محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَقَرۡنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ ٱلۡأُولَىٰۖ وَأَقِمۡنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرٗا} (33)

{ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } أي اسكن ولا تخرجن منها من ( وقر يقر وقرا ) إذا سكن . أو من ( قر يقر من باب ضرب ) حذفت الأولى من راأي ( اقررن ) ونقلت كسرتها إلى القاف ، فاستغنى عن همزة الوصل . ويؤيده قراءة نافع وعاصم بالفتح . من ( قررت أقر ) من باب علم . وهي لغة قليلة { وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } أي تبرج النساء أيام جاهلية الكفر الأولى ، إذ لا دين يمنعهم ولا أدب يزعهم . والتبرج ، فسر بالتبختر والتكسر في المشي . وبإظهار الزينة ، وما يستدعي به شهوة الرجل . وبلبس رقيق الثياب التي لا تواري جسدها . وبإبداء محاسن الجيد والقلائد والقرط . وكل ذلك مما يشمله النهي ، لما فيه من المفسدة والتعرض لكبيرة .

فائدة – قيل ( الأولى ) بمعنى القديمة مطلقا من غير تقييد بزمن . فيستدل بذلك لمن قال : إن الأول لا يستلزم ثانيا .

قال في ( الإكليل ) : وهو الأصح عند العلماء . فلو قال : أول ولد تلدينه فأنت طالق ، لم يحتج إلى أن تلد ثانيا . انتهى .

وقال الزمخشري : الأولى هي القديمة التي قال لها الجاهلية الجهلاء ، من الزمن الذي ولد فيه إبراهيم ، أو ما قبله ، إلى زمن عيسى . والجاهلية الأخرى ما بين عيسى ومحمد صلوات الله عليهما ، ويجوز أن تكون الجاهلية الأولى جاهلية الكفر قبل الإسلام ، والجاهلية الأخر جاهلية الفسوق والفجور في الإسلام . ويعضده ما روي {[6147]} أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر ، لما عير رجلا بأمه وكانت أعجمية : ( إنك امرؤ فيك جاهلية ) . والمعنى نهيهن عن إحداث جاهلية في الإسلام ، تشبه جاهلية الكفر قبله { وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي بموافقة أمرهما ونهيهما . ثم أشار إلى أن مخالفتهما رجس لا يناسب فضل أهل البيت بقوله { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } أي ما أمركن ونهاكن ، ووعظكن ، إلا خيفة مقارفة المآثم والحرص على التصون عنها بالتقوى . فالجملة تعليلية لأمرهن ونهيهن على سبيل الاستئناف .

قال الزمخشري : استعار للذنوب ( الرجس ) وللتقوى ( الطهر ) . لأن عرض المقترف للمقبحات يتلوث بها ويتدنس كما يتلوث بدنه بالأرجاس . وأما المحسنات فالعرض معها نقي مصون كالثوب الطاهر . وفي هذه الاستعارة ما ينفر أولي الألباب عما كرهه الله لعباده ونهاهم عنه . ويرغبهم فيما رضيه لهم وأمرهم به . و { أَهْلَ الْبَيْتِ } نصب على النداء أو على المدح . والمراد بهم من حواهم بيت النبي صلى الله عليه وسلم .

قال ابن كثير : وهذا نص في دخول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في أهل البيت ها هنا ، لأنهن سبب نزول هذه الآية ، وسبب النزول داخل فيه قولا واحدا . إما وحده على قول ، أو مع غيره على الصحيح . وأما قول عكرمة ، إنها نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، ومن شاء باهتله في ذلك ، فإن كان المراد أنهن كن سبب النزول دون غيرهن ، فصحيح . وإن أريد أنهن المراد فقط دون غيرهن ، ففي هذا نظر ، فإنه قد وردت أحاديث تدل على أن المراد أعم من ذلك . و ( أنه صلى الله عليه وسلم {[6148]} جمع عليا وفاطمة والحسن والحسين ، ثم جللهم بكساء كان عليه . ثم قال : هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس ) . وقد ساق ابن كثير طرق هذا الحديث ومخرجيه . إلا أن الشيخين لم يصححاه ، ولذا لم يخرجاه . وأما ما رواه مسلم {[6149]} عن حصين بن سبرة ، عن زيد بن أرقم ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أما بعد ، أيها الناس ! إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب . وأنا تارك فيكم ثقلين : أولهما كتاب الله ، فيه الهدى والنور . فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به ، فحث على كتاب الله عز وجل ورغب فيه . ثم قال : وأهل بيتي . أذكركم الله في أهل بيتي . قالها ثلاثا . فقال : له حصين : ومن أهل بيته يا زيد ؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟ قال : نساؤه من أهل بيته . ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده . قال : ومن هم ؟ قال : آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس رضي الله عنهم ) - فإنما مراد زيد ، آله الذين حرموا الصدقة . أو أنه ليس المراد بالأهل الأزواج فقط ، بل هم مع آله .

