ولما أنزلهم{[26530]} سبحانه إلى عداد البهائم بكونهم{[26531]} ينسبونهم إلى الشر بجعلهم إياهم موضع الهزء واللعب{[26532]} وبكونهم ينظرون إلى أي من خالفهم ، فيبعدون منه وينفرون عنه من غير أن يستعملوا ما امتازوا به عن{[26533]} البهائم في أن المخالف ربما كان فيه الدواء ، والمكروه قد يؤول إلى الشفاء ، والمحبوب{[26534]} يجر إلى العطب والتوى ، بين لهم أن تلك رتبة سنية ومنزلة علية بالنسبة إلى ما هم فيه ، فقال على سبيل التنزل وإرخاء العنان : { قل } أي يا من لا ينهض بمحاجتهم لعلمهم ولددهم غيره لما جبلت{[26535]} عليه من قوة الفهم ثم لما أنزل عليك{[26536]} من العلم { هل أنبئكم } أي أخبركم إخباراً متقناً معظماً جليلاً{[26537]} { بشر من ذلك } أي الأمر الذي نقمتموه علينا مع كونه قيماً وإن تعاميتم عنه{[26538]} ، ووحد حرف الخطاب إشارة إلى عمى قلوبهم وأن هذه المقايسة لا يفهمها{[26539]} حق الفهم إلا المؤيد بروح من الله { مثوبة } أي جزاء صالحاً ويرجع إليه ، فإن المثوبة للخير كما أن العقوبة للشر ، وهي مصدر ميمي كالميسور والمعقول ، ثم نوه بشرفه بقوله : { عند الله } أي المحيط بصفات الجلال والإكرام ، ثم رده أسفل سافلين بياناً لأنه استعارة تهكمية{[26540]} على طريق : تحية{[26541]} بينهم ضرب وجيع .
بقوله - جواباً لمن كأنه قال : نعم : { من{[26542]} } أي مثوبة من { لعنة الله } أي أبعده الملك الأعظم{[26543]} وطرده { وغضب عليه } أي أهلكه ، ودل على اللعن والغضب بأمر محسوس فقال : { وجعل } ودل على كثرة الملعونين بجمع الضمير فقال : { منهم } أي بالمسخ على معاصيهم { القردة } تارة { والخنازير } أخرى ، والتعريف للجنس ، وقال ابن قتيبة : إن التعريف يفيد ظن أنهم لم ينقرضوا بل توالدوا حتى كان منهم أعيان ما تعرفه من النوعين ، فما أبعد من كان منهم هذا من أن يكونوا أبناء الله وأحباءه ! ثم عطف - على قراءة الجماعة - على{[26544]} قوله { لعنه الله{[26545]} } سبب ذلك بعد أن قدم المسبب اهتماماً به لصراحته{[26546]} في{[26547]} المقصود ، مع أن اللعن والغضب سبب حقيقي ، والعبادة سبب ظاهري ، فقال : { وعبد الطاغوت } وقرأه حمزة بضم الباء على أنه جمع والإضافة عطف على القردة ، فهو - كما قال في القاموس - اللات والعزى والكاهن والشيطان وكل رأس ضلال والأصنام وكل ما عبد من دون الله ومردة أهل الكتاب ، للواحد والجمع ، فلعوت{[26548]} من طغوت{[26549]} ، وكل هذه المعاني تصلح ها هنا ، أما اللات والعزى وغيرهما مما لم يعبدوه صريحاً فلتحسينهم{[26550]} دين أهله حسداً للإسلام{[26551]} ، وقد عبدوا الأوثان في كل زمان حتى في زمان موسى عليه السلام كما في{[26552]} نص التوراة : ثم بالغوا في النجوم لاستعمال السحر فشاركوا الصابئين في ذلك . فمعنى الآية : تنزلنا إلى أن نسبتكم لنا إلى الشر{[26553]} صحيحة ، و{[26554]} لكن لم يأت كتاب بلعننا ولا بالغضب علينا ولا مسخنا قردة ولا خنازير ، ولا عبدنا غير الله منذ أقبلنا عليه ، وأنتم قد وقع بكم جميع{[26555]} ذلك ، لا تقدرون أن تتبرؤوا من شيء منه ، فلا يشك عاقل أنكم شر منا وأضل ، والعاقل من إذا{[26556]} دار أمره{[26557]} بين شرين لم يختر إلا أقلهما شراً ، فثبت كالشمس صحة دعوى أنهم قوم لا يعقلون ، ولذلك ختم الآية بقوله { أولئك } أي البعداء البغضاء الموصوفون باللعن وما معه { شر مكاناً } وإذا كان ذلك لمكانهم فما ظنك بأنفسهم ، فهو كناية عن نسبتهم إلى العراقة في الشر { وأضل } أي ممن نسبوهم إلى الشر والضلال ، وسلم لهم ذلك فيهم{[26558]} إرخاء للعنان قصداً للإبلاغ في البيان { عن سواء } أي قصد وعدل { السبيل * } أي الطريق ، ويجوز أن تكون الإشارة في ذلك إلى ما دل عليه الدليل الأول من عدم عقلهم ولا تنزل حينئذ ، وإنما{[26559]} قلت : إنهم لا يقدرون على إنكار شيء من ذلك ، لأن في نص التوراة التي بين أظهرهم في السفر الخامس : فالرب يقول لكم ويأمركم أن تكونوا له شعباً حبيباً ، وتحفظوا{[26560]} جميع وصاياه وتعملوا بها ، فإنه يرفعكم فوق جميع الشعوب ، وإذا جزتم الأردن انصبوا الحجارة التي آمركم بها اليوم على جبل{[26561]} عبل{[26562]} وكلسوها بالكلس ، وابنوا هناك مذبحاً من الحجارة لم يقع عليها حديد ، ولكن ابنوا الحجارة كاملة لم تقطع ، وقربوا عليها ذبائح كاملة أمام الله ربكم ، وكلوا هناك وافرحوا أمام الله ربكم ، واكتبوا على تلك الحجارة جميع آيات هذه السنة .
ثم عين موسى رجالاً يقومون على جبل إذا جازوا{[26563]} الأردن ويهتفون بصوت عال ويقولون لبني إسرائيل : ملعوناً يكون الذي{[26564]} يتخذ أصناماً مسبوكة وأوثاناً منحوتة أمام الرب ، والشعب كلهم يقولون : آمين ! ملعوناً يكون من ينقل حد صاحبه ويظلمه في أرضه ، ويقول الشعب كلهم : آمين !{[26565]} ملعوناً يكون من يضل الأعزى عن الطريق ، ويقول الشعب كلهم : آمين !{[26566]} ملعوناً يكون{[26567]} من يحيف على المسكين واليتيم والأرملة في القضاء ، ويقول الشعب{[26568]} كلهم : آمين ! - إلى أن قال : ملعوناً يكون كل من لا يثبت على عهد آيات هذه التوراة ويعمل بها ، ويقول الشعب كلهم : آمين ! ثم قال : وإن أنتم لم تسمعوا قول الله ربكم ولم تحفظوا{[26569]} ولم تعملوا بجميع سننه ووصاياه التي آمركم بها اليوم ، ينزل بكم هذا اللعن الذي أقص عليكم كله ويدرككم العقاب ، وتكونوا ملعونين{[26570]} في القرية ، ملعونين في الحرب ، ويلعن نسلكم وثمار أرضكم ، وتكونون ملعونين إذا دخلتم وملعونين إذا خرجتم ، ينزل بكم الرب البلاء والحشرات ، وينزل بكم الضربات الشديدة ، وبكل شيء تمدون أيديكم إليه لتعملوه حتى يهلككم ويتلفكم سريعاً من أجل سوء أعمالكم وترككم لعبادتي{[26571]} ، ويسلط عليكم هذه الشعوب حتى تهلكوا ، و{[26572]} تكون السماء التي فوقكم عليكم{[26573]} شبه النحاس ، والأرض تحتكم{[26574]} شبه الحديد ، ويكسركم الرب بين يدي أعدائكم ، تخرجون إليهم في طريق واحدة وتهربون في سبعة طرق ، وتكونون مثلاً وقرعاً لجميع مملكات الأرض ، و{[26575]} تكون جيفكم مأكلاً{[26576]} لجميع السباع وطيور السماء ولا يذب أحد عنكم ، تكونون{[26577]} مقهورين مظلومين مغصوبين كل أيام{[26578]} حياتكم ، يسبي بنيك وبناتك شعب آخر وتنظر{[26579]} إليهم ولا تقدر لهم على خلاص ، وتكون{[26580]} مضطهداً مظوماً طور عمرك يسوقك الرب ، ويسوق{[26581]} ملكك الذي ملكه عليك إلى شعب لم يعرفه أبوك ، وتعبد هناك آلهة أخرى عملت من خشب وحجارة ، وتكون مثلاً وعجباً ويفكر فيك كل من يسمع خبرك في جميع الشعوب التي يقركم الله فيها ، تزرع{[26582]} كثيراً وتحصد قليلاً ، ويتعظم عليك سكانك ويصيرون فوقك ، هذا اللعن كله يلزمك وينزل بك ويدركك حتى تهلك ، لأنك لم تقبل قول الله ربك ، ولم تحفظ سننه ووصاياه التي أمرك بها ، وتظهر فيك آيات وعجائب وفي نسلك إلى الأبد ، لأنك لم تعبد الله ربك ولم تعمل بوصاياه ، ويصير أعداؤك دق الحديد على عنقك ، ويسلط الله عليك شعباً يأتيك وأنت جائع ظمآن عريان فقير ، قد أعوزك كل شيء يحتاج إليه ، وتخدم{[26583]} أعداءك ، ويسرع إليك مثل طيران النسر شعب لا تعرف نعتهم ، شعب وجوههم صفيقة{[26584]} ، لا تستحيي من الشيوخ ولا ترحم الصبيان ، ويضيق عليك في جميع قراك حتى يظفر{[26585]} بسوراتك المشيدة التي تتوكل{[26586]} عليها وتثق بها في كل أرضك ، وتضطر حتى تأكل لحم ولدك ، والرجل المدلل منكم المفنق{[26587]} تنظر عيناه إلى أخيه وخليله وإلى من بقي من ولده جائعاً ، لا يعطيهم من لحم{[26588]} ابنه الذي يأكله{[26589]} لأنه لا يبقى عنده شيء من الاضطهاد{[26590]} والضيق الذي يضيق عليك عدوك ، وإن لم تحفظ وتعمل بجميع الوصايا والسنن التي كتبت في هذا الكتاب وتتقي الله ربك وتهب{[26591]} اسمه{[26592]} المحمود المرهوب يخصك{[26593]} الرب بضربات موجعة ، ويبتليك بها ويبتلي نسلك من بعدك ، ويبقى من نسلك عدد قليل من بعد كثرتهم التي كانت قد صارت مثل نجوم السماء ، لأنك لم تسمع قول الله ، كما فرّحكم الرب وأنعم عليكم وكثركم{[26594]} كذلك يفرح الرب لكم{[26595]} ليستأصلكم بالعقاب والنكال ، ويدمر عليكم ويتلفكم ، وتجلون عن الأرض التي تدخلونها لترثوها{[26596]} ، ويفرقكم الرب بين جميع الشعوب - هذه أقوال العهد التي أمر الله بها موسى{[26597]} أن يعاهد{[26598]} بني إسرائيل في أرض موآب سوى العهد الذي عاهدهم{[26599]} بحوريب ، فإن قالوا{[26600]} : نحن لم ننقض بعد موسى عليه السلام حتى يلزمنا هذا اللعن المشروط بنقض العهد ! قيل : قد شهد عليكم بذلك ما بين أيديكم من كتابكم ، فإنه قال في آخر أسفاره ما نصه : وقال الرب لموسى : قد دنت أيام وفاتك{[26601]} فادع يشوع و{[26602]} قوما في قبة الزمان لآمره بما أريد ، وانطلق يشوع{[26603]} وموسى وقاما في قبة الزمان ، وظهر الرب في قبة الزمان بعمود من سحاب ، وقام عمود من سحاب في باب{[26604]} قبة الزمان ، وقال الرب لموسى : أنت مضطجع منقلب إلى آبائك ، فيقول هذا الشعب فيضل ويتبع آلهة أخرى آلهة الشعوب التي تدخل وترى وتسكن بينها ، ويخالفني ويبطل عهدي{[26605]} الذي عهدته ، ويشتعل غضبي عليه في ذلك اليوم ، وأخذلهم وأدير وجهي عنهم ، ويصيرون مأكلاً لأعدائهم ، ويصيبهم شر شديد وغم طويل ، لأنهم تبعوا الآلهة الأخرى ، فاكتب لهم الآن هذا{[26606]} التسبيح وعلمه بني إسرائيل وصيره في أفواههم ، ليكون هذا التسبيح شهادة على بني إسرائيل ، لأني مدخلهم الأرض التي أقسمت لآبائهم ، الأرض التي تغل السمن والعسل ، ويأكلون ويشبعون ويتلذذون ، ويتبعون الآلهة الأخرى ويعبدونها ، ويغضبوني ويبطلون{[26607]} عهدي ، فإذا نزل بهم هذا الشر الشديد والغموم يتلى عليهم هذا التسبيح للشهادة ، ولا تعدمه أفواه ذريتهم ، لأني عالم بأهوائهم ، وكل ما يصنعونه ها هنا اليوم قبل أن أدخلهم الأرض التي أقسمت لآبائهم ، وكتب موسى هذا التسبيح ذلك اليوم وعلمه بني إسرائيل - وذكر بعد هذا كله ما ذكرته عند
{ إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح{[26608]} والنبيين{[26609]} }[ النساء : 163 ] في النساء فراجعه ، ثم قال : أنصتي أيتها السماء فأتكلم ، ولتسمع الأرض النطق من فيّ لأنها ترجو كلامي عطشانة ، وكمثل{[26610]} الندى ينزل قولي وكالمطر على النخيل وشبه الضباب على العشب{[26611]} ، لأني دعوت باسم الرب أبداً وبالتعظيم لله الرب العدل وليس عنده ظلم ، الرب البار الصادق ، أخطأ أولاد الأنجاس ، الجيل المتعوج المنقلب ، وبهذا{[26612]} كافأوا الرب ، لأنه شعب جاهل وليس بحليم ، أليس الرب استخلصك وخلقك ! اذكروا أيام{[26613]} الدهر وتفهموا ما مضى من سنني جيلاً بعد جيل ، استخبر أباك فيخبرك ، وشيوخك فيفهموك{[26614]} ، حين قسم{[26615]} العلى للأمم{[26616]} بني آدم الذين فرقهم{[26617]} ، أقام حدود الأمم على عدد الملائكة{[26618]} ، وصار{[26619]} جزء الرب شعبه{[26620]} ، يعقوب{[26621]} حبل ميراثه ، إسرائيل فأرواه في البرية من عطش الحر حيث لم يكن ماء ، وحاطه وأدبه وحفظه مثل حدقة العين ، وكمثل النسر حيث نقل{[26622]} عشه وإلى فراخه اشتاق ، فنشر أجنحته وقبلهم وحملهم على صلبه ، الرب وحده ساقهم ولم يكن معهم إله{[26623]} آخر ، وأصعدهم إلى علو الأرض وأطعمهم من ثمر الشجر وغذاهم عسلاً من حجر ، من الصخرة أخرج لهم الزيت ، ومن سمن البقر ولبن الغنم وشحم الخراف والكباش والثيران والجداء ولب{[26624]} القمح ، أكل يعقوب المخصوص ، حين شحم وغلظ{[26625]} وعرُض ، ترك الإله الذي خلقه وبعُد من الله مخلصه ، يقول الله : أسخطوني مع الغرباء بأوثانهم وأغضبوني حين ذبحوا للشياطين{[26626]} ولم يقربوا لإله الآلهة ولم يعرفه الجيل{[26627]} الجديد الذين{[26628]} أتوا ونسوا{[26629]} آباءهم .
هذا ما أردت ذكره من التوراة في الشهادة على لزوم اللعن والغضب لهم بعبادتهم{[26630]} الطواغيت ، وقد صدق الله قوله فيها وأتم كلماته - وهو أصدق القائلين - بما وقع لهم بعد وفاة موسى عليه السلام ثم بعد يوشع{[26631]} عليه السلام مع ما تقدم لهم في أيام يوشع{[26632]} عليه السلام من عبادة بعليون{[26633]} الصنم كما مضى{[26634]} عند قوله تعالى{ وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم{[26635]} }[ البقرة : 93 ] .
ذكر ما يصدق ذلك من سفر يوشع ، قال : ودعا يوشع جميع بني إسرائيل {[26636]} وقال{[26637]} لهم : أنا قد شخت وطعنت في السن ، وأنتم قد رأيتم ما صنع الله بهذه الشعوب ، إنه أهلكهم من بين أيديكم ، وإن الله ربكم هو تولى حروبكم وظفركم ، قد علمتم أني قسمت{[26638]} لكم الشعوب التي بقيت . فأما عند النهر الأعظم في مغارب الشمس فقد قسمتها لكم ، والله ربكم يهزمهم{[26639]} ويهلكهم من أمامكم وترثون أرضهم كما قال الله ربكم ، ولكن تقووا{[26640]} جداً واعملوا بجميع ما كتب في سفر موسى عند الرب ، أهلك الرب من أمامكم شعوباً عظيمة ولم يثبت لكم إنسان إلى اليوم ، الرجل منكم يهزم ألف رجل ، لأن الله{[26641]} ربكم{[26642]} معكم وهو يجاهد عنكم{[26643]} كما قال لكم ، فاحترسوا لأنفسكم{[26644]} ، إن أنتم خالطتم الشعوب الذين{[26645]} بقوا بينكم وصرتم لهم أختاناً{[26646]} صاروا لكم فخاخاً وعثرات وأسنة في أصدافكم وصنارات في أعينكم حتى تهلكوا من الأرض الصالحة التي أعطاكم الله ربكم ، وأما{[26647]} أنا فسائر في طريق أهل الأرض كلهم ، وقد تعلمون يقيناً من كل قلوبكم وأنفسكم أنه ما سقطت كلمة واحدة من الكلام الذي وعدكم الله ربكم ، وكما تم كل الكلام الصالح الذي وعدكم الله به كذلك ينزل بكم كل اللعن حتى تهلكوا وتبيدوا إن أنتم عصيتم وتعديتم على ميثاق الله ربكم والوصايا التي أوصاكم بها ؛ وجمع جميع بني إسرائيل إلى سجام وأقامهم أمام الرب في قبة الزمان وقال : اسمعوا قول الله إله إسرائيل : كان آباؤكم سكاناً{[26648]} في مجاز النهر في الدهر الأول ، ترح أبو إبراهيم وناحور{[26649]} ، وكانوا يعبدون هناك آلهة أخرى ، وعهدت إلى إبراهيم أبيكم وأخرجته من مجاز النهر وسيَّرته في أرض كنعان كلها ، وأكثرت ذريته ورزقته إسحاق ابناً ، ورزقت إسحاق يعقوب وعيسو ، وأعطيت عيسو جبل ساعير ميراثاً ، فأما يعقوب وبنوه فنزلوا إلى مصر ، وأرسلت موسى وهارون وعاقبت أهل مصر وأكثرت في أرضهم من الآيات والأعاجيب{[26650]} ، ومن بعد ذلك أخرجتهم منها ، وشق لهم الرب بحر سوف وأجاز إياكم فيه