معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَقَرۡنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ ٱلۡأُولَىٰۖ وَأَقِمۡنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرٗا} (33)

قوله تعالى : { وقرن في بيوتكن } قرأ أهل المدينة وعاصم : وقرن بفتح القاف ، وقرأ الآخرون بكسرها ، فمن فتح القاف فمعناه ، اقررن أي : الزمن بيوتكن ، من قولهم : قررت بالمكان أقر قراراً ، يقال : قررت أقر وقررت أقر ، وهما لغتان ، فحذفت الراء الأولى التي هي عين الفعل لثقل التضعيف ونقلت حركتها إلى القاف كقولهم : في ظللت ظلت ، قال الله تعالى : { فظلتم تفكهون } { وظلت عليه عاكفا } ومن كسر القاف فقد قيل : هو من قررت أقر ، معناه اقررن بكسر الراء ، فحذفت الأولى ونقلت حركتها إلى القاف كما ذكرنا ، وقيل : هو الأصح أنه أمر من الوقار ، كقولهم من الوعد : عدن ، ومن الوصل : صلن ، أي : كن أهل وقار وسكون ، من قولهم وقر فلان يقر وقوراً إذا سكن واطمأن . { ولا تبرجن } قال مجاهد وقتادة : التبرج هو التكسر والتغنج ، وقال ابن أبي نجيح : هو التبختر . وقيل : هو إظهار الزينة وإبراز المحاسن للرجال ، { تبرج الجاهلية الأولى } . اختلفوا في الجاهلية الأولى . قال الشعبي : هي ما بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم . وقال أبو العالية : هي في زمن داود وسليمان عليهما السلام ، كانت المرأة تلبس قميصاً من الدر غير مخيط من الجانبين فيرى خلقها فيه . وقال الكلبي : كان ذلك في زمن نمرود الجبار ، كانت المرأة تتخذ الدرع من اللؤلؤ فتلبسه وتمشي وسط الطريق ليس عليها شيء غيره وتعرض نفسها على الرجال . وروى عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال : الجاهلية الأولى بين نوح وإدريس ، وكانت ألف سنة ، وأن بطنين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل والآخر يسكن الجبل ، وكان رجال الجبل صباحاً وفي النساء دمامة ، وكان نساء السهل صباحاً وفي الرجال دمامة ، وأن إبليس أتى رجلاً من أهل السهل وأجر نفسه منه ، فكان يخدمه واتخذ شيئاً مثل الذي يزمر به الرعاء فجاء بصوت لم يسمع الناس مثله ، فبلغ ذلك من حولهم فأتوهم يستمعون إليه ، فاتخذوا عيداً يجتمعون إليه فيه في السنة ، فتتبرج النساء للرجال ويتزين الرجال لهن ، وأن رجلاً من أهل الجبل هجم عليهم في عيدهم ذلك فرأى النساء وصباحتهن فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك فتحولوا إليهم فنزلوا معهم فظهرت الفاحشة فيهم ، فذلك قوله تعالى : { ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى } . وقال قتادة : هي ما قبل الإسلام . وقيل : الجاهلية الأولى : ما ذكرنا ، والجاهلية الأخرى : قوم يفعلون مثل فعلهم في آخر الزمان . وقيل : قد تذكر الأولى وإن لم يكن لها أخرى ، كقوله تعالى : { وأنه أهلك عاداً الأولى } ولم يكن لها أخرى . قوله عز وجل : { وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا } أراد بالرجس : الإثم الذي نهى الله النساء عنه ، قاله مقاتل : وقال ابن عباس : يعني : عمل الشيطان وما ليس لله فيه رضا ، وقال قتادة : يعني : السوء . وقال مجاهد : الرجس الشك . وأراد بأهل البيت : نساء النبي صلى الله عليه وسلم لأنهن في بيته ، وهو رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وتلا قوله : { واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله } وهو قول عكرمة ومقاتل . وذهب أبو سعيد الخدري ، وجماعة من التابعين ، منهم مجاهد ، وقتادة ، وغيرهما : إلى أنهم علي وفاطمة والحسن والحسين .

