معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَقَرۡنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ ٱلۡأُولَىٰۖ وَأَقِمۡنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرٗا} (33)

قوله تعالى : { وقرن في بيوتكن } قرأ أهل المدينة وعاصم : وقرن بفتح القاف ، وقرأ الآخرون بكسرها ، فمن فتح القاف فمعناه ، اقررن أي : الزمن بيوتكن ، من قولهم : قررت بالمكان أقر قراراً ، يقال : قررت أقر وقررت أقر ، وهما لغتان ، فحذفت الراء الأولى التي هي عين الفعل لثقل التضعيف ونقلت حركتها إلى القاف كقولهم : في ظللت ظلت ، قال الله تعالى : { فظلتم تفكهون } { وظلت عليه عاكفا } ومن كسر القاف فقد قيل : هو من قررت أقر ، معناه اقررن بكسر الراء ، فحذفت الأولى ونقلت حركتها إلى القاف كما ذكرنا ، وقيل : هو الأصح أنه أمر من الوقار ، كقولهم من الوعد : عدن ، ومن الوصل : صلن ، أي : كن أهل وقار وسكون ، من قولهم وقر فلان يقر وقوراً إذا سكن واطمأن . { ولا تبرجن } قال مجاهد وقتادة : التبرج هو التكسر والتغنج ، وقال ابن أبي نجيح : هو التبختر . وقيل : هو إظهار الزينة وإبراز المحاسن للرجال ، { تبرج الجاهلية الأولى } . اختلفوا في الجاهلية الأولى . قال الشعبي : هي ما بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم . وقال أبو العالية : هي في زمن داود وسليمان عليهما السلام ، كانت المرأة تلبس قميصاً من الدر غير مخيط من الجانبين فيرى خلقها فيه . وقال الكلبي : كان ذلك في زمن نمرود الجبار ، كانت المرأة تتخذ الدرع من اللؤلؤ فتلبسه وتمشي وسط الطريق ليس عليها شيء غيره وتعرض نفسها على الرجال . وروى عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال : الجاهلية الأولى بين نوح وإدريس ، وكانت ألف سنة ، وأن بطنين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل والآخر يسكن الجبل ، وكان رجال الجبل صباحاً وفي النساء دمامة ، وكان نساء السهل صباحاً وفي الرجال دمامة ، وأن إبليس أتى رجلاً من أهل السهل وأجر نفسه منه ، فكان يخدمه واتخذ شيئاً مثل الذي يزمر به الرعاء فجاء بصوت لم يسمع الناس مثله ، فبلغ ذلك من حولهم فأتوهم يستمعون إليه ، فاتخذوا عيداً يجتمعون إليه فيه في السنة ، فتتبرج النساء للرجال ويتزين الرجال لهن ، وأن رجلاً من أهل الجبل هجم عليهم في عيدهم ذلك فرأى النساء وصباحتهن فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك فتحولوا إليهم فنزلوا معهم فظهرت الفاحشة فيهم ، فذلك قوله تعالى : { ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى } . وقال قتادة : هي ما قبل الإسلام . وقيل : الجاهلية الأولى : ما ذكرنا ، والجاهلية الأخرى : قوم يفعلون مثل فعلهم في آخر الزمان . وقيل : قد تذكر الأولى وإن لم يكن لها أخرى ، كقوله تعالى : { وأنه أهلك عاداً الأولى } ولم يكن لها أخرى . قوله عز وجل : { وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا } أراد بالرجس : الإثم الذي نهى الله النساء عنه ، قاله مقاتل : وقال ابن عباس : يعني : عمل الشيطان وما ليس لله فيه رضا ، وقال قتادة : يعني : السوء . وقال مجاهد : الرجس الشك . وأراد بأهل البيت : نساء النبي صلى الله عليه وسلم لأنهن في بيته ، وهو رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وتلا قوله : { واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله } وهو قول عكرمة ومقاتل . وذهب أبو سعيد الخدري ، وجماعة من التابعين ، منهم مجاهد ، وقتادة ، وغيرهما : إلى أنهم علي وفاطمة والحسن والحسين .

حدثنا أبو الفضل زياد بن محمد الحنفي ، أنبأنا أبو محمد عبد الرحمن بن محمد الأنصاري ، أنبأنا أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعدي ، أنبأنا أبو همام الوليد بن شجاع ، أنبأنا يحيى بن زكريا بن زائدة ، أنبأنا أبي عن مصعب بن شيبة عن صفية بنت شيبة الحجبية ، عن عائشة أم المؤمنين قالت : " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة وعليه مرط مرجل من شعر أسود ، فجلس فأتت فاطمة فأدخلها فيه ثم جاء علي فأدخله فيه ، ثم جاء حسن فأدخله فيه ، ثم جاء حسين فأدخله فيه ، ثم قال : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً } .

أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد الحميدي ، أنبأنا أبو عبد الله الحافظ ، أنبأنا أبو العباس محمد بن يعقوب أنبأنا الحسن بن مكرم ، أنبأنا عثمان بن عمر ، أنبأنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار ، عن شريك بن أبي نمر ، عن عطاء بن يسار ، عن أم سلمة قالت : " في بيتي نزلت : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت } قالت : فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فاطمة وعلي والحسن والحسين ، فقال : هؤلاء أهل بيتي ، قالت : فقلت يا رسول الله أما أنا من أهل البيت ؟ قال : بلى إن شاء الله " . قال زيد بن أرقم : أهل بيته من حرم الصدقة عليه بعده ، آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَقَرۡنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ ٱلۡأُولَىٰۖ وَأَقِمۡنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرٗا} (33)

ثم أمرهن - سبحانه - بعد ذلك بالاستقرار فى بيوتهن ، وعدم الخروج منها إلا لحاجة شرعية فقال { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } .

قال القرطبى ما ملخصه : قوله { وَقَرْنَ } قرأه الجمهور - بكسر القاف - من القرار تقول : قَرَرْتُ بالمكان - بفتح الراء أقِر - بكسر القاف - إذا نزلت فيه - والأصل - اقررن - بكسر الراء - فحذفت الراء الأولى تخفيفا . . ونقلوا حركتها إلى القاف ، واستغنى عن ألف الوصل لتحرك القاف . . فصارت الكلمة { قِرن } - بكسر القاف - .

وقرأ عاصم ونافع { وقَرْن } - بفتح القاف - من قررت فى المكان - بكسرر الراء - إذا أقمت فيه . . والأصل اقْرَرْن بفتح الراء - فحذفت الراء الأولى لثقل التضعيف ، وألقيت حركتها على القاف . . فتقول : { قَرن } - بالفتح - للقاف - .

والمعنى : الْزَمْنَ يا نساء النبى صلى الله عليه وسلم بيوتكن ، ولا تخرجن منها إلا لحاجة مشروعة ، ومثلهن فى ذلك جميع النساء المسلمات ، لأن الخطاب لهن فى مثل هذه الأمور ، هو خطاب لغيرهن من النساء المؤمنات من باب أولى ، وإنما خاطب - سبحانه - أمهات المؤمنين على سبيل التشريف ، واقتداء غيرهن بهن .

قال بعض العلماء : والحكمة فى هذا الأمر : أن ينصرفن إلى رعاية شئون بيوتهن ، وتوفير وسائل الحياة المنزلية التى هى من خصائصهن ، ولا يحسنها الرجال ، وإلى تربية الأولاد فى عهد الطفولة وهى من شأنهن . وقد جرت السنة الإِلهية بأن أمر الزوجين قسمة بينهما ، فللرجل أعمال من خصائصهم لا يحسنها النساء ، وللنساء أعمال خصائصهن لا يحسنها الرجال ، فإذا تعدى أحد الفريقين عمله ، اختل النظام فى البيت والمعيشة .

وقال صاحب الظلال ما ملخصه : والبيت هو مثابة المرأة التى تجد فيها نفسها على حقيقتها كما أرادها الله - تعالى - ولكى يهيئ الإِسلام للبيت جوه السليم ، ويهيئ للفراخ الناشئة فيه رعايتها ، أوجب على الرجل النفقة ، وجعلها فريضة ، كى يتاح للأم من الجهد ومن الوقت ومن هدوء البال ، ما تشرف به على هذه الفراخ الزغب ، وما تهيئ به للمثابة نظامها وعطرها وبشاشتها .

فالأم المكدودة بالعمل وبمقتضياته وبمواعيده . . لا يمكن أن تهيئ للبيت جوه وعطره ، ولا يمكن أن تهيئ للطفولة النابتة فيه حقها ورعايتها .

إن خروج المرأة للعمل كارثة على البيت قد تبيحها الضرورة ، أما أن يتطوع بها الناس وهم قادرون على اجتنابها ، فتلك هى اللعنة التى تصيب الأرواح والضمائر والعقول ، فى عصور الانتكاس والشرور والضلال .

وهذه الجملة الكريمة ليس المقصود بها ملازمة البيوت فلا يبرحنها بإطلاق وإنما المقصود بها أن يكون البيت هو الأصل فى حياتهن ، ولا يخرجن إلا لحاجة مشروعة ، كأداء الصلاة فى المسجد ، وكأداء فريضة الحج وكزيارة الوالدين والآقارب ، وكقضاء مصالحهن التى لا تقضى إلا بهن .

. بشرط أن يكون خروجهن مصوحبا بالتستر والاحتشام وعدم التبذل .

ولذا قال - سبحانه - بعد هذا الأمر ، { وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى } .

وقوله : { تَبَرَّجْنَ } مأخوذ من البَرَج - بفتح الباء والراء - وهو سعة العين وحسنها ، ومنه قولهم : سفينة برجاء ، أى : متسعة ولا غطاء عليها .

والمراد به هنا : إظهار ما ينبغى ستره من جسد المرأة ، مع التكلف والتصنع فى ذلك .

والجاهلية الأولى ، بمعنى المتقدمة ، إذ يقال لكل متقدم ومتقدمة : أول وأولى .

أو المراد بها : الجاهلية الجهلاء التى كانت ترتكب فيها الفواحش بدون تحرج .

وقد فسروها بتفسيرات متعددة ، منها : قول مجاهد : كانت المرأة تخرج فتمشى بين يدي الرجال ، فذلك تبرج الجاهلية .

ومنها قول قتادة : كانت المرأة فى الجاهلية تمشى مشية فيها تكسر .

ومنها قول مقاتل : والتبرج : أنها تلقي الخمار على رأسها ، ولا تشده فيوارى قلائدها وعنقها .

ويبدو لنا أن التبرج المنهي عنه فى الآية الكريمة ، يشمل كل ذلك ، كما يشمل كل فعل تفعله المرأة ، ويكون هذا الفعل متنافيا مع آداب الإِسلام وتشريعاته .

والمعنى : الزمن يا نساء النبى بيوتكن ، فلا تخرجن إلا لحاجة مشروعة ، وإذا خرجتن فاخرجن فى لباس الحشمة والوقار ، ولا تبدي إحداكن شيئا أمرها الله - تعالى - بسرته وإخفائه ، واحذرن التشبيه بنساء أهل الجاهلية الأولى ، حيث كن يفعلن ما يثير شهوة الرجال ، ويلفت أنظارهم اليهن .

ثم أتبع - سبحانه - هذا المنهى بما يجعلهن على صلة طيبة بخالقهن - عز وجل - فقال : { وَأَقِمْنَ الصلاة } أى : داومن على إقامتها فى أوقاتها بخشوع وإخلاص . { وَآتِينَ الزكاة } التى فرضها الله - تعالى - عليكن . وخص - سبحانه - هاتين الفريضيتين بالذكر من بين سائر الفرائض ، لأنهما أساس العبادات البدنية والمالية .

{ وَأَطِعْنَ الله وَرَسُولَهُ } أى : فى كل ما تأتين وتتركن ، لا سيما فيما أمرتن به ، ونهيتين عنه .

وقوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } تعليل لما أمرن به من طاعات ، ولما نهين عنه من سيئات .

والرجس فى الأصل : يطلق على كل شئ مستقذر . وأريد به هنا : الذنوب والآثام وما يشبه ذلك من النقائص والأدناس .

وقوله { أَهْلَ البيت } منصوب على النداء ، أو على المدح . ويدخل فى أهل البيت هنا دخولا أوليا : نساؤه صلى الله عليه وسلم بقرينة سياق الآيات .

أى : إنما يريده الله - تعالى - بتلك الأوامر التى أمركن بها ، و بتلك النواهى التى نهاكن عنها ، أن يذهب عنكن الآثام والذنوب والنقائص ، وأن يطهركن من كل ذلك تطهيرا تاما كاملا .

قال الإِمام ابن كثير ما ملخصه : قوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت . . . } هذا نص فى دخول أزواج النبى صلى الله عليه وسلم فى أهل البيت ها هنا ، لأنهن سبب نزول هذه الآية .

وقدوردت أحاديث تدل على أن المراد أعم من ذلك ، فقد روى الإِمام أحمد بسنده - عن أنس بن مالك قال :

" إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمر بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر ، يقول : الصلاة يا أهل البيت : ثم يتلو هذه الآية . . " .

وقال بعض العلماء : والتحقيق - إن شاء الله - أنهن داخلات فى الآية ، بدليل السياق ، وإن كانت الآية تتناول غيرهن من أهل البيت .

ونظير ذلك من دخول الزوجات فى اسم أهل البيت ، قوله - تعالى - فى زوجة إبراهيم : { قالوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله رَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البيت } وأما الدليل على دخول غيرهن فى الآية ، فهو أحاديث جاءت " عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال فى على وفاطمة والحسن والحسين - رضى الله عنهم - : " إنهم أهل البيت " ودعا الله أن يذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيرا " .

وبما ذكرنا تعلم أن الصواب شمول الآية الكريمة لأزواج النبى صلى الله عليه وسلم ولعلى وفاطمة والحسن والحسين .

فإن قيل : الضمير فى قوله : { لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس } وفى قوله : { وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } ضمير الذكور ، فلو كان المراد أزواج النبى صلى الله عليه وسلم لقيل ليذهب عنكن ويطهركن ؟

فالجواب : ما ذكرناه من أن الآية تشملهن وتشمل فاطمة وعلى والحسن والحسين ، وقد أجمع أهل اللسان العربى على تغليب الذكور على الإِناث فى الجموع ونحوها . .

ومن أساليب اللغة العربية التى نزل بها القرآن ، أن زوجة الرجل يطلق عليها أهل ، وباعتبار لفظ الأهل تخاطب مخاطبة الجمع المذكر ، ومنه قوله - تعالى - فى موسى { فَقَالَ لأَهْلِهِ امكثوا } وقوله { سَآتِيكُمْ } والمخاطب امرأته كما قال غير واحد . .

وقال بعض أهل العلم : إن أهل البيت فى الآية هم من تحرم عليهم الصدقة .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَقَرۡنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ ٱلۡأُولَىٰۖ وَأَقِمۡنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرٗا} (33)

28

( وقرن في بيوتكن ) . .

من وقر . يقر . أي ثقل واستقر . وليس معنى هذا الأمر ملازمة البيوت فلا يبرحنها إطلاقا . إنما هي إيماءة لطيفة إلى أن يكون البيت هو الأصل في حياتهن ، وهو المقر وما عداه استثناء طارئا لا يثقلن فيه ولا يستقررن . إنما هي الحاجة تقضى ، وبقدرها .

والبيت هو مثابة المرأة التي تجد فيها نفسها على حقيقتها كما أرادها الله تعالى . غير مشوهة ولا منحرفة ولا ملوثة ، ولا مكدودة في غير وظيفتها التي هيأها الله لها بالفطرة .

" ولكي يهيئ الإسلام للبيت جوه ويهيىء للفراخ الناشئة فيه رعايتها ، أوجب على الرجل النفقة ، وجعلهافريضة ، كي يتاح للأم من الجهد ، ومن الوقت ، ومن هدوء البال ، ما تشرف به على هذه الفراخ الزغب ، وما تهيئ به للمثابة نظامها وعطرها وبشاشتها . فالأم المكدودة بالعمل للكسب ، المرهقة بمقتضيات العمل ، المقيدة بمواعيده ، المستغرقة الطاقة فيه . . لا يمكن أن تهب للبيت جوه وعطره ، ولا يمكن أن تمنح الطفولة النابتة فيه حقها ورعايتها . وبيوت الموظفات والعاملات ما تزيد على جو الفنادق والخانات ؛ وما يشيع فيها ذلك الأرج الذي يشيع في البيت . فحقيقة البيت لا توجد إلا أن تخلقها امرأة ، وأرج البيت لا يفوح إلا أن تطلقه زوجة ، وحنان البيت لا يشيع إلا أن تتولاه أم . والمرأة أو الزوجة أو الأم التي تقضي وقتها وجهدها وطاقتها الروحية في العمل لن تطلق في جو البيت إلا الإرهاق والكلال والملال .

" وإن خروج المرأة لتعمل كارثة على البيت قد تبيحها الضرورة . أما أن يتطوع بها الناس وهم قادرون على اجتنابها ، فتلك هي اللعنة التي تصيب الأرواح والضمائر والعقول ، في عصور الانتكاس والشرور والضلال " .

فأما خروج المرأة لغير العمل . خروجها للاختلاط ومزاولة الملاهي . والتسكع في النوادي والمجتمعات . . . فذلك هو الارتكاس في الحمأة الذي يرد البشر إلى مراتع الحيوان !

ولقد كان النساء على عهد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يخرجن للصلاة غير ممنوعات شرعا من هذا . ولكنه كان زمان فيه عفة ، وفيه تقوى ، وكانت المرأة تخرج إلى الصلاة متلفعة لا يعرفها أحد ، ولا يبرز من مفاتنها شيء . ومع هذا فقد كرهت عائشة لهن أن يخرجن بعد وفاة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] !

في الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت : كان نساء المؤمنين يشهدن الفجر مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ثم يرجعن متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس .

وفي الصحيحين أيضا أنها قالت : لو أدرك رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ما أحدث النساء لمنعهن من المساجد ، كما منعت نساء بني إسرائيل !

فماذا أحدث النساء في حياة عائشة - رضي الله عنها - ? وماذا كان يمكن أن يحدثن حتى ترى أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كان مانعهن من الصلاة ? ! ماذا بالقياس إلى ما نراه في هذه الأيام ? !

( ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ) . .

ذلك حين الاضطرار إلى الخروج ، بعد الأمر بالقرار في البيوت . ولقد كانت المرأة في الجاهلية تتبرج . ولكن جميع الصور التي تروى عن تبرج الجاهلية الأولى تبدو ساذجة أو محتشمة حين تقاس إلى تبرج أيامنا هذه في جاهليتنا الحاضرة !

قال مجاهد : كانت المرأة تخرج تمشي بين الرجال . فذلك تبرج الجاهلية !

وقال قتادة : وكانت لهن مشية تكسر وتغنج . فنهى الله تعالى عن ذلك !

وقال مقاتل بن حيان : والتبرج أنها تلقي الخمار على رأسها ولا تشده فيداري قلائدها وقرطها وعنقها ، ويبدو ذلك كله منها . وذلك التبرج !

وقال ابن كثير في التفسير : كانت المرأة منهن تمر بين الرجال مسفحة بصدرها لا يواريه شيء ؛ وربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها وأقرطة آذانها . فأمر الله المؤمنات أن يستترن في هيئاتهن وأحوالهن .

هذه هي صور التبرج في الجاهلية التي عالجها القرآن الكريم . ليطهر المجتمع الإسلامي من آثارها ويبعد عنه عوامل الفتنة ، ودواعي الغواية ؛ ويرفع آدابه وتصوراته ومشاعره وذوقه كذلك !

ونقول : ذوقه . . فالذوق الإنساني الذي يعجب بمفاتن الجسد العاري ذوق بدائي غليظ . وهو من غير شك أحط من الذوق الذي يعجب بجمال الحشمة الهادئ ، وما يشي به من جمال الروح ، وجمال العفة ، وجمال المشاعر .

وهذا المقياس لا يخطئ في معرفة ارتفاع المستوى الإنساني وتقدمه . فالحشمة جميلة جمالا حقيقيا رفيعا . ولكن هذا الجمال الراقي لا يدركه أصحاب الذوق الجاهلي الغليظ ، الذي لا يرى إلا جمال اللحم العاري ، ولا يسمع إلا هتاف اللحم الجاهر !

ويشير النص القرآني إلى تبرج الجاهلية ، فيوحي بأن هذا التبرج من مخلفات الجاهلية . التي يرتفع عنها من تجاوز عصر الجاهلية ، وارتفعت تصوراته ومثله ومشاعره عن تصورات الجاهلية ومثلها ومشاعرها .

والجاهلية ليست فترة معينة من الزمان . إنما هي حالة اجتماعية معينة ، ذات تصورات معينة للحياة . ويمكن أن توجد هذه الحالة ، وأن يوجد هذا التصور في أي زمان وفي أي مكان ، فيكون دليلا على الجاهلية حيث كان !

وبهذا المقياس نجد أننا نعيش الآن في فترة جاهلية عمياء ، غليظة الحس ، حيوانية التصور ، هابطة في درك البشرية إلى حضيض مهين . وندرك أنه لا طهارة ولا زكاة ولا بركة في مجتمع يحيا هذه الحياة ؛ ولا يأخذ بوسائل التطهر والنظافة التي جعلها الله سبيل البشرية إلى التطهر من الرجس ، والتخلص من الجاهلية الأولى ؛ وأخذ بها ، أول من أخذ ، أهل بيت النبي [ صلى الله عليه وسلم ] على طهارته ووضاءته ونظافته .

والقرآن الكريم يوجه نساء النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إلى تلك الوسائل ؛ ثم يربط قلوبهن بالله ، ويرفع أبصارهن إلى الأفق الوضيء الذي يستمددن منه النور ، والعون على التدرج في مراقي ذلك الأفق الوضيء :

( وأقمن الصلاة ، وآتين الزكاة ، وأطعن الله ورسوله ) . .

وعبادة الله ليست بمعزل عن السلوك الاجتماعي أو الأخلاقي في الحياة ؛ إنما هي الطريق للإرتفاع إلى ذلك المستوى ؛ والزاد الذي يقطع به السالك الطريق . فلا بد من صلة بالله يأتي منها المدد والزاد . ولا بد من صلة بالله تطهر القلب وتزكيه . ولا بد من صلة بالله يرتفع بها الفرد على عرف الناس وتقاليد المجتمع وضغط البيئة ؛ ويشعر أنه أهدى وأعلى من الناس والمجتمع والبيئة . وأنه حري أن يقود الآخرين إلى النور الذي يراه ؛ لا أن يقوده الآخرون إلى الظلمات وإلى الجاهلية التي تغرق فيها الحياة ، كلما انحرفت عن طريق الله .

والإسلام وحدة تجمع الشعائر والآداب والأخلاق والتشريعات والنظم . . كلها في نطاق العقيدة . ولكل منها دور تؤديه في تحقيق هذه العقيدة ؛ وتتناسق كلها في اتجاه واحد ؛ ومن هذا التجمع والتناسق يقوم الكيان العام لهذا الدين . وبدونهما لا يقوم هذا الكيان .

ومن ثم كان الأمر بإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وطاعة الله ورسوله ، هو خاتمة التوجيهات الشعورية والأخلاقية والسلوكية لأهل البيت الكريم . لأنه لا يقوم شيء من تلك التوجيهات بغير العبادة والطاعة . . وكل ذلك لحكمة وقصد وهدف :

( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) . .

وفي التعبير إيحاءات كثيرة ، كلها رفاف ، رفيق ، حنون . .

فهو يسميهم ( أهل البيت )بدون وصف للبيت ولا إضافة . كأنما هذا البيت هو( البيت )الواحد في هذا العالم ، المستحق لهذه الصفة . فإذا قيل( البيت )فقد عرف وحدد ووصف . ومثل هذا قيل عن الكعبة . بيت الله . فسميت البيت . والبيت الحرام . فالتعبير عن بيت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كذلك تكريم وتشريف واختصاص عظيم .

وهو يقول : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس - أهل البيت - ويطهركم تطهيرا ) . . وفي العبارة تلطف ببيان علة التكليف وغايته . تلطف يشي بأن الله سبحانه - يشعرهم بأنه بذاته العلية - يتولى تطهيرهم وإذهاب الرجس عنهم . وهي رعاية علوية مباشرة بأهل هذا البيت . وحين نتصور من هو القائل - سبحانه وتعالى - رب هذا الكون . الذي قال للكون : كن . فكان . الله ذو الجلال والإكرام . المهيمن العزيز الجبار المتكبر . . حين نتصور من هو القائل - جل وعلا - ندرك مدى هذا التكريم العظيم .

وهو - سبحانه - يقول هذا في كتابه الذي يتلى في الملأ الأعلى ، ويتلى في هذه الأرض ، في كل بقعة وفي كل أوان ؛ وتتعبد به ملايين القلوب ، وتتحرك به ملايين الشفاه .

وأخيرا فإنه يجعل تلك الأوامر والتوجيهات وسيلة لإذهاب الرجس وتطهير البيت . فالتطهير من التطهر ، وإذهاب الرجس يتم بوسائل يأخذ الناس بها أنفسهم ، ويحققونها في واقع الحياة العملي . وهذا هو طريق الإسلام . . شعور وتقوى في الضمير . وسلوك وعمل في الحياة . يتم بهما معا تمام الإسلام ، وتتحقق بهما أهدافه واتجاهاته في الحياة .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَقَرۡنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ ٱلۡأُولَىٰۖ وَأَقِمۡنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرٗا} (33)

وقوله : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } أي : الزمن بيوتكن فلا{[23382]} تخرجن لغير حاجة . ومن الحوائج الشرعية الصلاة في المسجد بشرطه ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ، وليخرجن وهن تَفِلات " وفي رواية : " وبيوتهن خير لهن " {[23383]}

وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا حميد بن مَسْعَدة{[23384]} حدثنا أبو رجاء الكلبي ، روح بن المسيب ثقة ، حدثنا ثابت البناني{[23385]} عن أنس ، رضي الله عنه ، قال : جئن النساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن : يا رسول الله ، ذهب الرجال بالفضل والجهاد في سبيل الله تعالى ، فما لنا عمل ندرك به عمل المجاهدين في سبيل الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قعد - أو كلمة نحوها - منكن في بيتها فإنها تدرك عمل المجاهدين{[23386]} في سبيل الله " .

ثم قال : لا نعلم رواه عن ثابت إلا روح بن المسيب ، وهو رجل من أهل البصرة مشهور{[23387]} .

وقال{[23388]} البزار أيضا : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا عمرو بن عاصم ، حدثنا همام ، عن قتادة ، عن مُوَرِّق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن المرأة عورة ، فإذا خرجت استشرفها الشيطان ، وأقرب ما تكون{[23389]} بروْحَة ربها وهي في قَعْر بيتها " .

ورواه الترمذي ، عن بُنْدَار ، عن عمرو بن عاصم ، به نحوه{[23390]}

وروى البزار بإسناده المتقدم ، وأبو داود أيضا ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " صلاة المرأة في مَخْدعِها أفضل من صلاتها في بيتها ، وصلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها " {[23391]} وهذا إسناد{[23392]} جيد .

وقوله تعالى : { وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى } قال مجاهد : كانت المرأة تخرج تمشي بين يدي الرجال ، فذلك تبرج الجاهلية .

وقال قتادة : { وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى } يقول : إذا خرجتن من بيوتكن - وكانت لهن{[23393]} مشية وتكسر وتغنُّج - فنهى الله عن ذلك .

وقال مقاتل بن حيان : { وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى } والتبرج : أنها تلقي الخمار على رأسها ، ولا تشده فيواري قلائدها وقرطها وعنقها ، ويبدو ذلك كله منها ، وذلك التبرج ، ثم عمت نساء المؤمنين في التبرج . وقال ابن جرير : حدثني ابن زهير ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا داود - يعني ابن أبي الفرات - حدثنا علي بن أحمر ، عن عِكْرِمة{[23394]} عن ابن عباس قال : تلا هذه الآية : { وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى } . قال : كانت فيما بين نوح وإدريس ، وكانت ألف سنة ، وإن بطنين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل ، والآخر يسكن الجبل . وكان رجال الجبل صباحا وفي النساء دَمَامة . وكان نساء السهل صباحا وفي الرجال دمامة ، وإن إبليس أتى رجلا من أهل السهل في صورة غلام ، فآجر نفسه منه ، فكان يخدمه واتخذ إبليس شيئًا مثل الذي يُزَمّر فيه الرِّعاء ، فجاء فيه بصوت لم يسمَع الناس مثله ، فبلغ ذلك من حوله ، فانتابوهم يسمعون إليه ، واتخذوا عيدا يجتمعون إليه في السنة ، فيتبرَّجُ النساء للرجال . قال : ويتزيَّن{[23395]} الرجال لهن ، وإن رجلا من أهل الجبل هَجَم عليهم في عيدهم ذلك ، فرأى النساء وصَبَاحتهن ، فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك ، فتحولوا إليهن ، فنزلوا معهن وظهرت الفاحشة فيهن ، فهو قوله تعالى : { وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى }{[23396]} .

وقوله : { وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } ، نهاهن أولا عن الشر ثم أمرهن بالخير ، من إقامة الصلاة - وهي : عبادة الله ، وحده لا شريك له - وإيتاء الزكاة ، وهي : الإحسان إلى المخلوقين ، { وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } ، وهذا من باب عطف العام على الخاص . وقوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } : وهذا نص في دخول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في أهل البيت هاهنا ؛ لأنهن سبب نزول هذه الآية ، وسبب النزول داخل فيه قولا واحدا ، إما وحده على قول ، أو مع غيره على الصحيح .

وروى ابن جرير : عن عِكْرِمة أنه كان ينادي في السوق : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } ، نزلت{[23397]} في نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، وهكذا روى ابن أبي حاتم قال :

حدثنا علي بن حرب الموصلي ، حدثنا زيد بن الْحُبَاب ، حدثنا حسين بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة عن{[23398]} ابن عباس في قوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ } قال : نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة .

وقال عكرمة : من شاء باهلته أنها نزلت في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم .

فإن كان المراد أنهن كُنّ سبب النزول دون غيرهن فصحيح ، وإن أريد أنهن المراد فقط دون غيرهن ، ففي هذا نظر ؛ فإنه قد وردت أحاديث تدل على أن المراد أعم من ذلك :

الحديث الأول : قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد ، أخبرنا علي بن زيد{[23399]} ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمر بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول : " الصلاة يا أهل البيت ، { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } .

ورواه الترمذي ، عن عبد بن حميد ، عن عفان به . وقال : حسن غريب{[23400]} . {[23401]}

حديث آخر : قال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا يونس بن أبي إسحاق ، أخبرني أبو داود ، عن أبي الحمراء قال : رابطت المدينة سبعة أشهر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، [ قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ]{[23402]} إذا طلع الفجر ، جاء إلى باب علي وفاطمة فقال : " الصلاة الصلاة { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا }{[23403]} .

أبو داود الأعمى هو : نفيع بن الحارث ، كذاب .

حديث آخر : وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا محمد بن مصعب ، حدثنا الأوزاعي ، حدثنا شداد أبو عمار{[23404]} قال : دخلت على واثلة بن الأسقع وعنده قوم ، فذكروا عليًّا ، رضي الله عنه ، فلما قاموا قال لي : ألا أخبرك بما رأيت من رسول الله الله عليه وسلم ؟ قلت : بلى . قال : أتيت فاطمة أسألها عن علي فقالت : تَوَجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجلست أنتظره حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعه علي وحسن وحسين ، آخذ كل واحد منهما بيده حتى دخل ، فأدنى عليًّا وفاطمة وأجلسهما بين يديه ، وأجلس حسنًا وحسينًا كل واحد منهما على فخذه ، ثم لفَّ عليهم{[23405]} ثوبه - أو قال : كساءه - ثم تلا هذه الآية : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } ، اللهم{[23406]} هؤلاء أهل بيتي ، وأهل بيتي أحق " ، وقد رواه أبو جعفر بن جرير عن عبد الكريم بن أبي عمير{[23407]} ، عن الوليد بن مسلم ، عن أبي عمرو الأوزاعي بسنده نحوه - زاد في آخره : قال واثلة : فقلت : وأنا يا رسول الله - صلى الله عليك - من أهلك ؟ قال : " وأنت من أهلي " قال واثلة : إنها من أرجى ما أرتجي{[23408]} .

ثم رواه أيضا عن عبد الأعلى بن واصل ، عن الفضل بن دُكَيْن ، عن عبد السلام بن حرب ، عن كلثوم المحاربي ، عن شداد أبي عمار قال : إني لجالس عند واثلة بن الأسقع إذ ذكروا عليا فشتموه ، فلما قاموا قال : اجلس حتى أخبرك عن الذي شتموه ، إني عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء علي وفاطمة وحسن وحسين فألقى صلى الله عليه وسلم عليهم كساء له ، ثم قال : " اللهم هؤلاء أهل بيتي ، اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا " . قلت : يا رسول الله ، وأنا ؟ قال : " وأنت " قال : فوالله إنها لأوثق عملي عندي{[23409]} .

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن نمير ، حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء بن أبي رباح ، حدثني من سمع أم سلمة تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بيتها ، فأتته فاطمة ، رضي الله عنها ، ببرمة فيها خَزيرة ، فدخلت بها عليه فقال لها : " ادعي زوجك وابنيك " . قالت : فجاء علي وحسن وحسين فدخلوا عليه ، فجلسوا يأكلون من تلك الخزيرة ، وهو على منامةٍ له على دكان{[23410]} تحته كساء خيبري ، قالت : وأنا في الحجرة أصلي ، فأنزل الله ، عز وجل ، هذه الآية : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } . قالت : فأخذ فضل الكساء فغطاهم به ، ثم أخرج يده فألوى بها إلى السماء ، ثم قال : " اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا " ، قالت : فأدخلت رأسي البيت ، فقلت : وأنا معكم يا رسول الله ؟ فقال : " إنك إلى خير ، إنك إلى خير " {[23411]} .

في إسناده من لم يسم{[23412]} ، وهو شيخ عطاء ، وبقية رجاله ثقات .

طريق أخرى : قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا عوف ، عن أبي المعدل{[23413]} ، عن عطية الطُّفَاوِيّ ، عن أبيه ؛ أن أم سلمة حدثته قالت{[23414]} : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي يومًا إذ قال الخادم : إن فاطمة وعليا بالسدّة قالت : فقال لي : " قومي فَتَنَحي عن{[23415]} أهل بيتي " . قالت : فقمت فتنحيت في البيت قريبًا ، فدخل علي وفاطمة ، ومعهما الحسن والحسين ، وهما صبيان صغيران ، فأخذ الصبيين فوضعهما في حجره فقبَّلهما ، واعتنق عليا بإحدى يديه وفاطمة باليد الأخرى ، وقَبَّل فاطمة وقَبَّل عليا ، وأغدق عليهم خَميصَة سوداء وقال : " اللهم ، إليك لا إلى النار أنا وأهل بيتي " . قالت : فقلت : وأنا يا رسول الله ؟ صلى الله عليك . قال : " وأنت " {[23416]} .

طريق أخرى : قال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا [ الحسن بن عطية ، حدثنا ]{[23417]} فضيل بن مرزوق ، عن عطية ، عن أبي سعيد ، عن أم سلمة ؛ أن هذه الآية نزلت في بيتها : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } قالت : وأنا جالسة على باب البيت فقلت : يا رسول الله ، ألستُ من أهل البيت ؟ فقال : " إنك إلى خير ، أنت من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم " قالت : وفي البيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلي ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين ، رضي الله عنهم{[23418]} .

طريق أخرى : رواه ابن جرير أيضا ، عن أبي كُرَيْب ، عن وَكِيع ، عن عبد الحميد بن بَهْرَام ، عن شَهْر بن حَوْشَب ، عن أم سلمة بنحوه{[23419]} .

طريق أخرى : قال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا خالد بن مَخْلَد ، حدثني موسى بن يعقوب ، حدثني هاشم بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، عن عبد الله بن وهب بن زَمْعَة قال : أخبرتني أم سلمة ، رضي الله عنها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع فاطمة والحسن والحسين ، ثم أدخلهم تحت ثوبه ، ثم جأر إلى الله ، عز وجل ، ثم قال : " هؤلاء أهل بيتي " . قالت أم سلمة : فقلت : يا رسول الله ، أدخلني معهم . فقال : " أنت من أهلي " {[23420]} .

طريق أخرى : رواه ابن جرير أيضا ، عن أحمد بن محمد الطوسي ، عن عبد الرحمن بن صالح ، عن محمد بن سليمان الأصبهاني ، عن يحيى بن عبيد المكي ، عن عطاء ، عن عمر بن أبي سلمة ، عن أمه بنحو ذلك{[23421]} .

