قوله تعالى :{ ومن الناس من يعبد الله على حرف } الآية نزلت في وقم من الأعراب كانوا يقدمون المدينة مهاجرين من باديتهم فكان أحدهم إذا قدم المدينة فصح بها جسمه ونتجت بها فرسه مهراً حسناً وولدت امرأته غلاماً وكثر ماله ، قال : هذا دين حسن وقد أصبت فيه خيراً واطمأن إليه ، وإن أصابه مرض وولدت امرأته جارية وأجهضت رماكه وقل ماله ، قال : ما أصبت منذ دخلت في هذا الدين إلا شراً فينقلب عن دينه ، وذلك الفتنة فأنزل الله عز وجل : { ومن الناس من يعبد الله على حرف } أكثر المفسرين قالوا : على شك وأصله من حرف الشيء وهو طرفه ، نحو حرف الجبل والحائط الذي كالقائم عليه غير مستقر ، فقيل للشاك في الدين إنه يعبد الله على حرف لأنه على طرف وجانب من الدين لم يدخل فيه على الثبات والتمكن ، كاقائم على حرف الجبل مضطرب غير مستقر ، يعرض أن يقع في أحد جانبي الطرف لضعف قيامه ، ولو عبدوا الله في الشكر على السراء والصبر على الضراء لم يكونوا على حرف ، قال الحسن : هو المنافق يعبده بلسانه دون قلبه { فإن أصابه خير } صحة في جسمه ، وسعة في معيشته ، { اطمأن به } أي : رضي به وسكن إليه ، { وإن أصابته فتنة } بلاء في جسده ، وضيق في معيشته ، { انقلب على وجهه } ارتد ورجع على عقبه إلى الوجه الذي كان عليه من الكفر ، { خسر الدنيا } يعني هذا الشاك خسر الدنيا بفوات ما كان يؤمله { والآخرة } بذهاب الدين والخلود في النار . قرأ يعقوب خاسر بالألف والآخرة جر . { ذلك هو الخسران المبين } الظاهر .
ثم بين - سبحانه - نوعاً آخر من الناس ، لا يقل جرماً عن سابقه فقال - تعالى - : { وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطمأن بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقلب على وَجْهِهِ . . } .
قال صاحب الكشاف : " على حرف " أى : على طرف من الدين لا فى وسطه وقلبه . وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب فى دينهم : لا على سكون وطمأنينة ، كالذى يكون على طرف من العسكر ، فإن أحس بظفر وغنيمة قر واطمأن ، وإلا فر وطار على وجهه . . " .
وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآية روايات منها : ما أخرجه البخارى عن ابن عباس قال : كان الرجل يقدم المدينة ، فإذا ولدت أمرأته غلاماً ، ونتجت خيله . قال : هذا دين صالح ، وإن لم تلد امرأته ، ولم تنتج خيله قال : هذا دين سوء . . . " .
والمتأمل فى هذه الآية الكريمة يراها قد صورت المذبذبين فى عقيدتهم أكمل تصوير ، فهم يقيسون العقيدة بميزان الصفقات التجارية ، إن ربحوا من ورائها فرحوا ، وإن خسروا فيها أصابهم الغم والحزن .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - فى شأن المنافقين : { وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } والتعبير بقوله - سبحانه - { على حَرْفٍ } يصور هذا النوع من الناس ، وكأنه يتأرجح فى عبادته كما يتأرجح من يكون على طرف الشىء . فهو معرض للسقوط فى أية لحظة .
والمراد من الخير فى قوله - تعالى - { فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطمأن بِهِ } الخير الدنيوى من صحة وغنى ومنافع دنيوية .
أى : فإن نزل بهذا المذبذب فى عبادته خير دنيوى { اطمأن بِهِ } أى : ثبت على ما هو عليه من عبادة ثباتاً ظاهرياً ، وليس ثباتاً قلبياً حقيقياً كما هو شأن المؤمنين الصادقين الذين لا يزحزحهم عن إيمانهم وعد أو وعيد .
{ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ } أى : مصيبة أو شر { انقلب على وَجْهِهِ } أى : ارتد ورجع عن عبادته ودينه إلى الكفر والمعاصى .
وقوله - تعالى - : { خَسِرَ الدنيا والآخرة ذلك هُوَ الخسران المبين } بيان لسوء عاقبة صنيعه .
أى : هذا الذى يعبد الله على حرف ، جمع على نفسه خسارتين ، خسارة الدنيا بسبب عدم حصوله على ما يريده منها ، وخسارة الآخرة بسبب ارتداده إلى الكفر وغشيان السيئات ، وذلك الذى جمعه على نفسه هو الخسران الواضح ، الذى لا ينازع فى شأنه عاقلان ، إذ لا خسران أشد وأظهر ، من الخسران الذى ضيع دنياه وآخرته .
ويمضي السياق إلى نموذج آخر من الناس - إن كان يواجه الدعوة يومذاك فهو نموذج مكرور في كل جيل - ذلك الذي يزن العقيدة بميزان الربح والخسارة ؛ ويظنها صفقة في سوق التجارة :
( ومن الناس من يعبد الله على حرف ، فإن أصابه خير اطمأن به ، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة . ذلك هو الخسران المبين . يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه . ذلك هو الضلال البعيد . يدعو لمن ضره أقرب من نفعه . لبئس المولى ولبئس العشير ) . .
