الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{وَقَرۡنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ ٱلۡأُولَىٰۖ وَأَقِمۡنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرٗا} (33)

ثم قال : { وقرن في بيوتكن } أي : اثبتن في بيوتكن .

هذا على مذهب من قرأ بكسر القاف {[55473]} ، يكون عند الفراء وأبي عبيد من الوقار {[55474]} ، يقال وقر يقر وقورا إذا ثبت في منزله .

وقيل : هو من قر في المكان إذا ثبت أيضا فيكون الأصل : واقررن فحذفت الراء الثانية استثقالا للتضعيف ، وألقيت حركة الأولى الباقية على القاف فاستغني عن ألف الوصل ، فصار وقرن كما تقول ظلت أفعل بكسر الظاء {[55475]} .

فأما قراءة من فتح القاف ، وهي قراءة نافع {[55476]} وعاصم {[55477]} {[55478]} فهي لغة لأهل الحجاز يقولون : قررت بالمكان أقر ، بمنزلة قررت به عينا أقر ، حكاه أبو عبيد في " المصنف " {[55479]} عن الكسائي {[55480]} . فيكون التقدير : واقررن [ في بيوتكن ] {[55481]} ، ثم أعل الاولى فيصير : وقرن {[55482]} .

ويجوز أن يكون من قرة العين هذا على الحذف ، والاعتلال أيضا ، وشاهده قوله : { ذلك أدنى أن تقر أعينهم } {[55483]} فيكون التقدير : واقررن عينا في بيوتكن .

وروى أن عمارا {[55484]} قال لعائشة رضي الله عنها : إن الله قد أمرك أن تقري في منزلك ، فقالت : يا أبا اليقظان ، ما زلت قوالا بالحق ، فقال : الحمد لله الذي جعلني كذلك على لسانك .

ثم قال تعالى : { ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى } أي : إذا خرجتن من بيوتكن .

قال قتادة : التبرج في هذا الموضع التبختر والتكسر ، وكانت للجاهلية الأولى مشية {[55485]} فيها تكسير وتغنج {[55486]} فنهاهن الله عن ذلك {[55487]} . وقيل التبرج إظهار الزينة للرجال {[55488]} . وحقيقتها إظهار ما ستر الله وهو مأخوذ من السعة {[55489]} . يقال في أسنانه برج إذا كانت متفرقة .

والجاهلية الأولى ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام {[55490]} .

وروي أن هذه الفاحشة كانت ظاهرة في هذا الوقت ، وكانت ثم بغايا {[55491]} يقصدن للفاحشة {[55492]} .

وقيل : ما بين نوح وآدم عليهما السلامكان بينهما ثمان مائة سنة ، وكان نساؤهم أقبح ما يكون ، ورجالهم أحسن ما يكون ، فكانت المرأة تريد الرجل على نفسه {[55493]} .

وقال ابن عباس هو ما بين إدريس ونوح عليهما السلام ، وكان ذلك ألف سنة ، وأن بطنين من ولد آدم أحدهما يسكن السهل والآخر يسكن الجبل ، وكان رجال الجبال صباحا {[55494]} والنساء قباحا ، وكان نساء السهل صباحا والرجال قباحا ، وأن إبليس أتى رجلا من أهل السهل في صورة غلام فأجر نفسه منه فكان يخدمه ، واتخذ إبليس شيئا من الذي يزمر فيه الرعاء {[55495]} فجاء فيه بصوت لم يسمع الناس مثله ، فبلغ ذلك من حولهم فانتابوهم يستمعون إليه ، واتخذوا عيدا يجتمعون له في السنة ، فتبرج الرجال حسنا ، وتبرج النساء للرجال وإن رجلا من أهل الجبل هجم عليهم ، وهم في عيدهم فرأ النساء وصباحتهن فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك فتحولوا إليهن ، فنزلوا معهن ، فظهرت الفاحشة فيهم فهو قوله جل ذكره : { ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى } {[55496]} .

