{ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } قرأ الجمهور بكسر القاف من وقر يقر وقارا أي سكن والأمر منه قر بكسر القاف وللنساء قرن مثل عدن وزن ، وقال المبرد هو من القرار لا من الوقار ؛ تقول قررت بالمكان – بفتح الراء – والأصل أقررن بكسر الراء فحذفت الراء الأولى تخفيفا ، كما قالوا في ظللت ظلت ، ونقلوا حركتها إلى القاف ، واستغني عن ألف الوصل بتحريك القاف . وقال أبو علي الفارسي : أبدلت الراء الأولى ياء كراهة التضعيف ؛ كما أبدلت في قيراط ودينار وصارت الياء حركة الحرف الذي أبدلت منه ، والتقدير : أقيرن ثم تلقى حركة الياء على القاف كراهة تحريك الياء بالكسر فتسقط الياء ؛لاجتماع الساكنين ، وتسقط همزة الوصل لتحريك ما بعدها فيصير قرن ، وقرئ بفتح القاف وأصله قررت بالمكان إذا أقمت فيه بكسر الراء أقر بفتح القاف كحمد يحمد ، وهي لغة أهل الحجاز ، وذكر ذلك أبو عبيد عن الكسائي ، وذكرها الزجاج وغيره .
قال الفراء : هو كما تقول : هل حسست صاحبك أيَ هل أحسسته ، قال أبو عبيد : كان أشياخنا من أهل العربية ينكرون القراءة بالفتح للقاف ، وذلك لأن قررت بالمكان أقر لا يجوزه كثير من أهل العربية ، والصحيح قررت اقر بالكسر ، ومعنى الآية الأمر لهن بالتوقر والسكون في بيوتهن ، وأن لا يخرجن .
وهذا يخالف ما ذكرناه هنا عنه عن الكسائي وهو من أجل مشايخه ، وقد وافقه على الإنكار لهذه القراءة أبو حاتم فقال : إن قرن بفتح القاف لا مذهب له في كلام العرب . قال النحاس قد خولف أبو حاتم في قوله إنه لا مذهب له في كلام العرب ، بل فيه مذهبان أحدهما حكاه الكسائي والآخر عن علي بن سليمان ، فأما المذهب الذي حكاه الكسائي فهو ما قدمناه من رواية أبي عبيد عنه ، وأما المذهب الذي حكاه علي بن سليمان فقال : إنه من قررت به عينا أقر ، وقيل المعنى وأقررن به عينا في بيوتكن .
قال النحاس : وهو وجه حسن ، وأقول ليس بحسن ولا هو معنى الآية ، فإن المراد بها أمرهن بالسكون والاستقرار في بيوتهن ، وليس من قرة العين أي الزمن بيوتكن ، عن محمد بن سيرين قال : نبئت أنه قيل لسودة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ( مالك لا تحجين ولا تعتمرين كما تفعل أخواتك ) ؟ فقالت ( قد حججت واعتمرت وأمرني الله أن أقر في بيتي ، فوالله لا أخرج من بيتي حتى أموت ) قال : فو الله ما خرجت من باب حجرتها حتى أخرجت جنازتها ) . { لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى } التبرج أن تبدي المرأة من زينتها ومحاسنها ما يجب عليها ستره مما تستدعي به شهوة الرجل ، وقد تقدم معنى التبرج في سورة النور ، قال المبرد هو مأخوذ من السعة ؛ يقال في أسنانه برج إذا كانت متفرقة ، والمعنى إظهار الزينة وإبراز المحاسن للرجال . وقيل التبرج هو التغنج والتبختر ، والتكسر في المشي ، وهذا ضعيف جدا ، والأول أولى .
وقد اختلف في المراد بالجاهلية الأولى فقيل ما بين آدم ونوح ، أو زمن داود وسليمان . وقيل ما بين نوح وإدريس قاله ابن عباس ، وكانت ألف سنة ، وقيل : ما بين نوح وإبراهيم ، وقيل ما بين موسى وعيسى ، أو ما بين عيسى ومحمد قاله ابن عباس ، وقيل ما قبل الإسلام . والجاهلية الأخرى قوم يفعلون مثل فعلهم في آخر الزمان ، أو الأولى جاهلية الكفر ، و الأخرى جاهلية الفسوق ، والفجور في الإسلام وقد بين حكمها في قوله تعالى ولا يبدين زينتهن الخ .
وقيل تذكر الأولى وإن لم تكن لها أخرى . وقال المبرد : الجاهلية الأولى كما تقول الجاهلية الجهلاء ، قال : وكان نساء الجاهلية يظهرون ما يقبح إظهاره حتى كانت المرأة تجلس مع زوجها وخليلها فيتفرد خليلها بما فوق الإزار إلى أعلى ، ويتفرد زوجها بما دون الإزار إلى أسفل ، وربما سأل أحدهما صاحبه البدل .
