عن علي وأبي هريرة ، وروي عن علي وابن مسعود وغيرهم .
وعن أبي هريرة قال{[2]} : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تلا { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } قال : " آمين " حتى يسمع من يليه من الصف الأول ) . رواه أبو داود .
وفي ( الصحيحين ) {[3]} عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا أمّن/ الإمام فأمّنوا ، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر الله له ما تقدم من ذنبه ) .
وفي ( صحيح مسلم ) {[4]} عن أبي موسى مرفوعا : ( إذا قال يعني الإمام { ولا الضالين } فقولوا : آمين ، يجبكم الله ) .
الثانية : في ذكر ما اشتملت عليه هذه السورة من العلوم :
اعلم أن هذه السورة الكريمة قد اشتملت وهي سبع آيات على حمد الله تعالى ، وتمجيده ، والثناء عليه : بذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العليا ، وعلى ذكر المعاد وهو يوم الدين ، وعلى إرشاد عبيده إلى سؤاله والتضرع إليه والتبرؤ من حولهم وقوتهم ، وإلى إخلاص العبادة له ، وتوحيده بالألوهية ، تبارك وتعالى ، وتنزيهه أن يكون له شريك أو نظير أو مماثل ، وإلى سؤالهم إياه الهداية إلى الصراط المستقيم وهو الدين القويم وتثبيتهم عليه حتى يُفْضِيَ بهم إلى جنات النعيم في جوار النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين .
واشتملت على الترغيب في الأعمال الصالحة ليكونوا مع أهلها يوم القيامة ، والتحذير من مسالك الباطل لئلا يحشروا مع سالكيها يوم القيامة ، وهم المغضوب عليهم والضالون .
قال العلامة الشيخ محمد عبده في ( تفسيره ) :
الفاتحة مشتملة على مجمل ما في القرآن . وكل ما فيه تفصيل للأصول التي وضعت فيها . ولست أعني بهذا ما يعبرون عنه بالإشارة ودلالة الحروف كقولهم : إن أسرار/ القرآن في الفاتحة ، وأسرار الفاتحة في البسملة ، وأسرار البسملة في الباء ، وأسرار الباء في نقطتها ! فإن هذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عليهم الرضوان ، ولا هو معقول في نفسه . وإنما هو من مخترعات الغلاة الذين ذهب بهم الغلو إلى إعدام القرآن خاصته ، وهي البيان . قال : وبيان ما أريد : أن ما نزل القرآن لأجله أمور :
أحدها التوحيد : لأن الناس كانوا كلهم وثنيين وإن كان بعضهم يدّعي التوحيد .
ثانيها وعد من أخذ به ، وتبشيره بحسن المثوبة ، ووعيد من لم يأخذ به ، وإنذاره بسوء العقوبة . والوعد يشمل ما للأمة وما للأفراد ، فيعم نعم الدنيا والآخرة وسعادتهما . والوعيد كذلك يشمل نقمهما وشقاءهما . فقد وعد الله المؤمنين : بالاستخلاف في الأرض ، والعزّة ، والسلطان ، والسيادة . وأوعد المخالفين : بالخزي والشقاء في الدنيا . كما وعد في الآخرة بالجنة والنعيم وأوعد بنار الجحيم .
ثالثها العبادة التي تحيي التوحيد في القلوب وتثبته في النفوس .
رابعها بيان سبيل السعادة وكيفية السير فيه الموصل إلى نعم الدنيا والآخرة .
خامسها قصص من وقف عند حدود الله تعالى وأخذ بأحكام دينه ، وأخبار الذين تعدوا حدوده ونبذوا أحكام دينه ظهريا لأجل الاعتبار ، واختيار طريق المحسنين .
هذه هي الأمور التي احتوى عليها القرآن ، وفيها حياة الناس وسعادتهم الدنيوية والأخروية ، والفاتحة مشتملة عليها إجمالا بغير ما شك ولا ريب .