حدثنا أبو الفضل زياد بن محمد الحنفي ، أنبأنا أبو محمد عبد الرحمن بن محمد الأنصاري ، أنبأنا أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعدي ، أنبأنا أبو همام الوليد بن شجاع ، أنبأنا يحيى بن زكريا بن زائدة ، أنبأنا أبي عن مصعب بن شيبة عن صفية بنت شيبة الحجبية ، عن عائشة أم المؤمنين قالت : " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة وعليه مرط مرجل من شعر أسود ، فجلس فأتت فاطمة فأدخلها فيه ثم جاء علي فأدخله فيه ، ثم جاء حسن فأدخله فيه ، ثم جاء حسين فأدخله فيه ، ثم قال : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً } .

أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد الحميدي ، أنبأنا أبو عبد الله الحافظ ، أنبأنا أبو العباس محمد بن يعقوب أنبأنا الحسن بن مكرم ، أنبأنا عثمان بن عمر ، أنبأنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار ، عن شريك بن أبي نمر ، عن عطاء بن يسار ، عن أم سلمة قالت : " في بيتي نزلت : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت } قالت : فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فاطمة وعلي والحسن والحسين ، فقال : هؤلاء أهل بيتي ، قالت : فقلت يا رسول الله أما أنا من أهل البيت ؟ قال : بلى إن شاء الله " . قال زيد بن أرقم : أهل بيته من حرم الصدقة عليه بعده ، آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَقَرۡنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ ٱلۡأُولَىٰۖ وَأَقِمۡنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرٗا} (33)

ثم أمرهن - سبحانه - بعد ذلك بالاستقرار فى بيوتهن ، وعدم الخروج منها إلا لحاجة شرعية فقال { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } .

قال القرطبى ما ملخصه : قوله { وَقَرْنَ } قرأه الجمهور - بكسر القاف - من القرار تقول : قَرَرْتُ بالمكان - بفتح الراء أقِر - بكسر القاف - إذا نزلت فيه - والأصل - اقررن - بكسر الراء - فحذفت الراء الأولى تخفيفا . . ونقلوا حركتها إلى القاف ، واستغنى عن ألف الوصل لتحرك القاف . . فصارت الكلمة { قِرن } - بكسر القاف - .

وقرأ عاصم ونافع { وقَرْن } - بفتح القاف - من قررت فى المكان - بكسرر الراء - إذا أقمت فيه . . والأصل اقْرَرْن بفتح الراء - فحذفت الراء الأولى لثقل التضعيف ، وألقيت حركتها على القاف . . فتقول : { قَرن } - بالفتح - للقاف - .

والمعنى : الْزَمْنَ يا نساء النبى صلى الله عليه وسلم بيوتكن ، ولا تخرجن منها إلا لحاجة مشروعة ، ومثلهن فى ذلك جميع النساء المسلمات ، لأن الخطاب لهن فى مثل هذه الأمور ، هو خطاب لغيرهن من النساء المؤمنات من باب أولى ، وإنما خاطب - سبحانه - أمهات المؤمنين على سبيل التشريف ، واقتداء غيرهن بهن .

قال بعض العلماء : والحكمة فى هذا الأمر : أن ينصرفن إلى رعاية شئون بيوتهن ، وتوفير وسائل الحياة المنزلية التى هى من خصائصهن ، ولا يحسنها الرجال ، وإلى تربية الأولاد فى عهد الطفولة وهى من شأنهن . وقد جرت السنة الإِلهية بأن أمر الزوجين قسمة بينهما ، فللرجل أعمال من خصائصهم لا يحسنها النساء ، وللنساء أعمال خصائصهن لا يحسنها الرجال ، فإذا تعدى أحد الفريقين عمله ، اختل النظام فى البيت والمعيشة .

وقال صاحب الظلال ما ملخصه : والبيت هو مثابة المرأة التى تجد فيها نفسها على حقيقتها كما أرادها الله - تعالى - ولكى يهيئ الإِسلام للبيت جوه السليم ، ويهيئ للفراخ الناشئة فيه رعايتها ، أوجب على الرجل النفقة ، وجعلها فريضة ، كى يتاح للأم من الجهد ومن الوقت ومن هدوء البال ، ما تشرف به على هذه الفراخ الزغب ، وما تهيئ به للمثابة نظامها وعطرها وبشاشتها .

فالأم المكدودة بالعمل وبمقتضياته وبمواعيده . . لا يمكن أن تهيئ للبيت جوه وعطره ، ولا يمكن أن تهيئ للطفولة النابتة فيه حقها ورعايتها .

إن خروج المرأة للعمل كارثة على البيت قد تبيحها الضرورة ، أما أن يتطوع بها الناس وهم قادرون على اجتنابها ، فتلك هى اللعنة التى تصيب الأرواح والضمائر والعقول ، فى عصور الانتكاس والشرور والضلال .