إن العقيدة هي الركيزة الثابتة في حياة المؤمن ، تضطرب الدنيا من حوله فيثبت هو على هذه الركيزة ونتجاذبه الأحداث والدوافع فيتشبث هو بالصخرة التي لا تتزعزع ؛ وتتهاوى من حوله الأسناد فيستند هو إلى القاعدة التي لا تحول ولا تزول .
هذه قيمة العقيدة في حياة المؤمن . ومن ثم يجب أن يستوي عليها ، متمكنا منها ، واثقا بها ، لا يتلجلج فيها ، ولا ينتظر عليها جزاء ، فهي في ذاتها جزاء . ذلك أنها الحمى الذي يلجأ إليه ، والسند الذي يستند عليه . أجل هي في ذاتها جزاء على تفتح القلب للنور ، وطلبه للهدى . ومن ثم يهبه الله العقيدة ليأوي إليها ، ويطمئن بها . هي في ذاتها جزاء يدرك المؤمن قيمته حين يرى الحيارى الشاردين من حوله ، تتجاذبهم الرياح ، وتتقاذفهم الزوابع ، ويستبد بهم القلق . بينما هو بعقيدته مطمئن القلب ، ثابت القدم ، هادى ء البال ، موصول بالله ، مطمئن بهذا الاتصال .
أما ذلك الصنف من الناس الذي يتحدث عنه السياق فيجعل العقيدة صفقة في سوق التجارة : ( فإن أصابه خير اطمأن به )وقال : إن الإيمان خير . فها هو ذا يجلب النفع ، ويدر الضرع ، وينمي الزرع ، ويربح التجارة ، ويكفل الرواج ( وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ) . . خسر الدنيا بالبلاء الذي أصابه فلم يصبر عليه ، ولم يتماسك له ، ولم يرجع إلى الله فيه . وخسر الآخرة بانقلابه على وجهه ، وانكفائه عن عقيدته ، وانتكاسه عن الهدى الذي كان ميسرا له .
والتعبير القرآني يصوره في عبادته لله ( على حرف )غير متمكن من العقيدة ، ولا متثبت في العبادة . يصوره في حركة جسدية متأرجحة قابلة للسقوط عند الدفعة الأولى . ومن ثم ينقلب على وجهه عند مس الفتنة ، ووقفته المتأرجحة تمهد من قبل لهذا الانقلاب !
إن حساب الربح والخسارة يصلح للتجارة ، ولكنه لا يصلح للعقيدة . فالعقيدة حق يعتنق لذاته ، بانفعال القلب المتلقي للنور والهدى الذي لا يملك إلا أن ينفعل بما يتلقى . والعقيدة تحمل جزاءها في ذاتها ، بما فيها من طمأنينة وراحة ورضى ، فهي لا تطلب جزاءها خارجا عن ذاتها .
والمؤمن يعبد ربه شكرا له على هدايته إليه ، وعلى اطمئنانه للقرب منه والأنس به . فإن كان هنالك جزاء فهو فضل من الله ومنة . استحقاقا على الإيمان أو العبادة !
والمؤمن لا يجرب إلهه . فهو قابل ابتداء لكل ما يقدره له ، مستسلم ابتداء لكل ما يجربه عليه راض ابتداء بكل ما يناله من السراء والضراء . وليست هي صفقة في السوق بين بائع وشار ، إنما هي إسلام المخلوق للخالق ، صاحب الأمر فيه ، ومصدر وجوده من الأساس .
والذي ينقلب على وجهه عند مس الفتنة يخسر الخسارة التي لا شبهة فيها ولا ريب : ( ذلك هو الخسران المبين ) . . يخسر الطمأنينة والثقة والهدوء والرضى . إلى جوار خسارة المال أو الولد ، أو الصحة ، او أعراض الحياة الأخرى التي يفتن الله بها عباده ، ويبتلي بها ثقتهم فيه ، وصبرهم على بلائه ، وإخلاصهم أنفسهم له ، واستعدادهم لقبول قضائه وقدره . . ويخسر الآخرة وما فيها من نعيم وقربى ورضوان . فيا له من خسران !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنَ النّاسِ مَن يَعْبُدُ اللّهَ عَلَىَ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَىَ وَجْهِهِ خَسِرَ الدّنْيَا وَالاَُخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } .
يعني جلّ ذكره بقوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَعْبُد اللّهَ عَلى حَرْفٍ أعرابا كانوا يقدمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مهاجرين من باديتهم ، فإن نالوا رخاء من عيش بعد الهجرة والدخول في الإسلام أقاموا على الإسلام ، وإلا ارتدّوا على أعقابهم فقال الله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّهَ على شكّ ، فإنْ أصابهُ اطمأنّ بهِ وهو السعة من العيش وما يشبهه من أسباب الدنيا اطْمَأَنَ بِهِ يقول : استقرّ بالإسلام وثبت عليه . وَإنْ أصَابَتْهُ فِتْنَةٌ وهو الضيق بالعيش وما يشبهه من أسباب الدنيا انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ يقول : ارتدّ فانقلب على وجهه الذي كان عليه من الكفر بالله .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّهَ عَلى حَرْفٍ . . . إلى قوله : انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ قال : الفتنة البلاء ، كان أحدهم إذا قدم المدينة وهي أرض وبيئة ، فإن صحّ بها جسمه ونُتِجت فرسه مُهرا حسنا وولدت امرأته غلاما رضي به واطمأنّ إليه وقال : ما أصبت منذ كنت علي ديني هذا إلا خيرا وإن أصابه وجع المدينة وولدت امرأته جارية وتأخرت عنه الصدقة ، أتاه الشيطان فقال : والله ما أصبت منذ كنت على دينك هذا إلا شرّا وذلك الفتنة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، قال : حدثنا عنبسة ، عن أبي بكر ، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن القاسم بن أبي بَزّة ، عن مجاهد في قول الله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّهَ عَلى حَرْفٍ قال : على شكّ .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : عَلى حَرْفٍ قال : على شكّ . فإنْ أصابهُ خيرٌ رَخاء وعافية اطمأنّ بهِ : استقرّ . وإن أصَابَتْه فِتْنَةٌ عذاب ومصيبة انْقَلَبَ ارتدّ عَلى وَجْهِهِ كافرا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، بنحوه .
قال ابن جُرَيج : كان ناس من قبائل العرب وممن حولهم من أهل القرى يقولون : نأتي محمدا صلى الله عليه وسلم ، فإن صادفنا خيرا من معيشة الرزق ثبتنا معه ، وإلا لحقنا بأهلنا .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : مَنْ يَعْبُدُ اللّهَ عَلى حَرْفٍ قال : شك . فإنْ أصابَهُ خَيْرٌ يقول : أكثر ماله وكثرت ما شيته اطمأنّ قال : لم يصبني في ديني هذا منذ دخلته إلا خير وَإنْ أصَابَتْهُ فِتْنَةٌ يقول : وإن ذهب ماله ، وذهبت ما شيته انْقَلَبَ على وَجْهِهِ خَسِرَ الدّنيْا والاَخِرَةَ .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، نحوه .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّهَ عَلى حَرْفٍ الاَية ، كان ناس من قبائل العرب وممن حول المدينة من القرى كانوا يقولون : نأتي محمدا صلى الله عليه وسلم فننظر في شأنه ، فإن صادفنا خيرا ثبتنا معه ، وإلا لحقنا بمنازلنا وأهلينا . وكانوا يأتونه فيقولون : نحن على دينك فإن أصابوا معيشة ونَتَجُوا خيلهم وولدت نساؤهم الغلمان ، اطمأنوا وقالوا : هذا دين صدق وإن تأخر عنهم الرزق وأزلقت خيولهم وولدت نساؤهم البنات ، قالوا : هذا دين سَوْء فانقلبوا على وجوههم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّهَ عَلى حَرْفٍ فإنْ أصَابَهُ خَيْرٌ اطْمأَنّ بِهِ وَإنْ أصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدّنيْا والاَخِرَةَ قال : هذا المنافق ، إن صلحت له دنياه أقام على العبادة ، وإن فسدت عليه دنياه وتغيرت انقلب ، ولا يقيم على العبادة إلا لما صَلَح من دنياه . وإذا أصابته شدّة أو فتنة أو اختبار أو ضيق ، ترك دينه ورجع إلى الكفر .
وقوله : خَسِرَ الدّنيا والاَخِرَةَ يقول : غَبِن هذا الذي وصف جلّ ثناؤه صفته دنياه لأنه لم يظفر بحاجته منها بما كان من عبادته الله على الشك ، ووضع في تجارته فلم يربح والاَخِرَةَ يقول : وخسر الاَخرة ، فإنه معذّب فيها بنار الله الموقدة . وقوله : ذلكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ يقول : وخسارته الدنيا والاَخرة هي الخسران ، يعني الهلاك . المُبِينُ يقول : يبين لمن فكّر فيه وتدبره أنه قد خسر الدنيا والاَخرة .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته قرّاء الأمصار جميعا غير حميد الأعرج : خَسِرَ الدنيا والاَخِرَةَ على وجه المضيّ . وقرأه حميد الأعرج : «خاسِرا » نصبا على الحال على مثال فاعل .
{ ومن الناس من يعبد اله على حرف } على طرف من الدين لا ثبات له فيه كالذي يكون على طرف الجيش ، فإن أحس بظفر قر وإلا فر . { فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه } روي أنها نزلت في أعاريب قدموا المدينة ، فكان أحدهم إذا صح بدنه ونتجت فرسه مهرا سريا وولدت امرأته غلاما سويا وكثر ماله وماشيته قال : ما أصبت منذ دخلت في ديني هذا إلا خيرا واطمأن ، وإن كان الأمر بخلافه قال ما أصبت إلا شرا وانقلب وعن أبي سعيد أن يهوديا أسلم فأصابته مصائب فتشاءم بالإسلام ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أقلني فقال " إن الإسلام لا يقال " فنزلت . { خسر الدنيا والآخرة } بذهاب عصمته وحبوط عمله بالارتداد ، وقرئ " خاسرا " بالنصب على الحال والرفع على الفاعلية ووضع الظاهر موضع الضمير تنصيصا على خسرانه أو على أنه خبر محذوف . { ذلك هو الخسران المبين } إذ لا خسران مثله .
هذه الآية نزلت في أعراب وقوم لا يقين لهم كان أحدهم اذا أسلم فاتفق له اتفاقات حسان من نمو ماله وولد ذكر يرزقه وغير ذلك قال هذا دين جيد وتمسك به لهذه المعاني ، وإن كان الأمر بخلاف ، تشاءم به وارتد كما صنع العرنيون{[8314]} وغيرهم ، قال هذا المعنى ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم ، وقوله تعالى : { على حرف } معناه على انحراف منه عن العقيدة البيضاء أو على شفى منها{[8315]} معد للزهوق ، و «الفتنة » : الاختبار ، وقوله تعالى : { انقلب على وجهه } عبارة للمولي عن الأمور وخسارته { الدنيا والآخرة } ، أما { الدنيا } فبالمقادير التي جرت عليه ، وأما { الآخرة } فبارتداده وسوء معتقده ، وقرأ مجاهد وحميد والأعرج «خاسراً الدنيا والآخرة » نصباً على الحال .
هذا وصف فريق آخر من الذين يقابلون الأمر بالتقوى والإنذار بالساعة مقابلة غير المطمئن بصدق دعوة الإسلام ولا المُعرض عنها إعراضاً تاماً ولكنهم يضعون أنفسهم في معرض الموازنة بين دينهم القديم ودين الإسلام . فهم يقبلون دعوة الإسلام ويدخلون في عداد متبعيه ويرقبون ما ينتابهم بعد الدخول في الإسلام فإن أصابهم الخيَر عقب ذلك عَلموا أن دينهم القديم ليس بحق وأنّ آلهتهم لا تقدر على شيء لأنها لو قدرت لانتقمت منهم على نبذ عبادتها وظنوا أن الإسلام حق ، وإن أصابهم شرّ من شرور الدنيا العارضة في الحياة المسببة عن أسباب عادية سخطوا على الإسلام وانخلعوا عنه . وتوهموا أن آلهتهم أصابتهم بسوء غضباً من مفارقتهم عبادتها كما حكى الله عن عَاد إذ قالوا لرسولهم { إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء } [ هود : 54 ] .
فالعبادة في قوله تعالى { من يعبد الله على حرف } مراد بها عبادة الله وحده بدليل قوله تعالى : { يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه } [ الحج : 12 ] .
والظاهر أن هذه الآية نزلت بالمدينة ، ففي « صحيح البخاري » عن ابن عباس في قوله : { ومن الناس من يعبد الله على حرف } قال : كان الرجل يقدم المدينة فإن وَلدت امرأته غلاماً ونُتجت خيله قال : هذا دينٌ صالح ، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال : هذا دينُ سُوءٍ .
وفي رواية الحسن : أنها نزلت في المنافقين يعني المنافقين من الذين كانوا مشركين مثل : عبد الله بن أبي بن سلول ، وهذا بعيد لأنّ أولئك كانوا مبطنين الكفر فلا ينطبق عليهم قوله { فإن أصابه خير اطمأن به } . وممن يصلح مثالاً لهذا الفريق العرنيُّون الذين أسلموا وهاجروا فاجتووا المدينة ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يلحقوا براعي إبل الصدقة خارج المدينة فيشربوا من ألبانها وأبوالها حتى يصحوا فلمّا صحوا قتلوا الراعي واستاقوا الذّود وفَروا ، فألحق بهم النبي صلى الله عليه وسلم الطلبَ في أثرهم حتى لحقوا بهم فأمر بهم فقتلوا .
وفي حديث « الموطأ » : أن أعرابياً أسلم وبايع النبي صلى الله عليه وسلم فأصابه وعكٌ بالمدينة ، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستقيله بَيعته فأبى أن يقيله ، فخرج من المدينة فقال النبي صلى الله عليه وسلم " المدينة كالكير تنفي خبَثها وينصَع طيبها " فجعله خبثاً لأنه لم يكن مؤمناً ثابتاً . وذكر الفخر عن مقاتل أن نفراً من أسد وغَطفان قالوا : نخاف أن لا ينصر الله محمداً فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود فلا يميروننا فنزل فيهم قوله تعالى : { من كان يظن أن لن ينصره الله } [ الحج : 15 ] الآيات .
وعن الضحاك : أن الآية نزلت في المؤلفة قلوبهم ، منهم : عيينة بن حِصن والأقرع بن حَابِس والعبّاس بن مِرداس قالوا : ندخل في دين محمد فإن أصبْنا خيراً عرفنا أنه حق ، وإن أصبنا غير ذلك عرفنا أنه باطل .
وهذا كله ناشىء عن الجهل وتخليط الأسباب الدنيوية بالأسباب الأخروية ، وجعل المقارنات الاتفاقية كالمعلومات اللزومية . وهذا أصل كبير من أصول الضلالة في أمور الدين وأمور الدنيا . ولنعم المعبّر عن ذلك قوله تعالى { خسر الدنيا والآخرة } إذ لا يهتدي إلى تطلب المسببات من أسبابها .
وحَرف الشيء طَرفه وجَانبه سواء كان مرتفعاً كحرف الجبل والوادي أم كان مستوياً كحرف الطريق . ويطلق الحرف على طرف الجيش ويجمع على طِرَف بوزن عِنب قال في « القاموس » : ولا نظير له سوى طَللٍ وطِلَل .
وقوله تعالى : { يعبد الله على حرف } تمثيل لحال المتردد في عمله ، يريد تجربة عاقبته بحال من يمشي على حرف جَبَل أو حرف وادٍ فهو متهيّىء لأن يزِل عنه إلى أسفله فينقلب ، أي ينكَب .
ومعنى اطمأن : استقر وسكن في مكانه . ومصدره الاطمئنان واسم المصدر الطُمَأنينة . وتقدم في قوله تعالى : { ولكن ليطمئن قلبي } في [ سورة البقرة : 260 ] .
والمعنى : استمر على التوحيد فرحاً بالخير الذي أصابه ، واستقرار مثل هذا على الإيمان يصيره مؤمناً إذا زال عنه التردد . وحال هؤلاء قريب من حال المؤلّفة قلوبهم .
والانقلاب : مطاوع قلبه إذا كبّه ، أي ألقاه على عكس ما كان عليه بأن جعل ما كان أعلاه أسفله كما يُقلب القالب بفتح اللام . فالانقلاب مستعمل في حقيقته ، والكلام تمثيل . وتفسيرنا الانقلاب هنا بهذا المعنى هو المناسب لقوله { على وجهه } أي سقط وانكب عليه ، كقول امرىء القيس :
وكقول النبي صلى الله عليه وسلم " إن هذا الأمر في قريش لا ينازعهم فيه أحد إلا كبّهُ الله على وجهه " . وحرف الاستعلاء ظاهر وهو أيضاً الملائم لتمثيل أول حاله بحال من هو على حرف .
ويطلق الانقلاب كثيراً على الانصراف من الجهة التي أتاها إلى الجهة التي جاء منها ، وهو مجاز شائع وبه فسر المفسرون . ولا يناسب اعتباره هنا لأن مثله يقال فيه : انقلب على عقبيه لا على وجهه ، كما قال تعالى : { إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه } [ البقرة : 143 ] إذ الرجوع إنما يكون إلى جهة غير جهة الوجه .
والفتنة : اضطراب الحال وقلق البال من حدوث شر لا مدفع له ، وهي مقابل الخير .
وجملة { خسر الدنيا والآخرة } بدل اشتمال من جملة { انقلب على وجهه } .
وجملة { ذلك هو الخسران المبين } معترضة بين جملة { انقلب على وجهه } وجملة { يدعو من دون الله } [ الحج : 12 ] التي هي في موضع الحال من ضمير { انقلب } أي أسقط في الشرك .
والخسران : تلف جزء من أصل مال التجارة ، فشبه نفع الدنيا ونفع الآخرة بمال التاجر الساعي في توفيره لأن الناس يرغبون تحصيله ، وثني على ذلك إثبات الخسران لصاحبه الذي هو من مرادفات مال التجارة المشبه به ، فشبه فوات النفع المطلوب بخسارة المال .
وتعليق الخسران بالدنيا والآخرة على حذف مضاف . والتقدير خسر خير الدنيا وخير الآخرة .
فخسارة الدنيا بسبب ما أصابه فيها من الفتنة ، وخسارة الآخرة بسبب عدم الانتفاع بثوابها المرجوّ له .
والمبين : الذي فيه ما يبين للناس أنه خسران بأدنى تأمل . والمراد أنه خسران شديد لا يخفى .
والإتيان باسم الإشارة لزيادة تمييز المسند إليه أتم تمييز لتقرير مدلوله في الأذهان .
وضمير { هو } ضمير فصل ، والقصر المستفاد من تعريف المسند قصر ادعائي . ادعي أن ماهية الخسران المبين انحصرت في خسرانهم ، والمقصود من القصر الادعائي تحقيق الخبر ونفي الشك في وقوعه . وضمير الفصل أكد معنى القصر فأفاد تقوية الخبر المقصور .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ومن الناس من يعبد الله على حرف} يعنى على شك، نزلت في أناس من أعراب أسد بن خزيمة، وغطفان... كان الرجل يهاجر إلى المدينة، فإن أخصبت أرضه، ونتجت فرسه، وولد له غلام، وصح بالمدينة، وتتابعت عليه الصدقات، قال: هذا دين حسن، يعني: الإسلام. فذلك قوله تعالى: {فإن أصابه خير اطمأن به} يقول: رضي بالإسلام. وإن أجدبت أرضه، ولم تنتج فرسه، وولدت له جارية، وسقم بالمدينة، ولم يجد عليه بالصدقات، قال: هذا دين سوء، ما أصابني من ديني هذا الذي كنت عليه إلا شرا فرجع عن دينه، فذلك قوله سبحانه: {وإن أصابته فتنة} يعني: بلاء {انقلب على وجهه} يقول: رجع إلى دينه الأول كافرا. {خسر الدنيا والآخرة}: خسر دنياه التي كان يحبها، فخرج منها، ثم أفضى إلى الآخرة وليس له فيها شيء...
يقول الله عز وجل: {ذلك هو الخسران المبين} يقول: ذلك هو الغبن البين.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني جلّ ذكره بقوله:"وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَعْبُد اللّهَ عَلى حَرْفٍ" أعرابا كانوا يقدمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، مهاجرين من باديتهم، فإن نالوا رخاء من عيش بعد الهجرة والدخول في الإسلام، أقاموا على الإسلام، وإلا ارتدّوا على أعقابهم، فقال الله: "وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّهَ "على شكّ، "فإنْ أصابهُ خير اطمأنّ بهِ" وهو السعة من العيش وما يشبهه من أسباب الدنيا "اطْمَأَنَ بِهِ" يقول: استقرّ بالإسلام وثبت عليه. "وَإنْ أصَابَتْهُ فِتْنَةٌ" وهو الضيق بالعيش وما يشبهه من أسباب الدنيا، "انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ" يقول: ارتدّ فانقلب على وجهه الذي كان عليه من الكفر بالله...
وقوله: "خَسِرَ الدّنيا والآخِرَةَ" يقول: غبِن هذا الذي وصف جلّ ثناؤه صفته دنياه لأنه لم يظفر بحاجته منها بما كان من عبادته الله على الشك، ووضع في تجارته فلم يربح "والآخِرَةَ" يقول: وخسر الآخرة، فإنه معذّب فيها بنار الله الموقدة. وقوله: "ذلكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ" يقول: وخسارته الدنيا والآخرة هي الخسران، يعني الهلاك. "المُبِينُ" يقول: يبين لمن فكّر فيه وتدبره أنه قد خسر الدنيا والآخرة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... قال بعضهم: {على حرف} أي على شرط الإعطاء. يقول: إن أعطاني أملي عبدته، وإن لم يعطني ذلك لم أعبده، تكون عبادته على هذا الشرط...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
... {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} أي: طرف واحد وجانب في الدين، لا يدخل فيها على الثبات والتمكين، والحرف: منتهى الجسم.
وقال بعض أهل المعاني: يريد على ضعف في العبادة كضعف القائم على حرف مضطرباً فيه. وقال بعضهم: أراد على لون واحد في الأحوال كلّها يتّبع مراده، ولو عبدوا الله في الشكر على السرّاء والصبر على الضرّاء لما عبدوا الله على حرف... {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ} صحة في جسمه وسعة في معيشته {اطْمَأَنَّ بِهِ} أي رضي واطمأن إليه وأقام عليه. {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} بلاء في جسمه وضيق في معاشه وتعذّر المشتهى من حاله {انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} ارتدّ فرجع إلى وجهه الذي كان عليه من الكفر {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالأَخِرَةَ}...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
معنى قوله:"ومن الناس من يعبد الله على حرف" أي في الناس من يوجه عبادته إلى الله على ضعف في العبادة، كضعف القيام على حرف جرف، وذلك من اضطرابه في استيفاء النظر المؤدي إلى المعرفة. فأدنى شبهة تعرض له ينقاد لها، ولايعمل في حلها.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يعني يكون على جانبٍ، غير مخلص... لا له استجابة توجب الوفاق، ولا جَحْداً يبين الشقاق، ومَنْ كانت هذه صفته فقد خسر في الدارين، وأخفق في المنزلتين.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
على طرف من الدين لا في وسطه وقلبه. وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم، لا على سكون وطمأنينة، كالذي يكون على طرف من العسكر، فإن أحسّ بظفر وغنيمة قرّ واطمأن، وإلا فرّ وطار على وجهه... المصاب بالمحنة بترك التسليم لقضاء الله والخروج إلى ما يسخط الله: جامع على نفسه محنتين، إحداهما: ذهاب ما أصيب به. والثانية: ذهاب ثواب الصابرين، فهو خسران الدارين...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{على حرف} معناه على انحراف منه عن العقيدة البيضاء أو على شفى منها معد للزهوق
... اعلم أنه تعالى لما بين حال المظهرين للشرك المجادلين فيه على ما ذكرنا عقبه بذكر المنافقين فقال: {ومن الناس من يعبد الله على حرف} وفي تفسير الحرف وجهان. الأول: ما قاله الحسن وهو أن المرء في باب الدين معتمده القلب واللسان فهما حرفا الدين، فإذا وافق أحدهما الآخر فقد تكامل في الدين، وإذا أظهر بلسانه الدين لبعض الأغراض وفي قلبه النفاق جاز أن يقال فيه على وجه الذم: يعبد الله على حرف... {فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه} لأن الثبات في الدين إنما يكون لو كان الغرض منه إصابة الحق وطاعة الله والخوف من عقابه فأما إذا كان غرضه الخير المعجل فإنه يظهر الدين عند السراء ويرجع عنه عند الضراء فلا يكون إلا منافقا مذموما وهو مثل قوله تعالى: {مذبذبين بين ذلك} وكقوله: {فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم}...
وأما قوله: {وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه} ففيه سؤالات الأول: كيف قال: {وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه} والخير أيضا فتنة لأنه امتحان وقال تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة}، والجواب: مثل هذا كثير في اللغة لأن النعمة بلاء وابتلاء لقوله: {فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه} ولكن إنما يطلق اسم البلاء على ما يثقل على الطبع، والمنافق ليس عنده الخير إلا الخير الدنيوي، وليس عنده الشر إلا الشر الدنيوي، لأنه لا دين له. فلذلك وردت الآية على ما يعتقدونه، وإن كان الخير كله فتنة، لكن أكثر ما يستعمل فيما يشتد ويثقل.
السؤال الثاني: إذا كانت الآية في المنافق فما معنى قوله: {انقلب على وجهه} وهو في الحقيقة لم يسلم حتى ينقلب ويرتد؟ والجواب: المراد أنه أظهر بلسانه خلاف ما كان أظهره فصار يذم الدين عند الشدة وكان من قبل يمدحه وذلك انقلاب في الحقيقة.
السؤال الثالث: قال مقاتل: الخير هو ضد الشر فلما قال: {فإن أصابه خير اطمأن به} كان يجب أن يقول: وإن أصابه شر انقلب على وجهه. الجواب: لما كانت الشدة ليست بقبيحة لم يقل تعالى وإن أصابه شر بل وصفه بما لا يفيد فيه القبح.
أما قوله تعالى: {خسر الدنيا والآخرة} فذلك لأنه يخسر في الدنيا العزة والكرامة وإصابة الغنيمة وأهلية الشهادة والإمامة والقضاء ولا يبقى ماله ودمه مصونا، وأما في الآخرة فيفوته الثواب الدائم ويحصل له العقاب الدائم {وذلك هو الخسران المبين}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما بين قسمي المصارحين بالكفر الكثيف والأكثف صريحاً، وأفهم المؤمن المخلص، عطف على ذلك المذبذب فقال: {ومن الناس} ولذلك عبر بالناس الذي مدلوله الاضطراب والتردد دون أن يضمر {من يعبد الله} أي يعمل على سبيل الاستمرار والتجدد بما أمر به الإله الأعظم من طاعته {على حرف} فهو مزلزل كزلزلة من يكون على حرف شفير أو جبل أو غيره، لا استقرار له، وكالذي على طرف من العسكر، فإن رأى غنيمة قر، وإن توهم خوفاً طار وفر، وذلك معنى قوله: {فإن أصابه خير} أي من الدنيا {اطمأن به} أي بسببه، وثبت على ما هو عليه {وإن أصابته فتنة} أي مصبية ولو قلت -بما يشير إليه التأنيث- في جسده أو معيشته يختبر بها ويظهر خبأه للناس {انقلب على وجهه} لتهيئه للانقلاب بكونه على شفا جرف فسقط عن ذلك الطرف من الدين سقوطاً لا رجوع له بعده إليه ولا حركة له معه، فإن الإنسان مطبوع على المدافعة بكل عضو من أعضائه عن وجهه فلا يمكن منه إلا بعد نهاية العجز، والمعنى أنه رجع إلى الوجه الذي كان عليه من الكفر أو الشك رجوعاً متمكناً، وهذا بخلاف الراسخ في إيمانه، فإنه إن أصابته سراء شكر، وإن أصابته ضراء حمد وصبر، فكل قضاء الله له خير.
ولما كان انقلاب هذا مفسداً لآخرته بما ناله من الوزر، وغير نافع له في استدراك ما فاته من الدنيا، كانت فذلكة ذلك قوله: {خسر الدنيا} أي بسبب أن ذلك لا يرد ما فاته منها ويكون سبب التقتير عليه وذهاب بركته
{ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم} [المائدة: 66] "إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه "{والآخرة} بفوات أجر الصبر وحصول إثم الجزع. ثم عظم مصيبته بقوله: {ذلك} أي الأمر العظيم {هو} أي لا غير {الخسران المبين}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويمضي السياق إلى نموذج آخر من الناس -إن كان يواجه الدعوة يومذاك فهو نموذج مكرور في كل جيل- ذلك الذي يزن العقيدة بميزان الربح والخسارة؛ ويظنها صفقة في سوق التجارة: إن العقيدة هي الركيزة الثابتة في حياة المؤمن، تضطرب الدنيا من حوله فيثبت هو على هذه الركيزة ونتجاذبه الأحداث والدوافع فيتشبث هو بالصخرة التي لا تتزعزع؛ وتتهاوى من حوله الأسناد فيستند هو إلى القاعدة التي لا تحول ولا تزول.ومن ثم يجب أن يستوي عليها، متمكنا منها، واثقا بها، لا يتلجلج فيها، ولا ينتظر عليها جزاء، فهي في ذاتها جزاء. فالعقيدة حق يعتنق لذاته، بانفعال القلب المتلقي للنور والهدى الذي لا يملك إلا أن ينفعل بما يتلقى. والعقيدة تحمل جزاءها في ذاتها، بما فيها من طمأنينة وراحة ورضى، فهي لا تطلب جزاءها خارجا عن ذاتها. والمؤمن يعبد ربه شكرا له على هدايته إليه، وعلى اطمئنانه للقرب منه والأنس به. فإن كان هنالك جزاء فهو فضل من الله ومنة. استحقاقا على الإيمان أو العبادة! والمؤمن لا يجرب إلهه. فهو قابل ابتداء لكل ما يقدره له، مستسلم ابتداء لكل ما يجربه عليه راض ابتداء بكل ما يناله من السراء والضراء. وليست هي صفقة في السوق بين بائع وشار، إنما هي إسلام المخلوق للخالق، صاحب الأمر فيه، ومصدر وجوده من الأساس. والذي ينقلب على وجهه عند مس الفتنة يخسر الخسارة التي لا شبهة فيها ولا ريب: (ذلك هو الخسران المبين).. يخسر الطمأنينة والثقة والهدوء والرضى. إلى جوار خسارة المال أو الولد، أو الصحة، او أعراض الحياة الأخرى التي يفتن الله بها عباده، ويبتلي بها ثقتهم فيه، وصبرهم على بلائه، وإخلاصهم أنفسهم له، واستعدادهم لقبول قضائه وقدره.. ويخسر الآخرة وما فيها من نعيم وقربى ورضوان. فيا له من خسران!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وفي حديث « الموطأ»: أن أعرابياً أسلم وبايع النبي صلى الله عليه وسلم فأصابه وعكٌ بالمدينة، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستقيله بَيعته فأبى أن يقيله، فخرج من المدينة فقال النبي صلى الله عليه وسلم "المدينة كالكير تنفي خبَثها وينصَع طيبها "فجعله خبثاً لأنه لم يكن مؤمناً ثابتاً.والظاهر أن هذه الآية نزلت بالمدينة وهذا كله ناشىء عن الجهل وتخليط الأسباب الدنيوية بالأسباب الأخروية، وجعل المقارنات الاتفاقية كالمعلومات اللزومية. وهذا أصل كبير من أصول الضلالة في أمور الدين وأمور الدنيا. ولنعم المعبّر عن ذلك قوله تعالى {خسر الدنيا والآخرة} إذ لا يهتدي إلى تطلب المسببات من أسبابها.