فأما التوحيد ففي قوله : { الحمد لله رب العالمين } لأنه ناطق بأن كل حمد وثناء يصدر عن نعمةٍ ما فهو له تعالى ، ولا يصح ذلك إلا إذا كان سبحانه مصدر كل نعمة في الكون تستوجب الحمد ، ومنها نعمة الخلق والإيجاد والتربية والتنمية . ولم يكتف باستلزام العبارة لهذا المعنى فصرّح به بقوله : { رب العالمين } . ولفظ { رب } ليس معناه المالك والسيد فقط ، بل فيه معنى التربية والإنماء . وهو صريح بأن كل نعمة يراها الإنسان في/ نفسه وفي الآفاق منه عز وجل . فليس في الكون متصرف بالإيجاد ، والإشقاء ، والإسعاد سواه . ثم إن التوحيد أهم ما جاء لأجله الدين . ولذلك لم يكتف في الفاتحة بمجرد الإشارة إليه ، بل استكمله بقوله : { إياك نعبد وإياك نستعين } فاجتث بذلك جذور الشرك والوثنية التي كانت فاشية في جميع الأمم ، وهي اتخاذ أولياء من دون الله تعتقد لهم السلطة الغيبية ، يُدعَون لذلك من دون الله ، ويستعان بهم على قضاء الحوائج في الدنيا ، ويتقرب بهم إلى الله زلفى . وجميع ما في القرآن من آيات التوحيد ومقارعة المشركين هو تفصيل لهذا الإجمال .
( وأما الوعد والوعيد : فالأول منهما مطوي في { بسم الله الرحمن الرحيم } فذكر الرحمة في أول الكتاب ، وهي التي وسعت كل شيء . وعد بالإحسان لاسيما وقد كررها مرة ثانية تنبيها لنا على أن أمره إيانا بتوحيده وعبادته رحمة منه سبحانه بنا ، لأنه لمصلحتنا ومنفعتنا . وقوله تعالى : { مالك يوم الدين } يتضمن الوعد والوعيد معا ، لأن معنى الدين الخضوع ، أي : إن له تعالى في ذلك اليوم السلطان المطلق والسيادة التي لا نزاع فيها ، لا حقيقة ولا ادعاء ؛ وإن العالم كله يكون فيه خاضعا لعظمته ظاهرا أو باطنا يرجو رحمته ، ويخشى عذابه ؛ وهذا يتضمن الوعد والوعيد . أو معنى الدين الجزاء وهو : إما ثواب للمحسن ، وإما عقاب للمسيء ، وذلك وعد ووعيد . وزد على ذلك أنه ذكر بعد ذلك { الصراط المستقيم } وهو الذي من سلكه فاز ، ومن تنكّبه هلك . وذلك يستلزم الوعد والوعيد .
وأما العبادة ، فبعد أن ذكرت في مقام التوحيد بقوله : { إياك نعبد وإياك نستعين } ، أوضح معناها بعض الإيضاح بقوله تعالى : { اهدنا الصراط المستقيم } أي : إنه قد وضع لنا صراطا سيبيّنه ويحدده . ويكون مناط السعادة في الاستقامة عليه ، والشقاء في الانحراف عنه . وهذه الاستقامة عليه هي روح العبادة . ويشبه هذا قوله تعالى :{ والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } {[5]} . فالتواصي بالحق والصبر هو كمال العبادة بعد التوحيد . والفاتحة بجملتها تنفخ روح العبادة في المتدبر لها . وروح العبادة هي إشراب القلوب خشية الله ، وهيبته ، والرجاء لفضله ، لا الأعمال المعروفة من فعل وكفٍّ وحركات اللسان والأعضاء . فقد ذكرت العبادة في الفاتحة قبل ذكر الصلاة وأحكامها ، والصيام وأيامه ؛ وكانت هذه الروح في المسلمين قبل أن يكلفوا بهذه الأعمال البدنية ، وقبل نزول أحكامها التي فصلت في القرآن تفصيلا ما ؛ وإنما الحركات والأعمال مما يتوسل به إلى حقيقة العبادة . ومخ العبادة الفكر والعبرة ؛ وأما الأخبار والقصص ففي قوله تعالى : { صراط الذين أنعمت عليهم } تصريح بأن هنالك قوما تقدموا وقد شرع الله شرائع لهدايتهم ، وصائح يصيح : ألا فانظروا في الشؤون العامة التي كانوا عليها واعتبروا بها ، كما قال تعالى لنبيه يدعوه إلى الاقتداء بمن كان قبله من الأنبياء : { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } {[6]} حيث بين أن القصص إنما هو للعظة والاعتبار . وفي قوله تعالى : { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } تصريح بأن من دون المنعم عليهم فريقان : فريق ضل عن صراط الله ؛ وفريق جاحده ، وعاند من يدعو إليه ، فكان محفوفا بالغضب الإلهي ، والخزي في هذه الحياة الدنيا . وباقي القرآن يفصل لنا في أخبار الأمم هذا الإجمال على الوجه الذي يفيد العبرة ، فيشرح حال الظالمين الذين قاوموا الحق ، وحال الذين حافظوا عليه وصبروا على ما أصابهم في سبيله .