طريق أخرى : قال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا مصعب بن المقدام ، حدثنا سعيد بن زربي ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة ، عن أم سلمة قالت : جاءت فاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببرمة لها قد صنعت فيها عَصيدَة تحملها على طبق ، فوضعتها بين يديه فقال : " أين ابن عمك وابناك ؟ " فقالت : في البيت . فقال : " ادعيهم " . فجاءت إلى علي فقالت : أجِبْ رسول الله أنت وابناك . قالت أم سلمة : فلما رآهم مقبلين مدَّ يده إلى كساء كان على المنامة ، فمده وبسطه ، وأجلسهم عليه ، ثم أخذ بأطراف الكساء الأربعة بشماله ، فضمه فوق رؤوسهم ، وأومأ بيده اليمنى إلى ربه ، عز وجل ، فقال : " اللهم ، هؤلاء أهل بيتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا " . {[23422]}

طريق أخرى : قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا عبد الله{[23423]} بن عبد القدوس ، عن الأعمش ، عن حكيم بن سعد قال : ذكرنا علي بن أبي طالب عند أم سلمة ، فقالت : في بيتي نزلت : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } . قالت أم سلمة : جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيتي فقال : " لا تأذني لأحد " . فجاءت فاطمة فلم أستطع أن أحجبها عن أبيها . ثم جاء الحسن فلم أستطع أن أحجبه عن أمه وجده ، ثم جاء الحسين فلم أستطع أن أحجبه ، ثم جاء علي فلم أستطع أن أحجبه ، فاجتمعوا فَجَلّلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكساء كان عليه ، ثم قال : " هؤلاء أهل بيتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا " . فنزلت هذه الآية حين اجتمعوا على البساط . قالت : فقلت : يا رسول الله ، وأنا ؟ قالت : فوالله ما أنعم ، وقال : " إنك إلى خير " {[23424]} .

حديث آخر : قال ابن جرير ، حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا محمد بن بشر{[23425]} عن زكريا ، عن مصعب بن شيبة ، عن صفية بنت شيبة قالت : قالت عائشة ، رضي الله عنها : خرج رسول الله {[23426]} صلى الله عليه وسلم ذات غداة ، وعليه مِرْط مُرَجل من شَعر أسود ، فجاء الحسن فأدخله معه ، ثم جاء الحسين فأدخله معه ، ثم جاءت فاطمة فأدخلها معه ، ثم جاء علي فأدخله معه ، ثم قال : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } .

ورواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن محمد بن بشر{[23427]} ، به . {[23428]}

طريق أخرى : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سُرَيج بن يونس أبو الحارث ، حدثنا محمد بن يزيد ، عن العوام - يعني : ابن حَوْشَب - عن عمٍّ له قال : دخلت مع أبي على عائشة ، فسألتها عن علي ، رضي الله عنه ، فقالت ، رضي الله عنها : تسألني عن رجل كان من أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت تحته ابنته وأحب الناس إليه ؟ لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليا وفاطمة وحسنا وحسينا ، فألقى عليهم ثوبا فقال : " اللهم ، هؤلاء أهل بيتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا " . قالت : فدنوت منه فقلت : يا رسول الله ، وأنا من أهل بيتك ؟ فقال : " تَنَحّي ، فإنك على خير " .

حديث آخر : قال ابن جرير حدثنا ابن المثنى ، حدثنا بكر{[23429]} بن يحيى بن زَبّان العَنزيّ ، حدثنا منْدَل ، عن الأعمش ، عن عطية ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نزلت هذه الآية في خمسة : فيّ ، وفي علي ، وحسن ، وحسين ، وفاطمة : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا }{[23430]} .

قد تقدم أن فضيل بن مرزوق رواه عن عطية ، عن أبي سعيد ، عن أم سلمة ، كما تقدم .

وروى ابن أبي حاتم من حديث هارون بن سعد العِجْلي ، عن عطية ، عن أبي سعيد موقوفا ، فالله أعلم .

حديث آخر : قال ابن جرير : حدثنا ابن المثنى ، حدثنا أبو بكر الحنفي ، حدثنا بُكَيْر بن مسمار قال : سمعت عامر بن سعد قال : قال سعد : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزل عليه الوحي ، فأخذ عليا وابنيه وفاطمة فأدخلهم تحت ثوبه ، ثم قال : " رب ، هؤلاء أهلي وأهل بيتي " {[23431]}

حديث آخر : وقال مسلم في صحيحه : حدثني زُهَير بن حرب ، وشُجاع بن مَخْلَد جميعا ، عن ابن عُلَيَّة - قال زهير : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، حدثني أبو حَيَّان ، حدثني يزيد بن حَيَّان قال : انطلقت أنا وحُصَين بن سَبْرَةَ وعمر بن مسلم{[23432]} إلى زيد بن أرقم ، فلما جلسنا إليه قال له حصين : لقد لقيتَ يا زيدُ خيرًا كثيرًا [ رأيتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعتَ حديثه ، وغزوتَ معه ، وصليتَ خلفه ، لقد لقيت يا زيد خيرًا كثيرًا ]{[23433]} ؛ حَدّثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : يا ا بن أخي ، والله لقد كَبرَت{[23434]} سِنِّي ، وقدم عهدي ، ونسيتُ بعض الذي كنتُ أعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما حَدّثتكُم فاقبلوا ، وما لا فلا تُكَلّفونيه . ثم قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما خطيبا بماء يدعى خُمًّا - بين مكة والمدينة - فحمد الله وأثنى عليه ، ووعظ وَذَكّر ، ثم قال : " أما بعد ، ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك{[23435]} أن يأتي رسول ربي فأجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين ، وأولهما كتاب الله ، فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به " . فَحَثّ على كتاب الله وَرَغَّب فيه ، ثم قال : " وأهل بيتي ، أذَكِّركم الله في أهل بيتي ، أذكِّركم الله في أهل بيتي " ثلاثا . فقال له حصين : ومن أهل بيته يا زيد ؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟ قال : نساؤه من أهل بيته ، ولكن أهل بيته من حُرِمَ الصّدَقة بعده . قال : ومَنْ هم ؟ قال هم آل علي ، وآل عَقِيل ، وآل جعفر ، وآل عباس . قال : كل هؤلاء حُرِمَ الصدقة ؟ قال : نعم{[23436]} .

ثم رواه عن محمد بن بَكَّار بن الريَّان ، عن حسان بن إبراهيم ، عن سعيد بن مسروق ، عن يزيد بن حَيَّان{[23437]} ، عن زيد بن أرقم ، فذكر الحديث بنحو ما تقدم ، وفيه : فقلنا له : مَنْ أهل بيته ؟ نساؤه ؟ قال : لا وايم الله ، إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها . أهل بيته أصله وعَصبَته الذين حُرموا الصدقة بعده{[23438]} .

هكذا وقع في هذه الرواية ، والأولى أولى ، والأخذ بها أحرى . وهذه الثانية تحتمل أنه أراد تفسير الأهل المذكورين في الحديث الذي رواه ، إنما المراد بهم آله الذين حُرموا الصدقة ، أو أنه ليس المراد بالأهل الأزواج فقط ، بل هم مع آله ، وهذا الاحتمال أرجح ؛ جمعا بينها وبين الرواية التي قبلها ، وجمعا أيضا بين القرآن والأحاديث المتقدمة إن صحت ، فإن في بعض أسانيدها نظرًا ، والله أعلم . ثم الذي لا يشك فيه من تَدَبَّر القرآن أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم داخلات في قوله تعالى : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } ، فإن سياق الكلام معهن ؛ ولهذا قال تعالى بعد هذا كله : { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ }


[23382]:- في ت: "ولا".
[23383]:- رواه بهذا اللفظ أبو داود في السنن برقم (565) من حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه ، وبالرواية الثانية برقم (567) من حديث ابن عمر ، رضي الله عنهما ، وأصله في الصحيحين من حديث ابن عمر.
[23384]:- في أ: "مسعود".
[23385]:- في ت: "وروى أبو بكر البزار بإسناده".
[23386]:- في ت: "المجاهد".
[23387]:- مسند البزار برقم (1475) "كشف الأستار" ورواه أبو يعلى في المسند (6/140) وابن حبان في المجروحين (1/299) من طريق أبي رجاء الكلبي بنحوه. قال ابن حبان: "وكان روح ممن يروي عن الثقات الموضوعات ، ويقلب الأسانيد ، ويرفع الموقوفات" ثم قال: "لا تحل الرواية عنه ولا كتابة حديثه إلا للاختبار". وقال ابن عدي في الكامل: "أحاديثه غير محفوظة".
[23388]:- في ت: "وروى".
[23389]:- في أ: "ما يكون".
[23390]:- سنن الترمذي برقم (1173) وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب". ورواه ابن خزيمة في صحيحه برقم (1685) ومن طريقه ابن حبان في صحيحه برقم (329) "موارد" عن عمرو بن عاصم ، به ، وشك ابن خزيمة في سماع قتادة هذا الحديث من مورق.
[23391]:- سنن أبي داود برقم (570).
[23392]:- في ت: "إسناده".
[23393]:- في أ: "لها".
[23394]:- في ت: "وروى ابن جرير بإسناده".
[23395]:- في ت ، ف: "وتنزل".
[23396]:- تفسير الطبري (22/4).
[23397]:- في ت: "أنزلت".
[23398]:- في ت: "وروى ابن أبي حاتم بسنده إلى".
[23399]:- في ت: "فروى الإمام أحمد بإسناده".
[23400]:- في ت: "حديث حسن".
[23401]:- المسند (3/259) وسنن الترمذي برقم (3206).
[23402]:- زيادة من ت ، ف ، أ ، والطبري.
[23403]:- تفسير الطبري (22/6) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (22/200) من طريق منصور بن الأسود ، عن أبي داود بنحوه.
[23404]:- في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده عن شداد بن عمار".
[23405]:- في ت: "عليهما".
[23406]:- في ت ، ف: "وقال: اللهم".
[23407]:- في أ: "عمر".
[23408]:- المسند (4/107) وتفسير الطبري (22/6).
[23409]:- تفسير الطبري (22/7) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (22/65) من طريق علي بن عبد العزيز عن الفضل بن دكين ، أبو نعيم به.
[23410]:- في ف: "وكان".
[23411]:- المسند (6/292) وقد سمى شيخ عطاء في رواية الطبراني في المعجم الكبير (9/11) فقال عن عطاء بن أبي رباح ، عن عمر بن أبي سلمة بنحوه.
[23412]:- في أ: "يسمع".
[23413]:- في أ: "العدل".
[23414]:- في ت: "وروى الإمام أحمد بسنده أن أم سلمة قالت".
[23415]:- في أ: "فتنحى لي عن".
[23416]:- المسند (6/296).
[23417]:- زيادة من: ت ، ف ، و"الطبري".
[23418]:- تفسير الطبري (22/7) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (23/249) من طريق فضيل بن مرزوق به مختصرا.
[23419]:- تفسير الطبري (22/6) ورواه الطحاوي في مشكل الآثار برقم (770) من طريق عبد الحميد بن بهرام ، به. ورواه الطبراني في المعجم الكبير (23/333) من طريق زبيد ، عن شهر بن حوشب ، عن أم سلمة.
[23420]:- تفسير الطبري (22/7) ورواه الطحاوي في مشكل الآثار برقم (763) من طريق خالد بن مخلد القطواني به.
[23421]:- تفسير الطبري (22/7) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (23/286) من طريق شريك ، عن عطاء ، عن أم سلمة.
[23422]:- تفسير الطبري (22/7).
[23423]:- في أ: "عبد الملك".
[23424]:- تفسير الطبري (22/7) ورواه الطحاوي في مشكل الآثار برقم (762) من طريق جرير بن عبد الحميد ، عن الأعمش بنحوه.
[23425]:- في أ: "بشير".
[23426]:- في ف: "النبي".
[23427]:- في أ: "بشير".
[23428]:- تفسير الطبري (22/5) وصحيح مسلم برقم (2081).
[23429]:- في ف: "بكير".
[23430]:- تفسير الطبري (22/5).
[23431]:- رواه الطبري في تفسيره (22/7) والنسائي في السنن الكبرى برقم (8439) من طريق أبي بكر الحنفي ، عن بكير بن مسمار ، به.
[23432]:- في ت ، ف ، أ: "سلمة".
[23433]:- زيادة من ت ، ف ، ومسلم.
[23434]:- في أ "كبر".
[23435]:- في ف: "فيوشك".
[23436]:- صحيح مسلم برقم (2408).
[23437]:- في أ: "حسان".
[23438]:- صحيح مسلم برقم (2408).
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَقَرۡنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ ٱلۡأُولَىٰۖ وَأَقِمۡنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرٗا} (33)

{ وقرن في بيوتكن } من وقر يقر وقارا أو من قر يقر حذفت الأولى من راءي أقررن ونقلت كسرتها إلى القاف ، فاستغني عن همزة الوصل ، ويؤيده قراءة نافع وعاصم بالفتح من قررت أقر وهو لغة فيه ، ويحتمل أن يكون من قار يقار إذا اجتمع . { ولا تبرجن } ولا تتبخترن في مشيكن . { تبرج الجاهلية الأولى } تبرجا مثل تبرج النساء في أيام الجاهلية القديمة ، وقيل هي ما بين آدم ونوح ، وقيل الزمان الذي ولد فيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، كانت المرأة تلبس درعا من اللؤلؤ فتمشي وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال . والجاهلية الأخرى ما بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، وقيل الجاهلية الأولى جاهلية الكفر قبل الإسلام ، والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق في الإسلام ، ويعضده قوله عليه الصلاة والسلام لأبي الدرداء رضي الله عنه " إن فيك جاهلية ، قال جاهلية كفر أو إسلام قال بل جاهلية كفر " . { وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله } في سائر ما أمركن به ونهاكن عنه . { إنما يريد ليذهب عنكم الرجس } الذنب المدنس لعرضكم ، وهو تعليل لأمرهن ونهيهن على الاستئناف ؛ولذلك عمم الحكم . { أهل البيت } نصب على النداء أو المدح . { ويطهركم } عن المعاصي . { تطهيرا } واستعارة الرجس للمعصية والترشيح بالتطهير للتنفير عنها ، وتخصيص الشيعة أهل البيت بفاطمة وعلي وابنيهما رضي الله عنهم لما روي " أنه عليه الصلاة والسلام خرج ذات غدوة وعليه مرط مرجل من شعر أسود فجلس فأتت فاطمة رضي الله عنها فأدخلها فيه ثم جاء علي فأدخله فيه ثم جاء الحسن والحسين رضي الله عنهما فأدخلهما فيه ثم قال : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت } ، والاحتجاج بذلك على عصمتهم وكون إجماعهم حجة ضعيف ؛لأن التخصيص بهم لا يناسب ما قبل الآية وما بعدها ، والحديث يقتضي أنهم من أهل البيت لا أنه ليس غيرهم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَقَرۡنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ ٱلۡأُولَىٰۖ وَأَقِمۡنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرٗا} (33)

قرأ الجمهور «وقِرن » بكسر القاف ، وقرأ عاصم ونافع «وقَرن » بالفتح ، فأما الأولى فيصح أن تكون من الوقار تقول وقر يقر فقرن مثل عدن أصله أو قرن ، ويصح أن تكون من القرار وهو قول المبرد تقول قررت بالمكان بفتح القاف والراء أقر ، فأصله أقررن حذفت الراء الواحدة تخفيفاً ، كما قالوا في ظللت ظلت ، ونقلوا حركتها إلى القاف ، واستغني عن الألف{[9509]} ، وقال أبو علي : بل أعل بأن أبدلت الراء ياء ونقلت حركتها إلى القاف ثم حذفت الياء لسكونها وسكون الراء بعدها ، وأما من فتح القاف فعلى لغة العرب قرِرت بكسر الراء أقر بفتح القاف في المكان وهي لغة ذكرها أبو عبيد في الغريب المصنف ، وذكرها الزجاج وغيره ، وأنكرها قوم ، منهم المازني وغيره ، قالوا وإنما يقال قررت بكسر الراء من قرت العين ، وأما من القرار فإنما هو من قررت بفتح الراء ، وقرأ عاصم «في بِيوتكن » بكسر الباء ، وقرأ ابن أبي عبلة «واقرِرن » بألف وصل وراءين الأولى مكسورة ، فأمر الله تعالى في هذه الآية نساء النبي بملازمة بيوتهن ونهاهن عن التبرج وأعلمهن أنه فعل { الجاهلة الأولى } ، وذكر الثعلبي وغيره أن عائشة رضي الله عنها كانت إذا قرأت هذه الآية تبكي حتى تبل خمارها ، وذكر أن سودة قيل لها لم لا تحجين ولا تعتمرين كما يفعل أخواتك ، فقالت قد حججت واعتمرت وأمرني الله تعالى أن أقر في بيتي قال الراوي : فوالله ما خرجت من باب حجرتها حتى خرجت جنازتها .

قال القاضي أبو محمد : وبكاء عائشة رضي الله عنها إنما كان بسبب سفرها أيام الجمل وحينئذ قال لها عمار : إن الله أمرك أن تقري في بيتك ، و «التبرج » ، إظهار الزينة والتصنع بها ومنه البروج لظهورها وانكشافها للعيون ، واختلف الناس في { الجاهلية الأولى } فقال الحكم بن عيينة ما بين آدم ونوح وهي ثمانمائة سنة ، وحكيت لهم سير ذميمة ، وقال الكلبي وغيره ما بين نوح وإبراهيم ، وقال ابن عباس ما بين نوح وإدريس وذكر قصصاً ، وقالت فرقة ما بين موسى وعيسى ، وقال عامر الشعبي ما بين عيسى ومحمد ، وقال أبو العالية هو زمان سليمان وداود كان فيه للمرأة قميص من الدر غير مخيط الجانبيين .

قال الفقيه الإمام القاضي : والذي يظهر عندي أنه أشار إلى الجاهلية التي لحقتها فأمرن بالنقلة عن سيرتهن فيها ، وهي ما كان قبل الشرع من سيرة الكفرة لأنهم كانوا لا غيرة عندهم فكان أمر النساء دون حجبة ، وجعلها أولى بالإضافة إلى حالة الإسلام ، وليس المعنى أن ثم جاهلية أخرى ، وقد مر اسم الجاهلية على تلك المدة التي قبيل الإسلام فقالوا جاهلي في الشعراء ، وقال ابن عباس في البخاري سمعت أبي في { الجاهلية } يقول إلى غير هذا ، و { الرجس } اسم يقع على الإثم وعلى العذاب وعلى النجاسات والنقائص ، فأذهب الله جميع ذلك عن { أهل البيت } ، ونصب { أهل البيت } على المدح أو على النداء المضاف ، أو بإضمار أعني ، واختلف الناس في { أهل البيت } من هم ، فقال عكرمة ومقاتل وابن عباس هم زوجاته خاصة لا رجل معهن ، وذهبوا إلى أن البيت أريد به مساكن النبي صلى الله عليه وسلم .

وقالت فرقة : هي الجمهور { أهل البيت } علي وفاطمة والحسن والحسين ، وفي هذا أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال أبو سعيد الخدري : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «نزلت هذه الآية في خمسة فيّ وفي علي وفاطمة والحسن والحسين {[9510]} » رضي الله عنهم ، ومن حجة الجمهور قوله { عنكم } و { يطهركم } بالميم ، ولو كان النساء خاصة لكان عنكن .

قال القاضي أبو محمد : والذي يظهر إليّ أن زوجاته لا يخرجن عن ذلك البتة ، ف { أهل البيت } زوجاته وبنته وبنوها وزوجها ، وهذه الآية تقضي أن الزوجات من { أهل البيت } لأن الآية فيهن والمخاطبة لهن ، أما أن أم سلمة قالت نزلت هذه الآية في بيتي فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فدخل معهم تحت كساء خيبري وقال «هؤلاء أهل بيتي » ، وقرأ الآية وقال اللهم «أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً » ، قالت أم سلمة فقلت : وأنا يا رسول الله ، فقال «أنت من أزواج النبي وأنت إلي خير »{[9511]} ، وقال الثعلبي قيل هم بنو هاشم فهذا على أن { البيت } يراد به بيت النسب ، فيكون العباس وأعمامه وبنو أعمامه منهم ، وروي نحوه عن زيد بن أرقم رضي الله عنه .


[9509]:نسب القرطبي هذا القول للمبرد، والذي يظهر أنه رأي الفراء؛ إذ قال في(معاني القرآن):"أرادوا: واقررن في بيوتكن، فحذفوا الراء الأولى، فحولت فتحتها في القاف، كما قالوا: هل أحست صاحبك؟ وكما قال:[فظلتم] يريد: فظللتم"، يقصد قوله تعالى في الآية(65) من سورة(الواقعة):{لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون}.
[9510]:أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.(الدر المنثور).
[9511]:أخرجه ابن مردويه عن أم سلمة، وأخرج مثله الطبراني عنها أيضا، وأخرج مثلهما ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه عن أم سلمة أيضا.وأخرج مثل هذه الأحاديث ابن مردويه والخطيب عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.(الدر المنثور)- وقد وردت فيذلك أحاديث كثيرة، منها ما رواه الإمام أحمد عن أنس ابن مالك رضي الله عنه أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمر بباب فاطمة رضي الله عنها ستة أشهر إذا خرج لصلاة الفجر، يقول:(الصلاة يا أهل البيت، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا)، قال ابن كثير، ورواه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَقَرۡنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ ٱلۡأُولَىٰۖ وَأَقِمۡنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرٗا} (33)

{ وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ } .

هذا أمر خُصِّصْنَ به وهو وجوب ملازمتهن بيوتهن توقيراً لهن ، وتقوية في حرمتهن ، فقرارهن في بيوتهن عبادة ، وأن نزول الوحي فيها وتردد النبي صلى الله عليه وسلم في خلالها يكسبها حرمة . وقد كان المسلمون لما ضاق عليهم المسجد النبوي يصلُّون الجمعة في بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث « الموطأ » . وهذا الحكم وجوب على أمهات المؤمنين وهو كمال لسائر النساء .

وقرأ نافع وعاصم وأبو جعفر بفتح القاف . ووجهها أبو عبيدة عن الكسائي والفراء والزجاج بأنها لغة أهل الحجاز في قَرّ بمعنى : أقام واستقرّ ، يقولون : قَرِرت في المكان بكسر الراء من باب عَلم فيجيء مضارعه بفتح الراء فأصل قَرْن اقْرَرْن فحذفت الراء الأولى للتخفيف من التضعيف وألقيت حركتها على القاف نظير قولهم : أحَسْنَ بمعنى أَحْسَسْنَ في قول أبي زُبيد :

سوى أن الجياد من المطايا *** أحَسْن به فهُن إليه شُوس

وأنكر المازني وأبو حاتم أن تكون هذه لغة ، وزعم أن قرِرت بكسر الراء في الماضي لا يرد إلا في معنى قُرّة العين ، والقراءة حجة عليهما . والتزم النحاس قولهما وزعم أن تفسير الآية على هذه القراءة أنها من قرّة العين وأن المعنى : واقررن عيوناً في بيوتكن ، أي لَكُنّ في بيوتكن قُرّة عين فلا تتطلعن إلى ما جاوز ذلك ، أي فيكون كناية عن ملازمة بيوتهن .

وقرأ بقية العشرة { وقرن } بكسر القاف . قال المبرد : هو من القرار ، أصله : اقرِرن بكسر الراء الأولى فحذفت تخفيفاً ، وألقيت حركتها على القاف كما قالوا : ظَلْت ومَسْت . وقال ابن عطية : يصح أن يكون قِرْن ، أي بكسر القاف أمراً من الوقار ، يقال : وَقر فلان يقِر ، والأمر منه قِر للواحد ، وللنساء قِرن مثل عِدن ، أي فيكون كناية عن ملازمة بيوتهن مع الإِيماء إلى علة ذلك بأنه وقار لهن .

وقرأ الجمهور { بيوتكن } بكسر الباء . وقرأه ورش عن نافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم وأبو جعفر بضم الباء .

وإضافة البيوت إليهن لأنهن ساكنات بها أسكَنهُنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت بيوت النبي صلى الله عليه وسلم يميَّز بعضها عن بعض بالإِضافة إلى ساكنة البيت ، يقولون : حُجرة عائشة ، وبيت حفصة ، فهذه الإِضافة كالإِضافة إلى ضمير المطلقات في قوله تعالى : { لا تخرجوهن من بيوتهن } [ الطلاق : 1 ] . وذلك أن زوج الرجل هي ربة بيته ، والعرب تدعو الزوجة البيت ولا يقتضي ذلك أنها ملك لهُنّ لأن البيوت بناها النبي صلى الله عليه وسلم تباعاً تبعاً لبناء المسجد ، ولذلك لما تُوفِّيت الأزواج كلهن أدخلت ساحة بيوتهن إلى المسجد في التوسعة التي وسعها الخليفة الوليد بن عبد الملك في إمارة عمر بن عبد العزيز على المدينة ولم يُعطِ عوضاً لورثتهن .

