قوله تعالى : { صراط الذين أنعمت عليهم } . أي مننت عليهم بالهداية والتوفيق قال عكرمة : مننت عليهم بالثبات على الإيمان والاستقامة ، وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وقيل : هم كل من ثبته الله على الإيمان من النبيين والمؤمنين الذين ذكرهم الله تعالى في قوله : ( فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين ) الآية وقال ابن عباس : هم قوم موسى وعيسى عليهما السلام قبل أن غيروا دينهم ، وقال عبد الرحمن : هم النبي ومن معه ، وقال أبو العالية : هم الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما ، قال عبد الرحمن بن زيد : إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته ، وقال شهر بن حوشب : هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته . قرأ حمزة : ( عليهم ، ولديهم ، وإليهم ) ، بضم هاءاتها ، ويضم يعقوب كل هاء قبلها ياء ساكنة تثنية وجمعاً إلا قوله : ( بين أيديهن وأرجلهن ) وقرأ الآخرون بكسرهما ، فمن ضم الهاء ردها إلى الأصل ، لأنها مضمومة عند الانفراد ومن كسرها فلأجل الياء الساكنة و الياء أخت الكسرة ، وضم ابن كثير و أبو جعفر كل ميم جمع مشبعاً في الوصل إذا لم يلقها ساكن ، فإن لقيها ساكن فلا يشبع ، ونافع يخير ، ويضم ورش عند ألف القطع ، فإذا تلقته ألف وصل وقبل الهاء كسر أو ياء ساكنة ضم الهاء والميم حمزة و الكسائي ، وكسرهما أبو عمرو ، وكذلك يعقوب إذا انكسر ما قبله ، والآخرون يقرؤون بضم الميم وكسر الهاء في الكل لأجل الياء ، أو لكسر ما قبلها وضم الميم على الأصل .
قوله تعالى : { غير المغضوب عليهم } . يعني غير صراط الذين غضبت عليهم ، والغضب هو : إرادة الانتقام من العصاة ، وغضب الله تعالى لا يلحق عصاة المؤمنين إنما يلحق الكافرين .
قوله تعالى : { ولا الضالين } . أي وغير الضالين عن الهدى . وأصل الضلال الهلاك والغيبوبة ، يقال : ضل الماء في اللبن إذا هلك وغاب . و( غير ) هاهنا بمعنى لا ، ولا بمعنى غير ، ولذلك جاز العطف عليها ، كما يقال : فلان غير محسن ولا مجمل ، فإذا كان ( غير ) بمعنى سوى فلا يجوز العطف عليها بلا ، ولا يجوز في الكلام : عندي سوى عبد الله ولا زيد . وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه " صراط من أنعمت عليهم " لأن الله تعالى حكم على اليهود بالغضب فقال : ( من لعنه الله وغضب عليه ) وحكم على النصارى بالضلال ( غير المغضوب عليهم ) وغير الضالين وقيل المغضوب عليهم هم اليهود ، والضالون هم النصارى فقال : ( ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل ) وقال سهل بن عبد الله ( غير المغضوب عليهم ) بالبدعة ( ولا الضالين ) عن السنة .
والسنة للقارئ أن يقول بعد فراغه من قراءة الفاتحة { آمين } . مفصولا عن الفاتحة بسكتة وهو مخفف ، ويجوز ممدودا ومقصورا ومعناه : اللهم اسمع واستجب . وقال ابن عباس و قتادة : معناه كذلك يكون ، وقال مجاهد : هو اسم من أسماء الله تعالى ، وقيل : هو طابع الدعاء ، وقيل هو خاتم الله على عباده يدفع به الآفات عنهم ، كخاتم الكتاب يمنعه من الفساد وظهور ما فيه .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، و أبو حامد أحمد بن عبد الله الصالحي قالا : أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري ، أنا أبو علي محمد ابن أحمد بن محمد بن معقل الميداني ، ثنا محمد بن يحيى ، ثنا عبد الرزاق ، أنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا قال الإمام غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا آمين ، فإن الملائكة تقول آمين ، وإن الإمام يقول آمين ، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه " صحيح .
أخبرنا أبو الحسن أحمد بن عبد الرحمن بن محمد الكناني ، أنا أبو نصر محمد ابن علي بن الفضل الخزاعي ، أنا أبو عثمان عمر بن عبد الله البصري ، ثنا محمد ابن عبد الوهاب ، ثنا خالد بن مخلد القطراني ، حدثني محمد بن جعفر بن أبي كثير ، هو أخو إسماعيل بن جعفر ، عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال : " مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبيّ بن كعب وهو قائم يصلي فصاح به فقال : تعال يا أبي ، فعجل أبي في صلاته ، ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما منعك يا أبي أن تجيبني إذ دعوتك ؟ أليس الله يقول : ( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذ دعاكم لما يحييكم ) قال أبي : لا جرم يا رسول الله لا تدعوني إلا أجبتك وإن كنت مصليا . قال : أتحب أن أعلمك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها ؟ فقال أبيّ : نعم يا رسول الله فقال : لا تخرج من باب المسجد حتى تعلمها والنبي صلى الله عليه وسلم يمشي يريد أن يخرج من المسجد ، فلما بلغ الباب ليخرج قال له أبي : السورة يا رسول الله ؟ فوقف فقال : نعم كيف تقرأ في صلاتك ؟ فقرأ أبي أم القرآن ، فقال رسول الله : صلى الله عليه وسلم " والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها ، وإنما هي السبع من المثاني التي آتاني الله عز وجل " هذا حديث حسن صحيح .
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الصمد الترابي ، أنا الحاكم أبو الفضل محمد ابن الحسين الحدادي ، أنا أبو يزيد محمد بن يحيى بن خالد ، أنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ، ثنا يحيى بن آدم ، ثنا أبو الأحوص عن عمار بن ذريق عن عبد الله بن عيسى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : " بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جبريل إذ سمع نقضا من فوقه ، فرفع جبريل بصره إلى السماء ، فقال : هذا باب فتح من السماء ما فتح قط ، قال : فنزل منه ملك ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك ، فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة ، لن تقرأ حرفا منهما إلا أعطيته " صحيح .
أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد الشيرازي ، ثنا زاهر بن أحمد السرخسي ، أنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أنا أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري ، عن مالك عن العلاء بن عبد الرحمن أنه سمع أبا السائب مولى هشام بن زهرة ، يقول : سمعت أبا هريرة يقول ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج غير تمام " قال : فقلت يا أبا هريرة إني أحيانا أكون وراء الإمام ؟ فغمز ذراعي وقال : اقرأ بها يا فارسي في نفسك ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " قال الله عز وجل : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقرؤوا يقول العبد : ( الحمد لله رب العالمين ) يقول الله : حمدني عبدي ، يقول العبد : ( الرحمن الرحيم ) يقول الله : أثنى علي عبدي ، يقول العبد : ( مالك يوم الدين ) يقول الله : مجدني عبدي . يقول العبد : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) يقول الله عز وجل : هذه الآية بيني وبين عبدي ، فلعبدي ما سأل . يقول العبد : ( اهدنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) يقول الله : فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل " صحيح .
وهذا الصراط المستقيم هو : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين . { غَيْرِ } صراط { الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } الذين عرفوا الحق وتركوه كاليهود ونحوهم . وغير صراط { الضَّالِّينَ } الذين تركوا الحق على جهل وضلال ، كالنصارى ونحوهم .
فهذه السورة على إيجازها ، قد احتوت على ما لم تحتو عليه سورة من سور القرآن ، فتضمنت أنواع التوحيد الثلاثة : توحيد الربوبية يؤخذ من قوله : { رَبِّ الْعَالَمِينَ }
وتوحيد الألوهية وهو إفراد الله بالعبادة ، يؤخذ من لفظ : { اللَّهِ } ومن قوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } وتوحيد الأسماء والصفات ، وهو إثبات صفات الكمال لله تعالى ، التي أثبتها لنفسه ، وأثبتها له رسوله من غير تعطيل ولا تمثيل ولا تشبيه ، وقد دل على ذلك لفظ { الْحَمْدُ } كما تقدم . وتضمنت إثبات النبوة في قوله : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } لأن ذلك ممتنع بدون الرسالة .
وإثبات الجزاء على الأعمال في قوله : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } وأن الجزاء يكون بالعدل ، لأن الدين معناه الجزاء بالعدل .
وتضمنت إثبات القدر ، وأن العبد فاعل حقيقة ، خلافا للقدرية والجبرية . بل تضمنت الرد على جميع أهل البدع [ والضلال ] في قوله : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } لأنه معرفة الحق والعمل به . وكل مبتدع [ وضال ] فهو مخالف لذلك .
وتضمنت إخلاص الدين لله تعالى ، عبادة واستعانة في قوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فالحمد لله رب العالمين .
وجملة { صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } بدل من الصراط المستقيم . ولم يقل : اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم مستغنيًا عن ذكر الصراط المستقيم ، ليدل أن صراط هؤلاء المنعم عليهم هو الصراط المستقيم .
وقال : { صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ولم يقل صراط الأنبياء أو الصالحين ، ليدل على أن الدين فى ذاته نعمة عظيمة ، ويكفى للدلالة على عظمتها إسنادها إليه - تعالى - فى قوله : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } لأن المراد بالإِنعام هنا - على الراجح - الإِنعام الدينى . فالمنعم عليهم هم من عرفوا الحق فتمسكوا به ، وعرفوا الخير فعملوا به . قال بعض العلماء : " وإنما اختار فى البيان أن يضيف الصراط إلى المنعم عليهم لمعنيين : أولهما : هو إبراز نفسية المحب المخلص ، وأنه يكون شديد الاحتياط دقيق التحرى عن الطريق الموصل إلى ساحة الرضا فى ثقة تملأ نفسه ، وتفعم قلبه ، ولا يجد فى مثل هذا المقام ما يملأ نفسه ثقة إلا أن يبين الطريق ، بأنه الطريق الذى وصل بالسير عليه من قبله الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون . وثانيهما : أن من خواطر المؤمل فى نعيم ربه أن يكون تمام أنسه فى رفقة من الناس صالحين ، وصحب منهم محسنين ) .
وقوله - تعالى - { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم } بدل من { الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } وأتى فى وصف الإِنعام بالفعل المسند إلى الله - تعالى - فقال : { أنعمت عليهم } فى وصف الغضب باسم المفعول فقال : { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم } وفى ذلك تعليم لأدب جميل ، وهو أن الإِنسان يجمل به أن يسند أفعال الإِحسان إلى الله ، ويتحامى أن يسند إليه أفعال العقاب والابتلاء ، وإن كان كل من الإِحسان والعقاب صادرًا منه ، ومن شواهد هذا قوله - تعالى - حكاية عن مؤمنى الجن { وَأَنَّا لاَ ندري أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرض أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً } وحرف ( لا ) فى قوله { وَلاَ الضآلين } جئ به لتأكيد معنى النفى المستفاد من كلمة غير . والمراد بالمغضوب عليهم اليهود . وبالضالين النصارى . وقد ورد هذا التفسير عن النبى صلى الله عليه وسلم فى حديث رواه الإِمام أحمد فى مسنده وابن حبان فى صحيحه . ومن المفسرين من قال بأن المراد بالمغضوب عليهم من فسدت إرادتهم حيث علموا الحق ولكنهم تركوه عنادًا وجحودا ، وأن المراد بالضالين من فقدوا العلم فهم تائهون فى الضلالات دون أن يهتدوا إلى طريق قويم . وقدم المغضوب عليهم على الضالين ، لأن معنى المغضوب عليهم كالضد لمعنى المنعم عليهم ، ولأن المقابلة بينهما أوضح منها بين المنعم عليهم والضالين ، فكان جديرًا بأن يوضع فى مقابلته قبل الضالين .
قال العلماء : ويستحب لمن يقرأ الفاتحة أن يقول بعدها ( آمين ) ومعناه اللهم استجب وليس هذا اللفظ من القرآن بدليل أنه لم يثبت فى المصاحف والدليل على استحباب التأمين ما رواه الإِمام أحمد وأبو داود والترمذى عن وائل بن حجر قال : سمعت النبى صلى الله عليه وسلم قرأ { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين } فقال : ( آمين ) مد بها صوته .
وفى الصحيحين عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أمن الإِمام فأمنوا ، فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر الله له ما تقدم من ذنبه " .
هذا ، وقد أفاض العلماء فى الحديث عما اشتملت عليه سورة الفاتحة من آداب وعقائد وعبادات وأحكام ، ومن ذلك قول ابن كثير : ( اشتملت هذه السورة الكريمة ، وهى سبع آيات - على حمد الله وتمجيده والثناء عليه بذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العليا ، وعلى ذكر المعاد وهو يوم الدين ، وعلى إرشاد عبيده إلى سؤاله والتضرع إليه والتبرى من حولهم وقوتهم ، إلى إخلاص العبادة له وتوحيده بالألوهية ، وتنزيهه عن أن يكون له شريك أو نظير ، وإلى سؤالهم إياه الهداية إلى الصراط المستقيم ، وهو الدين القويم وتثبيتهم عليه ، واشتملت على الترغيب فى الأعمال الصالحة ليكونوا مع أهلها يوم القيامة ، والتحذير من مسالك الباطل لئلا يحشروا مع سالكيها يوم القيامة ، وهم المغضوب عليهم والضالون ) . وقال بعض العلماء : سورة الفاتحة مشتملة على أربعة أنواع من العلوم هى مناط الدين . أحدها : علم الأصول وإليه الإِشارة بقوله { الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين الرحمن الرحيم } ، ومعرفة النبوات وإليه الإشارة بقوله : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ومعرفة المعاد وإليه الإشارة بقوله { مالك يَوْمِ الدين } . وثانيها : علم الفروع وأعظمه العبادات وإليه الإِشارة بقوله { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } . وثالثها : علم الأخلاق ، وإليه الإِشارة بقوله { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهدنا الصراط المستقيم } . ورابعها : علم القصص والأخبار عن الأمم السابقة السعداء منه والأشقياء ، وهو المراد بقوله { صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين } . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
ويكشف عن طبيعة هذا الصراط المستقيم : ( صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) . . فهو طريق الذين قسم لهم نعمته . لا طريق الذين غضب عليهم لمعرفتهم الحق ثم حيدتهم عنه . أو الذين ضلوا عن الحق فلم يهتدوا أصلا إليه . . إنه صراط السعداء المهتدين الواصلين . .
وبعد فهذه هي السورة المختارة للتكرار في كل صلاة ، والتي لا تصح بدونها صلاة . وفيها على قصرها تلك الكليات الأساسية في التصور الإسلامي ؛ وتلك التوجهات الشعورية المنبثقة من ذلك التصور .
وقد ورد في صحيح مسلم من حديث العلاء بن عبد الرحمن مولى الحرقة عن أبيه ، عن أبي هريرة عن رسول الله [ ص ] : " يقول الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين . فنصفها لي ونصفها لعبدي ، ولعبدي ما سأل . . إذا قال العبد : الحمد لله رب العالمين . قال الله : حمدني عبدي . وإذا قال الرحمن الرحيم . قال الله أثني علي عبدي . فإذا قال : مالك يوم الدين . قال الله : مجدني عبدي . وإذا قال : إياك نعبد وإياك نستعين . قال : هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل . فإذا قال : اهدنا الصراط المستقيم . صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين . قال : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل " . .
ولعل هذا الحديث الصحيح - بعدما تبين من سياق السورة ما تبين - يكشف عن سر من أسرار اختيار السورة ليرددها المؤمن سبع عشرة مرة في كل يوم وليلة ؛ أو ما شاء الله أن يرددها كلما قام يدعوه في الصلاة .
{ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ }
قد تقدم الحديث فيما إذا قال العبد : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } إلى آخرها أن الله يقول : " هذا لعبدي ولعبدي ما سأل " .
وقوله : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } مفسر للصراط المستقيم . وهو بدل منه عند النحاة ، ويجوز أن يكون عطف بيان ، والله أعلم .
و{ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ{[955]} عَلَيْهِمْ } هم المذكورون في سورة النساء ، حيث قال : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا } [ النساء : 69 ، 70 ] .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : صراط الذين أنعمت عليهم بطاعتك وعبادتك ، من ملائكتك ، وأنبيائك ، والصديقين ، والشهداء ، والصالحين ؛ وذلك نظير ما قال ربنا تعالى : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } الآية [ النساء : 69 ] .
وقال أبو جعفر ، عن الربيع بن أنس : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } قال : هم النبيون . وقال ابن جُرَيْج ، عن ابن عباس : هم المؤمنون . وكذا قال مجاهد . وقال وَكِيع : هم المسلمون . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هم النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه . والتفسير المتقدم ، عن ابن عباس أعم ، وأشمل ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } [ قرأ الجمهور : " غير " بالجر على النعت ، قال الزمخشري : وقرئ بالنصب على الحال ، وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب ، ورويت عن ابن كثير ، وذو الحال الضمير في { عليهم } والعامل : { أنعمت } والمعنى ]{[956]} اهدنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم ممن تقدم وصفهم ونعتهم ، وهم أهل الهداية والاستقامة والطاعة لله ورسله ، وامتثال أوامره وترك نواهيه وزواجره ، غير صراط المغضوب عليهم ، [ وهم ]{[957]} الذين فسدت إرادتهم ، فعلموا الحق وعدلوا عنه ، ولا صراط الضالين وهم الذين فقدوا العلم فهم هائمون في الضلالة لا يهتدون إلى الحق ، وأكد الكلام بلا ليدل على أن ثَمّ مسلكين فاسدين ، وهما طريقتا اليهود والنصارى .
وقد زعم بعض النحاة أن { غير } هاهنا استثنائية ، فيكون على هذا منقطعًا لاستثنائهم من المنعم عليهم وليسوا منهم ، وما أوردناه أولى ، لقول الشاعر{[958]}
كأنَّك من جِمال بني أقَيش *** يُقَعْقَعُ عند{[959]} رِجْلَيْه بشَنِّ
أي : كأنك جمل من جمال بني أقيش ، فحذف الموصوف واكتفى بالصفة{[960]} ، وهكذا ، { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } أي : غير صراط المغضوب عليهم .
اكتفى بالمضاف إليه عن ذكر المضاف ، وقد دل عليه سياق الكلام ، وهو قوله تعالى : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ثم قال تعالى : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } ومنهم من زعم أن( لا ) في قوله : { ولا الضالين } زائدة ، وأن تقدير الكلام عنده : غير المغضوب عليهم والضالين ، واستشهد ببيت العجاج : في بئْر لا حُورٍ *** سرى{[961]} وما شَعَر{[962]}
والصحيح ما قدمناه . ولهذا روى أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب فضائل القرآن ، عن أبي معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه : أنه كان يقرأ : " غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَغَيْر الضَّالّين " . وهذا إسناد صحيح{[963]} ، [ وكذا حكي عن أبي بن كعب أنه قرأ كذلك ]{[964]} وهو محمول على أنه صدر منه على وجه التفسير ، فيدل على ما قلناه من أنه إنما جيء بها لتأكيد النفي ، [ لئلا يتوهم أنه معطوف على { الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ]{[965]} ، وللفرق بين الطريقتين ، لتجتنب كل منهما ؛ فإن طريقة أهل الإيمان مشتملة على العلم بالحق والعمل به ، واليهود فقدوا العمل ، والنصارى فقدوا العلم ؛ ولهذا كان الغضب لليهود ، والضلال للنصارى ، لأن من علم وترك استحق الغضب ، بخلاف من لم يعلم . والنصارى لما كانوا قاصدين شيئًا لكنهم لا يهتدون إلى طريقه ، لأنهم لم يأتوا الأمر من بابه ، وهو اتباع الرسول الحق ، ضلوا ، وكل من اليهود والنصارى ضال مغضوب عليه ، لكن أخص أوصاف اليهود الغضب [ كما قال فيهم : { مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ } ]{[966]} [ المائدة : 60 ] وأخص أوصاف النصارى الضلال [ كما قال : { قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيل " ]{[967]} } [ المائدة : 77 ] ، وبهذا جاءت الأحاديث والآثار . [ وذلك واضح بين ]{[968]} . قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، قال : سمعت سِماك بن حرب ، يقول : سمعت عبَّاد بن حُبَيش ، يحدث عن عدي بن حاتم ، قال : جاءت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذوا عمتي وناسًا ، فلما أتوا بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صُفُّوا له ، فقالت : يا رسول الله ، ناء الوافد وانقطع الولد ، وأنا عجوز كبيرة ، ما بي من خدمة ، فمُنّ علي مَنّ الله عليك ، قال : «من وافدك ؟ » قالت : عدي بن حاتم ، قال : «الذي فر من الله ورسوله ! » قالت : فمنَّ علي ، فلما رجع ، ورجل إلى جنبه{[969]} ، ترى أنه علي ، قال : سليه حُمْلانا ، فسألته ، فأمر لها ، قال : فأتتني فقالت : لقد فعل فعلة ما كان أبوك يفعلها ، فإنه قد أتاه فلان فأصاب منه ، وأتاه فلان فأصاب منه ، فأتيته فإذا عنده امرأة وصبيان أو صبي ، وذكر قربهم من النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : فعرفت أنه ليس بملك كسرى ولا قيصر ، فقال :
«يا عدي ، ما أفرك{[970]} أن يقال{[971]} لا إله إلا الله ؟ فهل من إله إلا الله ؟ قال : ما أفرك{[972]} أن يقال : الله أكبر ، فهل شيء أكبر{[973]} من الله ، عز وجل ؟ » . قال : فأسلمت ، فرأيت وجهه استبشر ، وقال : «المغضوب{[974]} عليهم اليهود ، وإن الضالين النصارى »{[975]} . وذكر الحديث ، ورواه الترمذي ، من حديث سماك بن حرب{[976]} ، وقال : حسن غريب لا نعرفه إلا من حديثه . قلت : وقد رواه حماد بن سلمة ، عن سماك ، عن مُرِّيّ بن قَطَريّ ، عن عدي بن حاتم ، قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } قال : «هم اليهود » { ولا الضالين } قال : «النصارى هم الضالون » . وهكذا رواه سفيان بن عيينة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ، عن عدي بن حاتم به{[977]} . وقد روي حديث عدي هذا من طرق ، وله ألفاظ كثيرة يطول ذكرها .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن بُدَيْل العُقَيْلي ، أخبرني عبد الله بن شَقِيق ، أنه أخبره من سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القُرَى ، وهو على فرسه ، وسأله رجل من بني القين ، فقال : يا رسول الله ، من هؤلاء ؟ قال : «المغضوب عليهم - وأشار إلى اليهود - والضالون هم النصارى »{[978]} . وقد رواه الجُرَيري وعروة ، وخالد الحَذَّاء ، عن عبد الله بن شقيق ، فأرسلوه{[979]} ، ولم يذكروا من سمع النبي صلى الله عليه وسلم . ووقع في رواية عروة تسمية عبد الله بن عمر ، فالله أعلم .
وقد روى ابن مَرْدُويه ، من حديث إبراهيم بن طَهْمان ، عن بديل بن ميسرة ، عن عبد الله بن شقيق ، عن أبي ذر قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المغضوب عليهم قال : «اليهود » ، [ قال ]{[980]} قلت : الضالين ، قال : «النصارى »{[981]} . وقال السُّدِّي ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } هم اليهود ، { ولا الضالين } هم النصارى .
وقال الضحاك ، وابن جُرَيْج ، عن ابن عباس : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } اليهود ، { ولا الضالين } [ هم ]{[982]} النصارى .
وكذلك قال الربيع بن أنس ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغير واحد ، وقال ابن أبي حاتم : ولا أعلم بين المفسرين في هذا اختلافًا .
وشاهد ما قاله هؤلاء الأئمة من أن اليهود مغضوب عليهم ، والنصارى ضالون ، الحديث المتقدم ، وقوله تعالى في خطابه مع بني إسرائيل في سورة البقرة : { بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنزلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ } [ البقرة : 90 ] ، وقال في المائدة{[983]} { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } [ المائدة : 60 ] ، وقال تعالى : { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } [ المائدة : 78 ، 79 ] .
وفي السيرة{[984]} {[985]}عن زيد بن عمرو بن نفيل ؛ أنه لما خرج هو وجماعة من أصحابه إلى الشام يطلبون الدين الحنيف ، قالت له اليهود : إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله . فقال : أنا من غضب الله أفر . وقالت له النصارى : إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ بنصيبك من سَخَط الله فقال : لا أستطيعه . فاستمر على فطرته ، وجانب عبادة الأوثان ودين المشركين ، ولم يدخل مع أحد من اليهود ولا النصارى ، وأما أصحابه فتنصروا ودخلوا في دين النصرانية ؛ لأنهم وجدوه أقرب من دين اليهود إذ ذاك ، وكان منهم ورقة بن نوفل ، حتى هداه الله بنبيه لما بعثه آمن بما وجد من الوحي ، رضي الله عنه .
( مسألة ) : والصحيح من مذاهب العلماء أنه يغتفر الإخلال بتحرير ما بين الضاد والظاء لقرب مخرجيهما ؛ وذلك أن الضاد مخرجها من أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس ، ومخرج الظاء من طرف اللسان وأطراف الثنايا العليا ، ولأن كلا من الحرفين من الحروف المجهورة ومن الحروف الرخوة ومن الحروف المطبقة ، فلهذا كله اغتفر استعمال أحدهما مكان الآخر لمن لا يميز ذلك والله أعلم . وأما حديث : " أنا أفصح من نطق بالضاد " فلا أصل له والله أعلم .
اشتملت هذه السورة الكريمة وهي سبع آيات ، على حمد الله وتمجيده والثناء عليه ، بذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العليا{[1]} ، وعلى ذكر المعاد وهو يوم الدين ، وعلى إرشاده عبيده{[2]} إلى سؤاله والتضرع إليه ، والتبرؤ من حولهم وقوتهم ، وإلى إخلاص العبادة له وتوحيده بالألوهية تبارك وتعالى ، وتنزيهه أن يكون له شريك أو نظير أو مماثل ، وإلى سؤالهم إياه الهداية إلى الصراط المستقيم ، وهو الدين القويم ، وتثبيتهم عليه حتى يُفضي بهم ذلك إلى جواز الصراط الحسي يوم القيامة ، المفضي بهم إلى جنات النعيم في جوار النبيين ، والصديقين ، والشهداء ، والصالحين .
واشتملت على الترغيب في الأعمال الصالحة ، ليكونوا مع أهلها يوم القيامة ، والتحذير من مسالك الباطل ؛ لئلا يحشروا مع سالكيها يوم القيامة ، وهم المغضوب عليهم والضالون . وما أحسن ما جاء إسناد الإنعام إليه في قوله تعالى : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } وحذف الفاعل في الغضب في قوله تعالى : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } وإن كان هو الفاعل لذلك في الحقيقة ، كما قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } الآية [ المجادلة : 14 ] ،
وكذلك إسناد الضلال إلى من قام به ، وإن كان هو الذي أضلهم بقدَره ، كما قال تعالى : { مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا } [ الكهف : 17 ] . وقال : { مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الأعراف : 186 ] . إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه سبحانه هو المنفرد بالهداية والإضلال ، لا كما تقوله الفرقة القدرية ومن حذا حذوهم ، من أن العباد هم الذين يختارون ذلك ويفعلونه{[3]} ، ويحتجون على بدعتهم{[4]} بمتشابه من القرآن ، ويتركون ما يكون فيه صريحا في الرد عليهم ، وهذا حال أهل الضلال والغي ، وقد ورد في الحديث الصحيح : «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه ، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم »{[5]} . يعني في قوله تعالى : { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } [ آل عمران : 7 ] ، فليس - بحمد الله - لمبتدع في القرآن حجة صحيحة ؛ لأن القرآن جاء ليفصل الحق من الباطل مفرقًا بين الهدى والضلال ، وليس فيه تناقض ولا اختلاف ؛ لأنه من عند الله ، تنزيل من حكيم حميد{[6]} .
يستحب لمن قرأ الفاتحة أن يقول بعدها : آمين [ مثل : يس ]{[7]} ، ويقال : أمين . بالقصر أيضًا [ مثل : يمين ]{[8]} ، ومعناه : اللهم استجب ، والدليل على ذلك{[9]} ما رواه الإمام أحمد وأبو داود ، والترمذي ، عن وائل بن حجر ، قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } فقال : " آمين " ، مد{[10]} بها صوته ، ولأبي داود : رفع بها صوته{[11]} ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن . وروي عن علي ، وابن مسعود وغيرهم .
وعن أبي هريرة ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تلا { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } قال : " آمين " حتى يسمع من يليه من الصف الأول ، رواه أبو داود ، وابن ماجه ، وزاد : يرتج{[12]} بها المسجد{[13]} ، والدارقطني وقال : هذا إسناد حسن .
وعن بلال أنه قال : يا رسول الله ، لا تسبقني بآمين . رواه أبو داود{[14]} .
ونقل أبو نصر القشيري{[15]} عن الحسن وجعفر الصادق أنهما شددا الميم من آمين مثل : { آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ } [ المائدة : 2 ] .
قال أصحابنا وغيرهم : ويستحب ذلك لمن هو خارج الصلاة ، ويتأكد في حق المصلي ، وسواء كان منفردًا أو إمامًا أو مأمومًا ، وفي جميع الأحوال ، لما جاء في الصحيحين ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أمن الإمام فأمنوا ، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة ، غفر له ما تقدم من ذنبه " ولمسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إذا قال أحدكم في الصلاة : آمين ، والملائكة{[16]} في السماء : آمين ، فوافقت إحداهما الأخرى ، غفر له ما تقدم من ذنبه »{[17]} . [ قيل : بمعنى من وافق تأمينه تأمين الملائكة في الزمان ، وقيل : في الإجابة ، وقيل : في صفة الإخلاص ]{[18]} . وفي صحيح مسلم عن أبي موسى مرفوعا : «إذا{[19]} قال ، يعني الإمام : { ولا الضالين } ، فقولوا : آمين . يجبكم الله »{[20]} . وقال جُوَيبر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : قلت : يا رسول الله ، ما معنى آمين ؟ قال : «رب افعل »{[21]} . وقال الجوهري : معنى آمين : كذلك فليكن ، وقال الترمذي : معناه : لا تخيب رجاءنا ، وقال الأكثرون : معناه : اللهم استجب لنا ، وحكى القرطبي عن مجاهد وجعفر الصادق وهلال بن كيسان : أن آمين اسم من أسماء الله تعالى وروي عن ابن عباس مرفوعًا ولا يصح ، قاله أبو بكر بن العربي المالكي{[22]} . وقال أصحاب مالك : لا يؤمن الإمام ويؤمن المأموم ، لما رواه مالك عن سُمَيّ ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «وإذا قال ، يعني الإمام : { ولا الضالين } ، فقولوا : آمين » . الحديث{[23]} . واستأنسوا - أيضا - بحديث أبي موسى : " وإذا قرأ : { ولا الضالين } ، فقولوا : «آمين » .
وقد قدمنا في المتفق عليه : «إذا أمن الإمام فأمنوا » وأنه عليه الصلاة والسلام كان يؤمن إذا قرأ{[24]} { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } .
وقد اختلف أصحابنا في الجهر بالتأمين للمأموم في الجهرية ، وحاصل الخلاف أن الإمام إن نسي التأمين جهر المأموم به قولا واحدًا ، وإن أمَّن الإمام جهرًا فالجديد أنه لا يجهر المأموم وهو مذهب أبي حنيفة ، ورواية عن مالك ؛ لأنه ذكر من الأذكار فلا يجهر به كسائر أذكار الصلاة . والقديم أنه يجهر به ، وهو مذهب الإمام أحمد بن حنبل ، والرواية الأخرى عن مالك ، لما{[25]} تقدم : " حتى يرتج المسجد " .
ولنا قول آخر ثالث : أنه إن كان المسجد صغيرًا لم يجهر المأموم{[26]} ، لأنهم يسمعون قراءة الإمام ، وإن كان كبيرا جهر ليبلغ التأمين مَنْ في أرجاء المسجد ، والله أعلم .
وقد روى الإمام أحمد في مسنده ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت عنده اليهود ، فقال : " إنهم لن يحسدونا{[27]} على شيء كما يحسدونا{[28]} على الجمعة التي هدانا الله لها وضلوا عنها ، وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلوا عنها ، وعلى قولنا خلف الإمام : آمين " {[29]} ، ورواه ابن ماجه ، ولفظه : " ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين " {[30]} ، وله عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على قول : آمين ، فأكثروا من قول : " آمين " {[31]} وفي إسناده طلحة بن عمرو ، وهو ضعيف .
وروى ابن مَرْدُويه ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «آمين : خاتم رب العالمين على عباده المؤمنين »{[32]} . وعن أنس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أعطيت آمين في الصلاة وعند الدعاء ، لم يعط أحد قبلي إلا أن يكون موسى ، كان موسى يدعو ، وهارون يؤمن ، فاختموا الدعاء بآمين ، فإن الله يستجيبه لكم »{[33]} .
قلت : ومن هنا نزع بعضهم في الدلالة بهذه الآية الكريمة ، وهي قوله تعالى : { وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } [ يونس : 88 ، 89 ] ، فذكر الدعاء عن موسى وحده ، ومن سياق الكلام ما يدل على أن هارون أمَّن ، فنزل منزلة من دعا ، لقوله تعالى : { قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا } [ يونس : 89 ] ، فدلّ ذلك على أن من أمَّن على دعاء فكأنما قاله ؛ فلهذا قال من قال : إن المأموم لا يقرأ لأن تأمينه على قراءة الفاتحة بمنزلة قراءتها ؛ ولهذا جاء في الحديث : " من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة " ، وكان بلال يقول : لا تسبقني بآمين . فدل هذا المنزع على أن المأموم لا قراءة عليه في الجهرية ، والله أعلم .
ولهذا قال ابن مَرْدُويه : حدثنا أحمد بن الحسن ، حدثنا عبد الله بن محمد بن سلام ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا جرير ، عن ليث بن أبي سليم ، عن كعب ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا قال الإمام : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } فقال : آمين ، فتوافق{[34]} آمين أهل الأرض آمين أهل السماء ، غفر الله للعبد ما تقدم من ذنبه ، ومثل من لا يقول : آمين ، كمثل رجل غزا مع قوم ، فاقترعوا ، فخرجت سهامهم ، ولم يخرج سهمه ، فقال : لِمَ لَمْ يخرج سهمي ؟ فقيل : إنك لم تقل : آمين " {[35]} .
{ صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } .
بدل أو عطف بيان من { الصراط المستقيم } ، وإنما جاء نظم الآية بأسلوب الإبدال أو البيان دون أن يقال : اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم المستقيم ، لفائدتين : الأولى : أن المقصود من الطلب ابتداء هو كون المهدى إليه وسيلة للنجاة واضحة سمحة سهلة ، وأما كونها سبيل الذين أنعم الله عليهم فأمر زائد لبيان فضله . الفائدة الثانية : ما في أسلوب الإبدال من الإجمال المعقب بالتفصيل ليتمكن معنى الصراط للمطلوب فضل تمكن في نفوس المؤمنين الذين لقنوا هذا الدعاء فيكون له من الفائدة مثل ما للتوكيد المعنوي ، وأيضاً لما في هذا الأسلوب من تقرير حقيقة هذا الصراط وتحقيق مفهومه في نفوسهم فيحصل مفهومه مرتين فيحصل له من الفائدة ما يحصل بالتوكيد اللفظي واعتبار البدلية مساوٍ لاعتباره عطف بيان لا مزية لأحدهما على الآخر خلافاً لمن حاول التفاضل بينهما ، إذ التحقيق عندي أن عطف البيان اسم لنوع من البدل وهو البدل المطابق وهو الذي لم يفصح أحد من النحاة على تفرقة معنوية بينهما ولا شاهداً يعين المصير إلى أحدهما دون الآخر .
قال في « الكشاف » : « فإن قلت ما فائدة البدل ؟ قلت فائدته التوكيد لما فيه من التثنية والتكرير » ا هـ فأفهم كلامه أن فائدة الإبدال أمران يرجعان إلى التوكيد وهما ما فيه من التثنية أي تكرار لفظ البدل ولفظ المبدل منه وعنى بالتكرير ما يفيده البدل عند النحاة من تكرير العامل وهو الذي مهد له في صدر كلامه بقوله : « وهو في حكم تكرير العامل كأنه قيل : اهدنا الصراط المستقيم اهدنا صراط الذين ، وسماه تكريراً لأنه إعادة للفظ بعينه ، بخلاف إعادة لفظ المبدل منه فإنه إعادة له بما يتحد مع ما صدقه فلذلك عبر بالتكرير وبالتثنية ، ومراده أن مثل هذا البدل وهو الذي فيه إعادة لفظ المبدل منه يفيد فائدة البدل وفائدة التوكيد اللفظي ، وقد علمت أن الجمع بين الأمرين لا يتأتى على وجه معتبر عند البلغاء إلا بهذا الصوغ البديع .
وإن إعادة الاسم في البدل أو البيان لِيُبنى عليه ما يُراد تعلقه بالاسم الأول أسلوبٌ بهيج من الكلام البليغ لإشعار إعادة اللفظ بأن مدلولَه بمحلِّ العناية وأنه حبيب إلى النفس ، ومثله تكرير الفعل كقوله تعالى : { وإذا مروا باللغو مروا كراماً } [ الفرقان : 72 ] وقوله : { ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا } [ القصص : 63 ] فإن إعادة فعل { مروا } وفعل { أغويناهم } وتعليق المتعلِّق بالفعل المعاد دون الفعل الأول تَجِدُ له من الروعة والبهجة ما لا تجده لتعليقه بالفعل الأول دون إعادة ، وليست الإعادة في مثله لمجرد التأكيد لأنه قد زيد عليه ما تعلق به . قال ابن جني في « شرح مشكل الحماسة » عند قول الأحوص :
فإذَا تزولُ تزول عن مُتَخَمِّطٍ *** تُخْشَى بَوَادِرُه على الأَقرانِ
محالٌ أن تقول إذا قُمتَ قُمتَ وإذا أقْعُدُ أقعد لأنه ليس في الثاني غير ما في الأول وإنما جاز أن يقول فإذَا تزولُ تزول لِما اتصل بالفعل الثاني من حَرْف الجر المفادة منه الفائدةُ ، ومثله قول الله تعالى : { هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا } وقد كان أبو علي ( يعني الفارسي ) امتنع في هذه الآية مما أخذناه ا هـ .
قلت ولم يتضح توجيه امتناع أبي علي فلعله امتنع من اعتبار { أغويناهم } بدلاً من { أغوينا } وجعله استئنافاً وإن كان المآل واحداً . وفي استحضار المنعم عليهم بطريق الموصول ، وإسناد فعل الإنعام عليهم إلى ضمير الجلالة ، تنويه بشأنهم خلافاً لغيرهم من المغضوب عليهم والضالين .
ثم إن في اختيار وصف الصراط المستقيم بأنه صراط الذين أنعمتَ عليهم دون بقية أوصافه تمهيداً لبساط الإجابة فإن الكريم إذا قلت له أعطني كما أعطيتَ فلاناً كان ذلك أَنْشَطَ لكرمه ، كما قرره الشيخ الجد قدس الله سره في قوله صلى الله عليه وسلم « كما صليتَ على إبراهيم » ، فيقول السائلون : إهدنا الصراط المستقيم الصراط الذين هديت إليه عبيد نعمك مع ما في ذلك من التعريض بطلب أن يكونوا لاحقين في مرتبة الهدى بأولئك المنعم عليهم ، وتهمماً بالاقتداء بهم في الأخذ بالأسباب التي ارتقوا بها إلى تلك الدرجات ، قال تعالى : { لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة } [ الممتحنة : 6 ] ، وتوطئةً لما سيأتي بعد من التبرىء من أحوال المغضوب عليهم والضالين فتضمن ذلك تفاؤلاً وتعوذاً .
والنعمة بالكسر وبالفتح مشتقة من النعيم وهو راحة العيش ومُلائم الإنسان والترفه ، والفعل كسمع ونصر وضرب . والنعمة الحالة الحسنة لأن بناء الفعلة بالكسر للهيئات ومتعلق النعمة اللذاتُ الحسية ثم استعملت في اللذات المعنوية العائدة بالنفع ولو لم يحس بها صاحبها . فالمراد من النعمة في قوله : { الذين أنعمت عليهم } النعمةُ التي لم يَشُبْها ما يكدرها ولا تكون عاقبتها سُوأَى ، فهي شاملة لخيرات الدنيا الخالصة من العواقب السيئة ولخيرات الآخرة ، وهي الأهم ، فيشمل النعم الدنيوية الموهوبيَّ منها والكسبيَّ ، والرُّوحانيَّ والجثماني ، ويشمل النعم الأخروية . والنعمة بهذا المعنى يرجع معظمها إلى الهداية ، فإن الهداية إلى الكسبي من الدنيويّ وإلى الأخرويّ كلِّه ظاهرة فيها حقيقة الهداية ، ولأن الموهوب في الدنيا وإن كان حاصلاً بلا كسب إلا أن الهداية تتعلق بحسن استعماله فيما وُهب لأجله .
فالمراد من المنعم عليهم الذين أفيضت عليهم النعم الكاملة ولا تخفى تمام المناسبة بين المنعم عليهم وبين المهديين حينئذٍ فيكون في إبدال { صراط الذين } من { الصراط المستقيم } معنى بديع وهو أن الهداية نعمة وأن المنعَم عليهم بالنعمة الكاملة قد هُدوا إلى الصراط المستقيم . والذين أنعم الله عليهم هم خيار الأمم السابقة من الرسل والأنبياء الذين حصلت لهم النعمة الكاملة . وإنما يلتئم كون المسؤول طريق المنعم عليهم فيما مضى وكونه هو دينَ الإسلام الذي جاء من بعدُ باعتبار أن الصراط المستقيم جار على سَنن الشرائع الحقة في أصول الديانة وفروع الهداية والتقوى ، فسألوا ديناً قويماً يكون في استقامته كصراط المنعم عليهم فأجيبوا بدين الإسلام ، وقد جمع استقامة الأديان الماضية وزاد عليها ، أو المراد من المنعم عليهم الأنبياءُ والرسل فإنهم كانوا على حالة أكمل مما كان عليه أممهم ، ولذلك وصف الله كثيراً من الرسل الماضين بوصف الإسلام وقد قال يعقوب لأبنائه :
{ فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } [ البقرة : 132 ] ذلك أن الله تعالى رفق بالأمم فلم يبلغ بهم غاية المراد من الناس لعدم تأهلهم للاضطلاع بذلك ولكنه أمر المرسلين بأكمل الحالات وهي مراده تعالى من الخلق في الغاية ، ولْنمثل لذلك بشرب الخمر فقد كان القدرُ غيرُ المسكر منه مباحاً وإنما يحرم السُّكر أوْ لا يحرم أصلاً غير أن الأنبياء لم يكونوا يتعاطون القليل من المسكرات وهو المقدار الذي هدى الله إليه هذه الأمة كلها ، فسواء فسرنا المنعم عليهم بالأنبياء أو بأفضل أَتْبَاعهم أو المسلمين السابقين فالمقصد الهداية إلى صراط كامل ويكون هذا الدعاء محمولاً في كل زمان على ما يناسب طرق الهداية التي سبقت زمانَه والتي لم يبلغ إلى نهايتها .
والقول في المطلوب من { اهدنا } على هذه التقادير كلها كالقول فيما تقدم من كون { اهدنا } لطلب الحصول أو الزيادة أو الدوام .
والدعاء مبني على عدم الاعتداد بالنعمة غير الخالصة ، فإن نعم الله على عباده كلهم كثيرة والكافر منعم عليه بما لا يمترَى في ذلك ولكنها نعم تحفها آلام الفكرة في سوء العاقبة ويعقبها عذاب الآخرة ، فالخلاف المفروض بين بعض العلماء في أن الكافر هل هو منعم عليه خلاف لا طائل تحته فلا فائدة في التطويل بظواهر أدلة الفريقين .
{ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ وَلاَ الضآلين } .
كلمة غير مجرورة باتفاق القراء العشرة ، وهي صفة للذين أنعمت عليهم ، أو بدل منه والوصف والبدلية سواء في المقصود ، وإنما قدم في « الكشاف » بيان وجه البدلية لاختصار الكلام عليها ليفضي إلى الكلام على الوصفية ، فيورد عليها كيفية صحة توصيف المعرفة بكلمة ( غير ) التي لا تتعرف ، وإلا فإن جعل { غير المغضوب } صفة للذين هو الوجه وكذلك أعربه سيبويه فيما نقل عنه أبو حيان ووجهه بأن البدل بالوصف ضعيف إذ الشأن أن البدل هو عين المبدل منه أي اسم ذات له ، يريد أن معنى التوصيف في { غير } أغلب من معنى ذات أخرى ليست السابقة ، وهو وقوف عند حدود العبارات الاصطلاحية حتى احتاج صاحب « الكشاف » إلى تأويل { غير المغضوب } بالذين سلموا من الغضب ، وأنا لا أظن الزمخشري أراد تأويل غير بل أراد بيان المعنى . وإنما صح وقوع ( غير ) صفة للمعرفة مع قولهم إن غير لتوغلها في الإبهام لا تفيدها الإضافة تعريفاً أي فلا يكون في الوصف بها فائدة التمييز فلا توصف بها المعرفة لأن الصفة يلزم أن تكون أشهر من الموصوف ، فغير وإن كانت مضافة للمعرفة إلا أنها لما تضمنه معناها من الإبهام انعدمت معها فائدة التعريف ، إذ كل شيء سوى المضاف إليه هو غير ، فماذا يستفاد من الوصف في قولك مررت بزيد غير عمرو ، فالتوصيف هنا إما باعتبار كون { الذين أنعمت عليهم } ليس مراداً به فريق معين فكان وزان تعريفه بالصلة وزان المعرف بأل الجنسية المسماة عند علماء المعاني بلام العهد الذهني ، فكان في المعنى كالنكرة وإن كان لفظه لفظ المعرفة فلذلك عرف بمثله لفظاً ومعنى ، وهو { غير المغضوب } الذي هو في صورة المعرفة لإضافته لمعرفة وهو في المعنى كالنكرة لعدم إرادة شيء معين ، وإما باعتبار تعريف غير في مثل هذا لأن غير إذا أريد بها نفي ضد الموصوف أي مساوي نقيضه صارت معرفة ، لأن الشيء يتعرف بنفي ضده نحو عليك بالحركة غير السكون ، فلما كان من أُنعم عليه لا يعاقب كان المعاقب هو المغضوب عليه ، هكذا نقل ابن هشام عن ابن السراج والسيرافي وهو الذي اختاره ابن الحاجب في أماليه على قوله تعالى :
{ غير أولي الضرر } [ النساء : 95 ] ونقل عن سيبوبه أن غيراً إنما لم تتعرف لأنها بمعنى المغاير فهي كاسم الفاعل وألْحَقَ بها مِثْلاً وسِوى وحَسب وقال : إنها تتعرف إذا قصد بإضافتها الثبوت . وكأن مآل المذهبين واحد لأن غيراً إذا أضيفت إلى ضد موصوفها وهو ضد واحد أي إلى مساوي نقيضه تعينت له الغيرية فصارت صفة ثابتة له غير منتقلة ، إذ غيرية الشيء لنقيضه ثابتة له أبداً فقولك عليك بالحركة غيرِ السكون هو غير قولك مررت بزيد غيرِ عمرو وقوله : { غير المغضوب عليهم } من النوع الأول .
ومن غرض وصف { الذين أنعمتَ عليهم } بأنهم { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } التعوذُ مما عرض لأمم أنعم الله عليهم بالهداية إلى صراط الخير بحسب زمانهم بدعوة الرسل إلى الحق فتقلدوها ثم طرأ عليهم سوء الفهم فيها فغيروها وما رعَوْها حق رعايتها ، والتبرُّؤ من أن يكونُوا مثلهم في بَطَر النعمة وسوء الامتثال وفساد التأويل وتغليب الشهوات الدنيوية على إقامة الدين حتى حق عليهم غضب الله تعالى ، وكذا التبرؤ من حال الذين هُدوا إلى صراط مستقيم فما صرفوا عنايتهم للحفاظ على السير فيه باستقامة ، فأصبحوا من الضالين بعد الهداية إذْ أساءوا صفة العلم بالنعمة فانقلبت هدايتهم ضلالاً .
والظاهر أنهم لم يحق عليهم غضب الله قبل الإسلام لأنهم ضلوا عن غير تعمد فلم يسبق غضب الله عليهم قديماً واليهود من جملة الفريق الأول ، والنصارى من جملة الفريق الثاني كما يعلم من الاطلاع على تاريخ ظهور الدينين فيهم . وليس يلزم اختصاص أول الوصفين باليهود والثاني بالنصارى فإن في الأمم أمثالَهم وهذا الوجه في التفسير هو الذي يستقيم معه مقام الدعاء بالهداية إلى الصراط المستقيم ولو كان المراد دين اليهودية ودين النصرانية لكان الدعاء تحصيلاً للحاصل فإن الإسلام جاء ناسخاً لهما .
ويشمل المغضوب عليهم والضالون فِرَق الكفر والفسوق والعصيان ، فالمغضوب عليهم جنس للفرق التي تعمدت ذلك واستخفت بالديانة عن عمد أو عن تأويل بعيد جداً ، والضالون جنس للفِرَق التي أخطأت الدين عن سوء فهم وقلة إصغاء ؛ وكلا الفريقين مذموم لأننا مأمورون باتباع سبيل الحق وصرف الجهد إلى إصابته ، واليهود من الفريق الأول والنصارى من الفريق الثاني . وما ورد في الأثر مما ظاهره تفسير المغضوب عليهم باليهود والضالين بالنصارى فهو إشارة إلى أن في الآية تعريضاً بهذين الفريقين اللذين حق عليهما هذان الوصفان لأن كلاً منهما صار عَلَماً فيما أريد التعريض به فيه . وقد تبين لك من هذا أن عطف { ولا الضالين } على { غير المغضوب عليهم } ارتقاء في التعوذ من شر سوء العاقبة لأن التعوذ من الضلال الذي جلب لأصحابه غَضَبَ اللَّهِ لا يغني عن التعوذ من الضلال الذي لم يبلغ بأصحابه تلك الدركات وذلك وجه تقديم { المغضوب عليهم } على { ولا الضالين } ، لأن الدعاء كان بسؤال النفي ، فالتدرج فيه يحصل بنفي الأضعف بعد نفي الأقوى ، مع رعاية الفواصل .
والغضب المتعلق بالمغضوب عليهم هو غضبُ اللَّهِ . وحقيقة الغضب المعروفِ في الناس أنه كيفية تعرض للنفس يتبعها حركة الروح إلى الخارج وثورانها فتطلب الانتقام ، فالكيفيةُ سبب لطلب الانتقام وطلب الانتقام سبب لحصول الانتقام . والذي يظهر لي أن إرادة الانتقام ليست من لوازم ماهية الغضب بحيث لا تنفك عنه ولكنها قد تكون من آثاره ، وأن الغضب هو كيفية للنفس تعرض من حصول ما لا يلائمها فتترتب عليه كراهية الفعل المغضوب منه وكراهية فاعله ، ويلازمه الإعراض عن المغضوب عليه ومعاملتُه بالعُنف وبقطع الإحسان وبالأذى وقد يفضى ذلك إلى طلب الانتقام منه فيختلف الحد الذي يثور عند الغضب في النفس باختلاف مراتب احتمال النفوس للمنافرات واختلاف العادات في اعتبار أسبابه ، فلعل الذين جعلوا إرادة الانتقام لازمة للغضب بنَوا على القوانين العربية .
وإذْ كانت حقيقة الغضب يستحيل اتصاف الله تعالى بها وإسنادُها إليه على الحقيقة للأدلة القطعية الدالة على تنزيه الله تعالى عن التغيرات الذاتية والعرضية ، فقد وجب على المؤمن صَرف إسناد الغضب إلى الله عن معناه الحقيقي ، وطريقةُ أهل العلم والنظر في هذا الصرف أن يصرف اللفظ إلى المجاز بعلاقة اللزوم أو إلى الكناية باللفظ عن لازم معناه فالذي يكون صفة لله من معنى الغضب هو لازمه ، أعني العقاب والإهانة يوم الجزاء واللعنة أي الإبعاد عن أهل الدين والصلاح في الدنيا أو هو من قبيل التمثيلية .
وكان السلف في القرن الأول ومنتصفِ القرن الثاني يمسكون عن تأويل هذه المتشابهات لما رأوا في ذلك الإمساك من مصلحة الاشتغال بإقامة الأعمال التي هي مراد الشرع من الناس فلما نشأ النظر في العلم وطَلَبُ معرفة حقائق الأشياء وحدَث قول الناس في معاني الدين بما لا يلائم الحق ، لم يجد أهل العلم بداً من توسيع أساليب التأويل الصحيح لإفهام المسلم وكبت الملحد ، فقام الدين بصنيعهم على قواعِده ، وتميز المخلص له عن ماكِره وجاحده .
وكلٌّ فيما صنعوا على هُدى . وبعد البيانِ لا يُرْجَع إلى الإجمال أبداً . وما تأوَّلوه إلا بما هو معروف في لسان العرب مفهوم لأهله .
فغضَبُ الله تعالى على العموم يرجع إلى معاملته الحائدين عن هديه العاصين لأوامره ويترتب عليه الانتقام وهو مراتب أَقصاها عقاب المشركين والمنافقين بالخلود في الدرك الأسفل من النار ودون الغضب الكراهية فقد ورد في الحديث : « ويَكْرَهُ لكم قيلَ وقال وكثرةَ السؤال » ، ويقابلهما الرضى والمحبة وكل ذلك غيرُ المشيئة والإرادةِ بمعنى التقدير والتكوينِ ، { ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم } [ الزمر : 7 ] { ولو شاء ربك ما فعلوه } [ الأنعام : 112 ] { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً } [ يونس : 99 ] وتفصيل هذه الجملة في علم الكلام .
واعلم أن الغضب عند حكماء الأخلاق مبدأ من مجموع الأخلاق الثلاثة الأصلية التي يعبر عن جميعها بالعدالة وهي : الحكمة والعفة والشجاعة ، فالغضب مبدأ الشجاعة إلا أن الغضب يعبر به عن مبدأ نفساني لأَخلاق كثيرة متطرفةٍ ومعتدلة فيلقِّبون بالقوة الغضبية ما في الإنسان من صفات السَّبُعِية وهي حب الغلبة ومن فوائدها دفع ما يضره ولها حد اعتدال وحد انحراف فاعتدالها الشجاعة وكِبَر الهمة ، وثباتُ القلب في المخاوف ، وانحرافُها إما بالزيادة فهي التهور وشدة الغضب من شيء قليل والكبرُ والعُجب والشراسةُ والحِقْد والحَسَد والقَساوة ، أو بالنقصان فالجبن وخور النفس وصغر الهمة فإذا أُطلق الغضب لغةً انصرف إلى بعض انحراف الغضبية ، ولذلك كان من جوامع كَلِم النبيء صلى الله عليه وسلم " أن رجلاً قال له أوصني قال : لا تغضب فكرَّرَ مِراراً فقال : لا تغضب " رواه الترمذي . وسُئل بعض ملوك الفرس بم دام ملككم ؟ فقال : لأنا نعاقب على قدر الذنب لا على قدر الغضب . فالغضب المنهى عنه هو الغضب للنَّفس لأنه يصدر عنه الظلم والعدوان ، ومن الغضب محمودٌ وهو الغضب لحماية المصالح العامة وخصوصاً الدينية وقد ورد أن النبيء كان لا يغضب لنفسه فإذا انتهكت حرمة من حرمات الله غضب لله .
وقوله : { ولا الضالين } معطوف على { المغضوب عليهم } كما هو متبادر ، قال ابن عطية ، قال مكي ابن أبي طالب إن دخول ( لا ) لدفع توهم عطف ( الضالين ) على ( الذين أَنْعَم عليهم ) ، وهو توجيه بعيد فالحق أن ( لا ) مزيدة لتأكيد النفي المستفاد من لفظ ( غير ) على طريقة العرب في المعطوف على ما في حيز النفي نحو قوله :
{ أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير } [ المائدة : 19 ] وهو أسلوب في كلام العرب . وقال السيد في « حواشي الكشاف » لئلا يتوهم أن المنفي هو المجموع فيجوِّز ثبوتَ أحدهما ، ولما كانت غير في معنى النفي أجريت إعادة النفي في المعطوف عليها ، وليست زيادة ( لا ) هنا كزيادتها في نحو : { ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك } [ الأعراف : 12 ] كما توهمه بعض المفسرين ؛ لأن تلك الزيادة لفظية ومعنوية لأن المعنى على الإثبات والتي هنا زيادة لفظية فحسب والمعنى على النفي .
والضلال سلوك غير الطريق المراد عن خطإٍ سواء علم بذلك فهو يتطلب الطريق أم لم يعلم ، ومنه ضالة الإبل ، وهو مقابل الهُدى وإطلاقُ الضال على المخطىء في الدين أو العلم استعارة كما هنا . والضلال في لسان الشرع مقابل الاهتداء والاهتداء هو الإيمان الكامل والضلال ما دون ذلك ، قالوا وله عَرض عريض أدناه ترك السنن وأقصاه الكفر . وقد فسرنا الهداية فيما تقدم أنها الدلالة بلطف ، فالضلال عدم ذلك ، ويطلق على أقصى أنواعه الختمُ والطبعُ والأَكِنَّةُ .
والمراد من المغضوب عليهم والضالين جنسَا فِرَق الكفر ، فالمغضوب عليهم جنس للفِرق التي تعمدت ذلك واستحقت بالديانة عن عمد وعن تأويل بعيد جداً تَحمِل عليه غلبة الهوى ، فهؤلاء سلكوا من الصراط الذي خط لهم مسالك غير مستقيمة فاستحقوا الغضب لأنهم أخطأوا عن غير معذرة إذ ما حملهم على الخطأ إلا إيثار حظوظ الدنيا .
والضالون جنس للفِرق الذين حرفوا الديانات الحق عن عمد وعن سوء فهم وكلا الفريقين مذموم معاقب لأن الخلق مأمورون باتباع سبيل الحق وبذل الجهد إلى إصابته والحذر من مخالفة مقاصده .
وإذ قد تقدم ذكر المغضوب عليهم وعلم أن الغضب عليهم لأنهم حادُوا عن الصراط الذي هُدوا إليه فحرموا أنفسهم من الوصول به إلى مرضاة الله تعالى ، وأن الضالين قد ضلوا الصراط ، فحصل شِبْه الاحتباك وهو أن كلا الفريقين نال حظاً من الوصفين إلا أن تعليق كل وصف على الفريق الذي علق عليه يرشد إلى أن الموصوفين بالضالين هم دون المغضوب عليهم في الضلال فالمراد المغضوب عليهم غضباً شديداً لأن ضلالهم شنيع . فاليهود مَثَلٌ للفريق الأول والنصارى من جملة الفريق الثاني كما ورد به الحديث عن النبيء صلى الله عليه وسلم في « جامع الترمذي » وحسَّنه . وما ورد في الأثر من تفسير المغضوب عليهم باليهود والضالين بالنصارى ، فهو من قبيل التمثيل بأشْهَر الفرق التي حق عليها هذان الوصفَانِ ، فقد كان العرب يعرفون اليهود في خيبر والنضير وبعض سكان المدينة وفي عرب اليمن . وكانوا يعرفون نصارى العرب مثل تغلب وكلب وبعض قضاعة ، وكل أولئك بدلوا وغيروا وتنكبوا عن الصراط المستقيم الذي أرشدهم الله إليه وتفرقوا في بنيات الطرق على تفاوت في ذلك .
فاليهود تمردوا على أنبيائهم وأحبارهم غير مرة وبدلوا الشريعة عمداً فلزمهم وصفُ المغضوب عليهم وعَلِقَ بهم في آيات كثيرة .
والنصارى ضلوا بعدَ الحواريين وأساءوا فهم معنى التقديس في عيسى عليه السلام فزعموه ابن الله على الحقيقة قال تعالى : { قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل } [ المائدة : 77 ] . وفي وصف الصراط المسؤول في قوله : { اهدنا الصراط المستقيم } بالمستقيم إيماء إلى أن الإسلام واضح الحجة قويم المحجة لا يَهْوى أهلُه إلى هُوة الضلالة كما قال تعالى : { قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً } [ الأنعام : 161 ] وقال : { وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } [ الأنعام : 153 ] ، على تفاوت في مراتب إصابة مراد الله تعالى ولذلك قال النبيء صلى الله عليه وسلم « من اجتهد وأصاب فله أجران ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد » ولم يترك بيانُ الشريعة مجاريَ اشتباه بين الخلافِ الذي تحيط به دائرة الإسلام والخلافِ الذي يَخرج بصاحبه عن محيط الإسلام قال تعالى : { إنك على الحق المبين } [ النمل : 79 ] .
واختلف القراء في حركة هاء الضمير من قوله : { أنعمت عليهم } ، وقوله : { غير المغضوب عليهم } ، وما ضاهاهما من كل ضمير جمع وتثنية مذكر ومؤنث للغائب وقع بعد ياء ساكنة ، فالجمهور قرأوها بكسر الهاء تخلصاً من الثقل لأن الهاء حاجز غير حصين فإذا ضمت بعد الياء فكأن ضمتها قد وليت الكسرة أو الياء الساكنة وذلك ثقيل وهذه لغة قيس وتميم وسعد بن بكر . وقرأ حمزة عليهم وإليهم ولديهم فقط بضم الهاء وما عداها بكسر الهاء نحو إليهما وصياصيهم وهي لغة قريش والحجازيين . وقرأ يعقوب كل ضمير من هذا القبيل مما قبل الهاء فيه ياء ساكنة بضم الهاء . وقد ذكرنا هذا هنا فلا نعيد ذكره في أمثاله وهو مما يرجع إلى قواعد علم القراءات في هاء الضمير .
واختلفوا أيضاً في حركة ميم ضمير الجمع الغائب المذكر في الوصل إذا وقعت قبل متحرك فالجمهور قرأوا : { عليهم غير المغضوب عليهم } بسكون الميم وقرأ ابن كثير وأبو جعفر وقالون في رواية عنه بضمة مشبعة : { غير المغضوب عليهم } وهي لغة بعض العرب وعليها قول لبيد : *وهمو فوارسها وهمْ حكامها * فجاء باللغتين ، وقرأ ورش بضم الميم وإشباعها إذا وقع بعد الميم همز دون نحو : { غير المغضوب عليهم } وأجمع الكل على إسكان الميم في الوقف .