معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تُقۡسِطُواْ فِي ٱلۡيَتَٰمَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۖ فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تَعۡدِلُواْ فَوَٰحِدَةً أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَلَّا تَعُولُواْ} (3)

قوله تعالى : { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع } . اختلفوا في تأويلهم ، فقال بعضهم : معناه إن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا فيهن إذا نكحتموهن فانكحوا غيرهن من الغرائب مثنى وثلاث ورباع .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا أبو اليمان ، أنا شعيب ، عن الزهري قال : كان عروة بن الزبير يحدث أنه سأل عائشة رضي الله عنها { وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء } . قالت : هي اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في جمالها ومالها ويريد أن يتزوجها بأدنى من سنة نسائها ، فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق ، وأمروا بنكاح من سواهن من النساء ، قالت عائشة رضي الله عنها : ثم استفتى الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى : { ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن } . إلى قوله تعالى : { وترغبون أن تنكحوهن } فبين الله تعالى في هذه الآية أن اليتيمة إذا كانت ذات جمال أو مال رغبوا في نكاحها ولم يلحقوها بسنتها بإكمال الصداق ، وإذا كانت مرغوبة عنها في قلة المال والجمال تركوها والتمسوا غيرها من النساء ، قال : فكما يتركونها حين يرغبون عنها فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها ، إلا أن يقسطوا لها الأوفى من الصداق ويعطوها حقها .

قال الحسن : كان الرجل من أهل المدينة يكون عنده الأيتام وفيهن من يحل له نكاحها فيتزوجها لأجل مالها وهي لا تعجبه كراهية أن يدخل غريب فيشاركه في مالها ثم يسيء صحبتها ويتربص بها أن تموت ويرثها فعاب الله تعالى ذلك وأنزل الله هذه الآية .

وقال عكرمة : كان الرجل من قريش يتزوج العشر من النساء والأكثر إذا صار معدماً من مؤن نسائه مال إلى يتيمته التي في حجره فأنفقه فقيل لهم : لا تزيدوا على أربع حتى لا يحوجكم إلى أخذ أموال اليتامى ، وهذه رواية طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما .

وقال بعضهم : كانوا يتحرجون عن أموال اليتامى ويترخصون في النساء فيتزوجون ما شاءوا وربما عدلوا وربما لم يعدلوا فلما أنزل الله تعالى في أموال اليتامى { وآتوا اليتامى أموالهم } أنزل هذه الآية { وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى } يقول : كما خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فكذلك خافوا في النساء أن لا تعدلوا فيهن فلا تتزوجوا أكثر مما يمكنكم القيام بحقوقهن ، لأن النساء في الضعف كاليتامى ، وهذا قول سعيد بن جبير وقتادة والضحاك والسدي : ثم رخص في نكاح أربع فقال : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة } . .

وقال مجاهد : معناه إن تحرجتم من ولاية اليتامى وأموالهم إيماناً فكذلك تحرجوا من الزنا فانكحوا النساء الحلال نكاحاً طيباً ، ثم بين لهم عدداً ، وكانوا يتزوجون ماشاءوا من غير عدد ، فنزل قوله تعالى { فانكحوا ما طاب لكم من النساء } أي : من طاب ، كقوله تعالى : { والسماء وما بناها } وقوله تعالى : { قال فرعون وما رب العالمين } والعرب تضع " من وما " كل واحدة موضع الأخرى كقوله تعالى { فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين } " وطاب " أي : حل لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ، معدولات عن اثنين وثلاث ، وأربع ، ولذلك لا ينصرفن ، " الواو " بمعنى " أو " للتخيير ، كقوله تعالى { أن تقوموا لله مثنى وفرادى } وقوله تعالى : { أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع } وهذا إجماع أن أحداً من الأمة لا يجوز له أن يزيد على أربع نسوة ، وكانت الزيادة من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم ، لا مشاركة معه لأحد من الأمة فيها . وروي أن قيس بن الحارث كان تحته ثمان نسوة فلما نزلت هذه الآية قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( طلق أربعاً وأمسك أربعاً ) فجعل يقول للمرأة التي لم تلد ، يا فلانة أدبري والتي قد ولدت يا فلانة أقبلي ، وروي أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وعنده عشرة نسوة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( أمسك أربعاً وفارق سائرهن ) . وإذا جمع الحر بين أربع نسوة حرائر فإنه يجوز ، فأما العبد فلا يجوز له أن ينكح أكثر من امرأتين عند أكثر أهل العلم ، لما أخبرنا عبد الوهاب بن أحمد الخطيب أنا عبد العزيز أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا سفيان عن محمد بن عبد الرحمن مولى أبي طلحة عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن عتبة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : ينكح العبد امرأتين ، ويطلق تطلقتين ، وتعتد الأمة بحيضتين ، فإن لم تكن تحيض فبشهرين ، أو شهر ونصف ، وقال ربيعة : يجوز للعبد أن ينكح أربع نسوة كالحر .

قوله تعالى : { فإن خفتم } . خشيتم ، وقيل : علمتم .

قوله تعالى : { أن لا تعدلوا } . بين الأزواج الأربع .

قوله تعالى : { فواحدة } . أي فانكحوا واحدةً ، وقرأ أبو جعفر{ فواحدة } بالرفع .

قوله تعالى : { أو ما ملكت أيمانكم } . يعني السراري ، لا يلزم فيهن من الحقوق ما يلزم في الحرائر ، ولا قسم لهن ، ولا وقف في عددهن ، وذكر الأيمان بيان ، تقديره : أو ما ملكتم ، وقال بعض أهل المعاني : أو ما ملكت أيمانكم أي : ما ينفذ فيه أقسامكم ، جعله من يمين الحلف ، لا يمين الجارحة .

قوله تعالى : { ذلك أدنى } . أقرب .

قوله تعالى : { أن لا تعولوا } . أي : لا تجوروا ولا تميلوا ، يقال : ميزان عائل ، أي : جائر مائل ، هذا قول أكثر المفسرين ، وقال مجاهد : أن لا تضلوا ، وقال الفراء : أن لا تجاوزوا ما فرض الله عليكم ، وأصل العول : المجاوزة ، ومنه عول الفرائض ، وقال الشافعي رحمه الله ، أن لا تكثر عيالكم ، وما قاله أحد إنما يقال ، أعال يعيل إعالة ، إذا كثر عياله ، وقال أبو حاتم : كان الشافعي رضي الله عنه أعلم بلسان العرب منا فلعله لغة ويقال : هي لغة حمير ، وقرأ طلحة بن مصرف { أن لا تعيلوا } وهي حجة لقول الشافعي رضوان الله عليه .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تُقۡسِطُواْ فِي ٱلۡيَتَٰمَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۖ فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تَعۡدِلُواْ فَوَٰحِدَةً أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَلَّا تَعُولُواْ} (3)

ثم شرع - سبحانه - فى نهيهم عن منكر آخر كانوا يباشرونه فقال - تعالى .

{ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } .

وقوله { وَإِنْ خِفْتُمْ } شرط ، وجوابه قوله { فانكحوا } .

والمراد من الخوف : العلم ، وعبر عنه بذلك للأشعار بكون المعلوم مخوفا محذورا . ويقوم الظن الغالب مقام العلم .

وقوله { تُقْسِطُواْ } من الإِقساط وهو العدل . يقال : أقسط الرجل إذا عدل . قال - تعالى - : { وأقسطوا إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } ويقال : قسط الرجل إذا جار وظلم صاحبه . قال - تعالى - { وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } والمراد " باليتامى : يتامى النساء . قال الزمخشرى : ويقال للاناث اليتامى كما يقال للذكور وهو جمع يتيمة .

ومعنى { مَا طَابَ لَكُمْ } ما مالت إليه نفوسكم واستطابته من النساء اللائى أحل الله لكم نكاحهن .

هذا ، وللعلماء أقوال فى تفسير هذه الآية الكريمة منها : ما رواه البخارى ومسلم وأبو داود والنسائى وغيرهم عن عروة بن الزبير أنه سأل عائشة - رضى الله عنها - عن هذه الآية فقال : يا ابن أختى هى اليتيمة تكون فى حجر وليها تشركه فى ماله ويعحبه مالها وجمالها .

فيريد وليها أن يتزوجها من غير أن يقسط فى صداقها ، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره .

قال عروة : قالت عائشة : وإن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية ، فأنزل الله - تعالى - { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النسآء قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب فِي يَتَامَى النسآء اللاتي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ } قالت عائشة : وقوله الله - تعالى - { وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ } رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال . قالت : فنهوا عن أن ينكحوا من رغبوا فى مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط ، من أجل رغبتهم عنهن إذا كن قليلات المال والجمال " .

وعلى هذه الرواية التى ساقها أئمة المحدثين عن عائشة فى المراد من الآية الكريمة يكون المعنى : وإن علمتم أيها الأولياء على النساء اليتامى أنكم لن تعدلوا فيهن إذا تزوجتم بهن - بأن تسيئوا إليهن فى العشرة ، أو بأن تمتنعوا عن إعطائهن الصداق المناسب لهن - إذا علمتم ذلك فانكحوا غيرهن من النساء الحلائل اللائى تميل إليهن نفوسكم ولا تظلموا هؤلاء اليامى بنكاحهن دون أن تعطوهون حقوقهن ؛ فإن الله - تعالى - قد وسع عليكم فى نكاح عيرهن .

فالمقصود من الآية الكريمة على هذا المعنى : نهى الأولياء عن نكاح النساء اليتامى اللائى يلونهن عند خوف عدم العدل فيهن ، إلا أنه أوثر التعبير عن ذلك بالأمر بنكاح النساء الأجنبيات ، كراهة للنهى الصريح عن نكاح اليتيمات ، وتلطفا فى صرف المخاطبين عن نكاح التيامى حال العلم بعدم العدل فيهن .

فكأنه - سبحانه - يقول : إن علمتم أيها الأولياء الجور والظلم فى نكاح اليتامى اللائى فى ولايتكم فلا تنكحوهن ، وانكحوا غيرهن مما طالب لكم من النساء .

وعلى هذا القول الذى أورده المحدثون عن عائشة - رضى الله عنهما - سار كثير من المفسرين في الآية الكريمة . وبعضهم اقتصر عليه ولم يذكر سواه .

قال بعض العلماء : وكلامها هذا أحسن تفسير لهذه الآية . وهى وإن لم تسند ما قالته إلى رسول الله ، إلا أن سياق كلامها يؤذن بأنه عن توقيف ؛ ولذلك أخرجه البخارى فى باب تفسير سورة النساء بسياق الأحاديث المرفوعة ، اعتدادا بأنها ما قالت ذلك إلا عن معاينة حال النزول .

لا سيما وقد قالت : ثم إن الناس استفتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ وعليه يكون إيجاز لفظ الآية اعتدادا بما فهمه الناس مما يعلمون من أحوالهم ، وتكون قد جمعت إلى جانب حفظ حقوق اليتامى فى أموالهم الموروثة ، حفظ حقوفهم فى الأموال التى يستحقها النساء اليتامى كمهور لهن عند الزوج بهن . . "

أما الرأى الثانى فيرى أصحابه أن الآية مسوقة للنهى عن نكاح ما فوق الأربع خوفا على أموال اليتامى أن يتلفها أولياؤهم .

وقد حكى هذا القول الإِمام ابن جرير فقال : وقال آخرون بل معنى ذلك : النهى عن نكاح ما فوق الأربع ، حذرا على أموال اليتامى أن يتلفها أولياؤهم وذلك أن قريشا كان الرجل منهم يتزوج العشر من النساء والأكثر والأقل ، فإذا صار معدما مال على مال اليتيمة التى فى حجره فأنفقه ، أو تزوج به ، فنهوا عن ذلك . وقيل لهم : إن أنتم خفتم على أموال أيتاكم أن تنفقوها فلا تعدلوا فيها من أجل حاجتكم إليها لما يلزمكم من مؤن نسائكم ، - إن خفتم ذلك . فلا تجاوزوا فيما تنكحون من عدد النساء على أربع . وإن خفتم أيضاً من الأربع ألا تعدلوا فى أموالهم - أى أموال اليتامى - ، فاقتصروا على الواحدة أو على ما ملكت أيمانكم - أى إن كان زواجكم بالأربع يؤدى إلى الجور فى أموال اليتامى فاقتصروا على الزواج بامرأة واحدة - " .

وقد انتصر ابن جرير لهذا القول وعده أرجح الأقوال ، فقال ما ملخصه وإنما قلنا : إن ذلك أولى بتأويل الآية ؛ لأن الله - تعالى - افتتح الآية التى قبلها بالنهى عن أكل أموال اليتامى بغير حقها . ثم أعلمهم - هنا - المخلص من الجور فى أموال اليتامى فقال : انكحوا إن أمنتم الجور فى النساء على أنفسكم ما أبحت لكم منهن وحللته : مثنى وثلاث ورباع . فإن خفتم أيضاً الجور على أنفسكم فى أمر الواحدة فلا تنكحوها ، ولكن تسروا من المماليك ، فإنكم أحرى ألا تجوروا عليهن ، لأنهن أملاككم وأموال ، ولا يلزمكم لهن من الحقوق كالذى يلزمكم للحرائر ، فيكون ذلك اقرب لكم إلى السلام من الإِثم والجور " .

وينسب هذا الرأى إلى ابن عباس وسعيد بن جبير ، والسدى ، وقتادة ، وعكرمة .

وقال مجاهد : إن الآية الكريمة مسوقة للنهى عن الزنا . وقد حكى هذا الرأى صاحب الكشاف فقال : كانوا لا يتحرجون من الزنا . ويتحرجون من ولاية اليامى . فقيل لهم : إن خفتم الجور في حق اليتامى ، فخافوا الزنا ، فانكحوا ما حل من النساء ، ولا تحوموا حول المحرمات " .

هذه أشهر الأقوال فى معنى الآية الكريمة ، ويبدو لنا أن أرجحها أولها ، لأنه هو الظاهر من معنى الآية ، ولأن الغالب أن السيدة عائشة - رضى الله عنها - ما فسرت الآية بهذا التفسير الذى قالته لابن أختلها إلا عن توقيف ومعاينة لحال النزول ، ولأن الملازمة بين الشرط والجزاء فى الآية على هذا الوجه تكون ظاهرة . إذ التقدير وإن خفتم أيها الأولياء الجور والظلم فى نكاح اليتامى اللاتى فى ولايتكم فانكحوا من غيرهن ما طاب لكم من النساء .

أما على القول الثانى فمحل الملازمة بين الشرط والجزاء إنما هو فيما تفرع عن الجزاء وهو قوله { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } .

وعلى قول مجاهد تضعف الملازمة بين الشرط والجزاء .

هذا ، والأمر فى قوله { فانكحوا } - على التفسير الأول - للإِباحة كما فى قوله - تعالى - { وكُلُواْ واشربوا . . . } خلافا للظاهرية الذين يرون أنه للوجوب . و { مَا } فى قوله - تعالى - { مَا طَابَ لَكُمْ } موصولة أو موصوفة . وما بعدها صلتها أو صفتها . وأوثرت على { مِّنَ } لأنها أريد بها الصفة وهو الطيب من النساء بدون تحديد لذات معينة ، ولو قال { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ } لتبادر إلى الذهن أن المراد نسوة طيبات معروفات بينهم .

وقوله - تعالى - { مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } حال من فاعل { طَابَ } المستتر أو من مرجعه - وهو { مَا } - ، أو بدل منه .

وهذه الكلمات الثلاث من ألفاظ العدد . وتدل كل واحدة منها على المكرر من نوعها . فمثنى تدل على اثنين اثنين . وثلاث تدل على ثلاثة ثلاثة . ورباع تدل على أربعة أربعة .

والمراد منها هنا : الإِذن لكل من يريد الجمع أن ينكح ما شاء من العدد المذكور متفقين فيه ومختلفين .

والمعنى : فانكحوا ما طالب لكم من النساء معدودات هذا العدد : ثنتين ثنتين . وثلاثا ثلاثا . وأربعا أربعا . حسبما تريدون وتستطيعون .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : الذى أطلق للنكاح فى الجمع أن يجمع بين ثنتين أو ثلاث أو أربع . فما معنى التكرير فى مثنى وثلاث ورباع .

قلت : الخطاب للجميع . فوجب التكرير ليصيب كل ناكح يريد الجمع ما أراد من العدد الذى أطلق له . كما تقول للجماعة : اقتسموا هذا المال - وهو ألف درهم - : درهمين درهمين ، وثلاثة ثلاثة . وأربعة أربعة . ولو أفردت لم يكن له معنى .

فإن قلت : فلم جاء العطف بالواو دون أو ؟

قلت : كما جاء بالواو فى المثال الذى حذوته لك . ولو ذهبت تقول : اقتسموا هذا المال درهمين درهمين أو ثلاثة ثلاثة أو أربعة أربعة ؛ علمت أنه لا يسوغ لهم أن يقتسموه إلا على أحد أنواع هذه القسمة . وليس لهم أن يجمعوا بينها . فيجعوا بعض القسم على تثنية ، وبعضا على تثليث ، وبعضا على تربيع ، وذهب معنى تجويز الجمع بين أنواع القسمة الذى دلت عليه الواو .

وتحريره : أن الواو دلت على إطلاق أن يأخذ الناكحون من أرادوا نكاحهن من النساء على طريق الجمع : إن شاؤوا مختلفين فى تلك الأعداد ، وإن شاؤوا متفقين فيها ، محظوراً عليهم ما وراء ذلك " .

ثم بين - سببحاه - لعباده ما ينبغى عليهم فعله فى حال توقعهم عدم العدل بين الزوجات فقال - تعالى { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } .

فالمراد بالعدل عنا : العدل بين الزوجات المتعددات .

أى : فإن علمتم أنكم لا تعدلون بين الأكثر من الزوجة الواحدة فى القسم والنفقة وحقوق الزوجية بحسب طاقتكم ، كما علمتم فى حق اليتامى أنكم لا تعدلون - إذا علمتم ذلك فالزموا زوجة واحدة ، أو أى عدد شئتم من السرارى بالغة ما بلغت .

فكأنه - سبحانه - لما وسع عليهم بأن أباح لهم الزواج بالمثنى والثلاث والرباع من النساء ، أتبأهم بأنه قد يلزم من هذه التوسعة خوف الميل وعدم العدل . فمن الواجب عليهم حينئذ أن يحترزوا بالتقليل من عدد النساء فيقتصروا على الزوجة الواحدة .

ومفهومه : إباحة الزيادة على الواحدة إذا أمن الجور بين الزوجات المتعدات .

وقوله { فَوَاحِدَةً } منصوب بفعل مضمر والتقدير : فالزموا واحدة أو فاختاروا واحدة فإن الأمر كله يدور مع العدل ، فأينما وجدتم العدل فعليكم به .

وقرىء بالرفع أى فحسبكم واحدة . { أَوْ } للتسوية أى سوى - سبحانه - فى السهولة واليسر بين نكاح الحرة الواحدة وبين السرارى من غير تقييد بعدد ، لقلة تبعتهن ، ولخفة مؤنتهن ، وعدم وجوب القسم فيهن .

وقوله { ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ } جملة مستأنفة بمنزلة التعليل مما قبلها .

واسم الإِشارة " ذلك " يعود إلى اختيار الواحدة أو التسرى .

وقوله { أدنى } هنا بمعى أقرب . وهو قرب مجازى . أى أحق وأعون أن لا تعولوا .

وقوله { تَعُولُواْ } مأخوذ من العول وهو فى الأصل الميل المحسوس .

يقال . عال الميزان عولا إذا مال . ثم نقل إلى الميل المعنوى وهو الجور والظلم ؛ ومنه عال الحاكم إذا جار ، والمراد هنا الميل المحظور المقابل للعدل .

والمعنى : أن ما ذكر من اختيار الزوجة الواحدة والتسرى ، أقرب بالنسبة إلى ما عداهما إلى العدل وإلى عدم الميل المحظور ، لأن من اختار زوجة واحدة فقد انتفى عنه الميل والجور رأسا لانتفاء محله ومن تسرى فقد انتفى عنه خطر الجور والميل . أما من اخترا عددا من الحرائر فالميل المحظور متوقع منه لتحقق المحل والخطر .

ولأن التعدد فى الزوجات يعرض المكلف غالبا للجور وإن بذل جهده فى العدل .

وهذا المعنى على تفسير ( تعولوا ) بمعنى تجوروا وتميلوا عن الحق . وهو اختيار أكثر المفسرين .

وقيل : إن معنى { أَلاَّ تَعُولُواْ } ألا تكثر عيالكم . يقال : عال يعول ، إذا كثرت عياله . وقد حكى صاحب الكشاف هذا المعنى عن الإِمام الشافعى فقال :

" والذي يحكى عن الشافعى - رحمه الله - أن فسر { أن لا تعولوا } بأن لا تكثر عيالكم . فوجهه أن يجعل من قولك : عال الرجل عياله يعولهم كقولهم : ما نهم يمونهم إذا أنفق عليهم . لأن من كثر عياله لزمه أن يعولهم ، وفى ذلك ما يصعب عليه المحافظة على حدود الكسب وحدود الورع وكسب الحلال والرزق الطيب .

ثم قال : وكلام مثله من أعلام العلم ، وأئمة الشرع ، ورءوس المجتهدين ، حقيق بالحمل على الصحة والسداد .

وقرأ طاووس : أن لا تعيلوا من أعال الرجل إذا كثر عياله .

وهذه القراءة تعضد تفسير الشافعي من حيث المعنى الذى قصده " .

هذا ، وقد أخذ العلماء من هذه الآية أحكاما منها : جواز تعدد الزوجات إلى أربع بحيث لا يجوز الزيادة عليهم مجتمعات ، لأن هذا العدد قد ذكر فى مقام التوسعة على المخاطبين ، ولو كانت تجوز الزيادة على هذا العدد لذكرها الله - تعالى - .

وقد أجمع الفقهاء على أنه لا تجوز الزيادة على الأربع ، ولا يقدح فى هذا الإِجماع ما ذهب إليه بعض المبتدعة من جواز الجمع بين ما هو أكثر من الأربع الحرائر ، لأن ما ذهب إليه هؤلاء ، المقتبدعة لا يعتد به . إذ الإِجماع قد وقع وانقضى عصر المجمعين قبل ظهور هؤلاء المبتدعين المخالين .

وقد رد العلماء على هؤلاء المخالفين بما يهدم أقوالهم ، ومن العلماء الذين تولوا الرد عليهم الإِمام القرطبي فقد قال - ما ملخصه - :

" أعلم أن هذا العدد مثنى وثلاث ورباع لا يدل على إباحة تسع . كما قاله من بعُد فهمه عن الكتاب والسنة ، وأعرض عما كان عليه سلف هذه الأمة ، وزعم أن الواو جامعة ، وعضد ذلك بأن النبى صلى الله عليه وسلم نكح تسعا ، وجمع بينهن فى عصمته . والذى صار إلى هذه الجهالة وقال هذه المقالة الراقضة وبعض أهل الظاهر ، جعلوا مثنى مثل اثنين ، وكذلك ثلاث ورباع .

وهذا كله جهل باللسان والسنة ومخالفة لإِجماع الأمة ، إذ لا يسمع عن أحد من الصحابة ولا التابعين أنه جمع فى عصمته أكثر من أربع .

وأخرج مالك فى الموطأ والنسائى والدارقطنى فى سننهما " أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لغيلان بن أمية الثقفى وقد أسلم وتحته عشر نسوة " اختر منهن أربعا وفارق سائرهن "

وأما ما أبيح من ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم فذلك من خصوصياته .

وأما قولهم إن الواو جامعة . فقد قيل ذلك ، ولكن الله - تعالى - خاطب العرب بأفصح اللغات . والعرب لا تدع أن تقول تسعة وتقول اثنين وثلاثة وأربعة . وكذلك تستقبح ممن يقول ، أعط فلانا أربعة ، ستة ، ثمانية ، ولا يقول : ثمانية عشر .

وإنما الواو فى هذه الموضع بدل ، أى أنكحوا ثلاث بدلا من مثنى ، ورباع بدلا من ثلاث ، ولذلك عطف بالواو ولم يعطف بأو . ولو جاء بأو لجاز ألا يكون لصاحب المثنى ثلاث ، ولا لصاحب الثلاث رباع .

وقد قال مالك والشافعى فى الذي يتزوج خامسة وعنده أربع : عليه الحد إن كان عالما . وقال الزهرى : يرجم إن كان عالما ، وإن كان جاهلا فعليه أدنى الحدين الذى هو الجلد ، ولها مهرها ، ويفرق بينهما ولا يجتمعان أبداً " .

كذلك من الأحكام التى أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة أن الله تعالى وإن كان قد أباح التعدد وحدد غايته بأربع بحيث لا يجوز الزيادة عليهن ، إلا أنه - سبحانه - قد قيد هذه الإِباحة بالعدل بينهم فيما يستطيع الإِنسان العدل فيه بحسب طاقته البشرية ، بأن يعدل بينهن فى النفقة والكسوة والمعاشرة الزوجية .

فإن عجز عن ذلك لم يبح له التعدد .