فتبين من مجموع ما تقدم : أن الفاتحة قد اشتملت إجمالا على الأصول التي يفصلها/ القرآن تفصيلا . فكان إنزالها أولا موافقا لسنة الله تعالى في الإبداع . وعلى هذا تكون الفاتحة جديرة بأن تسمى " أم الكتاب " .
الثالثة : مما صح في فضلها من الأخبار : ما رواه البخار في ( صحيحه ) عن أبي سعيد بن المُعَلّى رضي الله عنه قال{[7]} :
( كنت أصلي في المسجد فدعاني النبي صلى الله عليه وسلم فلم أجبه . فقلت : يا رسول الله إني كنت أصلي . فقال : ألم يقل الله { استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم } ؟ ثم قال لي : لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد ؟ ثم أخذ بيدي ، فلما أراد أن نخرج ، قلت : يا رسول الله ألم تقل لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن . قال :
{ الحمد لله رب العالمين } ، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته ) .
وروى{[8]} الإمام أحمد والترمذي بإسناد حسن صحيح عن أبي هريرة ، نحوه ، غير أن القصة مع أبي بن كعب ، وفي آخره :
( والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها ، إنها السبع المثاني ) .
واستدل بهذا الحديث وأمثاله على تفاضل بعض الآيات والسور على بعض ، كما هو المحكي عن كثير من العلماء منهم : إسحق بن راهويه ، وأبو بكر بن العربي وابن الحصار من المالكية ، وذلك بيّن واضح .
وروى البخاري عن أبي سعيد الخدريّ قال{[9]} :
( كنا في مسير لنا فنزلنا ، فجاءت جارية فقالت : إن سيد الحي سليم ، وإن نفرنا غَيَبٌ ، / فهل منكم راق ؟ فقام معها رجل ما كنا نأبِنُه برُقيةٍ . فرقاه ، فبَرَأ ، فأمر له بثلاثين شاةً ، وسقانا لبناً ؛ فلما رجع قلنا له : أكنت تُحسن رقية ، أو كنت ترقي ؟ قال : لا ، ما رقيت إلا بأم الكتاب . قلنا : لا تُحْدِثوا شيئا حتى نأتي ، أو نسأل ، النبي صلى الله عليه وسلم . فلما قدمنا المدينة ، ذكرناه للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : وما كان يُدريه أنها رقية ؟ اقسموا واضربوا لي بسهم ) . وهكذا رواه مسلم وأبو داود . وفي بعض روايات مسلم : ( أن أبا سعيد الخدريّ هو الذي رقي ذلك السليم ) يعني اللديغ ، يسمونه بذلك تفاؤلا .
وروى مسلم والنسائي عن ابن عباس قال{[10]} :
( بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضا من فوقه ، فرفع رأسه فقال : هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم . فنزل منه ملك . فقال : هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم . فسلم وقال : أبشر بنورين قد أوتيتهما ، لم يؤتَهُمَا نبي قبلك ، فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة ، لم تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته ) .
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال{[11]} : ( من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خِداج ( ثلاثا ) غير تمام فقيل لأبي هريرة : إنا نكون وراء الإمام . فقال : اقرأها في نفسك ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
قال الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، ولعبدي ما سأل ، فإذا قال العبد : { الحمد لله رب العالمين } ، قال الله : حمدني عبدي ، وإذا قال : { الرحمن الرحيم } ، قال الله تعالى : أثنى علي عبدي ، وإذا قال : { مالك يوم الدين } ، قال : مجدني عبدي وقال مرة فوّض إلي عبدي فإذا قال : { إياك نعبد وإياك نستعين } ، قال : هذا بيني وبين عبدي ، ولعبدي ما سأل ، فإذا قال : { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } ، قال : هذا لعبدي ، ولعبدي ما سأل ) .
ويكفي من شرح الفاتحة هذا المقدار الجليل ، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل .