معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قِيلَ لَكُمۡ تَفَسَّحُواْ فِي ٱلۡمَجَٰلِسِ فَٱفۡسَحُواْ يَفۡسَحِ ٱللَّهُ لَكُمۡۖ وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ فَٱنشُزُواْ يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٖۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (11)

قوله عز وجل :{ يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا } الآية ، قال مقاتل بن حيان : كان النبي صلى الله عليه وسلم يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فجاء ناس منهم يوماً وقد سبقوا إلى المجلس فقاموا حيال النبي صلى الله عليه وسلم وسلموا عليه فرد عليهم ، ثم سلموا على القوم فردوا عليهم ، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم ، فلم يفسحوا لهم فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لمن حوله : قم يا فلان وأنت يا فلان ، فأقام من المجلس بقدر النفر الذين قاموا بين يديه من أهل بدر ، فشق ذلك على من أقيم من مجلسه وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الكراهية في وجوههم فأنزل الله هذه الآية . وقال الكلبي : نزلت في ثابت بن قيس بن شماس ، وقد ذكرنا في سورة الحجرات قصته . وقال قتادة : كانوا في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا رأوا من جاءهم مقبلاً ضنوا بمجلسهم فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض . وقيل : كان ذلك يوم الجمعة ، فأنزل الله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا } أي توسعوا في المجلس ، قرأ الحسن ، وعاصم : في المجالس لأن الكل جالس مجلساً ، معناه : ليتفسح كل رجل في مجلسه . وقرأ الآخرون : في المجلس على التوحيد ، لأن المراد منه مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ، { فافسحوا } أوسعوا ، يقال : فسح يفسح فسحاً : إذا وسع في المجلس ، { يفسح الله لكم } يوسع الله لكم الجنة ، والمجالس فيها .

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنبأنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، حدثنا أبو العباس الأصم ، أنبأنا الربيع ، أنبأنا الشافعي ، أنبأنا سفيان بن عيينة عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يقيمن أحدكم الرجل من مجلسه ثم يخلفه فيه ، ولكن تفسحوا وتوسعوا " .

أنبأنا عبد الوهاب بن الخطيب ، أنبأنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنبأنا أبو العباس الأصم ، أنبأنا الربيع ، أنبأنا الشافعي أنبأنا عبد المجيد عن ابن جريج قال : قال سليمان بن موسى عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة ولكن ليقل افسحوا " . وقال أبو العالية ، والقرظي ، والحسن : هذا في مجالس الحرب ومقاعد القتال ، كان الرجل يأتي القوم في الصف فيقول توسعوا فيأبون عليه لحرصهم على القتال ورغبتهم في الشهادة { وإذا قيل انشزوا فانشزوا } قرأ أهل المدينة والشام وعاصم بضم الشين ، وقرأ الآخرون بكسرهما ، وهما لغتان أي ارتفعوا ، قيل : ارتفعوا عن مواضعكم حتى توسعوا لإخوانكم . وقال عكرمة والضحاك : كان رجال يتثاقلون عن الصلاة إذا نودي لها فأنزل الله تعالى هذه الآية ، معناه : إذا نودي للصلاة فانهضوا لها . وقال مجاهد وأكثر المفسرين : معناه : إذا قيل لكم انهضوا إلى الصلاة وإلى الجهاد وإلى مجالس كل خير وحق فقوموا لها ولا تقصروا . { يرفع الله الذين آمنوا منكم } بطاعتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم وقيامهم من مجالسهم وتوسعتهم لإخوانهم ، { والذين أوتوا العلم }من المؤمنين بفضل علمهم ومسابقتهم ، { درجات } ، فأخبر الله عز وجل أن محمدا صلى الله عليه وسلم مصيب فيما أمر وأن أولئك المؤمنين مثابون فيما ائتمروا ، وأن النفر من أهل بدر مستحقون لما عوملوا من الإكرام ، { والله بما تعملون خبير } قال الحسن : قرأ ابن مسعود هذه الآية وقال : أيها الناس افهموا هذه الآية ولترغبنكم في العلم ، فإن الله تعالى يقول :{ يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات }المؤمن العالم فوق الذي لا يعلم درجات .

أخبرنا الإمام أبو الحسين بن محمد القاضي ، حدثنا الإمام أبو الطيب سهل ابن محمد بن سليمان ، حدثنا أبو علي حامد بن محمد بن عبد الله الهروي ، أنبأنا محمد بن يونس القرشي ، أنبأنا عبد الله بن داود ، حدثنا عاصم بن رجاء بن حيوة ، حدثني داود بن جميل عن كثير بن قيس قال :كنت جالساً مع أبي الدرداء في مسجد دمشق فجاء رجل فقال : يا أبا الدرداء إني جئتك من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم لحديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : ما كانت لك حاجة غيره ؟ قال : لا ، قال : ولا جئت لتجارة ؟ قال : لا ، قال : ولا جئت إلا رغبة فيه ؟ قال : نعم ، قال : فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً من طرق الجنة ، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم ، وإن السماوات والأرض والحوت في الماء لتدعو له ، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب ، وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ، وإنما ورثوا العلم فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر " .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو علي الحسين بن أحمد بن إبراهيم السراج ، أنبأنا الحسن بن يعقوب العدل ، حدثنا محمد بن عبد الوهاب الفراء ، حدثنا جعفر بن عون ، أنبأنا عبد الرحمن بن زياد عن عبد الرحمن بن رافع ، عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " مر بمجلسين في مسجده ، أحد المجلسين يدعون الله ويرغبون إليه ، والآخر يتعلمون الفقه ويعلمونه ، قال : كلا المجلسين على خير ، وأحدهما أفضل من صاحبه ، أما هؤلاء فيدعون الله ويرغبون إليه فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم ، وأما هؤلاء فيتعلمون الفقه ويعلمون الجاهل ، فهؤلاء أفضل وإنما بعثت معلماً ، ثم جلس فيهم " .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قِيلَ لَكُمۡ تَفَسَّحُواْ فِي ٱلۡمَجَٰلِسِ فَٱفۡسَحُواْ يَفۡسَحِ ٱللَّهُ لَكُمۡۖ وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ فَٱنشُزُواْ يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٖۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (11)

ثم لفت - سبحانه - أنظار المؤمنين إلى أدب رفيع فقال : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي المجالس فافسحوا يَفْسَحِ الله لَكُمْ } .

وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآية روايات منها ما روي عن قتادة أنه قال : نزلت هذه الآية فى مجالس الذكر ، وذلك أنهم كانوا إذا رأوا أحدهم مقبلا ، ضنوا بمجالسهم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض .

وقال مقاتل بن حيان : " أنزلت هذه الآية يوم الجمعة ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ فى الصفة ، وفى المكان ضيق ، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فجاء ناس من أهل بدر وقد سُبِقوا فى المجالس فقاموا حيال رسول الله - صلى الله عليه وسلم فقالوا السلام عليكم أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، فرد النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم سلموا على القوم بعد ذلك ، فردوا عليهم السلام ، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم .

فعرف النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يحملهم على القيام فلم يُفْسَح لهم ، فشق ذلك عليه ، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر : قم يا فلان ، قم يا فلان .

فشق ذلك على من أقيم من مجلسه وعرف - صلى الله عليه وسلم - الكراهة فى وجوههم .

فقال المنافقون : ألستم تزعمون أن صاحبكم هذا يعدل بين الناس ؟ والله ما رأيناه قد عدل على هؤلاء . . . فبلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " رحم الله رجلا يفسح لأخيه " فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعا " ، ونزلت هذه الآية .

وقوله { تَفَسَّحُواْ } من التفسح ، وهو تفعل بمعنى التوسع ، يقال : فسح فلان لفلان فى المجلس - من باب نفع - إذا أوجد له فسحة فى المكان ليجلس فيه .

والمعنى : يا من آمنتم بالله حق الإيمان ، إذا قيل لكم توسعوا فى مجالسكم لتسع أكبر قدر من إخوانكم فامتثلوا واستجيبوا . لأن فعلكم هذا يؤدي إلى أن يفسح الله - تعالى - لكم فى رحمته ، وفى منازلكم فى الجنة ، وفى كل شىء تحبونه .

وحذف - سبحانه - متعلق { يَفْسَحِ الله لَكُمْ } ليشمل كل ما يرجو الناس أن يفسح الله لهم فيه من رزق ، ورحمة ، وخير دنيوي وأخروي .

والمراد بالمجالس : مجالس الخير ، كمجالس الذكر ، والجهاد ، والصلاة ، وطلب العلم ، وغير ذلك من المجالس التي يحبها الله - تعالى- .

وقراءة الجمهور : " إذا قيل لكم تفسحوا فى المجلس " ، بالإفراد على إرادة الجنس . . أي : قيل لم تفسحوا في أي مجلس خير فافسحوا . . . لأن هذا التوسع يؤدي إلى ازدياد المحبة والمودة بينكم ، وقرأ عاصم بصيغة الجمع .

ثم أرشدهم - سبحانه - إلى نوع آخر من الأدب السامي فقال : { وَإِذَا قِيلَ انشزوا فَانشُزُواْ } .

والنشوز الارتفاع عن الأرض ، يقال : نشَز ينشُز وينشِز - من بابى نصر وضرب - إذا ارتفع من مكانه .

أي : وإذا قيل لكم - أيها المؤمنون - أنهضوا من أماكنكم ، للتوسعة على المقبلين عليكم ، فانهضوا ولا تتكاسلوا .

وقوله : { يَرْفَعِ الله الذين آمَنُواْ مِنكُمْ والذين أُوتُواْ العلم دَرَجَاتٍ } جواب الأمر فى قوله : { فَانشُزُواْ } .

وعطف " الذين أوتوا العلم " على " الذين آمنوا " من باب عطف الخاص على العام ، على سبيل التعظيم والتنويه بقدر العلماء .

أي : وإذا قيل لكم ارتفعوا عن مواضعكم في المجالس فارتفعوا ، فإنكم إن تفعلوا ذلك ، يرفع الله - تعالى - المؤمنين الصادقين منكم درجات عظيمة فى الآخرة ، ويرفع العلماء منكم درجات أعظم وأكبر .

ويرى بعضهم أن المراد بالموصولين واحد ، والعطف فى الآية لتنزيل التغاير في الصفات ، منزلة التغاير فى الذات .

والمعنى : يرفع الله الذين آمنوا العالمين درجات عظيمة لا يعلم مقدارها إلا الله - تعالى - .

ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بما يدل على شمول علمه فقال : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .

أي : والله - تعالى - مطلع اطلاعا تاما على نواياكم ، وعلى ظواهركم وبواطنكم ، فاحذروا مخالفة أمره ، واتبعوا ما أرشدكم إليه من أدب وسلوك .

هذا : ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة : أن إفساح المؤمن لأخيه المؤمن فى المجلس ، من الآداب الإسلامية التي ينبغي التحلي بها ، لأن هذا الفعل بجانب رفعه للدرجات فإنه سبب للتواد والتعاطف والتراحم .

قال القرطبي ما ملخصه : والصحيح فى الآية أنها عامة في كل مجلس اجتمع المسلمون فيه للخير والأجر ، سواء أكان مجلس حرب ، أم ذكر ، أم مجلس يوم الجمعة . . . ولكن بدون أذى ، فقد أخرج الشيخان عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه " .

وعن ابن عمر - " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يقام الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه آخر ، " ولكن تفسحوا وتوسعوا " " .

وعلى أية حال فإن الآية الكريمة ترشد المؤمنين فى كل زمان ومكان ، إلى لون من مكارم الأخلاق ، ألا وهو التوسعة فى المجالس ، وتقديم أهل العلم والفضل ، وإنزالهم منازلهم التى تليق بهم فى المجالس .

كذلك أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة أنه يجوز القيام للقادم ، قال الإمام ابن كثير : وقد اختلف الفقهاء فى جواز القيام للوارد إذا جاء - على أقوال : فمنهم من رخص فى ذلك محتجا بحديث : " قوموا إلى سيدكم " .

ومنهم من منع من ذلك ، محتجا بحديث : " قوموا إلى سيدكم " .

ومنهم من منع من ذلك ، محتجا بحديث : " من أحب أن يتمثل له الرجال قياما ، فليتبوأ مقعده من النار " .

ومنهم من فصل فقال : يجوز القيام للقادم من سفر ، وللحاكم في محل ولايته ، كما دل عليه قصة سعد بن معاذ ، فإنه لما استقبله البني - صلى الله عليه وسلم - حاكما في بني قريظة ، فرآه مقبلا قال للمسلمين : " قوموا إلى سيدكم " ، وما ذاك إلا ليكون أنفذ لحكمه - والله أعلم - .

فأما اتخاذه - أي القيام - دينا ، فإنه من شعار الأعاجم . . . وفى الحديث المروي فى السنن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يجلس حيث انتهى به المجلس - ولكن حيث يجلس يكون صدر ذلك المجلس ، وكان الصحابة يجلسون منه على مراتبهم ، فالصديق عن يمينه ، وعمر عن يساره ، وبين يديه غالبا عثمان وعلى لأنهما كانا ممن يكتب الوحى ، وكان يأمرهما بذلك . .

كذلك أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة ، فضل العلماء وسمو منزلتهم ، قال صاحب الكشاف : عن عبد الله بن مسعود أنه كان إذا قرأ هذه الآية قال : يأيها الناس افهموا هذه الآية ، ولترغبكم فى العلم . وفى الحديث الشريف : " بين العالم والعابد مائة درجة " وفى حديث آخر : " فضل العالم عل العابد ، كفضل القمر ليلة البدر على سائر النجوم " .

وعن بعض الحكماء أنه قال : ليت شعري أي شىء أدرك من فاته العلم ، وأي شيء فات من أدرك العلم .

وعن الأحنف : كل عز لم يوطد بعلم فإلى ذل يصير .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قِيلَ لَكُمۡ تَفَسَّحُواْ فِي ٱلۡمَجَٰلِسِ فَٱفۡسَحُواْ يَفۡسَحِ ٱللَّهُ لَكُمۡۖ وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ فَٱنشُزُواْ يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٖۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (11)

يقول تعالى مؤدبًا عباده المؤمنين ، وآمرًا لهم أن يحسن بعضهم إلى بعض في المجالس :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ } وقرئ{ في المجلس } ، { فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ } وذلك أن الجزاء من جنس العمل ، كما جاء في الحديث الصحيح : " من بَنَى لله مسجدًا بنى الله له بيتًا في الجنة " {[28409]} وفي الحديث الآخر : " ومن يَسَّر على مُعْسِر يَسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة ، [ ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة ]{[28410]}والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه " {[28411]} ، ولهذا أشباه كثيرة ؛ ولهذا قال :{ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ } .

قال قتادة : نزلت هذه الآية في مجالس{[28412]} الذكر ، وذلك أنهم كانوا إذا رأوا أحدهم مقبلا ضَنّوا بمجالسهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض .

وقال مقاتل ابن حيان : أنزلت هذه الآية يوم جُمُعة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ في الصفة ، وفي المكان ضيق ، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فجاء ناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجالس ، فقاموا حيال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، فرد النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم سلموا على القوم بعد ذلك ، فردوا عليهم ، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم ، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ما يحملهم على القيام ، فلم يُفْسَح لهم ، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار ، من غير أهل بدر : " قم يا فلان ، وأنت يا فلان " . فلم يزل يقيمهم بعدد {[28413]} النفر الذين هم قيام بين يديه من المهاجرين والأنصار من أهل بدر ، فشق ذلك على من أقيم من مجلسه ، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الكراهة في وجوههم ، فقال المنافقون : ألستم تزعمون أن صاحبكم هذا يعدل بين الناس ؟ والله ما رأيناه قبلُ عدل على هؤلاء ، إن قوما أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب لنبيهم ، فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه . فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " رحم الله رجلا فَسَح{[28414]} لأخيه " . فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعًا ، فَتَفَسَّحَ القومُ لإخوانهم ، ونزلت هذه الآية يوم الجمعة . رواه بن أبي حاتم .

وقد قال الإمام أحمد ، والشافعي : حدثنا سفيان ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يقيم الرَّجُلُ الرَّجُلَ من مجلسه فيجلس فيه ، ولكن تَفَسَّحُوا وتَوسَّعوا " ، وأخرجاه في الصحيحين من حديث نافع ، به{[28415]} .

وقال الشافعي : أخبرنا عبد المجيد ، عن ابن جريج قال : قال سليمان بن موسى ، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يقيمن أحدُكم أخاه يوم الجمعة ، ولكن ليقل : افسحوا " ، على شرط السنن ولم يخرجوه{[28416]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الملك بن عمرو ، حدثنا فُلَيْح ، عن أيوب عن عبد الرحمن بن [ أبي ] {[28417]} صَعْصَعة ، عن يعقوب بن أبي يعقوب ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يقم الرجلُ الرجلَ من مجلسه ثم يجلس فيه ، ولكن افسحوا يفسح الله لكم " {[28418]} .

ورواه أيضًا عن سُرَيج{[28419]} بن يونس ، ويونس بن محمد المؤدب ، عن فُلَيْح ، به ولفظه : " لا يقوم الرجلُ للرجل من مجلسه ، ولكن افسحوا يفسح الله لكم " تفرد به أحمد{[28420]} .

وقد اختلف الفقهاء في جواز القيام للوارد إذا جاء على أقوال : فمنهم من رخص في ذلك محتجًّا بحديث : " قوموا إلى سيدكم " {[28421]} ، ومنهم من منع من ذلك محتجًّا بحديث : " من أحَبَّ أن يَتَمثَّلَ له الرجال قيامًا فَلْيَتبوَّأ مَقْعَدَه من النار " {[28422]} ، ومنهم من فصل فقال : يجوز عند القدوم من سفر ، وللحاكم في محل ولايته ، كما دل عليه قصة سعد بن معاذ ، فإنه لما استقدمه النبي صلى الله عليه وسلم حاكمًا في بني قريظة فرآه مقبلا قال للمسلمين : " قوموا إلى سيدكم " وما ذاك إلا ليكون أنفذ لحكمه ، والله أعلم . فأما اتخاذه ديدنًا فإنه من شعار العجم . وقد جاء في السنن أنه لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان إذا جاء لا يقومون له ، لما يعلمون من كراهته{[28423]} لذلك {[28424]} {[28425]} .

وفي الحديث المروي في السنن : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجلس حيث انتهى به المجلس ، ولكن حيث يجلس يكون صدر ذلك المجلس ، وكان الصحابة ، رضي الله عنهم ، يجلسون منه على مراتبهم ، فالصديق يجلسه عن يمينه ، وعمر عن يساره ، وبين يديه غالبًا عثمان وعلي ؛ لأنهما كانا ممن يكتب{[28426]} الوحي ، وكان يأمرهما بذلك ، كما رواه مسلم من حديث الأعمش ، عن عمارة بن عمير ، عن أبي مَعْمَر ، عن أبي مسعود ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " لِيَليني منكم أولوا الأحلام والنُّهَى ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم " {[28427]} وما ذاك إلا ليعقلوا عنه ما يقوله ، صلوات الله وسلامه عليه ؛ ولهذا أمر أولئك النفر بالقيام ليجلس الذين وردوا من أهل بدر ، إما لتقصير أولئك في حق البدريين ، أو ليأخذ البدريون من العلم بنصيبهم ، كما أخذ أولئك قبلهم ، أو تعليما بتقديم الأفاضل إلى الأمام .

وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، عن الأعمش ، عن عُمَارة بن عمير{[28428]} التيمي{[28429]} عن أبي معمر ، عن أبي مسعود قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول : " استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم ، ليليني منكم أولو الأحلام والنُّهى ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم " . قال أبو مسعود{[28430]} فأنتم اليوم أشد اختلافًا . وكذا رواه مسلم وأهل السنن ، إلا الترمذي ، من طرق عن الأعمش ، به{[28431]} .

وإذا كان هذا أمره لهم في الصلاة أن يليه العقلاء{[28432]} ثم العلماء ، فبطريق الأولى أن يكون ذلك في غير الصلاة .

وروى أبو داود من حديث معاوية بن صالح ، عن أبي الزاهرية ، عن كثير بن مرة ، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أقيموا الصفوف ، وحَاذُوا بين المناكب ، وسُدّوا الخلل ، ولِينُوا بأيدي إخوانكم ، ولا تَذَروا فرجات للشيطان ، ومن وَصَل صفًّا وصله الله ، ومن قطع صفّا قطعه الله " {[28433]} .

ولهذا كان أبي بن كعب - سيد القراء - إذا انتهى إلى الصف الأول انتزع منه رجلا يكون من أفناء {[28434]} الناس ، ويدخل هو في الصف المقدم ، ويحتج بهذا الحديث : " ليلينى منكم أولو الأحلام والنهى " . وأما عبد الله بن عمر فكان لا يجلس في المكان الذي يقوم له صاحبه عنه ، عملا بمقتضى ما تقدم من روايته الحديث الذي أوردناه . ولنقتصر على هذا المقدار{[28435]} من الأنموذج المتعلق بهذه الآية ، وإلا فبسطه يحتاج{[28436]} إلى غير هذا الموضع ، وفي الحديث الصحيح : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ، إذ أقبل ثلاثة نفر ، فأما أحدهم فوجد فرجة في الحلقة فدخل فيها ، وأما الآخر فجلس وراء الناس ، وأدبر الثالث ذاهبًا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أنبئكم بخبر الثلاثة ، أما الأول فآوى إلى الله فآواه الله ، وأما الثاني فاستحيا فاستحيا الله منه ، وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه " {[28437]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا عَتَّاب بن زياد ، أخبرنا عبد الله ، أخبرنا أسامة بن زيد ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يحل لرجل أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما " .

ورواه أبو داود والترمذي ، من حديث أسامة بن زيد الليثي ، به{[28438]} وحسنه الترمذي .

وقد رُوي عن بن عباس ، والحسن البصري وغيرهما أنهم قالوا{[28439]} في قوله تعالى :{ إذا قيل لكم تفسحوا في المجلس فافسحوا } {[28440]} يعني : في مجالس الحرب ، قالوا : ومعنى قوله :{ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا } أي : انهضوا للقتال .

وقال قتادة :{ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا } أي : إذا دعيتم إلى خير فأجيبوا .

وقال مقاتل [ بن حيان ]{[28441]} إذا دعيتم إلى الصلاة فارتفعوا إليها .

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كانوا إذا كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم في بيته فأرادوا الانصراف أحب كل منهم أن يكون هو آخرهم خروجا من عنده ، فربما يشق{[28442]} ذلك عليه - عليه السلام - وقد تكون له{[28443]} الحاجة ، فأمروا أنهم إذا أمروا بالانصراف أن ينصرفوا ، كقوله :{ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا } [ النور : 28 ] {[28444]} .

وقوله :{ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي : لا تعتقدوا أنه إذا فَسَح أحد منكم لأخيه إذا أقبل ، أو إذا أمر بالخروج فخرج ، أن يكون ذلك نقصا في حقه ، بل هو رفعة ومزية{[28445]} عند الله ، والله تعالى لا يضيع ذلك له ، بل يجزيه بها في الدنيا والآخرة ، فإن من تواضع لأمر الله رَفَع الله قدره ، ونَشَر ذكره ؛ ولهذا قال :{ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }أي : خبير بمن يستحق ذلك وبمن لا يستحقه .

قال الإمام أحمد : حدثنا أبو كامل ، حدثنا إبراهيم ، حدثنا ابن شهاب ، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة ، أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بن الخطاب بعسفان ، وكان عمر استعمله على مكة ، فقال له عمر : من استخلفت على أهل الوادي ؟ قال : استخلفت عليهم ابن أبزي . قال : وما ابن أبزي ؟ فقال : رجل من موالينا ، فقال عمر [ بن الخطاب ]{[28446]} استخلفت عليهم مولى ؟ . فقال : يا أمير المؤمنين ، إنه قارئ لكتاب الله ، عالم بالفرائض ، قاض ، فقال عمر ، رضي الله عنه : أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال : " إن الله يرفع بهذا الكتاب قومًا ويضع به آخرين " {[28447]} .

وهكذا رواه مسلم من غير وجه ، عن الزهري ، به{[28448]} وقد ذكرت{[28449]} فضل العلم وأهله وما ورد في ذلك من الأحاديث مستقصاة في شرح " كتاب العلم " من صحيح البخاري ، ولله الحمد والمنة .


[28409]:- (3) رواه البخاري في صحيحه برقم (450) ومسلم في صحيحه برقم (533) من حديث عثمان، رضي الله عنه.
[28410]:- (4) زيادة من صحيح مسلم (2699).
[28411]:- (5) رواه مسلم في صحيحه برقم (2699) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
[28412]:- (6) في م: "في مجلس".
[28413]:- (1) في أ: "بعدد".
[28414]:- (2) في م، أ: "يفسح".
[28415]:- (3) لم يقع هذا الحديث لي في مسند أحمد هكذا، وإنما هو فيه (2/22): عن ابن نمير، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، (2/45) عن غندر، عن شعبة، عن أيوب بن موسى، عن نافع، عن ابن عمر. وهو في صحيح البخاري برقم (6269) وصحيح مسلم برقم (2177).
[28416]:- (4) مسند الشافعي برقم (454) "بدائع المنن".
[28417]:- (5) زيادة من المسند (2/523).
[28418]:- (6) المسند (2/523).
[28419]:- (7) في م، أ: "شريح".
[28420]:- (8) المسند (2/338).
[28421]:- (9) رواه البخاري في صحيحه برقم (3043) ومسلم في صحيحه برقم (1768) من حديث أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه.
[28422]:- (10) رواه أبو داود في السنن برقم (5229) والترمذي في السنن برقم (2755) من حديث معاوية رضي الله عنه، وقال الترمذي: "إسناد حسن".
[28423]:- (1) في م: "من كراهيته".
[28424]:- (2) رواه الترمذي في السنن برقم (2754) من حديث أنس، رضي الله عنه.
[28425]:- (3) وللإمام النووي - رحمه الله - رسالة سماها: "الترخيص بالقيام لذوى الفضل والمزية من أهل الإسلام" أطنب في الكلام على هذه المسألة، وهى مطبوعة بدار الفكر بدمشق.
[28426]:- (4) في م: "يكتبان".
[28427]:- (5) صحيح مسلم برقم (432).
[28428]:- (6) في أ: "بكير".
[28429]:- (7) في م، أ: "الليثي".
[28430]:- (8) في أ: "سعيد".
[28431]:- (9) المسند (4/122) وصحيح مسلم برقم (432) وسنن أبي داود برقم (674) وسنن النسائي (2/87) وسنن ابن ماجة برقم (976).
[28432]:- (10) في أ: "الفضلاء".
[28433]:- (11) سنن أبي داود برقم (666).
[28434]:- (1) في م، أ: "أفناد".
[28435]:- (2) في م: "القدر".
[28436]:- (3) في م: "محتاج".
[28437]:- (4) رواه البخاري في صحيحه برقم (66) ومسلم في صحيحه برقم (2176).
[28438]:- (5) المسند (2/213) وسنن أبي داود برقم (4845) وسنن الترمذي برقم (2752).
[28439]:- (6) في م، أ: "أنهما قالا".
[28440]:- (7) في أ: "المجالس".
[28441]:- (8) زيادة من م.
[28442]:- (9) في م: "شق".
[28443]:- (10) في م: "لهم".
[28444]:- (11) في م: "وإذا قيل ارجعوا" وهو خطأ.
[28445]:- (12) في م: "ورتبة"، وفي أ: "ومنزلة"
[28446]:- (1) زيادة من م.
[28447]:- (2) المسند (1/35).
[28448]:- (3) جاء من طريق حماد بن سلمة عن حميد، عن الحسن بن مسلم: أن عمر استعمل ابن عبد الحارث على مكة، فذكر نحوه، أخرجه أبو يعلى في مسنده (1/185) وفيه انقطاع. وأيضا من طريق الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت: أن عبد الرحمن بن أبي ليلي قال: خرجت مع عمر، فاستقبلنا أمير مكة - نافع بن علقمة - فذكر نحو الحديث المتقدم، أخرجه أبو يعلى في مسنده (1/186).
[28449]:- (4) في م: "ذكرنا".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قِيلَ لَكُمۡ تَفَسَّحُواْ فِي ٱلۡمَجَٰلِسِ فَٱفۡسَحُواْ يَفۡسَحِ ٱللَّهُ لَكُمۡۖ وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ فَٱنشُزُواْ يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٖۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (11)

{ يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجلس } توسعوا فيه ، وليفسح بعضكم عن بعض من قولهم افسح عني أي تنح وقرىء تفاسحوا ، والمراد بالمجلس الجنس ويدل عليه قراءة عاصم بالجمع أو مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنهم كانوا يتضامون به تنافسا على القرب منه ، وحرصا على استماع كلامه ، { فافسحوا يفسح الله لكم } فيما تريدون التفسح فيه من المكان والرزق والصدر وغيرها ، { وإذا قيل انشزوا }انهضوا للتوسعة أو لما أمرتم به كصلاة أو جهاد أو ارتفعوا عن المجلس ، { فانشزوا } ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بضم الشين فيهما ، { يرفع الله الذين آمنوا منكم }بالنصر وحسن الذكر في الدنيا وإيوائهم غرف الجنان في الآخرة ، { والذين أوتوا العلم درجات } ، ويرفع العلماء منهم خاصة درجات بما جمعوا من العلم والعمل فإن العلم مع علو درجته يقتضي العمل المقرون به مزيد رفعة ، ولذلك يقتدى بالعالم في أفعاله ولا يقتدى بغيره ، وفي الحديث : " فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب " { والله بما تعملون خبير }تهديد لمن لم يتمثل الأمر أو استكرهه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قِيلَ لَكُمۡ تَفَسَّحُواْ فِي ٱلۡمَجَٰلِسِ فَٱفۡسَحُواْ يَفۡسَحِ ٱللَّهُ لَكُمۡۖ وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ فَٱنشُزُواْ يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٖۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (11)

قرأ جمهور الناس : «تفسحوا » ، وقرأ الحسن وداود بن أبي هند{[11008]} : «تفاسحوا » ، وقرأ جمهور القراء : «في المجلس » ، وقرأ عاصم وحده وقتادة وعيسى : «في المجالس » . واختلف الناس في سبب الآية والمقصود بها ، فقال ابن عباس ومجاهد والحسن : نزلت في مقاعد الحرب والقتال .

وقال زيد بن أسلم وقتادة : نزلت بسبب تضايق الناس في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك أنهم كانوا يتنافسون في القرب منه وسماع كلامه والنظر إليه ، فيأتي الرجل الذي له الحق والسن والقدم في الإسلام فلا يجد مكاناً ، فنزلت بسبب ذلك . وقال مقاتل : أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً ليجلس أشياخ من أهل بدر ونحو ذلك فنزلت الآية ، وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «لا يقم أحد من مجلسه ثم يجلس فيه الرجل ولكن تفسحوا يفسح الله لكم »{[11009]} ، وقال بعض الناس : إنما الآية مخصوصة في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم في سائر المجالس ، ويدل على ذلك قراءة من قرأ : «في المجلس » ، ومن قرأ «في المجالس » فذلك مراده أيضاً لأن لكل أحد مجلساً في بيت النبي صلى الله عليه وسلم وموضعه فتجمع لذلك ، وقال جمهور أهل العلم : السبب مجلس النبي عليه السلام ، والحكم في سائر المجالس التي هي للطاعات ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «أحبكم إلى الله ألينكم مناكب في الصلاة وركباً في المجالس »{[11010]} ، وهذا قول مالك رحمه الله وقال : ما أرى الحكم إلا يطرد في مجالس العلم ونحوها غابر الدهر ، ويؤيد هذا القول قراءة من قرأ : «في المجالس » ، ومن قرأ : «في المجلس » فذلك على هذا التأويل اسم جنس فالسنة المندوب إليها هي التفسح والقيام منهي عنه في حديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث نهى أن يقوم الرجل فيجلس الآخر مكانه ، فأما القيام إجلالاً فجائز بالحديث قوله عليه السلام حين أقبل سعد بن معاذ : «قوموا إلى سيدكم »{[11011]} ، وواجب على المعظم ألا يحب ذلك ويأخذ الناس به لقوله عليه السلام : «من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار »{[11012]} .

وقوله تعالى :{ يفسح الله لكم } معناه : في رحمته وجنته ، وقوله تعالى : { وإذا قيل انشزوا فانشزوا } معناه : إذا قيل لكم ارتفعوا وقوموا فافعلوا ذلك ، ومنه نشوز العظام أي نباتها ، والنشز من الأرض المرتفع ، واختلف الناس في هذا النشوز الذي أمروا بامتثاله إذا دعوا إليه . فقال الحسن وقتادة والضحاك معناه : إذا دعوا إلى قتال أو طاعة أو صلاة ونحوه ، وقال آخرون معناه : إذا دعوا إلى القيام عن النبي عليه السلام لأنه كان أحياناً يحب الانفراد في آمر الإسلام فربما جلس قوم وأراد كل واحد أن يكون آخر الناس عهداً بالنبي عليه السلام ، فنزلت الآية آمرة بالقيام عنه متى فهم ذلك بقول أو فعل ، وقال آخرون معناه : { انشزوا } في المجلس بمعنى التفسح لأن الذي يريد التوسعة يرتفع إلى فوق في الهواء فإذا فعل ذلك جملة اتسع الموضع ، فيجيء { انشزوا } في غرض واحد مع قوله { تفسحوا } ، وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم : «انشُزوا » برفع الشين وهي قراءة أبي جعفر وشيبة والأعرج .

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي بكسر السين فيهما ، وهي قراءة الحسن والأعمش وطلحة . يقال : نشز ينشِز كحشر يحشِر ويحشُر وعكف يعكِف ويعكُف . وقوله{ يرفع الله } جواب الأمر ، واختلف الناس في ترتيب قوله تعالى :{ الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } ، فقال جماعة من المتأولين المعنى :{ يرفع الله } المؤمنين العلماء منكم{ درجات } ، فلذلك أمر بالتفسح من أجلهم ، ويجيء على هذا قوله :{ والذين أوتوا العلم } بمنزلة قولك جاءني العاقل والكريم والشجاع ، وأنت تريد بذلك رجلاً واحداً ، وقال آخرون المعنى :{ يرفع الله } المؤمنين والعلماء الصنفين جميعاً { درجات } ، لكنا نعلم تفاضلهم في الدرجات من مواضع أخرى ولذلك جاء الأمر بالتفسح عاماً للعلماء وغيرهم ، وقال عبد الله بن مسعود وغيره :{ يرفع الله الذين آمنوا منكم } وتم القول ، ثم ابتدأ بتخصيص العلماء بالدرجات ونصبهم بإضمار فعل ، فالمؤمنون رفع على هذا التأويل وللعلماء درجات ، وعلى هذا التأويل قال مطرف بن عبد الله بن الشخير : فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة وخير دينكم الورع ، ثم توعد تعالى وحذر بقوله : { والله بما تعملون خبير } .


[11008]:هو داود بن أبي هند، القشيري، مولاهم، أبو بكر أو أبو محمد، البصري، ثقة متقن، من الطبقة الخامسة، مات سنة أربعين، وقيل قبلها.(تقريب التهذيب).
[11009]:أخرجه البخاري في الاستئذان والجمعة، ومسلم في السلام، وأبو داود والترمذي في الأدب، والدارمي في الاستئذان، وأحمد في المسند(2-17، 45، 338)، ولفظه كما في الأدب، والدارمي في الاستئذان، وأحمد في المسند(2-17، 45، 338)، ولفظه كما في مسند أحمد(لا يقم الرجل الرجلَ من مجلسه فيجلس فيه، ولكن تفسحوا وتوسعوا).
[11010]:لم أقف عليه.
[11011]:أخرجه البخاري في العتق والاستئذان، وأبو داود في الأدب، وأحمد في مسنده(3-22، 6-142)، ولفظه فيه: عن أبي أمامة بن سهل قال: سمعت أبا سعيد الخدري قال: نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ، قال: فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد فأتاه على حمار، قال: فلما دنا قريبا من المسجد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى سيدكم، أو خيركم، ثم قال: إن هؤلاء نزلوا على حكمك، قال: تُقتل مقاتلتهم وتُسبى ذراريهم، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد أفضيت بحكم الله، وربما قال: قضيت بحكم الملك.
[11012]:أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، عن معاوية، ورمز له الإمام السيوطي بأنه حديث حسن.