وللإِمام الشيخ محمد عبده كلام حسن فى المعنى ، فقد قال - رحمه الله - " قد أباحت الشريعة الإِسلامية للرجل الاقتران بأربع من النسوة إن علم من نفسه القدرة على العدل بينهن ، وإلا فلا يجوز الاقتران بغير واحدة . قال - تعالى : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً } فإن الرجل إذا لم يستطع إعطاء كل منهن حقبها اختل نظام المنزل ، وساءت معيشة العائلة إذا العماد القويم لتدبير المنزل هو بقاء الاتحاد والتآلف بين أفراد العائلة .

وقد كان النبى صلى الله عليه وسلم ، والخلفاء الراشدون ، والعلماء الصالحون من كل قرن إلى هذا العهد يجمعون بين النسوة مع المحافظة على حدود الله فى العدل بينهن . فكان صلى الله عليه وسلم وأصحابه والصالحون من أمته لا يأتون حجرة إحدى الزوجات فى نوبة الأخرى إلا بإذنها .

وقد قال صلى الله عليه وسلم : " من كان له امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل "

وكان صلى الله عليه وسلم يعتذر عن ميله القلبى بقوله : " اللهم هذا - أى العدل فى البيات والعطاء - جهدى فيما أملك ، ولا طاقة لى فيما تملك ولا أملك - يعنى الميل القلبى " وكان يقرع بينهم إذا أراد سفرا .

ثم قال فى نهاية حديثه : فعلى العقلاء أن يتبصروا قبل طلب التعدد فى الزوجات فيما يجب عليهم شرعا من العدل وحفظ الألفظ بين الأولاد ، وحفظ النساء من الغوائل التى تؤدى بهن إلى الأعمال التى لا تليق بمسلمة .

هذا ، وقد ذكر العلماء حكما كثيرة لمشروعية تعدد الزوجات ، ومن هذه الحكم أن فى هذا التعدد وسيلة إلى تكثير عدد الأمة بازدياد عدد المواليد فيها . ولا شك أن كثيرا من الأمم الإِسلامية التى اتسعت أرضها ، وتعددت موارد الثروة فيها ، فى حاجة إلى تكثير عدد أفرادها حتى تنتفع بما حباها الله من خيرات ، وتستيطع الدفاع عن نفسها إذا ما طمع فيها الطامعون ، واعتدى عليها المعتدون .

ومنها أن التعدد يعين على كفالة النساء وحفظهن وصيانتهن من الوقوع فى الفاحشة ، لا سيما فى أعقاب الحروب التى - تقضى على الكثيرين من الرجال ، ويصبح عدد النساء أكبر بكثير من عدد الرجال .

ومنها أن الشريعة الإِسلامية قد حرمت الزنا تحريما قاطعا ، وعاقبت مرتكبه بأقسى أنواعه العقوبات وأزجرها ، بسبب ما يجر إليه من فساد فى الأخلاق والأنساب ونظام الأسر ، فناسب أن توسع على الناس فى تعدد النساء لمن كان من الرجال ميالا للتعدد ، مستطيعا لتكاليفه ومطالبه .

ومنها قصد الابتعاد عن الطلاق ، فإن المرأة قد لا تكون قادرة على القيام بالمطالب الزوجية التى تحتمها حياتها مع زوجها بسبب مرضها أو عجزها أو عقمها أو غير ذلك من الأسباب ، فيلجأ زوجها إلى الزواج بأخرى غيرها مع بقاء الزوجة الأولى فى عصمته بدل أن يطلقها فتفقد حياتها الزوجية ، وقد تكون هى فى حاجة إلى هذا الزوج الذى يقوم برعايتها وحمايتها والقيام بشأنها .

والخلاصة أن الله - تعالى - قد علم أن مصلحة الرجال والنساء قد تستدعى تعدد الزوجات ، - بل قد توجبه فى بعض الحالات - فأباح لهم هذا التعدد ، وحدد غايته بأربع بحيث لا يجوز الزيادة عليهن ، وقيد - سبحانه - هذه الإِباحة بالعدل بينهن فيما يستطيع الإِنسان العدل فيه بحسب طاقته البشرية ، فإن علم الإِنسان من نفسه عدم القدرة على العدل بينهن لم يبح له التعدد .

ولو أن المسلمين ساروا على حسب ما شرع الله لهم لسعدوا فى دنياهم وفى آخرتهم ؛ فأن الله - تعالى - ما شرع لهم إلا ما فيه منفعتهم وسعادتهم .