{يعبد الله على حرف} تمثيل لحال المتردد في عمله، يريد تجربة عاقبته بحال من يمشي على حرف جَبَل أو حرف وادٍ فهو متهيّىء لأن يزِل عنه إلى أسفله فينقلب، أي ينكَب.وحرف الاستعلاء ظاهر وهو أيضاً الملائم لتمثيل أول حاله بحال من هو على حرف. والخسران: تلف جزء من أصل مال التجارة، فشبه نفع الدنيا ونفع الآخرة بمال التاجر الساعي في توفيره لأن الناس يرغبون تحصيله، وثني على ذلك إثبات الخسران لصاحبه الذي هو من مرادفات مال التجارة المشبه به، فشبه فوات النفع المطلوب بخسارة المال. وتعليق الخسران بالدنيا والآخرة على حذف مضاف. والتقدير خسر خير الدنيا وخير الآخرة. فخسارة الدنيا بسبب ما أصابه فيها من الفتنة، وخسارة الآخرة بسبب عدم الانتفاع بثوابها المرجوّ له. والمبين: الذي فيه ما يبين للناس أنه خسران بأدنى تأمل. والمراد أنه خسران شديد لا يخفى. والإتيان باسم الإشارة لزيادة تمييز المسند إليه أتم تمييز لتقرير مدلوله في الأذهان.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وقوله تعالى هنا: {على حرف} يشبه قوله تعالى في آية أخرى: {على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم} [التوبة: 109]، إشارة إلى أن هذا النوع من الناس يكون على وشك السقوط لأول دفعة.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وهذا نموذجٌ آخر، وهو الإنسان الذي لا ينطلق في إيمانه من موقع تأمّلٍ وتفكير، ولا يتحرك في عبادته لله من قاعدةٍ روحيةٍ عميقة، أو من رؤيةٍ واضحةٍ شاملةٍ قوامها الانفتاح على الله والمعرفة الواعية به، ولذلك فإنه يبقى ثابتاً ما دامت الأمور منسجمةً مع أوضاعه النفسية والحياتية، وما دامت العبادة لا تكلّفه جهداً كبيراً، أو تضحيةً ماديةً أو معنوية، ولا تربك له ما اعتاده في حياته من تصرفات وعلاقات. أمّا إذا هدد الإيمان مصالحه بالتعقيد، وشكلت العبادة خطراً على اتجاهه في الحياة، وأصبح التزامه يؤدّي به إلى بعض الخسارة أو بعض المشاكل، أو يفرض عليه اتخاذ مواقف رافضة لشخص يحبّه أو موقف يلتزمه، أو يفرض عليه الانسجام مع من لا ينسجم معهم، أو السير في طريق أو نحو غاية لا يرى فيها فرصةً طيبةً لأطماعه وشهواته، فإنه يبادر إلى الانقلاب على إيمانه، والابتعاد عن عبادته، بسرعة وحسم، خوفاً من خسارة فرص الربح، أو التعرض لتجربة الخسارة.. {خَسِرَ الدُّنْيَا} التي كان يؤمِّل فيها فخاب ظنه وخسر صفقة يمينه {والآخرة} بخسارته الجنة بابتعاده عن رسالة الله، واقترابه من نار جهنم، و {ذلِكَ هُوَ الخسران الْمُبِينُ} لأنه يمثل الخسارة الشاملة المطلقة التي لا ينفع معها أيّ ربحٍ طارئ، لأن أيّ قدر منه يبدو ضئيلاً أمام حجم الخسارة.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وممّا يلفت النظر أنّ القرآن الكريم يعبّر عن إقبال الدنيا على هؤلاء الأشخاص بالخير. وعن إدبارها بالفتنة (وسيلة الإمتحان) ولم يطلق عليها كلمة الشرّ، إشارة إلى أنّ هذه الأحداث غير المرتقبة ليست شرّاً ولا سوءاً وإنّما هي وسيلة للإمتحان... (ذلك هو الخسران المبين) مؤكّداً أنّ أفدح الضرر وأفظع الخسران، هو أن يفقد الإنسان دينه ودنياه. وهؤلاء الأشخاص الذين يقيسون الحقّ بإقبال الدنيا عليهم ينظرون إلى الدين وفق مصالحهم الخاصّة، وهذه الفئة موجودة بكثرة في كلّ مجتمع، وإيمانها مزيج بالشرك وعبادة الأصنام، إلاّ أنّ أصنامهم هي وأزواجهم وأبناؤهم وأموالهم ومواشيهم، ومثل هذا الإيمان أضعف من بيت العنكبوت!