إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَقَرۡنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ ٱلۡأُولَىٰۖ وَأَقِمۡنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرٗا} (33)

{ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } أمرٌ من قرَّ يقَرُّ من بابِ علَم وأصله اقرَرْنَ فحُذفتْ الرَّاءُ الأولى وألقيتْ فتحتُها على ما قبلَها كما في قولِك : ظلْن ، أو من قارَّ يقارُّ إذا اجتمعَ ، وقرئ بكسرِ القافِ من وَقِر يَقِر وَقَاراً إذا ثبتَ واستقرَّ وأصلُه أوقرنَ ففعل به ما فُعل بعدن من وَعد أو من قرَّ يقرُّ حذفت إحدى راءي اقررن ونُقلت كسرتُها إلى القافِ كما تقول : ظلن { وَلاَ تَبَرَّجْنَ } أي لا تتبخترْن في مشيكنَّ { تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى } أي تبرجاً مثلَ تبرجِ النساءِ في الجاهليةِ القديمةِ ، وهي ما بينَ آدمَ ونوحٍ ، وقيل : إدريس ونوحٍ عليهما السَّلامُ ، وقيل : الزَّمانُ الذي وُلد فيه إبراهيمُ عليه السَّلامُ كانتِ المرأةُ تلبسُ دِرْعاً من اللُّؤلؤِ فتمشِي وسطَ الطَّريقِ تعرض نفسَها على الرِّجالِ وقيل : زمنُ داودَ وسليمانَ عليهما السَّلامُ . والجاهليَّةُ الأُخرَى ما بينَ عيسَى ومحمَّدٍ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ وقيل : الجاهليةُ الأولى الكفرُ ، والجاهليَّةُ الأُخرى الفسوقُ في الإسلامِ ويُؤيِّدُه قولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لأبي الدَّرداءِ : " إنَّ فيكَ جاهليةَ " قال : جاهلية كفرٍ أو جاهليةَ إسلامٍ . قال : بل جاهليةُ كفرٍ { وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ } أُمرن بهما لإنافتِهما على غيرِهما وكونِهما أصلَ الطَّاعاتِ البدنيةِ والماليةِ { وَأَطِعْنَ الله وَرَسُولَهُ } أي في كلِّ ما تأتن وما تذرنَّ لاسيَّما فيما أُمرتن به ونُهيتنَّ عنه { إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس } أي الذَّنبَ المدنس لعرضِكم ، وهو تعليلٌ لأمرهنَّ ونهيهنَّ على الاستئنافِ ولذلك عمَّم الحكمَ بتعميمِ الخطابِ لغيرهنَّ وصرَّحَ بالمقصودِ حيثُ قيل بطريقِ النِّداءِ أو المدحِ : { أَهْلَ البيت } مُراداً بهم من حَواهم بيتُ النُّبوة { وَيُطَهّرَكُمْ } من أوضارِ الأوزارِ والمَعاصي { تَطْهِيراً } بليغاً .

واستعارةُ الرِّجسِ للمعصيةِ ، والتَّرشيحُ بالتَّطهيرِ لمزيدِ التَّنفيرِ عنها ، وهذهِ كما ترى آيةٌ بينةٌ وحجَّةٌ نيرةٌ على كونِ نساءِ النبيِّ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ من أهلِ بيتِه قاضيةً ببُطلان رأيِ الشِّيعةِ في تخصيصِهم أهليةَ البيتِ بفاطمةَ وعليَ وابنيهما رضوانُ الله عليهم . وأمَّا ما تمسَّكُوا به من أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ( خرجَ ذاتَ غُدوةٍ وعليه مِرطٌ مرَجّلٌ من شَعَرٍ أسودَ ، وجلسَ فأتتْ فاطمةُ فأدخلَها فيهِ ، ثم جاءَ عليٌّ فأدخلَه فيه ، ثم جاء الحسنُ والحسينُ فأدخلَهما فيهِ ، ثمَّ قال : «إنَّما يُريد الله ليُذهبَ عنكم الرِّجسَ أهلَ البيتِ{[665]} » فإنَّما يدلُّ على كونِهم من أهلِ البيتِ لا على أنَّ من عداهم ليسُوا كذلك ولو فُرضت دلالتُه على ذلك لما اعتدَّ بها لكونِها في مُقابلةِ النَّصِّ .


[665]:ورد بلفظ "اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا" وقد أخرجه الترمذي في كتاب المناقب باب (60) وأحمد في (1/331)؛ (3/259، 285)؛ (6/292، 298، 304).