قال ابن كثير : وهذا الاحتمال أرجح ، جمعا بين القرآن والأحاديث المتقدمة ، إن صحت . فإن في بعض أسانيدها نظرا . انتهى .

وقال أبو السعود : وهذه كما ترى آية بينة ، وحجة نيرة على كون نساء النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بيته ، قاضية ببطلان رأي الشيعة في تخصيصهم أهلية البيت بفاطمة وعلي وابنيهما رضوان الله عليهم . وأما ما تمسكوا به من حديث الكساء وتلاوته صلى الله عليه وسلم الآية بعده . فإنما يدل على كونهم من أهل البيت ، لا على أن من عداهم ليسوا كذلك . ولو فرضت دلالته على ذلك لما اعتد بها ، لكونها في مقابلة النص . انتهى .

بقي أن الشيعة ، تمسكوا بالآية أيضا على عصمة علي رضي الله عنه ، وإمامته دون غيره .

قال ابن المطهر الحلي منهم : وفي هذه الآية دلالة على العصمة مع التأكيد بلفظ { إنما } وإدخال اللام في الخبر ، والاختصاص في الخطاب بقوله : { وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } وغيرهم ليس بمعصوم الخ . وأجاب ابن تيمية رحمه الله في ( منهاج السنة ) بقوله : ليس في هذا دلالة على عصمتهم ولا إمامتهم . وتحقيق ذلك في مقامين : أحدهما – أن قوله {[6150]} : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } كقوله {[6151]} : { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج } وكقوله {[6152]} : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } وكقوله {[6153]} : { يريد اله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم * والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما } فإن إرادة الله في هذه الآيات متضمنة لمحبة الله لذلك المراد ورضاه به ، وأنه شرعه للمؤمنين وأمرهم به . ليس في ذلك أنه خلق هذا المراد ، و لا أنه قضاه وقدره ، ولا انه يكون لا محالة . والدليل على ذلك ، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية قال ( اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ) فطلب من الله لهم إذهاب الرجس والتطهير . فلو كانت الآية تتضمن إخبار الله بأنه قد أذهب عنهم الرجس وطهرهم ، لم يحتج إلى الطلب والدعاء .

وهذا على قول القدرية أظهر . فإن إرادة الله عندهم لا تتضمن وجود المراد ، بل قد يريد ما لا يكون ويكون ما لا يريد . فليس في كونه تعالى مريدا لذلك ، ما يدل على وقوعه .