وهذه الجملة الكريمة ليس المقصود بها ملازمة البيوت فلا يبرحنها بإطلاق وإنما المقصود بها أن يكون البيت هو الأصل فى حياتهن ، ولا يخرجن إلا لحاجة مشروعة ، كأداء الصلاة فى المسجد ، وكأداء فريضة الحج وكزيارة الوالدين والآقارب ، وكقضاء مصالحهن التى لا تقضى إلا بهن .

. بشرط أن يكون خروجهن مصوحبا بالتستر والاحتشام وعدم التبذل .

ولذا قال - سبحانه - بعد هذا الأمر ، { وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى } .

وقوله : { تَبَرَّجْنَ } مأخوذ من البَرَج - بفتح الباء والراء - وهو سعة العين وحسنها ، ومنه قولهم : سفينة برجاء ، أى : متسعة ولا غطاء عليها .

والمراد به هنا : إظهار ما ينبغى ستره من جسد المرأة ، مع التكلف والتصنع فى ذلك .

والجاهلية الأولى ، بمعنى المتقدمة ، إذ يقال لكل متقدم ومتقدمة : أول وأولى .

أو المراد بها : الجاهلية الجهلاء التى كانت ترتكب فيها الفواحش بدون تحرج .

وقد فسروها بتفسيرات متعددة ، منها : قول مجاهد : كانت المرأة تخرج فتمشى بين يدي الرجال ، فذلك تبرج الجاهلية .

ومنها قول قتادة : كانت المرأة فى الجاهلية تمشى مشية فيها تكسر .

ومنها قول مقاتل : والتبرج : أنها تلقي الخمار على رأسها ، ولا تشده فيوارى قلائدها وعنقها .

ويبدو لنا أن التبرج المنهي عنه فى الآية الكريمة ، يشمل كل ذلك ، كما يشمل كل فعل تفعله المرأة ، ويكون هذا الفعل متنافيا مع آداب الإِسلام وتشريعاته .

والمعنى : الزمن يا نساء النبى بيوتكن ، فلا تخرجن إلا لحاجة مشروعة ، وإذا خرجتن فاخرجن فى لباس الحشمة والوقار ، ولا تبدي إحداكن شيئا أمرها الله - تعالى - بسرته وإخفائه ، واحذرن التشبيه بنساء أهل الجاهلية الأولى ، حيث كن يفعلن ما يثير شهوة الرجال ، ويلفت أنظارهم اليهن .

ثم أتبع - سبحانه - هذا المنهى بما يجعلهن على صلة طيبة بخالقهن - عز وجل - فقال : { وَأَقِمْنَ الصلاة } أى : داومن على إقامتها فى أوقاتها بخشوع وإخلاص . { وَآتِينَ الزكاة } التى فرضها الله - تعالى - عليكن . وخص - سبحانه - هاتين الفريضيتين بالذكر من بين سائر الفرائض ، لأنهما أساس العبادات البدنية والمالية .

{ وَأَطِعْنَ الله وَرَسُولَهُ } أى : فى كل ما تأتين وتتركن ، لا سيما فيما أمرتن به ، ونهيتين عنه .

وقوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } تعليل لما أمرن به من طاعات ، ولما نهين عنه من سيئات .

والرجس فى الأصل : يطلق على كل شئ مستقذر . وأريد به هنا : الذنوب والآثام وما يشبه ذلك من النقائص والأدناس .

وقوله { أَهْلَ البيت } منصوب على النداء ، أو على المدح . ويدخل فى أهل البيت هنا دخولا أوليا : نساؤه صلى الله عليه وسلم بقرينة سياق الآيات .

أى : إنما يريده الله - تعالى - بتلك الأوامر التى أمركن بها ، و بتلك النواهى التى نهاكن عنها ، أن يذهب عنكن الآثام والذنوب والنقائص ، وأن يطهركن من كل ذلك تطهيرا تاما كاملا .

قال الإِمام ابن كثير ما ملخصه : قوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت . . . } هذا نص فى دخول أزواج النبى صلى الله عليه وسلم فى أهل البيت ها هنا ، لأنهن سبب نزول هذه الآية .

وقدوردت أحاديث تدل على أن المراد أعم من ذلك ، فقد روى الإِمام أحمد بسنده - عن أنس بن مالك قال :

" إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمر بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر ، يقول : الصلاة يا أهل البيت : ثم يتلو هذه الآية . . " .

