نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{وَقَرۡنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ ٱلۡأُولَىٰۖ وَأَقِمۡنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرٗا} (33)

ولما تقدم إليهن في القول وقدمه لعمومه{[55539]} ، أتبعه الفعل فقال : { وقرن } أي اسكنّ وامكثن دائماَ { في بيوتكن } فمن كسر القاف وهم غير{[55540]} المدنيين{[55541]} وعاصم{[55542]} جعل الماضي قرر{[55543]} بفتح العين ، ومن فتحه فهو عنده قرر بكسرها ، وهما لغتان .

ولما أمرهن بالقرار ، نهاهن عن ضده مبشعاً له ، فقال : { ولا تبرجن } أي تظاهرن من البيوت بغير حاجة محوجة ، فهو{[55544]} من وادي أمر النبي صلى الله عليه وسلم لهن بعد حجة الوداع بلزوم ظهور الحصر { تبرج الجاهلية الأولى } أي المتقدمة على الإسلام وعلى ما قبل الأمر بالحجاب ، بالخروج{[55545]} من بيت والدخول في آخر ، والأولى لا تقتضي أخرى كما ذكره البغوي{[55546]} ، وعن ابن عباس{[55547]} رضي الله عنهما أنها ما بين نوح وإدريس عليهما السلام ، تبرج فيها{[55548]} نساء السهول - وكن صباحاً وفي{[55549]} رجالهن دمامة - لرجال الجبال وكانوا صباحاً وفي نسائهن دمامة ، فكثر الفساد ، وعلى هذا فلها ثانية .

ولما أمرهن بلزوم البيوت للتخلية عن{[55550]} الشوائب ، أرشدهن إلى التحلية بالرغائب ، فقال : { وأقمن الصلاة } أي فرضاً ونفلاً ، صلة لما بينكن وبين الخالق لأن{[55551]} الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر { وآتين الزكاة } إحساناً إلى الخلائق ، وفي هذا بشارة بالفتوح وتوسيع الدنيا عليهن ، فإن العيش وقت نزولها كان ضيقاً عن القوت فضلاً عن الزكاة .

ولما أمرهن بخصوص ما تقدم لأنهما أصل الطاعات البدنية والمالية ، ومن اعتنى بهما حق الاعتناء جرتاه إلى ما وراءهما ، عم وجمع في قوله : { وأطعن الله } أي ذاكرات ما له{[55552]} من صفات الكمال { ورسوله } في جميع ما يأمران به ؛فإنه لم يرسل إلا للأمر والنهي تخليصاً للخلائق من أسر الهوى .

ولما كانت هذه الآيات قد نهت عن الرذائل ، فكانت عنها أشرف الفضائل ، قال مبيناً أن ذلك إنما هو لتشريف أهل النبي صلى الله عليه وسلم لتزيد الرغبة في ذلك مؤكداً دفعاً لوهم من يتوهم أن ذلك لهوان ، أو غير ذلك من نقصان وحرمان : { إنما يريد الله } أي وهو ذو الجلال والجمال بما أمركم به ونهاكم عنه من الإعراض عن الزينة وما تبعها ، والإقبال عليه ، عزوفكم عن الدنيا وكل ما تكون سبباً له { ليذهب } أي{[55553]} لأجل أن يذهب { عنكم الرجس } أي الأمر الذي يلزمه دائماً الاستقذار والاضطراب من مذام الأخلاق كلها { أهل } يا أهل { البيت } أي من كل من تكون من إلزام النبي صلى الله عليه وسلم من الرجال والنساء من الأزواج والإماء والأقارب ، وكلما كان الإنسان منهم أقرب وبالنبي صلى الله عليه وسلم{[55554]} أخص وألزم ، كان بالإرادة{[55555]} أحق وأجدر .

ولما استعار للمعصية الرجس ، استعار للطاعة الطهر ، ترغيباً لأصحاب الطباع السليمة والعقول المستقيمة ، في الطاعة ، وتنفيراً لهم عن المعصية فقال{[55556]} : { ويطهركم } أي يفعل في طهركم بالصيانة{[55557]} عن جميع القاذورات الحسية والمعنوية فعل المبالغ فيه ، وزاد ذلك عظماً بالمصدر فقال : { تطهيراً } .


[55539]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: بعمومه.
[55540]:سقط من ظ وم ومد.
[55541]:من ظ ومد، وفي الأصل: المدنيون، وفي م: المدنيان.
[55542]:راجع نثر المرجان 5/406.
[55543]:من م ومد، وفي الأصل وظ: قرن.
[55544]:زيد من ظ وم ومد.
[55545]:في ظ: من الخروج.
[55546]:راجع معالم التنزيل بهامش اللباب 5/213.
[55547]:راجع معالم التنزيل بهامش اللباب 5/213.
[55548]:زيد من ظ ومد.
[55549]:زيد من م ومد.
[55550]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: من.
[55551]:في ظ وم ومد: أن.
[55552]:ومن هنا تنقطع نسخة م إلى ما سننبه عليه.
[55553]:زيد من ظ ومد.
[55554]:زيدت الواو في الأصل، ولم تكن في ظ ومد فحذفناها.
[55555]:من مد، وفي الأصل وظ: بالإراة.
[55556]:من مد، وفي الأصل وظ: قال.
[55557]:من ظ ومد، وفي الأصل: الصيانة.
 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{وَقَرۡنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ ٱلۡأُولَىٰۖ وَأَقِمۡنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرٗا} (33)

قوله : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } { قَرْنَ } ، من القرار . والأصل ، اقْرَرْنَ بفتح الراء ، فحذفت الراء الأولى تخفيفا ونقلت حركتها إلى القاف وحذفت الألف لتحرك القاف فصارت قََرْنَ .

والخطاب ، وإنْ كان لنساء النبي صلى الله عليه وسلم فإن حكمه يعم النساء جميعا . والمعنى : الْزَمْنَ القرار في بيوتكن ولا تخرجن إلا لحاجة . ومن الحوائج المشروعة التي تجوز الخروج للنساء ، خروجهن للصلاة في المسجد . وفي الخبر : " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله " وفي رواية : " وبيوتهن خير لهن " .

ومن جملة الحوائج ، خروجها في طلب العلم . فإن طلب العلم فريضة على المسلمين ولا مناص لها من الخروج إذا أرادت أن تشهد مجالس العلم أو تنهل من مناهله ؛ إذ تلقاه من أهله .

ومنها : خروجها لمشاهدة أولي القربى والأرحام كالآباء والأمهات والأبناء والبنات والإخوة والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات وغيرهم من أولي القربى .

ومنها : خروجهن لتطبيب أنفسهن أو مداواة أولادهن أو قضاء حوائج أبنائهن وبناتهن ، التي لا يُحسِن القيام بها غيرهن .

ومنها : خروجهن في طلب الرزق إذا لم يكن لهن من يضطلع بالإنفاق عليهن نفقة كافية تحقق لها البحبوحة والسعة .

قوله : { وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى } التبرج ، إظهار الزينة والمحاسن للرجال{[3740]} واختلفوا في المراد بالجاهلية الأولى . والأظهر أنها جاهلية الكفر قبل الإسلام . وأن الجاهلية الأخرى هي جاهلية الفسوق والفجور والضلال والبعد عن منهج الله عقب غياب الإسلام .

وصور الجاهلية من الضلال والكفر والجحود كثيرة ومغالية ومفْرِطة . إنها كثيرة وفادحة ومفحشة فحشا فاق كل تصور . لقد برعت الجاهلية في الزمان الراهن في ابتداع الضلال والفسق واصطناع الأساليب والظواهر المختلفة من الفساد والغواية التي تهوي بالأفراد والمجتمعات في مستنقع الرجس والدنس ، وتنزلق بهم إلى كحمأة الرذيلة والفواحش والخنا . ويأتي في طليعة ذلك كله ظاهرة التبرج في أفحش صوره في المغالاة والإسفاف والابتذال مما يفضي بالضرورة إلى الفتنة والسقوط في الدركات من القَذَر والانحطاط ، ولقد أسهم في إشاعة هذه الخسيسة الذميمة من التبرج ، تلك الأسباب المسخرة من وسائل الإعلام . وهي وسائل الإعلام . وهي وسائل كثيرة ومختلفة ولها من بالغ التأثير في سلوك المجتمعات ما أثار فيها الفتة وألْهَبَ فيها الشهوات والغرائز أيما إلْهاب .

لقد أسهمت أسباب الإعلام الكثيرة والمختلفة بلغ الإسهام في إذكاء الغريزة والفسق ، وإشاعة الفجور والتهتك ، وإثارة الهوى والشهوة لتظل على الدوام متأججة ومضطربة ومشوبة .

وهذه هي الحضارة المادية الحديثة بجحودها وتحللها وعتوها وتمردها على منهج الله ، تُحرّض على التبرج الفاحش والزراية المُسفّة ، والابتذال المُستقذر . كتبرج العاريات في الشوارع والمنازل والأندية ، وفي بيوت العلم ودوائر الدولة ، وسائر المحافل الرسمية والشعبية . ثم التبرج على المسارح وفي دور الملاهي حيث الانفلات الكامل من ربقة القيم والعفة ، وحيث العري والتهتك والسقوط ، والتحلل المذهل من كل الضوابط التي قررتها شرائع السماء ، ونطقت به فطرة الإنسان السوي . تلك هي الجاهلية المظلمة التي طغت على البشرية عقب غياب الإسلام . جاهلية المادية الثقيلة الصماء حيث الشهوات والأهواء وحيث الأنانيات والغرائز المحمومة وظلم الإنسان للإنسان .

قوله : { وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ } أمرهن بإقامة أعظم فريضة وهي الصلاة المفروضة ، وأن يؤدين الزكاة الواجبة في أموالهن .

قوله : { وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أمرهن بالعام بعد الخاص . فقد أمرهن ههنا بسائر الطاعات .

قوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ } إنما يريد الله مما نهاكنّ وأمركنّ ووعظكنّ أن يذهب عنكن الإثم والفحشاء { أَهْلَ الْبَيْتِ } { أهل } منصوب على المدح ، أو على النداء{[3741]} أي يا أهل بيت محمد ، وأن يطهركم من السوء والدنس تطهيرا .

واختلفوا في المراد بأهل البيت . فقيل : محمد صلى الله عليه وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين رضوان الله عليهم ؛ فقد أخرج الإمام أحمد عن أنس بن مالك ( رضي الله عنه ) قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمرّ بباب فاطمة ( رضي الله عنها ) ستة أشهر إذْ خرج إلى صلاة الفجر يقول : " الصلاة يا أهل البيت { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } " .

وقيل : إن المراد بأهل البيت نساء النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الآية نزلت فيهن خاصة . والصحيح أن المراد نساء النبي صلى الله عليه وسلم وأهله الذين هم أهل بيته . فنساء النبي سبب في نزول الآية ، وسبب النزول داخل فيه مع غيره . فيكون المراد عموم زوجات الرسول وأهله .


[3740]:مختار الصحاح ص 46
[3741]:البيان لابن الأنباري ج 2 ص 269