مشياً ، فلما أراد المصريون أن يجوزوا أقلب{[26651]} البحر عليهم و{[26652]} غرقهم ، ورأت أعينكم{[26653]} ما صنعت بأهل مصر ، ثم أتيت بكم المفازة وسكنتموها أياماً كثيرة ، وأتيت بكم أرض الأمورانيين الذين{[26654]} يسكنون عند مجاز الأردن ، وحاربوكم ودفعتهم إليكم ، ووثب عليكم بالاق بن صفور ملك الموآبيين{[26655]} ، وحارب{[26656]} إسرائيل فأرسل{[26657]} فدعا بلعام{[26658]} بن بعور{[26659]} ليلعنكم ، ولم يسرني أن أسمع قول بلعام ، ولكن باركت عليكم ونجيتكم من يديه ، ثم جزتم{[26660]} نهر الأردن وأتيتم أهل أريحا فحاربكم أهلها والأمورانيون - ثم عد بقية الطوائف{[26661]} السبع{[26662]} - فدفعتهم إليكم أجمعين ، وأعطيتكم أرضاً لم تتعبوا{[26663]} فيها ، فاتقوا الرب واعبدوه بالبر والعدل ، واصرفوا عن قلوبكم الفكر في عبادة الآلهة الأخرى التي عبدها أباؤكم عند مجاز النهر و{[26664]} في أرض مصر ، واعبدوا الرب وحده ، وإن كان يشق عليكم أن تعبدوا الرب اختاروا لأنفسكم يومنا هذا من تعبدون{[26665]} ، أتحبون أن تعبدوا الآلهة{[26666]} التي{[26667]} عبدها{[26668]} آباؤكم عند مجاز نهر الفرات أم آلهة الأمورانيين الذين سكنتم بينهم ! أما أنا وأهل بيتي فإنا{[26669]} نعبد الله الرب ، فأجاب الشعب وقالوا : حاشا لله أن نجتنب عبادة الرب ونعبد الآلهة الأخرى ! لأن الله ربنا هو الذي أخرجنا من أرض{[26670]} مصر وخلصنا من العبودية ، وأكمل الآيات والأعاجيب أمامنا ، وحفظنا في{[26671]} كل الطرق التي سلكناها ، وقوانا على جميع الشعوب التي حاربناها لذلك نعبد الرب لأنه هو الإله وحده وهو إلهنا ، فقال : انظروا ! لعلكم{[26672]} تجتنبون عبادة الله{[26673]} وتعبدون الآلهة الغريبة ، فيغضب الرب عليكم وينزل بكم البلاء ويهلككم من بعد إنعامه عليكم ، فقال الشعب : لا يكون لنا عبادة أخرى غير عبادة الله ، ربنا ، {[26674]} قال يشوع{[26675]} : اشهدتم على أنفسكم : أنتم الذين اخترتم عبادة الرب قالوا له{[26676]} : نشهد ! فأول ما{[26677]} دخل عليهم الدخيل أنهم لم يستأصلوا الكفرة وخالطوهم في أيام يوشع ؛ قال في سفره{[26678]} : فصعد رسول الرب من الجلجال إلى سجين وقال لبني إسرائيل : هكذا يقول الرب : أنا الذي أصعدتكم من أرض مصر وأتيت بكم الأرض التي أقسمت لآبائكم{[26679]} وقلت{[26680]} : إني{[26681]} لا أبطل{[26682]} عهدي إلى الأبد ، وأمرتكم أن لا تعاهدوا أهل هذه الأرض ، ولكن استأصلوا مذابحهم ، ولم تقبلوا ولم تطيعوني ، وأنا أيضاً قد قلت : إني لا أهلكهم من أمامكم ، ولكن تكون لكم آلهتهم عشرة ، فلما قال رسول الرب لبني إسرائيل هذا القول رفع القوم أصواتهم بالبكاء ودعوا اسم ذلك الموضع تحناد{[26683]} أي موضع البكاء ، وذبحوا هناك ذبائح للرب ؛ وتوفي يشوع بن نون عند الرب ابن مائة وعشرين سنة ، ودفن في حد