وقوله : { الجاهلية الأولى } يدل على أن ثم جاهلية أخرى في الإسلام ، دل على ذلك/ قول النبي صلى الله عليه وسلم {[55497]} " ثلاث من عمل أهل الجاهلية لا يدعهن الناس : الطعن بالأنساب ، والاستمطار بالكواكب والنياحة " {[55498]} .

وقال ابن عباس لعمر لما سأله عن الآية ، فقال له : وهل كانت الجاهلية إلا واحدة ؟ {[55499]} فقال ابن عباس {[55500]} : وهل كانت أولى إلا ولها آخرة ؟ فقال له عمر : لله درك يا ابن عباس/ كيف قلت ؟ فأعاد ابن عباس الجواب {[55501]} . وقال النبي صلى الله عليه وسلم {[55502]} لأبي الدرداء وقد عير رجلا فوعاه يا ابن فلانة فقال له : " يا أبا الدرداء إن فيك جاهلية ، فقال أجاهلية كفر أو إسلام ؟ قال : بل جاهلية كفر " قال أبو الدرداء : " فتمنيت لو كنت ابتدأت إسلامي يومئذ " {[55503]} .

ثم قال [ تعالى ] {[55504]} : { وأقمن الصلاة } أي : المفروضة .

{ وآتين الزكاة } يعني الواجبة في الأموال .

{ وأطعن الله ورسوله } أي : فيما أمركن به ونهاكن عنه .

ثم قال ( تعالى ) {[55505]} : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت } أي : الشر والفحشاء يا أهل بيت محمد .

{ ويطهركم } أي من الدنس والمعاصي تطهيرا .

قال ابن زيد : الرجس هنا الشيطان {[55506]} .

وقيل : عني بأهل البيت هنا النبي صلى الله عليه وسلم {[55507]} وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام ، رواه الخدري {[55508]} . عن النبي صلى الله عليه وسلم {[55509]} أنه قال " نزلت الآية في خمس : في وفي علي وحسن وحسين وفاطمة " {[55510]} . وهو قول جماعة من الصحابة .

وقال عكرمة : عني بذلك أزواج النبي صلى الله عليه وسلم {[55511]} {[55512]} .

ويلزم عكرمة أن يقرأ عنكن .

وقيل عني بذلك : نساؤه وأهله .


