تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَقَرۡنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ ٱلۡأُولَىٰۖ وَأَقِمۡنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرٗا} (33)

الآية 33 وقوله تعالى : { وقرن في بيوتكن } قد قرئ بكسر( {[16623]} ) القاف وفتحها . فمن قرأ بالكسر [ وقرن ]( {[16624]} ) فهو من الوقار ، ومن قرأ بالفتح { وقرن } جعله من القرار والسكون فيها .

وقوله تعالى : { ولا تبرّجن تبرّج الجاهلية الأولى } قال بعضهم : { تبرّج الجاهلية الأولى } قبل أن يبعث رسول الله ، كانت تخرج نساؤهم متبرجات بزينة مظهرات ، فأمر الله أزواج رسوله بالستر والحجاب عليهن ، وهو ما قال : { يدنين عليهن من جلابيبهن } [ الأحزاب : 59 ] .

وقال بعضهم : { ولا تبرّجن تبرج الجاهلية الأولى } قال : { الجاهلية الأولى } التي ولد فيها إبراهيم ، أعطين وفورا كثيرة ، وكن يتبرجن في ذلك الزمان تبرجا شديدا ، وأمر أزواجه بالعفة والترك لذلك . فلسنا ندري ما أراد بالجاهلية ؟ ومن أراد بذلك ؟ الذين كانوا بقرب خروج رسول الله وبعثه ، أم الذين كانوا من قبل الأمم السالفة ؟ والتبرج كأنه الخروج بالزينة على إظهار لها ؛ أعني إظهار الزينة .

قال القتبي : { فلا تخضعن بالقول } أي لا تلن به ، وقوله : { وقلن قولا معروفا } أي صحيحا ، وقوله : وقرن في بيوتكن بالكسر من الوقار . ويقال : وقر في منزله يقر وقرا( {[16625]} ) . وقرن في بيوتكن بفتح القاف من القرار ؛ وكأنه من قر يقر أراد اقررن في بيوتكن ، فحذف الراء الأولى ، وحول فتحها إلى القاف كما يقال : ظلن في موضع كذا من اظللن . قال الله تعالى : { فظلتم تفكهون } [ الواقعة : 65 ] ولم يسمع قر يقر إلا في موضع قرة العين . فأما في الاستقرار فإنما هو قر يقر .

وقوله تعالى : { وأقمن الصلاة وآتين الزكاة } يحتمل أن يكون الأمر لهن بإيتاء الزكاة من حليهن ؛ لأنهن لا يملكن شيئا سوى ذلك مما( {[16626]} ) تجب في مثله الزكاة .

ألا ترى أنه وعد لهن التمتيع والسراح الجميل إذا أردن الحياة الدنيا وزينتها ؟ فلو كان عندهن شيء من فضول الأموال كن ينفقن ، ويتمتعن ، وإن لم يكن عند رسول الله ما يمتعهن ، ولا يطلبن ذلك من عنده /427-ب/ فدل ذلك أنهن لا يملكن شيئا من ذلك . فيجوز أن يستدل بظاهر هذه الآية في إيجاب الزكاة في الحلي . وكذلك روي عن ابن عباس رضي الله عنه .

وقوله تعالى : { وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله } أمرهن بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والطاعة لله ورسوله ؛ لئلا يغتررن بما اخترن المقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإيثارهن إياه على أن ذلك كاف لهن في الآخرة ، ولا شيء عليهن سوى ذلك من العبادات . بل إخبار [ لهن ]( {[16627]} ) : وإن اخترتن المقام معه ، وآثرتن إياه على الدنيا وزينتها فلا يغنيكن ذلك عما ذكر ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا } قال بعضهم : إن هذه الآية مقطوعة عن الأولى ، لأن الأولى في أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذه في أهل بيته . وهو قول الروافض ، ويستدلون بقطعها عن الأولى بوجوه :

أحدها : ( ما روي عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، أنها قالت : عنى بذلك عليا وفاطمة والحسن والحسين ، وقالت لما نزلت هذه الآية ، أخذ النبي ثوبا ، فجعله على هؤلاء ، ثم تلا الآية { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت } فقالت أم سلمة من جانب البيت : [ ألست ]( {[16628]} ) من أهل البيت ؟ قال : بلى إن شاء الله ) [ البيهقي في الكبرى 2/150 ] .

وعن الحسن بن علي أنه خطب الناس بالكوفة ، وهو يقول : يا أهل الكوفة اتقوا الله فينا ، فإنا أمراؤكم ، وإنا ضيفانكم ، ونحن أهل البيت الذي قال الله تعالى : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت } .

[ والثاني : ما ]( {[16629]} ) يقولون أيضا : إن الآية الأولى ذكرها بالتأنيث حين قال : { وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله } . وهذه ذكرها بالتذكير . دل أنها مقطوعة عن الأولى .

[ والثالث : ما ]( {[16630]} ) يقولون أيضا : إنه وعد أن يذهب عنهم الرجس ، ويطهرهم تطهيرا وعدا مطلقا غير مقيد .

وهذا الرجس الذي ذكر مما يحتمل أزواجه ، ممكن ذلك فيهن غير ممكن في أهل بيته ومن ذكره .

[ والرابع : ما ]( {[16631]} ) يقولون أيضا : ما روي عنه أنه قال : ( تركت فيكم بعدي الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما ليردان بكم الحوض ) [ الترمذي 3786 ] أو كلام نحو هذا ، ففسر العِتْرَةَ بأهل البيت ونحو ذلك من الوجوه .

وأما عندنا فهي غير مقطوعة من الأولى : إما أن يكون على الاشتراك بينهن ، وبين من ذكر من أولاده ؛ إذ اسم أهل البيت مما يجمع ذلك كله في العرف ، [ وإما أن ]( {[16632]} ) تكون الآية لهن على الانفراد .

فأما أن يخرج أزواجه عن أهل بيته ، والبيت يجمعهم ، فلا يحتمل ذلك .

وأما قولهم : إنه ذكر هذه الآية بالتذكير ، والأولى بالتأنيث فعند الاختلاط كذلك يذكر باسم التذكير .

وأما قولهم : إن وعده لهم منه خرج مطلقا غير مقيد ، فكذلك كن أزواج رسول الله ، لم يأت منهن ما يجوز أن ينسبن إلى الرجس أو القدر إلا في ما [ غولبن على رأيهن وتدبيرهن بالحيل ، فأخرجن في ما ]( {[16633]} ) أخرجن .

وأما [ قوله : " الثّقلين " فهما اللذان ]( {[16634]} ) تركهما فينا بعده : الكتاب والعترة . وعترته سنته على ما قيل .

وقوله : " أهل بيتي " كأنه قال : تركت الثقلين كتاب الله وسنتي بأهل بيتي ، وذلك جائز في اللغة .

وأما ما روي عن أم سلمة فإنه في الخبر بيان على أن أزواجه دخلن حين( {[16635]} ) قالت له أم سلمة : ألست من أهل البيت ؟ قال : بلى إن شاء الله .

وفي هذه الآية دلالة نقض المعتزلة من وجوه :

أحدها : ما يقولون : إن الله قد أراد أن يطهر الخلق كلهم الكافر والمسلم ، وأراد أن يذهب الرجس عنهم جميعا . لكن الكافر حين( {[16636]} ) أراد ألا تطهّر نفسه ، ولا يذهب عنه الرجس لم يطهّر . فلو كان على ما يقولون لم يكن لتخصيص هؤلاء بالتطهير ودفع الرجس عنهم فائدة ولا منة . دل [ أنه ]( {[16637]} ) إنما يطهر من علم منه اختيار الطهارة وترك الرجس .

وأما من علم منه اختيار الرجس فلا يحتمل أن يذهب عنه الرجس ، أو يريد منه غير ما يعلم أنه يختار . وإن التطهير ، لن يكون ، إنما يكون بالله لا بما تقوله المعتزلة حين( {[16638]} ) قال : { ويطهركم تطهيرا } إذ على قولهم : لا يملك هو تطهير من أراد ، إذ لم يبق عنده ما يطهرهم . فذلك كله ينقض عليهم أقوالهم ومذهبهم .


[16623]:انظر معجم القراءات القرآنية ح 5/124.
[16624]:ساقطة من الأصل وم.
[16625]:في الأصل وم: وقورا.
[16626]:في الأصل وم: ما.
[16627]:من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم.
[16628]:من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم.
[16629]:في الأصل وم: و.
[16630]:في الأصل وم: و.
[16631]:في الأصل وم: و.
[16632]:في الأصل وم: أو.
[16633]:من م، ساقطة من الأصل.
[16634]:في الأصل وم: في الثقلين اللذين.
[16635]:في الأصل وم: حيث.
[16636]:في الأصل وم: حيث.
[16637]:ساقطة من الأصل وم.
[16638]:في الأصل وم: حيث.