وهذا الرافضي وأمثاله قدرية ، فكيف يحتجون بقوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ } على وقوع المراد ؟ وعندهم أن الله قد أراد إيمان من على وجه الأرض . فلم يقع مراده . وأما على قول أهل الإثبات ، فالتحقيق في ذلك أن الإرادة في كتاب الله نوعان : إرادة شرعية دينية تتضمن محبته ورضاه . وإرادة كونية قدرية تتضمن خلقه وتقديره . الأولى مثل هؤلاء الآيات . والثانية مثل قوله تعالى {[6154]} : { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره لإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء } وقول نوح {[6155]} : { ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم } وكثير من المثبتة والقدرية يجعل الإرادة نوعا واحدا ، كما يجعلون الإرادة والمحبة شيئا واحدا . ثم القدرية ينفون إرادته لما بين أنه مراد في الآيات التشريع . فإنه عندهم كل ما قيل إنه مراد . فلا يلزم أن يكون كائنا ، والله قد أخبر أنه يريد أن يتوب على المؤمنين وأن يطهرهم . وفيهم من تاب وفيهم من لم يتب . وفيهم من تطهر وفيهم من لم يتطهر . وإذا كانت الآية دالة على وقوع ما أراده من التطهير وإذهاب الرجس ، لم يلزم بمجرد الآية ثبوت ما ادعاه . ومما يبين ذلك ، أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مذكورات في الآية . والكلام في الأمر بالتطهير بإيجابه ووعد الثواب على فعله والعقاب على تركه . قال تعالى {[6156]} : { يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا } إلى قوله {[6157]} : { وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } فالخطاب كله لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ومعهن الأمر والنهي والوعد والوعيد . لكن لما تبين ما في هذا من المنفعة التي تعمهن وتعم غيرهن من أهل البيت ، جاء التطهير بهذا الخطاب وغيره ليس مختصا بأزواجه . بل هو متناول لأهل البيت كلهم . وعلي وفاطمة والحسن والحسين أخص من غيرهم بذلك . ولذلك خصهم النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء لهم . وهذا كما أن قوله {[6158]} : { لمسجد أسس على التقوى من أول يوم } نزلت بسبب ( مسجد قباء ) لكن الحكم يتناوله ويتناول ما هو أحق منه بذلك ، وهو ( مسجد المدينة ) وهذا يوجه ما ثبت في ( الصحيح ) {[6159]} عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( أنه سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال : هو مسجدي هذا ) . وثبت عنه في ( الصحيح ) {[6160]} : ( أنه كان يأتي قباء كل سبت ماشيا وراكبا ) . فكان يقوم في مسجده يوم الجمعة ويأتي قباء يوم السبت ، وكلاهما مؤسس على التقوى . وهكذا أزواجه . وعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم أخص بذلك من أزواجه . ولهذا خصهم بالدعاء . وقد تنازع الناس في آل محمد من هم ؟ فقيل : أمته . وهذا قول طائفة من أصحاب محمد ومالك وغيرهم . وقيل : المتقون من أمته . ورووا حديثا ( آل محمد كل مؤمن تقي ) رواه الخلال ، تمام في ( الفوائد ) له . وقد احتج به طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم وهو حديث موضوع وبنى ذلك طائفة من الصوفية . أن آل محمد هم خواص الأولياء . كما ذكر الحكيم الترمذي . والصحيح أن آل محمد هم أهل بيته . وهذا هو المنقول عن الشافعي وأحمد . وهو اختيار الشريف أبي جعفر وغيرهم . ولكن هل أزواجه من أهل البيت ؟ على قولين هما روايتان عن أحمد . أحدهما – أنهن لسن من أهل البيت . ويروى هذا عن زيد بن أرقم . والثاني – وهو الصحيح أن أزواجه من آله . فإنه قد ثبت في ( الصحيحين ) {[6161]} : عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه علمهم الصلاة عليه : ( اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته ) . ولأن امرأة إبراهيم من آله وأهل بيته . وامرأة لوط من آله وأهل بيته ، بدلالة القرآن . فكيف لا يكون أزواج محمد من آله وأهل بيته ؟ ولأن هذه الآية تدل على أنهن من أهل بيته ، وإلا لم يكن لذكر ذلك في الكلام معنى . وأما الأتقياء من أمته فهم أولياؤه . كما ثبت في ( الصحيح ) {[6162]} أنه قال : ( إن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء ، وإنما وليي الله وصالح المؤمنين ) . فبين أن أولياءه صالح المؤمنين . وكذلك في حديث آخر : ( إن أوليائي المتقون حيث كانوا وأين كانوا ) . وقد قال تعالى {[6163]} : { وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين } وفي ( الصحاح ) {[6164]} عنه أنه قال : ( وددت أني رأيت إخواني . قالوا : أولسنا إخوانك ؟ قال : بل أنتم أصحابي ، وإخواني قوم يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني ) . وإن كان كذلك فأولياؤه المتقون ، بينه وبينهم قرابة الدين والإيمان والتقوى . وهذه القرابة الدينية أعظم من القرابة الطبيعية . والقرب بين القلوب والأرواح أعظم من القرب بين الأبدان . ولهذا كان أفضل الخلق أولياؤه المتقون . وأما أقاربه ففيهم المؤمن والكافر والبر والفاجر . فإن كان فاضل منهم ، كعلي رضي الله عنه وجعفر والحسن والحسين ، ففضلهم بما فيهم من الإيمان والتقوى . وهم أولياؤه بهذا الاعتبار لا بمجرد النسب . فأولياؤه أعظم درجة من آله . وإن صلى على آله تبعا ، لم يقتض ذلك أن يكونوا أفضل من أوليائه . الذين لم يصل عليهم . فإن الأنبياء والمرسلين هم من أوليائه . وهم أفضل من أهل بيته . وإن لم يدخلوا في الصلاة معه تبعا ، فالمفضول قد يختص بأمر ولا يلزم أن يكون أفضل من الفاضل . ودليل ذلك أن أزواجه هم ممن يصلى عليه كما ثبت في ( الصحيحين ) . وقد ثبت باتفاق الناس كلهم أن الأنبياء أفضل منهن كلهن . فإن قيل : فهب أن القرآن لا يدل على وقوع ما أريد من التطهير وإذهاب الرجس ، لكن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بذلك يدل على وقوعه . فإن دعاءه مستجاب . قيل : المقصود أن القرآن لا يدل على ما ادعاه بثبوت الطهارة وإذهاب الرجس فضلا عن أن يدل على العصمة والإمامة ، وأما الاستدلال بالحديث فذاك مقام آخر . ثم نقول في المقام الثاني : هب أن القرآن دل على طهارتهم وعلى ذهاب رجسهم ، كما أن الدعاء المستجاب لا بد أن يستحق معه طهارة المدعو لهم وإذهاب الرجس عنهم . ولكن ليس في ذلك ما يدل على العصمة من الخطأ . والدليل عليه أن الله لم يرد بما أمر به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يصدر من واحدة منهن خطأ . فإن الخطأ مغفور لهن ولغيرهن . وسياق الآية يقتضي أنه يريد ليذهب عنهم الرجس الذي هو الخبث . كالفواحش ويطهرهم تطهيرا من الفواحش وغيرها من الذنوب ، والتطهير من الذنب على وجهين ، كما في قوله {[6165]} : { وثيابك فطهر } وقوله {[6166]} : { إنهم أناس يتطهرون } فإنه قال فيها {[6167]} : { من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين } والتطهير من الذنب إما بأن لا يفعله العبد ، وإما بأن يتوب منه كما في قوله {[6168]} : { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها } ما أمر الله به من الطهارة ابتداء وإرادة . فإنه يتضمن نهيه عن الفاحشة ، لا يتضمن الإذن فيها بحال . لكن هو سبحانه ينهى عنها ، ويأمر من فعلها بأن يتوب منها . وفي ( الصحيح ) {[6169]} عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول ! ( اللهم باعد بيني وبين خطاياي ، كما باعدت بين المشرق والمغرب . واغسلني بالثلج والبرد والماء البارد . اللهم ! نقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ) . وبالجملة ، لفظ ( الرجس ) أصله القذر . ويراد به الشرك . كقوله {[6170]} : { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } ويراد به الخبائث المحرمة ، كالمطعومات والمشروبات كقوله {[6171]} : { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا } وقوله {[6172]} : { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان } وإذهاب ذلك إذهاب لكله . ونحن نعلم أن الله أذهب عن أولئك السادة الشرك والخبائث . ولفظ ( الرجس ) عام يقتضي أن الله يذهب جميع الرجس . فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بذلك . وأما قوله ( ويطهرهم تطهيرا ) فهو سؤال مطلق بما يسمى طهارة . وبعض الناس يزعم أن هذا مطلق فيكتفي فيه بفرد من أفراد الطهارة . ويقول مثل ذلك في قوله {[6173]} : { فاعتبروا يا أولي الأبصار } ونحو ذلك . والتحقيق أنه أمر بمسمى الاعتبار الذي يقال عند الإطلاق . . كما إذا قيل : أكرم هذا ، أي افعل معه ما يسمى عند الإطلاق إكراما . وكذلك ما يسمى عند الإطلاق اعتبارا . والإنسان لا يسمى معتبرا إذا اعتبر في قصة ، وترك ذلك في نظيرها . وكذلك لا يقال ( هو طاهر ) أو ( متطهر ) أو ( مطهر ) إذا كان متطهرا من شيء ، متنجسا بنظيره ولفظ ( الطاهر ) كلفظ ( الطيب ) قال تعالى {[6174]} : { والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات } كما قال {[6175]} : { الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات } وقد روي أنه قال لعمار : ( ائذنوا له . مرحبا بالطيب المطيب ) . وهذا أيضا كلفظ ( المتقي ) و ( المزكي ) قال تعالى {[6176]} : { قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها } وقال {[6177]} : { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها } وقال {[6178]} : { قد أفلح من تزكى } وقال {[6179]} : { ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء } وليس من شرط المتقين ونحوهم أن لا يقع منهم ذنب ، ولا أن يكونوا معصومين من الخطأ والذنوب . فإن هذا ، لو كان كذلك ، لم يكن في الأمة متق ، بل من تاب من ذنوبه دخل في المتقين . كما قال {[6180]} : { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما } فدعاء النبي صلى الله عليه وسلم بأن يطهرهم تطهير ، كدعائه بأن يزكيهم ويطيبهم ويجعلهم متقين ، ونحو ذلك ومعلوم أن من استقر أمره على ذلك فهو داخل في هذا . لا تكون الطهارة التي دعا بها لهم بأعظم مما دعا به لنفسه . وقد قال {[6181]} : ( اللهم ! طهرني من خطاياي بالثلج والبرد والماء البارد ) . فمن وقع ذنبه مغفورا أو مكفرا ، فقد طهره منه تطهيرا . ولكن من مات متوسخا بذنوبه ، فإنه لم يطهر منها في حياته . وقد يكون من تمام تطهيرهم صيانتهم عن الصدقة التي هي أوساخ الناس . والنبي صلى الله عليه وسلم ، إذا دعا بدعاء ، أجابه الله بحسب استعداد المحل فإذا استغفر للمؤمنين والمؤمنات ، لم يلزم أن لا يوجد مؤمن مذنب ، فإن هذا ، لو كان واقعا ، لما عذب مؤمن ، لا في الدنيا ولا في الآخرة . بل يغفر الله لهذا بالتوبة ، ولهذا بالحسنات الماحية . ويغفر الله لهذا ذنوبا كثيرة ، وإن واحدة بأخرى ، وبالجملة ، فالتطهير الذي أراده الله والذي دعا به النبي صلى الله عليه وسلم . ليس هو العصمة بالاتفاق ؛فإن أهل السنة عندهم لا معصوم إلا النبي صلى الله عليه وسلم ، والشيعة يقولون : لا معصوم غير النبي صلى الله عليه وسلم والإمام . فقد وقع الاتفاق على انتفاء العصمة المختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم والإمام و عن أزواجه وبناته وغيرهن من النساء ، وإذا كان كذلك امتنع أن يكون التطهير المدعو به للأربعة ، متضمنا للعصمة ، التي يختص بها النبي صلى الله عليه وسلم ، والإمام عندهم . فلا يكون دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بهذا ، العصمة لا لعلي ولا لغيره . فإنه دعا لأربعة مشتركين ، لم يختص بعضهم بدعوة ، وأيضا فالدعاء بالعصمة من الذنوب ممتنع على أصل القدرية . بل وبالتطهير أيضا . فإن الأفعال الاختيارية التي هي فعل الواجبات وترك المحرمات عندهم غير مقدورة للرب . ولا يمكنه أن يجعل العبد مطيعا ولا عاصيا . ولا متطهرا من الذنوب ولا غير متطهر . فامتنع على أصلهم أن يدعو لأحد بأن يجعله فاعلا للواجبات تاركا للمحرمات . وإنما المقدور عندهم قدرة تصلح للخير والشر . كالسيف الذي يصلح لقتل المسلم والكافر . والمال الذي يمكن إنفاقه في الطاعة والمعصية ، ثم العبد يفعل باختياره ، إما الخير وإما الشر بتلك القدرة . وهذا الأصل يبطل حجتهم ، والحديث حجة عليهم في إبطال هذا الأصل ، حيث دعا النبي صلى الله عليه وسلم بالتطهير . فإن قالوا : المراد بذلك أنه يغفر لهم ولا يؤاخذهم ، كان ذلك أدل على البطلان من دلالته على العصمة . فتبين أن الحديث لا حجة لهم فيه بحال على ثبوت العصمة . والعصمة مطلقا التي هي فعل المأمور وترك المحظور ، ليست مقدورة عندهم لله ، ولا يمكنه أن يجعل أحدا فاعلا لطاعة ولا تاركا لمعصية . لا لنبي ولا لغيره . ويمتنع عندهم أن من يعلم أنه إذا عاش يطيعه باختيار نفسه ، لا بإعانة الله وهدايته . وهذا مما يبين تناقض قولهم في مسائل العصمة . كما تقدم . ولو قدر ثبوت العصمة ، فقد قدمنا انه لا يشترط في الإمام العصمة ، والإجماع على انتفاء العصمة في غيرهم . وحينئذ تبطل حجتهم بكل طريق . انتهى .


[6147]:أخرجه البخاري في: 2 – كتاب الأيمان، 22 – باب المعاصي من أمر الجاهلية، حديث رقم 28.
[6148]:أخرجه الترمذي في: 46 كتاب المناقب، 60 – باب فضل فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
[6149]:أخرجه في: 44 – كتاب فضائل الصحابة، حديث رقم 36 (طبعتنا).
[6150]:(33 / الأحزاب / 33).
[6151]:(5 / المائدة / 6).
[6152]:(2 / البقرة / 185).
[6153]:(4 / النساء / 26 و 27).
[6154]:(6 / الأنعام / 125).
[6155]:(11 / هود / 34).
[6156]:(33 / الأحزاب / 30).
[6157]:(33 / الأحزاب / 33).
[6158]:(9 / التوبة / 108).
[6159]:أخرجه مسلم في: 15 – كتاب الحج، حديث رقم 415 (طبعتنا).
[6160]:أخرجه البخاري في: 20 – كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة، والمدينة، 3 باب – من أتى مسجد قباء كل سبت، حديث 647 عن ابن عمر. وأخرجه مسلم في: 15 – كتاب الحج، حديث رقم 515 (طبعتنا).
[6161]:أخرجه البخاري في: 60 – كتاب الأنبياء، 10 – باب حدثنا موسى بن إسماعيل حديث 1590، عن أبي حميد الساعدي. ومسلم في: 4 – كتاب الصلاة، حديث رقم 69 (طبعتنا).
[6162]:أخرجه البخاري في: 78 – كتاب الأدب، 14 – باب يبل الرحم ببلالها، حديث 2315، عن عمرو بن العاص. وأخرجه مسلم لافي (- كتاب الإيمان، حديث رقم 366.
[6163]:(66 / التحريم / 4).
[6164]:أخرجه مسلم في: 2 – كتاب الطهارة، حديث رقم 39 (طبعتنا).
[6165]:(74 / المدثر / 4).
[6166]:(7 / الأعراف 82) و (27 / النمل / 56).
[6167]:(33 / الأحزاب / 30).
[6168]:(9 / التوبة / 103).
[6169]:أخرجه البخاري في: 10 – كتاب الأذان، 89 – باب ما يقول بعد التكبير، حديث 454، عن أبي هريرة. وأخرجه مسلم في: 5 - كتاب المساجد ومواضع الصلاة، حديث رقم 147 (طبعتنا).
[6170]:(22 / الحج / 30).
[6171]:(6 / الأنعام / 145).
[6172]:(5 / المائدة / 90).
[6173]:(59 / الحشر / 2).
[6174]:(24 / النور / 26).
[6175]:(24 / النور / 26).
[6176]:(91 / الشمس / 9، 10).
[6177]:(9 / التوبة / 103).
[6178]:(87 / الأعلى / 14).
[6179]:(24 / النور / 21).
[6180]:(4 / النساء / 31).
[6181]:أخرجه مسلم في: 4 – كتاب البصلاة، حديث 204 عن عبد الله بن أبي أوفى.