[55473]:هي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي. انظر: السبعة لابن مجاهد 522. أما مكي في الكشف 2/348، فقد اكتفى بالإشارة إلى أن القراءة بكسر القاف هي قراءة الجماعة 2/348
[55474]:انظر: معاني الفراء 2/342، واللسان مادة "قرر" 5/85
[55475]:انظر: مشكل الإعراب لمكي 2/577
[55476]:هو أبو رويم نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم الليثي المدني، أحد القراء السبعة، انتهت إليه رئاسة الإقراء بالمدينة توفي سنة 169 هـ انظر: الحجة لأبي زرعة 51، وغاية النهاية 2/330، 3718، وتقريب التهذيب 2/295، 21
[55477]:هو عاصم بن بهدلة بن أبي النجود شيخ القراء بالكوفة، وأحد القراء السبعة أخذ القراءات عن السلمي والشيباني وغيرهما، وممن روى عنه حفص بن سليمان والأعمش توفي سنة 127 هـ انظر: الحجة لأبي زرعة 57، وغاية النهاية 1/346، 1495، وتقريب التهذيب 1/382، 2
[55478]:انظر: الكشف لمكي 2/197، والحجة لأبي زرعة 577.
[55479]:هذا الكتاب اسمه "الغريب المصنف" وبهذا الاسم ذكره الخطيب البغدادي في تاريخه 12/403 والقرطبي في الجامع 14/178، وحاجي خليفة في كشف الظنون 3/1209، وإسماعيل البغدادي في هدية العارفين 5/525، ورضا كحالة في معجم المؤلفين 8/102 والزركلي في الأعلام 5/176، وعن موضوع الكتاب يقول الخطيب البغدادي: "وقد سيق إلي جميع مصنفاته، فمن ذلك: "الغريب المصنف" وهو من أجل كتبه في اللغة فإنه احتذى فيه كتاب النضر بن شميل.
[55480]:انظر: الكشف 2/198، ومشكل الإعراب 2/577، والحجة لأبي زرعة 577، والبحر المحيط 7/230، والجامع للقرطبي 14/178
[55481]:مثبت في طرة أ
[55482]:انظر: مشكل الإعراب لمكي 2/577
[55483]:الأحزاب: آية 51
[55484]:هو عمار بن ياسر وقد تقدمت ترجمته: ص 5597
[55485]:هكذا في الأصل ولعل الصواب: (وكانت النساء في الجاهلية الأولى مشية)
[55486]:التغنج هو التدلل: جاء في اللسان مادة "غنج" 2/337، "الغنج في الجارية تكسر وتدلل"
[55487]:انظر: جامع البيان 22/4، وتفسير ابن كثير 3/483 والدر المنثور 6/602
[55488]:انظر: جامع البيان 22/4 واللسان مادة "برج" 2/212
[55489]:انظر: اللسان مادة "برج" 2/212
[55490]:انظر: جامع البيان 22/4 والجامع للقرطبي 14/180، والبحر المحيط 7/231
[55491]:البغايا جمع بغي، يقال بغت الأمة تبغي بغيا، وباغت مباغاة وبغاء بالكسر والمد، وهي بغو وبغي: عهرت وزنت، انظر: اللسان مادة "بغا" 14/77
[55492]:انظر: معاني الزجاج 4/224، والبحر المحيط 7/231
[55493]:انظر: جامع البيان 22/4، وفيه نسبة هذا القول إلى ابن عيينة عن أبيه، وانظر: أيضا الجامع للقرطبي 14/180، وتقييد أبي العباس البسيلي عن ابن عرفة 410
[55494]:جاء في اللسان مادة "صبح" 2/507، "رجل صبيح بالضم: جميل والجمع صباح".
[55495]:جاء في اللسان مادة "زمر" 4/ 237، "زمر يزمر زمرا وزميرا وزمرانا: غنى في القصب... ويقال للقصبة التي يزمر بها زمارة" والرعاء جمع الراعي وهو الذي يرعى الماشية أي يحوطها ويحفظها. انظر: مادة "رعى" 14/ 325ـ 326.
[55496]:انظر: جامع البيان 22/64، وقصص الأنبياء للثعلبي 54، وتفسير البغوي 5/258، وتفسير الخازن 5/258، وتفسير ابن كثير 3/484، والدر المنثور 6/601
[55497]:ج عليه السلام
[55498]:أخرجه البخاري ـ بمعناه ـ عن ابن عباس باب أيام الجاهلية 4/238، والطبراني في المعجم الكبير (2178) وأورده الطبري في جامع البيان 22/4.
[55499]:(وقال ابن عباس... إلا واحدة) تكررت مرتين في ج
[55500]:ساقط من ج
[55501]:انظر: أحكام ابن العربي 3/1537، والبحر المحيط 7/231، والدر المنثور 6/601 والتفسير المأثور عن عمر بن الخطاب 609
[55502]:ج عليه السلام
[55503]:لم أقف عليه بهذا اللفظ إلا في جامع البيان 22/5 وكذلك الكشاف للزمخشري 3/537 والبحر المحيط 7/231
[55504]:ساقط من ج
[55505]:انظر: المصدر السابق
[55506]:انظر: جامع البيان 22/6 والبحر المحيط 7/231
[55507]:ساقط من ج
[55508]:هو أبو سعيد الخدري، وقد تقدمت ترجمته
[55509]:ج عليه السلام
[55510]:أورده الهيثمي في مجمع الزوائد كتاب المناقب باب فضل أهل البيت رضي الله عنهم 9/170. والطبري في جامع البيان 22/6 والواحدي في أسباب النزول 239، وقد ضعف الهيثمي هذا الحديث من حيث سنده لأن فيه بكير بن يحيى بن زبان وهو ضعيف.
[55511]:ساقط من ج
[55512]:انظر: جامع البيان 22/8، والمحرر الوجيز 13/72