قال ابن عطية والذي يظهر لي أنه أشار إلى الجاهلية التي لحقنها وأدركنها فأمرن بالنقلة عن سيرتهن فيها ، وهي ما كان قبل الشرع من سيرة الكفرة ؛لأنهم كانوا لا غيرة عندهم ، فكان أمر النساء دون حجب . وجعلها أولى بالنسبة إلى ما كن عليه ؛ وليس المعنى أن ثم جاهلية أخرى كذا قال ، وهو قول حسن ، ويمكن أن يراد بالجاهلية الأخرى ما يقع في الإسلام من التشبه بأهل الجاهلية بقول أو فعل ، فيكون المعنى ولا تبرجن أيها المسلمات بعد إسلامكن تبرجا مثل تبرج أهل الجاهلية التي كنتن عليها ، وكان عليها من قبلكن ، أي لا تحدثن بأفعالكن وأقوالكن جاهلية تشابه الجاهلية التي كانت من قبل . وعن عائشة قالت : الجاهلية الأولى كانت على عهد إبراهيم كانت المرأة تلبس الدرع من اللؤلؤ فتمشي وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال ، وكانت عائشة إذا قرأت هذه الآية تبكي حتى يبتل خمارها ، رواه مسروق .
{ وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ } الواجبة { وَآتِينَ الزَّكَاةَ } المفروضة { وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ } فيما أمر ونهى ، وخص الصلاة والزكاة ، ثم عمم فأمرهن بالطاعة لله ولرسوله في كل ما هو شرع ؛لأنهما أصل الطاعات البدنية والمالية ، ولأن من واظب عليهما جرتاه إلى ما وراءهما . ،
{ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ } أي إنما أوصاكن الله بما أوصاكن من التقوى وأن لا تخضعن بالقول ، ومن قول المعروف ، والسكون في البيوت ، وعدم التبرج وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والطاعة .
{ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ } والمراد بالرجس الإثم والذنب المدنسان للأعراض الحاصلان بسبب ترك ما أمر الله به ، وفعل ما نهى عنه فيدخل في ذلك كل ما ليس فيه رضا الله ، وقيل : الرجس الشك ، وقيل : السوء ، وقيل : عمل الشيطان ، والعموم أولى { أَهْلَ الْبَيْتِ } نصبه على النداء أو المدح .
{ وَيُطَهِّرَكُمْ } من الأرجاس والأدناس { تَطْهِيرًا } كاملا وفي استعارة الرجس للمعصية والترشيح لها بالتطهير تنفير عنها بليغ ، وزجر لفاعلها شديد .
وقد اختلف أهل العلم في أهل البيت المذكورين في الآية فقال ابن عباس وعكرمة وعطاء والكلبي ومقاتل وسعيد بن جبير : إن أهل البيت المذكورين في الآية هو زوجات النبي صلى الله عليه وسلم خاصة قالوا : والمراد بالبيت بيت النبي صلى الله عليه وسلم ومساكن زوجاته ، لقوله : واذكرن ما يتلى في بيوتكن ، وأيضا السياق في الزوجات من قوله : يا أيها النبي قل لأزواجك إلى قوله لطيفا خبيرا ، وقاله أبو سعيد ومجاهد وقتادة .
وروي عن الكلبي أن أهل البيت المذكورين في الآية هم علي وفاطمة والحسن والحسين خاصة ، ومن حججهم الخطاب في الآية بما يصلح للذكور لا للإناث ، وهو قوله عنكم ، وليطهركم ، ولو كان للنساء خاصة لقال عنكن ، وليطهركن ، وأجاب الأولون عن هذا بأن التذكير باعتبار لفظ الأهل كما قال سبحانه { أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت } ، وكما يقول الرجل لصاحبه : كيف أهلك ؟ يريد زوجته أو زوجاته ، فيقول هم بخير .
ولنذكر ههنا ما تمسك به كل فريق : أما الأولون فتمسكوا بالسياق فإنه في الزوجات كما ذكرنا ، وبما أخرجه ابن أبي حاتم وابن عساكر من طريق عكرمة عن ابن عباس في الآية قال : نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة . وقال عكرمة من شاء باهلته أنها نزلت في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، وروي هذا عنه بطرق ، وأمّاما تمسك به الآخرون فأخرج الترمذي وصححه ، وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه ، وابن مردويه والبيهقي في سننه ، من طرق عن أم سلمة قالت في بيتي نزلت إنما يريد الله الآية ، وفي البيت فاطمة وعلي والحسن والحسين فجللهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكساء كان عليه ، ثم قال : هؤلاء أهل بيتي فاذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن أم سلمة أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بيتها على منامة له عليه كساء خيبري فجاءت فاطمة ببرمة فيها خزيرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ادعي زوجك وابنيك حسنا وحسينا فدعتهم ، فبينما هم يأكلون إذ نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بفضلة كسائه فغشاهم إياها ثم أخرج يده من الكساء وألوى بها إلى السماء ثم قال : اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، قالها ثلاث مرات ، قالت أم سلمة فأدخلت رأسي في الستر فقلت يا رسول الله وأنا معكم ؟ فقال : إنك إلى خير . مرتين . وأخرجه أحمد أيضا من حديثها ، وفي إسناده مجهول وهو شيخ عطاء ، وبقية رجاله ثقات ، وقد أخرجه الطبراني عنها من طريقين بنحوه .
وقد ذكر ابن كثير في تفسيره لحديث أم سلمة طرقا كثيرة في مسند أحمد وغيره ، وأخرج ابن مردويه والخطيب من حديث أبي سعيد الخدري نحوه ، وأخرج الترمذي وابن جرير والطبراني وابن مردويه عن عمر بن أبي سلمة ربيب النبي صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم وذكر نحو حديث أم سلمة .
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم عن عائشة قالت خرج النبي صلى الله عليه وسلم غداة وعليه مرط مرجل من شعر اسود فجاء الحسن والحسين فأدخلهما معه ، ثم جاءت فاطمة فأدخلها معه ، ثم جاء علي فأدخله معه ، ثم قال : إنما يريد الله الآية .
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن واثلة بن الأسقع قال : جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فاطمة ومعه علي وحسن وحسين حتى دخل فأدنى عليا وفاطمة وأجلسهما بين يديه ، وأجلسن حسنا وحسينا كل واحد منهما على فخذه ثم لف عليهم ثوبه وأنا مستدبرهم ، ثم تلا هذه الآية وقال : اللهم هؤلاء أهل بيتي اللهم اذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا قلت : يا رسول الله وأنا من أهلك ؟ قال : وأنت من أهلي ، قال واثلة : إنه لأرجى ما أرجوه . وله طرق في مسند أحمد .
وأخرج ابن أبي شيبه وأحمد والترمذي وحسنه ، وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمر بباب فاطمة إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول : الصلاة يا أهل البيت الصلاة ، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس ، ويطهركم تطهيرا .
وأخرج مسلم عن زيد بن أرقم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أذكركم الله في أهل بيتي فقيل لزيد : ومن أهل بيته ؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟ قال : نساؤه من أهل بيته ، ولكن أهل بيته من حرم عليهم الصدقة بعده ، آل علي ، وآل عقيل ، وآل جعفر ، وآل عباس .
وأخرج الحكيم الترمذي والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله قسم الخلق قسمين فجعلني في خيرهما قسما ، فذلك قوله : وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال ، فأنا من أصحاب اليمين ؛ وأنا خير أصحاب اليمين ، ثم جعل القسمين أثلاثا فجعلني في خيرها ثلثا فذلك قوله { وأصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة والسابقون السابقون } فأنا من السابقين وأنا خير السابقين ثم جعل الأثلاث قبائل فجعلني في خيرها قبيلة وذلك قوله { وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم } ، وأنا أتقى ولد آدم وأكرمهم على الله ولا فخر ، ثم جعل القبائل بيوتا فجعلني في خيرها بيتا فذلك قوله : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا } فأنا وأهل بيتي مطهرون من الذنوب .
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن أبي الحمراء قال : رابطت المدينة سبعة أشهر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طلع الفجر جاء إلى باب علي وفاطمة فقال : الصلاة الصلاة إنما يريد الله الآية وفي إسناده أبو داود الأعمى وهو وضاع كذاب ، وفي الباب أحاديث وآثار ، وقد ذكرنا ههنا ما يصلح للتمسك دون ما لا يصلح ، وقد توسطت طائفة ثالثة بين الطائفتين فجعلت هذه الآية شاملة للزوجات ولعلي وفاطمة والحسن والحسين ، أما الزوجات فلكونهن المرادات في سياق هذه الآيات كما قدمنا ، ولكونهن الساكنات في بيوته صلى الله عليه وسلم النازلات في منازله ، ويعضد ذلك ما تقدم عن ابن عباس وغيره ، وأما دخول علي وفاطمة والحسن والحسين فلكونهم قرابته وأهل بيته في النسب ، ويؤيد ذلك ما ذكرناه من الأحاديث المصرحة بأنهم سبب النزول ، فمن جعل الآية خاصة بأحد الفريقين اعمل بعض ما يجب إعماله وأهمل ما لا يجوز إهماله ، وقد رجح هذا القول جماعة من المحققين منهم القرطبي وابن كثير وغيرهما .
وقال جماعة : هم بنو هاشم واستدلوا بما تقدم من حديث ابن عباس ، وبقول زيد بن أرقم المتقدم حيث قال : ولكن آله من حرم الصدقة بعده : آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس ، فهؤلاء ذهبوا إلى أن المراد بالبيت بيت النسب .