وهذه الآية تقتضي وجوب مكث أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في بيوتهن وأن لا يخرجن إلا لضرورة ، وجاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله أَذِنَ لكُنَّ أن تخرجن لحوائجكن " يريد حاجات الإِنسان . ومحمل هذا الأمر على ملازمة بيوتهن فيما عدا ما يضطر فيه الخروج مثل موت الأبوين . وقد خرجت عائشة إلى بيت أبيها أبي بكر في مرضه الذي مات فيه كما دل عليه حديثه معها في عطيته التي كان أعطاها من ثمرة نخلة وقوله لها : " وإنما هو اليومَ مالُ وارث " رواه في « الموطأ » . وكُنّ يخرُجْن للحج وفي بعض الغزوات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن مقر النبي صلى الله عليه وسلم في أسفاره قائم مقام بيوته في الحَضَر ، وأبت سودة أن تخرج إلى الحجّ والعمرة بعد ذلك . وكل ذلك مما يفيد إطلاق الأمر في قوله : { وقرن في بيوتكن } .

ولذلك لما مات سعد بن أبي وقاص أمرت عائشة أن يُمَرّ عليها بجنازته في المسجد لتدعو له ، أي لتصلي عليه . رواه في « الموطأ » .

وقد أشكل على الناس خروج عائشة إلى البصرة في الفتنة التي تدعى : وقْعةَ الجَمَل ، فلم يغير عليها ذلك كثير من جِلّة الصحابة منهم طلحة والزبير . وأنكر ذلك عليها بعضهم مثل : عَمار بن ياسر ، وعلي بن أبي طالب ، ولكلَ نظَر في الاجتهاد . والذي عليه المحققون مثل أبي بكر بن العربي أن ذلك كان منها عن اجتهاد فإنها رأت أن في خروجها إلى البصرة مصلحة للمسلمين لتسعى بين فريقي الفتنة بالصلح فإن الناس تعلّقوا بها وشكَوْا إليها ما صاروا إليه من عظيم الفتنة ورجَوْا بركتها أن تخرج فتصلح بين الفريقين ، وظنّوا أن الناس يستحيون منها فتأولت لخروجها مصلحة تفيد إطلاق القَرار المأمور به في قوله تعالى : { وقرن في بيوتكن } يكافىء الخروج للحج . وأخذت بقوله تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } [ الحجرات : 9 ] ورأت أن الأمر بالإصلاح يشملها وأمثالها ممن يرجون سماع الكلمة ، فكان ذلك منها عن اجتهاد . وقد أشار عليها جمع من الصحابة بذلك وخرجوا معها مثل طلحة والزبير وناهيك بهما . وهذا من مواقع اجتهاد الصحابة التي يجب علينا حملها على أحسن المخارج ونظن بها أحسن المذاهب ، كقولنا في تقاتلهم في صِفِّين وكاد أن يصلح الأمر ولكن أفسده دعاة الفتنة ولم تشعر عائشة إلا والمقاتَلة قد جرت بين فريقين من الصحابة يوم الجمل . ولا ينبغي تقلد كلام المؤرخين على علاّته فإن فيهم من أهل الأهواء ومن تلقّفوا الغثّ والسمين . وما يذكر عنها رضي الله عنها : أنها كانت إذا قَرأت هذه الآية تبكي حتى يبتلّ خمارها ، فلا ثقة بصحة سنده ، ولو صحّ لكان محمله أنها أسفت لتلك الحوادث التي ألجأتها إلى الاجتهاد في تأويل الآية .

{ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى } .

التبرج : إظهار المرأة محاسن ذاتها وثيابها وحليها بمرأى الرجال . وتقدم في قوله تعالى : { غير متبرجات بزينة } في سورة النور ( 60 ) .

وانتصب { تبرج الجاهلية الأولى } على المفعول المطلق ، وهو في معنى الوصف الكاشف أريد به التنفير من التبرّج . والمقصود من النهي الدوام على الانكفاف عن التبرج وأنهن منهياتٌ عنه . وفيه تعريض بنهي غيرهن من المسلمات عن التبرج ، فإن المدينة أيامئذٍ قد بقي فيها نساء المنافقين وربما كُنَّ على بقية من سيرتهن في الجاهلية فأريد النداء على إبطال ذلك في سيرة المسلمات ، ويظهر أن أمهات المؤمنين منهيات عن التبرج مطلقاً حتى في الأحوال التي رُخّص للنساء التبرج فيها في سورة النور في بيوتهن لأن ترك التبرج كمال وتنزه عن الاشتغال بالسفاسف .

فنسب إلى أهل الجاهلية إذ كان قد تقرر بين المسلمين تحقير ما كان عليه أمر الجاهلية إلا مَا أقرّه الإسلام .

و { الجاهلية } : المدة التي كانت عليها العرب قبل الإسلام ، وتأنيثها لتأويلها بالمُدة . والجاهلية نسبة إلى الجاهل لأن الناس الذين عاشوا فيها كانوا جاهلين بالله وبالشرائع ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { يظنون بالله غير الحق ظنّ الجاهلية } في سورة آل عمران ( 154 ) .

ووصفُها { بالأولى } وصف كاشف لأنها أولى قبل الإسلام ، وجاء الإِسلام بعدها فهو كقوله تعالى : { وأنه أهلك عاداً الأولى } [ النجم : 50 ] ، وكقولهم : العشاء الآخرة ، وليس ثمة جاهليتان أولى وثانية . ومن المفسرين من جعلوه وصفاً مقيِّداً وجعلوا الجاهلية جاهليتين ، فمنهم من قال : الأولى هي ما قبل الإسلام وستكون جاهلية أخرى بعد الإسلام يعني حين ترتفع أحكام الإسلام والعياذ بالله . ومنهم من قال : الجاهلية الأولى هي القديمة من عهد ما قبل إبراهيم ولم يكن للنساء وازع ولا للرجال ، ووضعوا حكايات في ذلك مختلفة أو مبالغاً فيها أو في عمومها ، وكل ذلك تكلف دعاهم إليه حمل الوصف على قصد التقييد .

{ وَأَقِمْنَ الصلاة وَءَاتِينَ الزكواة وَأَطِعْنَ اللهَ ورَسُوله } .

أريد بهذه الأوامر الدوام عليها لأنهن متلبسات بمضمونها من قبل ، وليعلم الناس أن المقربين والصالحين لا ترتفع درجاتهم عند الله تعالى عن حق توجه التكليف عليهم . وفي هذا مقمع لبعض المتصوفين الزاعمين أن الأولياء إذا بلغوا المراتب العليا من الولاية سقطت عنهم التكاليف الشرعية .

وخصّ الصلاة والزكاة بالأمر ثم جاء الأمر عاماً بالطاعة لأن هاتين الطاعتين البدنية والمالية هما أصل سائر الطاعات فمن اعتنى بهما حق العناية جرّتاه إلى ما وراءهما ، قال تعالى : { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } وقد بيناه في سورة العنكبوت ( 45 ) .

{ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّركم تَطْهِيراً } .

متصل بما قبله إذ هو تعليل لما تضمنته الآيات السابقة من أمر ونهي ابتداء من قوله تعالى : { يا نساء النبي من يأت منكن } [ الأحزاب : 30 ] الآية . فإن موقع { إنما } يفيد ربط ما بعدها بما قبلها لأن حرف ( إنَّ ) جزء من { إنما } وحرف ( إن ) من شأنه أن يغني غناء فاء التسبب كما بينه الشيخ عبد القاهر ، فالمعنى أمَركن الله بما أمر ونَهاكُنّ عما نهى لأنه أراد لكُنّ تخلية عن النقائص والتحْلية بالكمالات .

وهذا التعليل وقع معترضاً بين الأوامر والنواهي المتعاطفة .

والتعريف في { البيت } تعريف العهد وهو بيت النبي صلى الله عليه وسلم وبيوت النبي عليه الصلاة والسلام كثيرة فالمراد بالبيت هنا بيت كل واحدة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وكل بيت من تلك البيوت أهله النبي صلى الله عليه وسلم وزوجه صاحبة ذلك ، ولذلك جاء بعده قوله : { واذكرن ما يتلى في بيوتكن } [ الأحزاب : 34 ] ، وضميرَا الخطاب موجهان إلى نساء النبي صلى الله عليه وسلم على سَنن الضمائر التي تقدمت . وإنما جيء بالضميرين بصيغة جمع المذكر على طريقة التغليب لاعتبار النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الخطاب لأنه رب كل بيت من بيوتهن وهو حاضر هذا الخطاب إذ هو مبلغه . وفي هذا التغليب إيماء إلى أن هذا التطهير لهنّ لأجل مقام النبي صلى الله عليه وسلم لتكون قريناته مشابهات له في الزكاء والكمال ، كما قال الله تعالى : { والطيبات للطيبين } [ النور : 26 ] يعني أزواج النبي للنبيء صلى الله عليه وسلم وهو نظير قوله في قصة إبراهيم : { رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت } [ هود : 73 ] والمخاطب زوج إبراهيم وهو معها .

و { الرجس } في الأصل : القذر الذي يلوّث الأبدان ، واستعير هنا للذنوب والنقائص الدينية لأنها تجعل عِرض الإنسان في الدنيا والآخرة مرذولاً مكروهاً كالجسم الملوّث بالقذر . وقد تقدم في قوله تعالى : { رجس من عمل الشيطان } في سورة العقود ( 90 ) . واستعير التطهير لضد ذلك وهو تجنيب الذنوب والنقائص كما يكون الجسم أو الثوب طاهراً .

واستعير الإِذهاب للإِنجاء والإِبعاد .

وفي التعبير بالفعل المضارع دلالة على تجدد الإرادة واستمرارها ، وإذا أراد الله أمراً قدّره إذ لا رادّ لإِرادته .

والمعنى : ما يريد الله لكُنّ مما أمركن ونهاكن إلا عصمتَكُنّ من النقائص وتحليتكن بالكمالات ودوامَ ذلك ، أي لا يريد من ذلك مقتاً لكنّ ولا نكاية . فالقصر قصر قلب كما قال تعالى : { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم } [ المائدة : 6 ] . وهذا وجه مجيء صيغة القصر ب { إنما } . والآية تقتضي أن الله عصم أزواج نبيئه صلى الله عليه وسلم من ارتكاب الكبائر وزكى نفوسهن .

و { أهل البيت } : أزواج النبي صلى الله عليه وسلم والخطاب موجه إليهن وكذلك ما قبله وما بعده لا يخالط أحداً شك في ذلك ، ولم يفهم منها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعون إلا أن أزواج النبي عليه الصلاة والسلام هن المراد بذلك وأن النزول في شأنهنّ .

وأما ما رواه الترمذي عن عطاء بن أبي رباح عن عُمر بن أبي سلمة قال : لما نزلت على النبي : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً } في بيت أم سلمة دعا فاطمةَ وحسناً وحسيناً فجَلَّلهم بكساء وعليٌّ خلْف ظهره ثم قال : " اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهِب عنهم الرجس وطهِّرهم تطهيراً " . وقال : هو حديث غريب من حديث عطاء عن عمر بن أبي سلمة ولم يَسِمْه الترمذي بصحة ولا حُسن ، ووسمه بالغرابَة . وفي « صحيح مسلم » عن عائشة : خرج رسول الله غداةً وعليه مرط مرحَّل فجاء الحسن فأدخله ، ثم جاء الحسين فأدخله ، ثم جاءت فاطمة فأدخلها ، ثم جاء علي فأدخله ، ثم قال : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً } . وهذا أصرح من حديث الترمذي .

فمَحمله أن النبي صلى الله عليه وسلم ألحق أهل الكساء بحكم هذه الآية وجعلهم أهلَ بيته كما ألحق المدينةَ بمكة في حكم الحَرَمية بقوله : " إن إبراهيم حرّم مكة وإني أحرّم ما بينَ لابتيها " . وتَأوُّل البيت على معنييه الحقيقي والمجازي يصدق ببيت النسب كما يقولون : فيهم البيتُ والعَدد ، ويكون هذا من حَمل القرآن على جميع محامله غير المتعارضة كما أشرنا إليه في المقدمة التاسعة . وكأنَّ حكمة تجليلهم معه بالكساء تقويةُ استعارة البيت بالنسبة إليهم تقريباً لصورة البيت بقدر الإمكان في ذلك الوقت ليكون الكساء بمنزلة البيت ووجود النبي صلى الله عليه وسلم معهم في الكساء كما هو في حديث مسلم تحقيق لكون ذلك الكساء منسوباً إليه ، وبهذا يتضح أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم هن آل بيته بصريح الآية ، وأن فاطمة وابنيْها وزوجها مجعولون أهل بيته بدعائه أو بتأويل الآية على محاملها . ولذلك هُمْ أهل بيته بدليل السنة ، وكل أولئك قد أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، بعضه بالجعل الإلهي ، وبعضه بالجعل النبوي ، ومثله قول النبي صلى الله عليه وسلم " سَلْمان منّا أهلَ البيت " . وقد استوعب ابن كثير روايات كثيرة من هذا الخبر مقتضية أن أهل البيت يشمل فاطمة وعليّاً وحسناً وحسيناً . وليس فيها أن هذه الآية نزلت فيهم إلا حديثاً واحداً نسبه ابن كثير إلى الطبري ولم يوجد في تفسيره عن أم سلمة أنها ذكر عندها علي بن أبي طالب فقالت : فيه نزلت : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً } وذكرتْ خبر تجليله مع فاطمة وابنيه بكساء ( وذكر مصحّح طبعة « تفسير ابن كثير » أن في متن ذلك الحديث اختلافاً في جميع النسخ ولم يفصله المصحّح ) .

وقد تلقّف الشيعة حديث الكساء فغصبوا وصف أهل البيت وقصروه على فاطمة وزوجها وابنيهما عليهم الرضوان ، وزعموا أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لسن من أهل البيت . وهذه مصادمة للقرآن بجعل هذه الآية حشواً بين ما خوطب به أزواج النبي . وليس في لفظ حديث الكساء ما يقتضي قصر هذا الوصف على أهل الكساء إذ ليس في قوله : « هؤلاء أهل بيتي » صيغة قصر وهو كقوله تعالى : { إن هؤلاء ضيفي } [ الحجر : 68 ] ليس معناه ليس لي ضيف غيرهم ، وهو يقتضي أن تكون هذه الآية مبتورة عما قبلها وما بعدها . ويظهر أن هذا التوهم من زمن عصر التابعين ، وأن منشأه قراءة هذه الآية على الألسن دون اتصال بينها وبين ما قبلها وما بعدها . ويدل لذلك ما رواه المفسرون عن عكرمة أنه قال : من شاء بأهلية أنها نزلت في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأنه قال أيضاً : ليس بالذي تذهبون إليه ، إنما هو نساء النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان يصرخ بذلك في السوق . وحديث عمر بن أبي سلمة صريح في أن الآية نزلت قبل أن يدعو النبي الدعوة لأهل الكساء وأنها نزلت في بيت أم سلمة .

وأما ما وقع من قول عُمر بن أبي سلمة : أن أم سلمة قالت : وأنا معهم يا رسول الله ؟ . . . فقال : " أنت على مكانك وأنتِ على خير " . فقد وهم فيه الشيعة فظنوا أنه منعها من أن تكون من أهل بيته ، وهذه جهالة لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد أن ما سألته من الحاصل ، لأن الآية نزلت فيها وفي ضرائرها ، فليست هي بحاجة إلى إلحاقها بهم ، فالدعاء لها بأن يذهب الله عنها الرجس ويطهرها دعاء بتحصيل أمر حصل وهو مناف بآداب الدعاء كما حرره شهاب الدين القرافي في الفرق بين الدعاء المأذون فيه والدعاء الممنوع منه ، فكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم تعليماً لها . وقد وقع في بعض الروايات أنه قال لأم سلمة : " إنككِ من أزواج النبي " . وهذا أوضح في المراد بقوله : « إنك على خير » .

ولما استجاب الله دعاءه كان النبي صلى الله عليه وسلم يطلق أهل البيت على فاطمة وعلي وابنيهما ، فقد روى الترمذي عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمر بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول : " الصلاة يا أهل البيت { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً } " قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه .

واللام في قوله : { ليذهب } لام جرّ تزاد للتأكيد غالباً بعد مادتي الإرادة والأمر ، وينتصب الفعل المضارع بعدها ب ( أنْ ) مضمرة إضماراً واجباً ، ومنه قوله تعالى : { وأمرنا لنسلم لرب العالمين } [ الأنعام : 71 ] ، وقول كثير :

أُريد لأنسَى حبها فكأنما *** تمثَّلُ لي ليلى بكل مكان

وعن النحاس أن بعض القراء سماها ( لام أَنْ ) وتقدم قوله تعالى : { يريد الله ليبين لكم } في سورة النساء ( 26 ) .

وقوله : { أهل البيت } نداء للمخاطبين من نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع حضرة النبي عليه الصلاة والسلام ، وقد شمل كلَّ من ألحق النبي صلى الله عليه وسلم بهن بأنه من أهل البيت وهم : فاطمة وابناها وزوجها وسلمان لا يعدُو هؤلاء .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَقَرۡنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ ٱلۡأُولَىٰۖ وَأَقِمۡنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرٗا} (33)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وقرن في بيوتكن} ولا تخرجن من الحجاب.

{ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى} والتبرج أنها تلقي الخمار عن رأسها ولا تشده، فيرى قرطها وقلائدها.

{ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى} قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم... أمرهن أيضا بالعفة وأمر بضرب الحجاب عليهن.

{وأقمن الصلاة وآتين الزكاة} وأعطين الزكاة {وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس} الإثم، نهاهن عنه في هذه الآيات؛ ومن الرجس الذي يذهبه الله عنهن إنزال الآيات بما أمرهن به، فإن تركهن ما أمرهن به وارتكابهن ما نهاهن عنه من الرجس، فذلك قوله: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس} يا {أهل البيت} يعني نساء النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهن في بيته.

{ويطهركم} من الإثم الذي ذكر في هذه الآيات {تطهيرا}.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

واختلفت القرّاء في قراءة قوله:"وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنّ"، فقرأته عامة قرّاء المدينة وبعض الكوفيين: "وَقَرْنَ "بفتح القاف، بمعنى: واقررن في بيوتكنّ... وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة والبصرة «وَقِرْنَ» بكسر القاف، بمعنى: كنّ أهل وقار وسكينة فِي بُيُوتِكُنّ...

وقوله: "وَلا تَبَرّجْنَ تُبرّجَ الجاهِلِيّةِ الأُولى "قيل: إن التبرّج في هذا الموضع التبخْتُر والتكسّر... وقيل: إن التبرّج هو إظهار الزينة، وإبراز المرأة محاسنها للرجال.

وأما قوله: "تَبرّجَ الجاهِلِيّةِ الأُولى" فإن أهل التأويل اختلفوا في الجاهلية الأولى؛ فقال بعضهم: ذلك ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام...

وقال آخرون: ذلك ما بين آدم ونوح...

وقال آخرون: بل ذلك بين نوح وإدريس...

وأَولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره نهى نساء النبيّ أن يتبرّجن تبرّج الجاهلية الأولى، وجائز أن يكون ذلك ما بين آدم وعيسى، فيكون معنى ذلك: ولا تبرّجن تبرّج الجاهلية الأولى التي قبل الإسلام.

فإن قال قائل: أَوَ في الإسلام جاهلية حتى يقال: عنى بقوله الجاهِلِيّةِ الأولى التي قبل الإسلام؟ قيل: فيه أخلاقٌ من أخلاق الجاهلية. كما:

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: وَلا تَبرّجْنَ تَبرّجَ الجاهِلِيّةِ الأُولى قال: يقول: التي كانت قبل الإسلام، قال: وفي الإسلام جاهلية؟ قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي الدرداء، وقال للرجل وهو ينازعه: يا ابْن فلانة، لأُمّ كان يعيره بها في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا الدّرْدَاءِ إنّ فِيكَ جاهِلِيّةً»، قال: أجاهلية كفر أو إسلام؟ قال: «بل جاهِلِيّةُ كُفْرٍ»، قال: فتمنيت أن لو كنت ابتدأت إسلامي يومئذ. قال: وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ثَلاثٌ مِنْ عَمَلِ أهْلِ الجاهِلِيّةِ لا يَدَعُهُنّ النّاسُ: الطّعْنُ بالأنْساب، والاسْتِمْطارُ بالكَوَاكِبِ، والنّياحَةُ»...

وجائز أن يكون ذلك ما بين آدم ونوح. وجائز أن يكون ما بين إدريس ونوح، فتكون الجاهلية الاَخرة، ما بين عيسى ومحمد، وإذا كان ذلك مما يحتمله ظاهر التنزيل. فالصواب أن يقال في ذلك، كما قال الله: إنه نهى عن تبرّج الجاهلية الأولى.

وقوله: "وأقِمْنَ الصّلاةَ وآتِينَ الزّكاةَ" يقول: وأقمن الصلاة المفروضة، وآتين الزكاة الواجبة عليكنّ في أموالكنّ، "وَأطِعْنَ اللّهَ وَرَسُولهُ" فيما أمراكنّ ونهياكنّ. "إنّمَا يُريدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أهْلَ البَيْتِ" يقول: إنما يريد الله ليذهب عنكم السوء والفحشاء يا أهل بيت محمد، ويطهركم من الدنس الذي يكون في أهل معاصي الله تطهيرا...

اختلف أهل التأويل في الذين عنوا بقوله "أهْلَ البَيْتِ"؛

فقال بعضهم: عني به رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليّ وفاطمة والحسن والحسين رضوان الله عليهم...

حدثني أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري، عن أمّ سلمة، قالت: لما نزلت هذه الآية: إنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيرا، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا، فجلل عليهم كساء خَيبريا، فقال: «اللّهُمّ هَؤُلاءِ أهْلُ بَيْتِي، اللّهُمّ أذْهِبْ عَنْهُمُ الرّجْسَ وَطَهّرْهُمْ تَطْهِيرا» قالت أمّ سلمة: ألستُ منهم؟ قال: أنت إلى خَيْرٍ...

وقال آخرون: بل عنى بذلك أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :

(ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) قال المبرد: التبرج هو أن تظهر من نفسها ما أمرت بستره.

(ويطهركم تطهيرا) بالتوفيق والهداية.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

أمرهن أمراً خاصاً بالصلاة والزكاة، ثم جاء به عاماً في جميع الطاعات؛ لأن هاتين الطاعتين البدنية والمالية هما أصل سائر الطاعات، من أعتنى بهما حق اعتنائه جرّتاه إلى ما وراءهما.

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

قَوْلُهُ: {أَهْلَ الْبَيْتِ} رُوِيَ عن عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا، وَجَعَلَ عَلِيًّا خَلْفَ ظَهْرِهِ، وَجَلَّلَهُمْ بِكِسَاءٍ، ثُمَّ قَالَ: (اللَّهُمَّ إنَّ هَؤُلَاءِ أَهْلَ بَيْتِي، فَأَذْهِبْ عَنْهُمْ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا. قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: وَأَنَا مَعَهُمْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ. قَالَ: أَنْتِ عَلَى مَكَانِك، وَأَنْتِ عَلَى خَيْرٍ).

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

ليس التكليف في النهي فقط حتى يحصل بقوله تعالى: {لا تخضعن ولا تبرجن} بل فيه وفي الأوامر {فأقمن الصلاة} التي هي ترك التشبه بالجبار المتكبر.

{وآتين الزكاة} التي هي تشبه بالكريم الرحيم.

{ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم} فيه لطيفة وهي أن الرجس قد يزول عينا ولا يطهر المحل، فقوله تعالى: {ليذهب عنكم الرجس} أي يزيل عنكم الذنوب ويطهركم أي يلبسكم خلع الكرامة {ليذهب عنكم الرجس} ليدخل فيه نساء أهل بيته ورجالهم، واختلفت الأقوال في أهل البيت، والأولى أن يقال هم أولاده وأزواجه والحسن والحسين منهم وعلي منهم لأنه كان من أهل بيته بسبب معاشرته ببنت النبي عليه السلام وملازمته للنبي.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}: وهذا نص في دخول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في أهل البيت هاهنا؛ لأنهن سبب نزول هذه الآية، وسبب النزول داخل فيه قولا واحدا، إما وحده على قول، أو مع غيره على الصحيح.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{تبرج الجاهلية الأولى} أي المتقدمة على الإسلام وعلى ما قبل الأمر بالحجاب.

{وأقمن الصلاة} أي فرضاً ونفلاً، صلة لما بينكن وبين الخالق لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وفي هذا بشارة بالفتوح وتوسيع الدنيا عليهن، فإن العيش وقت نزولها كان ضيقاً عن القوت فضلاً عن الزكاة.

{وأطعن الله} أي ذاكرات ما له من صفات الكمال {ورسوله} في جميع ما يأمران به؛ فإنه لم يرسل إلا للأمر والنهي تخليصاً للخلائق من أسر الهوى.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(وقرن في بيوتكن)..

من وقر، يقر، أي ثقل واستقر. وليس معنى هذا الأمر ملازمة البيوت فلا يبرحنها إطلاقا. إنما هي إيماءة لطيفة إلى أن يكون البيت هو الأصل في حياتهن، وهو المقر وما عداه استثناء طارئا لا يثقلن فيه ولا يستقررن. إنما هي الحاجة تقضى، وبقدرها.

والبيت هو مثابة المرأة التي تجد فيها نفسها على حقيقتها كما أرادها الله تعالى. غير مشوهة ولا منحرفة ولا ملوثة، ولا مكدودة في غير وظيفتها التي هيأها الله لها بالفطرة.

" ولكي يهيئ الإسلام للبيت جوه ويهيئ للفراخ الناشئة فيه رعايتها، أوجب على الرجل النفقة، وجعلها فريضة، كي يتاح للأم من الجهد، ومن الوقت، ومن هدوء البال، ما تشرف به على هذه الفراخ الزغب، وما تهيئ به للمثابة نظامها وعطرها وبشاشتها. فالأم المكدودة بالعمل للكسب، المرهقة بمقتضيات العمل، المقيدة بمواعيده، المستغرقة الطاقة فيه.. لا يمكن أن تهب للبيت جوه وعطره، ولا يمكن أن تمنح الطفولة النابتة فيه حقها ورعايتها. وبيوت الموظفات والعاملات ما تزيد على جو الفنادق والخانات؛ وما يشيع فيها ذلك الأرج الذي يشيع في البيت. فحقيقة البيت لا توجد إلا أن تخلقها امرأة، وأرج البيت لا يفوح إلا أن تطلقه زوجة، وحنان البيت لا يشيع إلا أن تتولاه أم. والمرأة أو الزوجة أو الأم التي تقضي وقتها وجهدها وطاقتها الروحية في العمل لن تطلق في جو البيت إلا الإرهاق والكلال والملال.

" وإن خروج المرأة لتعمل كارثة على البيت قد تبيحها الضرورة. أما أن يتطوع بها الناس وهم قادرون على اجتنابها، فتلك هي اللعنة التي تصيب الأرواح والضمائر والعقول، في عصور الانتكاس والشرور والضلال".

فأما خروج المرأة لغير العمل. خروجها للاختلاط ومزاولة الملاهي. والتسكع في النوادي والمجتمعات... فذلك هو الارتكاس في الحمأة الذي يرد البشر إلى مراتع الحيوان!

ولقد كان النساء على عهد رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يخرجن للصلاة غير ممنوعات شرعا من هذا. ولكنه كان زمان فيه عفة، وفيه تقوى، وكانت المرأة تخرج إلى الصلاة متلفعة لا يعرفها أحد، ولا يبرز من مفاتنها شيء. ومع هذا فقد كرهت عائشة لهن أن يخرجن بعد وفاة رسول الله [صلى الله عليه وسلم]!

في الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: كان نساء المؤمنين يشهدن الفجر مع رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ثم يرجعن متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس.

وفي الصحيحين أيضا أنها قالت: لو أدرك رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ما أحدث النساء لمنعهن من المساجد، كما منعت نساء بني إسرائيل!

فماذا أحدث النساء في حياة عائشة -رضي الله عنها-؟ وماذا كان يمكن أن يحدثن حتى ترى أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] كان مانعهن من الصلاة؟! ماذا بالقياس إلى ما نراه في هذه الأيام؟!

(ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى)..

ذلك حين الاضطرار إلى الخروج، بعد الأمر بالقرار في البيوت. ولقد كانت المرأة في الجاهلية تتبرج. ولكن جميع الصور التي تروى عن تبرج الجاهلية الأولى تبدو ساذجة أو محتشمة حين تقاس إلى تبرج أيامنا هذه في جاهليتنا الحاضرة!

قال مجاهد: كانت المرأة تخرج تمشي بين الرجال. فذلك تبرج الجاهلية!

وقال قتادة: وكانت لهن مشية تكسر وتغنج. فنهى الله تعالى عن ذلك!

وقال مقاتل بن حيان: والتبرج أنها تلقي الخمار على رأسها ولا تشده فيداري قلائدها وقرطها وعنقها، ويبدو ذلك كله منها. وذلك التبرج!

وقال ابن كثير في التفسير: كانت المرأة منهن تمر بين الرجال مسفحة بصدرها لا يواريه شيء؛ وربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها وأقرطة آذانها. فأمر الله المؤمنات أن يستترن في هيئاتهن وأحوالهن.

هذه هي صور التبرج في الجاهلية التي عالجها القرآن الكريم. ليطهر المجتمع الإسلامي من آثارها ويبعد عنه عوامل الفتنة، ودواعي الغواية؛ ويرفع آدابه وتصوراته ومشاعره وذوقه كذلك!

ونقول: ذوقه.. فالذوق الإنساني الذي يعجب بمفاتن الجسد العاري ذوق بدائي غليظ. وهو من غير شك أحط من الذوق الذي يعجب بجمال الحشمة الهادئ، وما يشي به من جمال الروح، وجمال العفة، وجمال المشاعر.

وهذا المقياس لا يخطئ في معرفة ارتفاع المستوى الإنساني وتقدمه. فالحشمة جميلة جمالا حقيقيا رفيعا. ولكن هذا الجمال الراقي لا يدركه أصحاب الذوق الجاهلي الغليظ، الذي لا يرى إلا جمال اللحم العاري، ولا يسمع إلا هتاف اللحم الجاهر!

ويشير النص القرآني إلى تبرج الجاهلية، فيوحي بأن هذا التبرج من مخلفات الجاهلية. التي يرتفع عنها من تجاوز عصر الجاهلية، وارتفعت تصوراته ومثله ومشاعره عن تصورات الجاهلية ومثلها ومشاعرها.

والجاهلية ليست فترة معينة من الزمان. إنما هي حالة اجتماعية معينة، ذات تصورات معينة للحياة. ويمكن أن توجد هذه الحالة، وأن يوجد هذا التصور في أي زمان وفي أي مكان، فيكون دليلا على الجاهلية حيث كان!

وبهذا المقياس نجد أننا نعيش الآن في فترة جاهلية عمياء، غليظة الحس، حيوانية التصور، هابطة في درك البشرية إلى حضيض مهين. وندرك أنه لا طهارة ولا زكاة ولا بركة في مجتمع يحيا هذه الحياة؛ ولا يأخذ بوسائل التطهر والنظافة التي جعلها الله سبيل البشرية إلى التطهر من الرجس، والتخلص من الجاهلية الأولى؛ وأخذ بها، أول من أخذ، أهل بيت النبي [صلى الله عليه وسلم] على طهارته ووضاءته ونظافته.

والقرآن الكريم يوجه نساء النبي [صلى الله عليه وسلم] إلى تلك الوسائل؛ ثم يربط قلوبهن بالله، ويرفع أبصارهن إلى الأفق الوضيء الذي يستمددن منه النور، والعون على التدرج في مراقي ذلك الأفق الوضيء:

(وأقمن الصلاة، وآتين الزكاة، وأطعن الله ورسوله)..

وعبادة الله ليست بمعزل عن السلوك الاجتماعي أو الأخلاقي في الحياة؛ إنما هي الطريق للارتفاع إلى ذلك المستوى؛ والزاد الذي يقطع به السالك الطريق. فلا بد من صلة بالله يأتي منها المدد والزاد. ولا بد من صلة بالله تطهر القلب وتزكيه. ولا بد من صلة بالله يرتفع بها الفرد على عرف الناس وتقاليد المجتمع وضغط البيئة؛ ويشعر أنه أهدى وأعلى من الناس والمجتمع والبيئة. وأنه حري أن يقود الآخرين إلى النور الذي يراه؛ لا أن يقوده الآخرون إلى الظلمات وإلى الجاهلية التي تغرق فيها الحياة، كلما انحرفت عن طريق الله.

والإسلام وحدة تجمع الشعائر والآداب والأخلاق والتشريعات والنظم.. كلها في نطاق العقيدة. ولكل منها دور تؤديه في تحقيق هذه العقيدة؛ وتتناسق كلها في اتجاه واحد؛ ومن هذا التجمع والتناسق يقوم الكيان العام لهذا الدين. وبدونهما لا يقوم هذا الكيان.

ومن ثم كان الأمر بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الله ورسوله، هو خاتمة التوجيهات الشعورية والأخلاقية والسلوكية لأهل البيت الكريم. لأنه لا يقوم شيء من تلك التوجيهات بغير العبادة والطاعة.. وكل ذلك لحكمة وقصد وهدف:

(إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا)..

وفي التعبير إيحاءات كثيرة، كلها رفاف، رفيق، حنون..

فهو يسميهم (أهل البيت) بدون وصف للبيت ولا إضافة. كأنما هذا البيت هو (البيت) الواحد في هذا العالم، المستحق لهذه الصفة. فإذا قيل (البيت) فقد عرف وحدد ووصف. ومثل هذا قيل عن الكعبة. بيت الله. فسميت البيت. والبيت الحرام. فالتعبير عن بيت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] كذلك تكريم وتشريف واختصاص عظيم.

وهو يقول: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس -أهل البيت- ويطهركم تطهيرا).. وفي العبارة تلطف ببيان علة التكليف وغايته. تلطف يشي بأن الله سبحانه -يشعرهم بأنه بذاته العلية- يتولى تطهيرهم وإذهاب الرجس عنهم. وهي رعاية علوية مباشرة بأهل هذا البيت. وحين نتصور من هو القائل -سبحانه وتعالى- رب هذا الكون. الذي قال للكون: كن. فكان. الله ذو الجلال والإكرام. المهيمن العزيز الجبار المتكبر.. حين نتصور من هو القائل -جل وعلا- ندرك مدى هذا التكريم العظيم.

وهو -سبحانه- يقول هذا في كتابه الذي يتلى في الملأ الأعلى، ويتلى في هذه الأرض، في كل بقعة وفي كل أوان؛ وتتعبد به ملايين القلوب، وتتحرك به ملايين الشفاه.

وأخيرا فإنه يجعل تلك الأوامر والتوجيهات وسيلة لإذهاب الرجس وتطهير البيت. فالتطهير من التطهر، وإذهاب الرجس يتم بوسائل يأخذ الناس بها أنفسهم، ويحققونها في واقع الحياة العملي. وهذا هو طريق الإسلام.. شعور وتقوى في الضمير. وسلوك وعمل في الحياة. يتم بهما معا تمام الإسلام، وتتحقق بهما أهدافه واتجاهاته في الحياة.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}. هذا أمر خُصِّصْنَ به وهو وجوب ملازمتهن بيوتهن توقيراً لهن، وتقوية في حرمتهن، فقرارهن في بيوتهن عبادة، وأن نزول الوحي فيها وتردد النبي صلى الله عليه وسلم في خلالها يكسبها حرمة وقد كان المسلمون لما ضاق عليهم المسجد النبوي يصلُّون الجمعة في بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث « الموطأ».

وهذا الحكم وجوب على أمهات المؤمنين وهو كمال لسائر النساء، وإضافة البيوت إليهن لأنهن ساكنات بها أسكَنهُنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت بيوت النبي صلى الله عليه وسلم يميَّز بعضها عن بعض بالإِضافة إلى ساكنة البيت، يقولون: حُجرة عائشة، وبيت حفصة، فهذه الإِضافة كالإِضافة إلى ضمير المطلقات في قوله تعالى: {لا تخرجوهن من بيوتهن} [الطلاق: 1].

{وَأَقِمْنَ الصلاة وَءَاتِينَ الزكواة وَأَطِعْنَ اللهَ ورَسُوله} أريد بهذه الأوامر الدوام عليها لأنهن متلبسات بمضمونها من قبل، وليعلم الناس أن المقربين والصالحين لا ترتفع درجاتهم عند الله تعالى عن حق توجه التكليف عليهم، وفي هذا مقمع لبعض المتصوفين الزاعمين أن الأولياء إذا بلغوا المراتب العليا من الولاية، سقطت عنهم التكاليف الشرعية؛ فالمعنى أمَركن الله بما أمر ونَهاكُنّ عما نهى، لأنه أراد لكُنّ تخلية عن النقائص والتحْلية بالكمالات.