ميراثه بسرح{[26684]} التي في جبل إفرائيم عن يسار جبل جعس{[26685]} ، وكل ذلك الحقب أيضاً قبضوا ، ونشأ من بعدهم حقب لم يعرف الرب{[26686]} ولم يعرف{[26687]} أعماله التي عملها ، وارتكب بنو إسرائيل السيئات أمام الرب واجتنبوا عبادة الله إله آبائهم الذي أخرجهم من أرض مصر ، وتبعوا آلهة الشعوب التي حولهم وسجدوا لها وعبدوا بعلاً وأشتراثاً{[26688]} الصنمين ، وغضب الرب على بني إسرائيل ، وسلط عليهم المنتهبين ، ودفعهم إلى أعدائهم ، ولم يقدروا أن{[26689]} يثبتوا لأعدائهم ، وكلما كانوا يخرجون إلى الحرب كانت يد{[26690]} الرب عليهم بالعقاب والبلاء كما قال لهم الرب وكما أقسم لآبائهم ، واضطروا وضاق بهم جداً ، فصير{[26691]} الرب عليهم قضاة ، وأعان قضاتهم وخلصوهم من أيدي أعدائهم ، وكان الرب يسمع أنينهم وما يشكون من المضيقين عليهم والمزعجين لهم ، فلما توفيت قضاتهم رجعوا إلى الفساد كآبائهم ، وعبدوا الأصنام وسجدوا لها ، ولم ينقصوا من سوء أعمالهم الأولى وطرقهم الرديئة ، فاشتد غضب الرب على بني إسرائيل وقال : لأن الشعب اعتدوا الوصية التي أوصيت آباءهم ، ولم يسمعوا قولي ، لا أعود أن أهلك إنساناً بين أيديهم من الشعوب التي خلف يشوع بعد وفاته ، ليجرب الرب بها بني إسرائيل هل يحفظون طرق الرب كما حفظ آباؤهم أولاً ! فلذلك ترك الرب هذه الشعوب ولم يهلكهم{[26692]} سريعاً ، ولم يسلمها في يدي يشوع ، والذين تركوا خمسة رؤساء أهل فلسطين وجميع الكنعانيين والصيدانيين والحاوانيين والذين يسكنون جبل لبنان ومن جبل بني حرمون إلى مدخل حماة{[26693]} ليجرب بهم بني إسرائيل ، و{[26694]}جلس بنو إسرايل{[26695]} بين يدي الأمورانيين وبقية القبائل ، وزوجوا بنيهم من بناتهم و{[26696]} زوجوا بناتهم{[26697]} من بنيهم وعبدوا آلهتهم ، وارتكب بنو إسرائيل السيئات أمام الرب ونسوا صنيع الرب إلههم{[26698]} وعبدوا بعلاً وأشتراثاً{[26699]} ، واشتد غضب الرب على بني إسرائيل ودفعهم إلى كوشان الأتيم{[26700]} ملك{[26701]} حران ، فاستعبدهم ثماني{[26702]} سنين ، ودعا بنو إسرائيل الرب{[26703]} متضرعين ، وصيَّر الرب لهم مخلصاً ، وخلصهم عثنايال{[26704]} بن قنز أخو كالاب الأصغر ، فأعانه الرب وصار حكماً لبني إسرائيل فخرج إلى الحرب ، وأسلم الرب في يده كوشان الأتيم ، واستراحت الأرض من الحرب أربعين سنة ، وتوفي عثنايال{[26705]} بن قنز ، وعاد بنو إسرائيل في سوء أعمالهم أمام الرب ، فقوى الرب عليهم ملك موآب ، واستمروا هكذا في كل حين ينقضون ، وسنة{[26706]} الرب كل قليل يرفضون ، ولا يستقيمون إلا بقدر ما ينسون حرارة النقم ويذوقون لذاذة النعم - ولولا خوف الإطالة الموجبة للسآمة{[26707]} والملالة لذكرت من ذلك كثيراً من الكتب التي بين أيديهم ، لا يقدرون على إنكار ما يلزمهم بها من الفضيحة والعار - والله الموفق .