وقال بعض العلماء : والتحقيق - إن شاء الله - أنهن داخلات فى الآية ، بدليل السياق ، وإن كانت الآية تتناول غيرهن من أهل البيت .

ونظير ذلك من دخول الزوجات فى اسم أهل البيت ، قوله - تعالى - فى زوجة إبراهيم : { قالوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله رَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البيت } وأما الدليل على دخول غيرهن فى الآية ، فهو أحاديث جاءت " عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال فى على وفاطمة والحسن والحسين - رضى الله عنهم - : " إنهم أهل البيت " ودعا الله أن يذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيرا " .

وبما ذكرنا تعلم أن الصواب شمول الآية الكريمة لأزواج النبى صلى الله عليه وسلم ولعلى وفاطمة والحسن والحسين .

فإن قيل : الضمير فى قوله : { لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس } وفى قوله : { وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } ضمير الذكور ، فلو كان المراد أزواج النبى صلى الله عليه وسلم لقيل ليذهب عنكن ويطهركن ؟

فالجواب : ما ذكرناه من أن الآية تشملهن وتشمل فاطمة وعلى والحسن والحسين ، وقد أجمع أهل اللسان العربى على تغليب الذكور على الإِناث فى الجموع ونحوها . .

ومن أساليب اللغة العربية التى نزل بها القرآن ، أن زوجة الرجل يطلق عليها أهل ، وباعتبار لفظ الأهل تخاطب مخاطبة الجمع المذكر ، ومنه قوله - تعالى - فى موسى { فَقَالَ لأَهْلِهِ امكثوا } وقوله { سَآتِيكُمْ } والمخاطب امرأته كما قال غير واحد . .

وقال بعض أهل العلم : إن أهل البيت فى الآية هم من تحرم عليهم الصدقة .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَقَرۡنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ ٱلۡأُولَىٰۖ وَأَقِمۡنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرٗا} (33)

28

( وقرن في بيوتكن ) . .

من وقر . يقر . أي ثقل واستقر . وليس معنى هذا الأمر ملازمة البيوت فلا يبرحنها إطلاقا . إنما هي إيماءة لطيفة إلى أن يكون البيت هو الأصل في حياتهن ، وهو المقر وما عداه استثناء طارئا لا يثقلن فيه ولا يستقررن . إنما هي الحاجة تقضى ، وبقدرها .

والبيت هو مثابة المرأة التي تجد فيها نفسها على حقيقتها كما أرادها الله تعالى . غير مشوهة ولا منحرفة ولا ملوثة ، ولا مكدودة في غير وظيفتها التي هيأها الله لها بالفطرة .

" ولكي يهيئ الإسلام للبيت جوه ويهيىء للفراخ الناشئة فيه رعايتها ، أوجب على الرجل النفقة ، وجعلهافريضة ، كي يتاح للأم من الجهد ، ومن الوقت ، ومن هدوء البال ، ما تشرف به على هذه الفراخ الزغب ، وما تهيئ به للمثابة نظامها وعطرها وبشاشتها . فالأم المكدودة بالعمل للكسب ، المرهقة بمقتضيات العمل ، المقيدة بمواعيده ، المستغرقة الطاقة فيه . . لا يمكن أن تهب للبيت جوه وعطره ، ولا يمكن أن تمنح الطفولة النابتة فيه حقها ورعايتها . وبيوت الموظفات والعاملات ما تزيد على جو الفنادق والخانات ؛ وما يشيع فيها ذلك الأرج الذي يشيع في البيت . فحقيقة البيت لا توجد إلا أن تخلقها امرأة ، وأرج البيت لا يفوح إلا أن تطلقه زوجة ، وحنان البيت لا يشيع إلا أن تتولاه أم . والمرأة أو الزوجة أو الأم التي تقضي وقتها وجهدها وطاقتها الروحية في العمل لن تطلق في جو البيت إلا الإرهاق والكلال والملال .

" وإن خروج المرأة لتعمل كارثة على البيت قد تبيحها الضرورة . أما أن يتطوع بها الناس وهم قادرون على اجتنابها ، فتلك هي اللعنة التي تصيب الأرواح والضمائر والعقول ، في عصور الانتكاس والشرور والضلال " .

فأما خروج المرأة لغير العمل . خروجها للاختلاط ومزاولة الملاهي . والتسكع في النوادي والمجتمعات . . . فذلك هو الارتكاس في الحمأة الذي يرد البشر إلى مراتع الحيوان !

ولقد كان النساء على عهد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يخرجن للصلاة غير ممنوعات شرعا من هذا . ولكنه كان زمان فيه عفة ، وفيه تقوى ، وكانت المرأة تخرج إلى الصلاة متلفعة لا يعرفها أحد ، ولا يبرز من مفاتنها شيء . ومع هذا فقد كرهت عائشة لهن أن يخرجن بعد وفاة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] !

في الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت : كان نساء المؤمنين يشهدن الفجر مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ثم يرجعن متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس .

وفي الصحيحين أيضا أنها قالت : لو أدرك رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ما أحدث النساء لمنعهن من المساجد ، كما منعت نساء بني إسرائيل !

فماذا أحدث النساء في حياة عائشة - رضي الله عنها - ? وماذا كان يمكن أن يحدثن حتى ترى أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كان مانعهن من الصلاة ? ! ماذا بالقياس إلى ما نراه في هذه الأيام ? !

( ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ) . .

ذلك حين الاضطرار إلى الخروج ، بعد الأمر بالقرار في البيوت . ولقد كانت المرأة في الجاهلية تتبرج . ولكن جميع الصور التي تروى عن تبرج الجاهلية الأولى تبدو ساذجة أو محتشمة حين تقاس إلى تبرج أيامنا هذه في جاهليتنا الحاضرة !

قال مجاهد : كانت المرأة تخرج تمشي بين الرجال . فذلك تبرج الجاهلية !

وقال قتادة : وكانت لهن مشية تكسر وتغنج . فنهى الله تعالى عن ذلك !

وقال مقاتل بن حيان : والتبرج أنها تلقي الخمار على رأسها ولا تشده فيداري قلائدها وقرطها وعنقها ، ويبدو ذلك كله منها . وذلك التبرج !

وقال ابن كثير في التفسير : كانت المرأة منهن تمر بين الرجال مسفحة بصدرها لا يواريه شيء ؛ وربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها وأقرطة آذانها . فأمر الله المؤمنات أن يستترن في هيئاتهن وأحوالهن .

هذه هي صور التبرج في الجاهلية التي عالجها القرآن الكريم . ليطهر المجتمع الإسلامي من آثارها ويبعد عنه عوامل الفتنة ، ودواعي الغواية ؛ ويرفع آدابه وتصوراته ومشاعره وذوقه كذلك !

ونقول : ذوقه . . فالذوق الإنساني الذي يعجب بمفاتن الجسد العاري ذوق بدائي غليظ . وهو من غير شك أحط من الذوق الذي يعجب بجمال الحشمة الهادئ ، وما يشي به من جمال الروح ، وجمال العفة ، وجمال المشاعر .

وهذا المقياس لا يخطئ في معرفة ارتفاع المستوى الإنساني وتقدمه . فالحشمة جميلة جمالا حقيقيا رفيعا . ولكن هذا الجمال الراقي لا يدركه أصحاب الذوق الجاهلي الغليظ ، الذي لا يرى إلا جمال اللحم العاري ، ولا يسمع إلا هتاف اللحم الجاهر !

ويشير النص القرآني إلى تبرج الجاهلية ، فيوحي بأن هذا التبرج من مخلفات الجاهلية . التي يرتفع عنها من تجاوز عصر الجاهلية ، وارتفعت تصوراته ومثله ومشاعره عن تصورات الجاهلية ومثلها ومشاعرها .

والجاهلية ليست فترة معينة من الزمان . إنما هي حالة اجتماعية معينة ، ذات تصورات معينة للحياة . ويمكن أن توجد هذه الحالة ، وأن يوجد هذا التصور في أي زمان وفي أي مكان ، فيكون دليلا على الجاهلية حيث كان !

وبهذا المقياس نجد أننا نعيش الآن في فترة جاهلية عمياء ، غليظة الحس ، حيوانية التصور ، هابطة في درك البشرية إلى حضيض مهين . وندرك أنه لا طهارة ولا زكاة ولا بركة في مجتمع يحيا هذه الحياة ؛ ولا يأخذ بوسائل التطهر والنظافة التي جعلها الله سبيل البشرية إلى التطهر من الرجس ، والتخلص من الجاهلية الأولى ؛ وأخذ بها ، أول من أخذ ، أهل بيت النبي [ صلى الله عليه وسلم ] على طهارته ووضاءته ونظافته .

والقرآن الكريم يوجه نساء النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إلى تلك الوسائل ؛ ثم يربط قلوبهن بالله ، ويرفع أبصارهن إلى الأفق الوضيء الذي يستمددن منه النور ، والعون على التدرج في مراقي ذلك الأفق الوضيء :

( وأقمن الصلاة ، وآتين الزكاة ، وأطعن الله ورسوله ) . .

وعبادة الله ليست بمعزل عن السلوك الاجتماعي أو الأخلاقي في الحياة ؛ إنما هي الطريق للإرتفاع إلى ذلك المستوى ؛ والزاد الذي يقطع به السالك الطريق . فلا بد من صلة بالله يأتي منها المدد والزاد . ولا بد من صلة بالله تطهر القلب وتزكيه . ولا بد من صلة بالله يرتفع بها الفرد على عرف الناس وتقاليد المجتمع وضغط البيئة ؛ ويشعر أنه أهدى وأعلى من الناس والمجتمع والبيئة . وأنه حري أن يقود الآخرين إلى النور الذي يراه ؛ لا أن يقوده الآخرون إلى الظلمات وإلى الجاهلية التي تغرق فيها الحياة ، كلما انحرفت عن طريق الله .

والإسلام وحدة تجمع الشعائر والآداب والأخلاق والتشريعات والنظم . . كلها في نطاق العقيدة . ولكل منها دور تؤديه في تحقيق هذه العقيدة ؛ وتتناسق كلها في اتجاه واحد ؛ ومن هذا التجمع والتناسق يقوم الكيان العام لهذا الدين . وبدونهما لا يقوم هذا الكيان .

ومن ثم كان الأمر بإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وطاعة الله ورسوله ، هو خاتمة التوجيهات الشعورية والأخلاقية والسلوكية لأهل البيت الكريم . لأنه لا يقوم شيء من تلك التوجيهات بغير العبادة والطاعة . . وكل ذلك لحكمة وقصد وهدف :

( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) . .

وفي التعبير إيحاءات كثيرة ، كلها رفاف ، رفيق ، حنون . .

فهو يسميهم ( أهل البيت )بدون وصف للبيت ولا إضافة . كأنما هذا البيت هو( البيت )الواحد في هذا العالم ، المستحق لهذه الصفة . فإذا قيل( البيت )فقد عرف وحدد ووصف . ومثل هذا قيل عن الكعبة . بيت الله . فسميت البيت . والبيت الحرام . فالتعبير عن بيت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كذلك تكريم وتشريف واختصاص عظيم .

وهو يقول : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس - أهل البيت - ويطهركم تطهيرا ) . . وفي العبارة تلطف ببيان علة التكليف وغايته . تلطف يشي بأن الله سبحانه - يشعرهم بأنه بذاته العلية - يتولى تطهيرهم وإذهاب الرجس عنهم . وهي رعاية علوية مباشرة بأهل هذا البيت . وحين نتصور من هو القائل - سبحانه وتعالى - رب هذا الكون . الذي قال للكون : كن . فكان . الله ذو الجلال والإكرام . المهيمن العزيز الجبار المتكبر . . حين نتصور من هو القائل - جل وعلا - ندرك مدى هذا التكريم العظيم .

وهو - سبحانه - يقول هذا في كتابه الذي يتلى في الملأ الأعلى ، ويتلى في هذه الأرض ، في كل بقعة وفي كل أوان ؛ وتتعبد به ملايين القلوب ، وتتحرك به ملايين الشفاه .

وأخيرا فإنه يجعل تلك الأوامر والتوجيهات وسيلة لإذهاب الرجس وتطهير البيت . فالتطهير من التطهر ، وإذهاب الرجس يتم بوسائل يأخذ الناس بها أنفسهم ، ويحققونها في واقع الحياة العملي . وهذا هو طريق الإسلام . . شعور وتقوى في الضمير . وسلوك وعمل في الحياة . يتم بهما معا تمام الإسلام ، وتتحقق بهما أهدافه واتجاهاته في الحياة .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَقَرۡنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ ٱلۡأُولَىٰۖ وَأَقِمۡنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرٗا} (33)

{ وقرن في بيوتكن } من وقر يقر وقارا أو من قر يقر حذفت الأولى من راءي أقررن ونقلت كسرتها إلى القاف ، فاستغني عن همزة الوصل ، ويؤيده قراءة نافع وعاصم بالفتح من قررت أقر وهو لغة فيه ، ويحتمل أن يكون من قار يقار إذا اجتمع . { ولا تبرجن } ولا تتبخترن في مشيكن . { تبرج الجاهلية الأولى } تبرجا مثل تبرج النساء في أيام الجاهلية القديمة ، وقيل هي ما بين آدم ونوح ، وقيل الزمان الذي ولد فيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، كانت المرأة تلبس درعا من اللؤلؤ فتمشي وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال . والجاهلية الأخرى ما بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، وقيل الجاهلية الأولى جاهلية الكفر قبل الإسلام ، والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق في الإسلام ، ويعضده قوله عليه الصلاة والسلام لأبي الدرداء رضي الله عنه " إن فيك جاهلية ، قال جاهلية كفر أو إسلام قال بل جاهلية كفر " . { وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله } في سائر ما أمركن به ونهاكن عنه . { إنما يريد ليذهب عنكم الرجس } الذنب المدنس لعرضكم ، وهو تعليل لأمرهن ونهيهن على الاستئناف ؛ولذلك عمم الحكم . { أهل البيت } نصب على النداء أو المدح . { ويطهركم } عن المعاصي . { تطهيرا } واستعارة الرجس للمعصية والترشيح بالتطهير للتنفير عنها ، وتخصيص الشيعة أهل البيت بفاطمة وعلي وابنيهما رضي الله عنهم لما روي " أنه عليه الصلاة والسلام خرج ذات غدوة وعليه مرط مرجل من شعر أسود فجلس فأتت فاطمة رضي الله عنها فأدخلها فيه ثم جاء علي فأدخله فيه ثم جاء الحسن والحسين رضي الله عنهما فأدخلهما فيه ثم قال : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت } ، والاحتجاج بذلك على عصمتهم وكون إجماعهم حجة ضعيف ؛لأن التخصيص بهم لا يناسب ما قبل الآية وما بعدها ، والحديث يقتضي أنهم من أهل البيت لا أنه ليس غيرهم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَقَرۡنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ ٱلۡأُولَىٰۖ وَأَقِمۡنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرٗا} (33)

قرأ الجمهور «وقِرن » بكسر القاف ، وقرأ عاصم ونافع «وقَرن » بالفتح ، فأما الأولى فيصح أن تكون من الوقار تقول وقر يقر فقرن مثل عدن أصله أو قرن ، ويصح أن تكون من القرار وهو قول المبرد تقول قررت بالمكان بفتح القاف والراء أقر ، فأصله أقررن حذفت الراء الواحدة تخفيفاً ، كما قالوا في ظللت ظلت ، ونقلوا حركتها إلى القاف ، واستغني عن الألف{[9509]} ، وقال أبو علي : بل أعل بأن أبدلت الراء ياء ونقلت حركتها إلى القاف ثم حذفت الياء لسكونها وسكون الراء بعدها ، وأما من فتح القاف فعلى لغة العرب قرِرت بكسر الراء أقر بفتح القاف في المكان وهي لغة ذكرها أبو عبيد في الغريب المصنف ، وذكرها الزجاج وغيره ، وأنكرها قوم ، منهم المازني وغيره ، قالوا وإنما يقال قررت بكسر الراء من قرت العين ، وأما من القرار فإنما هو من قررت بفتح الراء ، وقرأ عاصم «في بِيوتكن » بكسر الباء ، وقرأ ابن أبي عبلة «واقرِرن » بألف وصل وراءين الأولى مكسورة ، فأمر الله تعالى في هذه الآية نساء النبي بملازمة بيوتهن ونهاهن عن التبرج وأعلمهن أنه فعل { الجاهلة الأولى } ، وذكر الثعلبي وغيره أن عائشة رضي الله عنها كانت إذا قرأت هذه الآية تبكي حتى تبل خمارها ، وذكر أن سودة قيل لها لم لا تحجين ولا تعتمرين كما يفعل أخواتك ، فقالت قد حججت واعتمرت وأمرني الله تعالى أن أقر في بيتي قال الراوي : فوالله ما خرجت من باب حجرتها حتى خرجت جنازتها .

قال القاضي أبو محمد : وبكاء عائشة رضي الله عنها إنما كان بسبب سفرها أيام الجمل وحينئذ قال لها عمار : إن الله أمرك أن تقري في بيتك ، و «التبرج » ، إظهار الزينة والتصنع بها ومنه البروج لظهورها وانكشافها للعيون ، واختلف الناس في { الجاهلية الأولى } فقال الحكم بن عيينة ما بين آدم ونوح وهي ثمانمائة سنة ، وحكيت لهم سير ذميمة ، وقال الكلبي وغيره ما بين نوح وإبراهيم ، وقال ابن عباس ما بين نوح وإدريس وذكر قصصاً ، وقالت فرقة ما بين موسى وعيسى ، وقال عامر الشعبي ما بين عيسى ومحمد ، وقال أبو العالية هو زمان سليمان وداود كان فيه للمرأة قميص من الدر غير مخيط الجانبيين .

قال الفقيه الإمام القاضي : والذي يظهر عندي أنه أشار إلى الجاهلية التي لحقتها فأمرن بالنقلة عن سيرتهن فيها ، وهي ما كان قبل الشرع من سيرة الكفرة لأنهم كانوا لا غيرة عندهم فكان أمر النساء دون حجبة ، وجعلها أولى بالإضافة إلى حالة الإسلام ، وليس المعنى أن ثم جاهلية أخرى ، وقد مر اسم الجاهلية على تلك المدة التي قبيل الإسلام فقالوا جاهلي في الشعراء ، وقال ابن عباس في البخاري سمعت أبي في { الجاهلية } يقول إلى غير هذا ، و { الرجس } اسم يقع على الإثم وعلى العذاب وعلى النجاسات والنقائص ، فأذهب الله جميع ذلك عن { أهل البيت } ، ونصب { أهل البيت } على المدح أو على النداء المضاف ، أو بإضمار أعني ، واختلف الناس في { أهل البيت } من هم ، فقال عكرمة ومقاتل وابن عباس هم زوجاته خاصة لا رجل معهن ، وذهبوا إلى أن البيت أريد به مساكن النبي صلى الله عليه وسلم .

وقالت فرقة : هي الجمهور { أهل البيت } علي وفاطمة والحسن والحسين ، وفي هذا أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال أبو سعيد الخدري : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «نزلت هذه الآية في خمسة فيّ وفي علي وفاطمة والحسن والحسين {[9510]} » رضي الله عنهم ، ومن حجة الجمهور قوله { عنكم } و { يطهركم } بالميم ، ولو كان النساء خاصة لكان عنكن .

قال القاضي أبو محمد : والذي يظهر إليّ أن زوجاته لا يخرجن عن ذلك البتة ، ف { أهل البيت } زوجاته وبنته وبنوها وزوجها ، وهذه الآية تقضي أن الزوجات من { أهل البيت } لأن الآية فيهن والمخاطبة لهن ، أما أن أم سلمة قالت نزلت هذه الآية في بيتي فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فدخل معهم تحت كساء خيبري وقال «هؤلاء أهل بيتي » ، وقرأ الآية وقال اللهم «أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً » ، قالت أم سلمة فقلت : وأنا يا رسول الله ، فقال «أنت من أزواج النبي وأنت إلي خير »{[9511]} ، وقال الثعلبي قيل هم بنو هاشم فهذا على أن { البيت } يراد به بيت النسب ، فيكون العباس وأعمامه وبنو أعمامه منهم ، وروي نحوه عن زيد بن أرقم رضي الله عنه .


[9509]:نسب القرطبي هذا القول للمبرد، والذي يظهر أنه رأي الفراء؛ إذ قال في(معاني القرآن):"أرادوا: واقررن في بيوتكن، فحذفوا الراء الأولى، فحولت فتحتها في القاف، كما قالوا: هل أحست صاحبك؟ وكما قال:[فظلتم] يريد: فظللتم"، يقصد قوله تعالى في الآية(65) من سورة(الواقعة):{لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون}.
[9510]:أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.(الدر المنثور).
[9511]:أخرجه ابن مردويه عن أم سلمة، وأخرج مثله الطبراني عنها أيضا، وأخرج مثلهما ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه عن أم سلمة أيضا.وأخرج مثل هذه الأحاديث ابن مردويه والخطيب عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.(الدر المنثور)- وقد وردت فيذلك أحاديث كثيرة، منها ما رواه الإمام أحمد عن أنس ابن مالك رضي الله عنه أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمر بباب فاطمة رضي الله عنها ستة أشهر إذا خرج لصلاة الفجر، يقول:(الصلاة يا أهل البيت، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا)، قال ابن كثير، ورواه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب.