{ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } قرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وعاصم بفتح القاف . غيرهم بالكسر ، فَمَن فتح القاف فمعناه واقررن ، أي الْزَمن بيوتكنّ ، من قولك قررتُ في المكان ، أقرّ قراراً . وقررتُ أقرُّ لغتان فحذفت الراء الأُولى التي هي عين الفعل ، ونقلت حركتها إلى القاف ، فانفتحت كقولهم في ظللت وظلْت .
{ فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ } [ الواقعة : 65 ]
{ ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً } [ طه : 97 ] والأصل ظللت فحذفت إحدى اللاّمين ، ودليل هذا التأويل قراءة ابن أبي عبلة واقررن بفتح الراء على الأصل في لغة من يقول : قررت أقرّ قراراً .
وقال أبو عبيدة : وكان أشياخنا من أهل العربية ينكرون هذه القراءة وهي جائزة عندنا مثل قوله :
{ فَظَلْتُمْ } [ الواقعة : 65 ] ومن كسر القاف فهو أمر من الوقار ، كقولك من الوعد : عِدن ومن الوصل صِلن ، أي كنَّ أهل وقار ، أي هدوء ، وسكون ، وتؤدة ، من قولهم : وقر فلان يقر وقوراً ، إذا سكن واطمأن .
أخبرني أبو عبد الله بن فنجويه الدينوري . قال : أخبرني أبو بكر بن مالك ، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : حدّثني أبي ، عن عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان ، عن الأعمش عن أبي الضحى قال : حدّثني من سمع عائشة تقرأ { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } فتبكي حتّى تبلّ خمارها .
أخبرنا عبد الله بن حامد عن محمد بن خالد ، عن داود بن سليمان ، عن عبد الله بن حميد ، عن يزيد بن هارون ، عن هشام ، عن محمد قال : نُبئت أنَّه قيل لسودة زوج النبي ( عليه السلام ) : مالكِ لا تحجّين ولا تعتمرين كما يفعلنَّ أخواتك ؟ فقالت : قد حججت واعتمرت ، وأمرني الله تعالى أنْ أقرَّ في بيتي ، فوالله لا أخرج من بيتي حتّى أموت .
قال : فوالله ما خرجت من باب حجرتها حتى أُخرجت جنازتها . قوله : { وَلاَ تَبَرَّجْنَ }
قال مجاهد وقتادة : التبرّج التبختر التكبّر والتغنّج ، وقيل : هو إظهار الزينة وإبراز المحاسن للرجال { تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى } واختلفوا فيها . قال الشعبي : هي ما بين عيسى ومحمّد ( عليهما السلام ) . أبو العالية : هي زمن داود وسليمان ، وكانت المرأة تلبس قميصاً من الدرّ غير مخيط الجانبين فيرى خلفها فيه .
الكلبي : الجاهلية التي هي الزمان الذي فيه ولد إبراهيم ( عليه السلام ) ، وكانت المرأة من أهل ذلك الزمان تتّخذ الدّرع من اللؤلؤ ، فتلبسه ، ثمّ تمشي وسط الطريق ليس عليها شيء غيره ، وتعرض نفسها على الرجال ، وكان ذلك في زمان نمرود الجبّار ، والناس حينئذ كلّهم كفّار . الحكم : هي ما بين آدم ونوح ثمانمائة سنة ، وكان نساؤهم أقبح ما يكون من النساء ورجالهم حسان . فكانت المرأة تريد الرجل على نفسها .
وروى عكرمة عن ابن عبّاس أنّه قرأ هذه الآية فقال : إنّ الجاهلية الأُولى فيما بين نوح وإدريس ( عليهما السلام ) ، وكانت ألف سنة ، وإنّ بطنين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل والآخر يسكن الجبل ، وكان رجال الجبل صِباحاً وفي النساء دمامة ، وكان نساء السهل صِباحاً وفي الرجال دمامة ، وإنّ إبليس أتى رجلاً من أهل السهل في صورة غلام ، فآجَرَ نفسه منه ، فكان يخدمه ، واتّخذ إبليس شيئاً مثل الذي يزمر فيه الرّعاء ، فجاء بصوت لم يسمع الناس مثله فبلغ ذلك مَن حولهم ، فانتابوه يستمعون إليه ، واتّخذوا عيداً يجتمعون إليه في السنة ، فتتبرّج النساء للرجال وتتزيّن الرجال لهنّ ، وإنّ رجلاً من أهل الجبل هجم عليهم ، وهم في عيدهم ذلك ، فرأى النساء وصباحتهن ، فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك ، فتحوّلوا إليهم ، فنزلوا معهم ، فظهرت الفاحشة فيهنّ .
فهو قول الله عزّ وجلّ : { وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّة } .
وقال قتادة : هي ما قبل الإسلام { وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ } الإثم الذي نهى الله النساء عنه . قاله مقاتل . وقال قتادة : يعني السوء . وقال ابن زيد : يعني الشيطان .
{ أَهْلَ الْبَيْتِ } يعني يا أهل بيت محمّد { وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } من نجاسات الجاهلية . وقال مجاهد ( الرِّجْسَ ) الشكّ ( وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيراً ) من الشرك .
واختلفوا في المعنيّ بقوله سبحانه { أَهْلَ الْبَيْتِ } فقال قوم : عني به أزواج النبي ( عليه السلام ) خاصّة ، وإنّما ذَكّرَ الخطاب ؛ لأنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان فيهم ، وإذا اجتمع المذكّر والمؤنّث غُلبَ المذكّر .
أخبرنا عبد الله بن حامد ، عن محمّد بن جعفر ، عن الحسن بن علي بن عفّان قال : أخبرني أبو يحيى ، عن صالح بن موسى عن خصيف ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عبّاس قال : أُنزلت هذه الآية : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ } الآية في نساء النبيّ صلّى الله عليه . قال : وتلا عبدالله : { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ } [ الأحزاب : 34 ] .
وأخبرنا عبد الله بن حامد ، عن أحمد بن محمد بن يحيى العبيدي ، عن أحمد بن نجدة ، عن الحماني عن ، ابن المبارك ، عن الأصبغ بن علقمة . وأنبأني عقيل بن محمد قال : أخبرني المعافى بن زكريا ، عن محمّد بن جرير قال : أخبرني [ ابن ] حميد عن يحيى بن واضح عن الأصبغ بن علقمة ، عن عكرمة في قول الله تعالى : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ } قال : ليس الذي تذهبون إليه ، إنّما هو في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصّة .
قال : وكان عكرمة ينادي بهذا في السوق . وإلى هذا ذهب مقاتل قال : يعني نساء النبي صلّى الله عليه كلّهن ليس معهنّ رجل
وقال آخرون : عنى به رسول الله صلّى الله عليه وسلم علياً وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم .
وأخبرني عقيل بن محمّد الجرجاني عن المعافى بن زكريا البغدادي ، عن محمّد بن جرير ، حدّثني بن المثنى عن بكر بن يحيى بن زبان العنزي ، عن مندل ، عن الأعمش ، عن عطية ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نزلت هذه الآية فيَّ وفي علي وحسن وحسين وفاطمة { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } " .
وأخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه قال : أخبرني أبو بكر بن مالك القطيعي ، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل ، عن أبيه ، عن أبي عبد الله بن نمير ، عن عبد الملك يعني ابن أبي سليمان ، عن عطاء بن أبي رباح ، حدّثني من سمع أُمّ سلمة تذكر أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان في بيتها فأتته فاطمة ببرمة فيها حريرة فدخلت بها عليه ، فقال لها : ادعي زوجكِ وابنَيْكِ ، قالت : فجاء علي وحسن وحسين فدخلوا عليه ، فجلسوا يأكلون من تلك الحريرة ، وهو على منامة له على دكان تحته كساء خيبري ، قالت : وأنا في الحجرة أُصلّي فأنزل الله تعالى هذه الآية : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } .
قالت : فأخذ فضل الكساء فغشّاهم به ثمّ أخرج يده فألوى بها إلى السماء ثمّ قال : اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي وحامتي فأذهبْ عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً . قالت : فأدخلت رأسي البيت فقلت : وأنا معكم يا رسول الله ؟ قال : إنّك إلى خير ، إنَّكِ إلى خير .
وأخبرني الحسين بن محمد بن عبد الله الثقفي ، عن عمر بن الخطّاب ، عن عبد الله بن الفضل ، عن الحسن بن علي ، عن يزيد بن هارون ، عن العوّام بن حوشب ، " حدّثني ابن عمّ لي من بني الحرث بن تيم الله يقال له : ( مجمع ) ، قال : دخلت مع أُمّي على عائشة ، فسألَتها أُمّي ، فقالت : أرأيت خروجك يوم الجمل ؟ قالت : إنّه كان قدراً من الله سبحانه ، فسألتها عن علي ، فقالت : تسأليني عن أحبّ النّاس كان إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، وزوج أحبّ الناس كان إلى رسول الله ، لقد رأيت عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً جمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بثوب عليهم ثمّ قال : اللّهم هؤلاء أهل بيتي وحامّتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً .
قالت : فقلت : يا رسول الله أنا مِن أهلك ؟ قال : تنحّي فإنّكِ إلى خير " .
وأخبرني الحسين بن محمّد ، عن أبي حبيش المقرئ قال : أخبرني أبو القاسم المقرئ قال : أخبرني أبو زرعة ، حدّثني عبد الرحمن بن عبد الملك بن شيبة ، أخبرني ابن أبي فديك ، حدّثني ابن أبي مليكة ، عن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر الطيّار ، عن أبيه ، قال : لمّا نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرحمة هابطة من السماء قال : من يدعو ؟ مرّتين ، فقالت زينب : أنا يارسول الله ، فقال : أُدعي لي عليّاً وفاطمة والحسن والحسين . قال : فجعل حسناً عن يمناه وحسيناً عن يسراه وعليّاً وفاطمة وجاهه ثمّ غشاهم كساءً خيبريّاً . ثمّ قال : اللّهم لكلّ نبيّ أهل ، وهؤلاء أهلي ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } الآية .
فقالت زينب : يا رسول الله ألا أدخل معكم ؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه : " مكانكِ فإنّكِ إلى خير إن شاء الله " .
وأخبرني الحسين بن محمد عن عمر بن الخطّاب عن عبد الله بن الفضل قال : أخبرني أبو بكر بن أبي شيبة ، عن محمّد بن مصعب ، عن الأوزاعي ، عن عبد الله بن أبي عمّار قال : دخلت على واثلة بن الأسقع وعنده قوم فذكروا عليّاً فشتموه فشتمته ، فلمّا قاموا قال لي : أشتمت هذا الرجل ؟ قلت : قد رأيت القوم قد شتموه فشتمته معهم .
فقال : ألا أخبرك ما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلم ؟ قلت : بلى ، قال : أتيت فاطمة أسألها عن علي فقالت : توجّه إلى رسول الله صلّى الله عليه ، فجلست فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه علي والحسن والحسين كلّ واحد منهما آخذ بيده حتى دخل ، فأدنى علياً وفاطمة فأجلسهما بين يديه ، وأجلس حسناً وحسيناً كلّ واحد منهما على فخذه ، ثمّ لفَّ عليهم ثوبه أو قال كساءه ، ثمّ تلا هذه الآية : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } ثمّ قال : اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي وأهل بيتي أحقّ .
وقيل : هم بنو هاشم . أخبرني ابن فنجويه ، عن ابن حبيش المقرئ ، عن محمّد بن عمران . قال : حدّثنا أبو كريب قال : أخبرني وكيع ، عن أبيه ، عن سعيد بن مسروق ، عن يزيد بن حيان ، عن زيد بن أرقم . قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أُنشدكم الله في أهل بيتي مرّتين ، قلنا لزيد بن أرقم ومَنْ أهل بيته ؟ قال : الذين يحرمون الصدقة : آل علي ، وآل عبّاس ، وآل عقيل ، وآل جعفر .
وأخبرني أبو عبد الله ، قال : أخبرني أبو سعيد أحمد بن علي بن عمر بن حبيش الرازي ، عن أحمد بن عبد الرحمن الشبلي أبو عبد الرحمن . قال : أخبرني أبو كريب ، عن معاوية بن هشام ، عن يونس بن أبي إسحاق ، عن نفيع أبي داود ، عن أبي الحمراء . قال : أقمت بالمدينة تسعة أشهر كيوم واحد ، وكان رسول الله صلّى الله عليه يجيء كلّ غداة فيقوم على باب علي وفاطمة فيقول الصلاة { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } .
وأخبرني أبو عبدالله ، حدّثني عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك ، عن محمّد بن إبراهيم بن زياد الرازي ، عن الحرث بن عبد الله الخازن ، عن قيس بن الربيع ، عن الأعمش ، عن عباية بن الربعي ، عن ابن عبّاس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قسّم الله الخلق قسمين فجعلني في خيرهما قسماً ، فذلك قوله عزّ وجلّ : { وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ الْيَمِينِ } [ الواقعة : 27 ] فأنا خير أصحاب اليمين " .
ثمّ جعل القسمين أثلاثاً ، فجعلني في خيرها ثلثاً ، فذلك قوله :
{ فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ } [ الواقعة : 8 - 10 ] [ فأنا من السابقين وأنا من خير السابقين ] ثمّ جعل الأثلاث قبائل ، فجعلني في خيرها قبيلة فذلك قوله :
{ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ } [ الحجرات : 13 ] الآية ، وأنا أتقى ولد آدم ، وأكرمهم على الله ، ولا فخر .
ثمّ جعل القبائل بيوتاً فجعلني في خيرها بيتاً فذلك قوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } .