البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِۚ أُحِلَّتۡ لَكُم بَهِيمَةُ ٱلۡأَنۡعَٰمِ إِلَّا مَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ غَيۡرَ مُحِلِّي ٱلصَّيۡدِ وَأَنتُمۡ حُرُمٌۗ إِنَّ ٱللَّهَ يَحۡكُمُ مَا يُرِيدُ} (1)

البهيمة : كل ذات أربع في البر والبحر قاله الزمخشري وقال ابن عطية : البهيمة في كلام العرب ما أبهم من جهة نقص النطق والفهم انتهى .

وما كان على فعيل أو فعيلة وعينه حرف حلق اسماً كان أو صفة ، فإنه يجوز كسر أوله اتباعاً لحركة عينه وهي لغة بني تميم تقول : رئي وبهيمة ، وسعيد وصغير ، وبحيرة وبخيل .

الصيد : مصدر صاد يصيد ويصاد ، ويطلق على المصيد .

وقال داود بن عليّ الأصبهاني : الصيد ما كان ممتنعاً ولم يكن له مالك وكان حلالا أكله ، وكأنه فسر الصيد الشرعي .

{ يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } هذه السورة مدنية ، نزلت منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية ، ومنها ما نزل في حجة الوداع ، ومنها ما نزل عام الفتح .

وكل ما نزل بعد الهجرة بالمدينة ، أو في سفر ، أو بمكة ، فهو مدني .

وذكروا فضائل هذه السورة وأنها تسمى : المائدة ، والعقود ، والمنقذة ، والمبعثرة .

ومناسبة افتتاحها لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر استفتاءهم في الكلالة وأفتاهم فيها ، ذكر أنه يبين لهم كراهة الضلال ، فبين في هذه السورة أحكاماً كثيرة هي تفصيل لذلك المجمل .

قالوا : وقد تضمنت هذه السورة ثمانية عشر فريضة لم يبينها في غيرها ، وسنبينها أوّلاً فأوّلاً إن شاء الله تعالى .

وذكروا أن الكندي الفيلسوف قال له أصحابه : أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا لقرآن ، فقال : نعم ، أعمل مثل بعضه ، فاحتجب أياماً كثيرة ثم خرج فقال : والله ما أقدر ، ولا يطيق هذا أحد ، إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة ، فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء ، ونهى عن النكث ، وحلل تحليلاً عاماً ، ثم استثنى استثناء ، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين ، ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا إلا في إجلاد انتهى .

والظاهر أنّ النداء لأمة الرسول المؤمنين .

وقال ابن جريج : هم أهل الكتاب .

وأمر تعالى المؤمنين بإيفاء العقود وهي جمع عقد ، وهو العهد ، قاله : الجمهور ، وابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي .

وقال الزجاج : العقود أوكد من العهود ، وأصله في الاجرام ثم توسع فأطلق في المعاني ، وتبعه الزمخشري فقال : هو العهد الموثق شبه بعقد الحبل ونحوه .

قال الحطيئة :

قوم إذا عقدوا عقداً لجارهم *** شدّوا العناج وشدوا فوقه الكربا

والظاهر عموم المؤمنين في المخلص والمظهر ، وعموم العقود في كل ربط يوافق الشرع سواء كان إسلامياً أم جاهلياً وقد سأل فرات بن حنان العجلي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حلف الجاهلية فقال : « لعلك تسأل عن حلف تيم الله » قال : نعم يا نبي الله .

قال : « لا يزيده الإسلام إلا شدة » .

وقال صلى الله عليه وسلم في حلف الفضول وكان شهده في دار عبد الله بن جدعان : « ما أحب أنّ لي به حمر النعم ولو ادّعى به في الإسلام لأجبت » وكان هذا الحلف أنّ قريشاً تعاقدوا على أنْ لا يجدوا مظلوماً بمكة من أهلها أو من غير أهلها إلا قاموا معه حتى ترد مظلمته ، وسميت ذلك الحلف حلف الفضول .

وكان الوليد بن عقبة أميراً على المدينة ، فتحامل على الحسين بن علي في مال فقال : لتنصفني من حقي وإلا أخذت بسيفي ، ثم لأقومن في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم لأدعون بحلف الفضول .

فقال عبد الله بن الزبير : لئن دعاني لآخذن سيفي ثم لأقومن معه حتى ينتصف من خصمه ، أو نموت جميعاً .

وبلغت المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن عثمان بن عبد الله التيميّ فقالا مثل ذلك ، وبلغ ذلك الوليد فأنصفه .

ويندرج في هذا العموم كل عقد مع إنسان كأمانٍ ، ودية ، ونكاح ، وبيع ، وشركة ، وهبة ، ورهن ، وعتق ، وتدبير ، وتخيير ، وتمليك ، ومصالحة ، ومزارعة ، وطلاق ، وشراء ، وإجارة ، وما عقده مع نفسه لله تعالى من طاعة : كحجٍ ، وصومٍ ، واعتكافٍ ، وقيام ، ونذر وشبه ذلك .

وقال ابن عباس ومجاهد : هي العهود التي أخذها الله على عباده فيما أحل وحرم ، وهذا القول بدأ به الزمخشري فقال : هي العهود التي عقدها الله على عباده وألزمها إياهم من واجب التكليف ، وأنه كلام قدم مجملاً ثم عقب بالتفصيل .

وقال قتادة : هو الحلف الذي كان بينهم في الجاهلية ، قال : وروي لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أوفوا بعقد الجاهلية ولا تحدثوا عقداً في الإسلام » وقال محمد بن كعب القرظي وابن زيد وغيرهما : هي كل ما ربطه المرء على نفسه من بيع أو نكاح أو غيره .

وقال ابن زيد أيضاً ، وعبد الله بن عبيدة : العقود خمس : عقدة الإيمان ، وعقدة النكاح ، وعقدة العهد ، وعقدة البيع ، وعقدة الحلف .

وقيل : هي عقود الأمانات والبياعات ونحوها ، وقال ابن جريج : هي التي أخذها الله على أهل الكتاب أن يعملوا بها بما جاءهم به الرسول .

وقال ابن شهاب : قرأت الكتاب الذي كتبه الرسول صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران وفي صدره :

« هذا بيان من الله ورسوله يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود إلى قوله إن الله سريع الحساب » وقيل : العقود هنا الفرائض .

{ أحلت لكم بهيمة الأنعام } قيل : هذا تفصيل بعد إجمال .

وقيل : استئناف تشريع بيَّن فيه فساد تحريم لحوم السوائب ، والوصائل ، والبحائر ، والحوام ، وأنها حلال لهم .

وبهيمة الأنعام من باب إضافة الشيء إلى جنسه فهو بمعنى مِن ، لأن البهيمة أعم ، فأضيفت إلى أخص .

فبهيمة الأنعام هي كلها قاله : قتادة ، والضحاك ، والسدي ، والربيع ، والحسن .

وهي الثمانية الأزواج التي ذكرها الله تعالى .

وقال ابن قتيبة : هي الإبل ، والبقرة ، والغنم ، والوحوش كلها .

وقال قوم منهم الضحاك والفراء : بهيمة الأنعام وحشيها كالظباء ، وبقر الوحش وحمرة .

وكأنهم أرادوا ما يماثل الأنعام ويدانيها من جنس الأنعام البهائم ، والإضرار وعدم الأنياب ، فأضيفت إلى الأنعام لملابسة الشبه ، وتقدم الكلام في مدلول لفظ الأنعام .

وقال ابن عمر وابن عباس : بهيمة الأنعام هي الأجنة التي تخرج عند ذبح أمّهاتها فتؤكل دون ذكاة ، وهذا فيه بعد .

وقيل : بهيمة الأنعام هي التي ترعى من ذوات الأربع ، وكان المفترس من الحيوان كالأسد وكل ذي ناب قد خرج عن حد الإبهام فصار له نظر مّا .

{ إلا ما يتلى عليكم } هذا استثناء من بهيمة الأنعام والمعنى : إلا ما يتلى عليكم تحريمه من نحو قوله : { حرمت عليكم الميتة } وقال القرطبي : ومعنى يتلى عليكم يقرأ في القرآن والسنة ، ومنه { كل ذي ناب من السباع حرام } .

وقال أبو عبد الله الرازي : ظاهر هذا الاستثناء مجمل ، واستثناء الكلام المجمل من الكلام المفصل يجعل ما بقي بعد الاستثناء مجملاً ، إلا أنّ المفسرين أجمعوا على أنّ المراد من هذا الاستثناء هو المذكور بعد هذه الآية وهو قوله : { حرمت عليكم } إلى قوله : { وما ذبح على النصب } ووجه هذا أنّ قوله : أحلت لكم بهيمة الأنعام ، يقتضي إحلالها لهم على جميع الوجوه .

فبيّن تعالى أنها إن كانت ميتة أو مذبوحة على غير اسم الله ، أو منخنقة أو موقوذة أو متردية أو نطيحة ، أو افترسها السبع فهي محرمة انتهى كلامه .

وموضع ما نصب على الاستثناء ، ويجوز الرفع على الصفة لبهيمة .

قال ابن عطية : وأجاز بعض الكوفيين أن يكون في موضع رفع على البدل ، وعلى أن تكون إلا عاطفة ، وذلك لا يجوز عند البصريين إلا من نكرة أو ما قاربها من أسماء الأجناس نحو قولك : جاء الرجل إلا زيد ، كأنك قلت : غير زيد انتهى .

وهذا الذي حكاه عن بعض الكوفيين من أنه في موضع رفع على البدل لا يصح البتة ، لأنّ الذي قبله موجب .

فكما لا يجوز : قام القوم إلا زيد على البدل ، كذلك لا يجوز البدل في : إلا ما يتلى عليكم .

وأما كون إلا عاطفة فهو شيء ذهب إليه بعض الكوفيين كما ذكر ابن عطية .

وقوله : وذلك لا يجوز عند البصريين ، ظاهره الإشارة إلى وجهي الرفع البدل والعطف .

وقوله : إلا من نكرة ، هذا استثناء مبهم لا يدرى من أي شيء هو .

وكلا وجهي الرفع لا يصلح أن يكون استثناء منه ، لأن البدل من الموجب لا يجيزه أحد علمناه لا بصرى ولا كوفي .

وأما العطف فلا يجيزه بصرى ألبتة ، وإنما الذي يجيزه البصريون أن يكون نعتاً لما قبله في مثل هذا التركيب .

وشرط فيه بعضهم ما ذكر من أنه يكون من المنعوت نكرة ، أو ما قاربها من أسماء الأجناس ، فلعل ابن عطية اختلط عليه البدل والنعت ولم يفرق بينهما في الحكم .

ولو فرضنا تبعية ما بعد إلا لما قبلها في الإعراب على طريقة البدل حتى يسوغ ذلك ، لم يشترط تنكير ما قبل إلا ولا كونه مقارباً للنكرة من أسماء الأجناس ، لأن البدل والمبدل منه يجوز اختلافهما بالتنكير والتعريف .

{ غير محلي الصيد وأنتم حرم } قرأ الجمهور غير بالنصب .

واتفق جمهور من وقفنا على كلامه من المعربين والمفسرين على أنه منصوب على الحال .

ونقل بعضهم الإجماع على ذلك ، واختلفوا في صاحب الحال .

فقال الأخفش : هو ضمير الفاعل في أوفوا .

وقال الجمهور ، والزمخشري ، وابن عطية وغيرهما : هو الضمير المجرور في أحلّ لكم .

وقال بعضهم : هو الفاعل المحذوف من أجل القائم مقامه المفعول به ، وهو الله تعالى .

وقال بعضهم : هو ضمير المجرور في عليكم .

ونقل القرطبي عن البصريين أن قوله : إلا ما يتلى عليكم ، هو استثناء من بهيمة الأنعام .

وأنّ قوله : غير محلى الصيد ، استثناء آخر منه .

فالاستثناءان معناهما من بهيمة الأنعام ، وفي المستثنى منه والتقدير : إلا ما يتلى عليكم إلا الصيد وأنتم محرمون ، بخلاف قوله : { إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين } على ما يأتي بيانه وهو قول مستثنى مما يليه من الاستثناء .

قال : ولو كان كذلك لوجب إباحة الصيد في الإحرام ، لأنه مستثنى من المحظور إذا كان إلا ما يتلى عليكم مستثنى من الإباحة ، وهذا وجه ساقط ، فإذا معناه : أحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلي الصيد وأنتم حرم إلا ما يتلى عليكم سوى الصيد انتهى .

وقال ابن عطية : وقد خلط الناس في هذا الموضع في نصب غير ، وقدروا تقديمات وتأخيرات ، وذلك كله غير مرضي ، لأن الكلام على اطراده متمكن استثناء بعد استثناء انتهى كلامه .

وهو أيضاً ممن خلط على ما سنوضحه .

فأمّا قول الأخفش : ففيه الفصل بين ذي الحال والحال بجملة اعتراضية ، بل هي منشئة أحكاماً ، وذلك لا يجوز .

وفيه تقييد الإيفاء بالعقود بانتفاء إحلال الموفين الصيد وهم حرم ، وهم مأمورون بإيفاء العقود بغير قيد ، ويصير التقدير : أوفوا بالعقود في حال انتفاء كونكم محلين الصيد وأنتم حرم ، وهم قد أحلت لهم بهيمة الأنعام أنفسها .

وإنْ أريد به الظباء وبقر الوحش وحمره فيكون المعنى : وأحل لكم هذه في حال انتفاء كونكم محلين الصيد وأنتم حرم ، وهذا تركيب قلق معقد ، ينزه القرآن أن يأتي فيه مثل هذا .

ولو أريد بالآية هذا المعنى لجاء على أفصح تركيب وأحسنه .

وأما قول : من جعله حالاً من الفاعل .

وقدّره : وأحل الله لكم بهيمة الأنعام غير محل لكم الصيد وأنتم حرم ، قال كما تقول : أحلت لك كذا غير مبيحه لك يوم الجمعة ، فهو فاسد .

لأنهم نصوا على أنّ الفاعل المحذوف في مثل هذا التركيب يصير نسياً منسياً ، ولا يجوز وقوع الحال منه .

لو قلت : أنزل المطر للناس مجيباً لدعائهم ، إذ الأصل أنزل الله المطر مجيباً لدعائهم لم يجز ، وخصوصاً على مذهب الكوفيين ومن وافقهم من البصريين ، لأن صيغة الفعل المبني للمفعول صيغة وضعت أصلاً كما وضعت صيغته مبنياً للفاعل ، وليست مغيرة من صيغة بنيت للفاعل ، ولأنه يتقيد إحلاله تعالى بهيمة الأنعام إذا أريد بها ثمانية الأزواج بحال انتفاء إحلاله الصيد وهم حرم ، وهو تعالى قد أحلها في هذه الحال وفي غيرها .

وأما ما نقله القرطبي عن البصريين ، فإنْ كان النقل صحيحاً فهو يتخرج على ما سنوضحه إن شاء الله تعالى ، فنقول : إنما عرض الإشكال في الآية من جعلهم غير محلى الصيد حالاً من المأمورين بإيفاء العقود ، أو من المحلل لهم ، أو من المحلل وهو الله تعالى ، أو من المتلو عليهم .

وغرّهم في ذلك كونه كتب محلي بالياء ، وقدّره هم أنه اسم فاعل من أحل ، وأنه مضاف إلى الصيد إضافة اسم الفاعل المتعدي إلى المفعول ، وأنه جمع حذف منه النون للإضافة .

وأصله : غير محلين الصيد وأنتم حرم ، إلا في قول من جعله حالاً من الفاعل المحذوف ، فلا يقدر فيه حذف النون ، بل حذف التنوين .

وإنما يزول الإشكال ويتضح المعنى بأن يكون قوله : محلي الصيد ، من باب قولهم : حسان النساء .

والمعنى : النساء الحسان ، وكذلك هذا أصله غير الصيد المحل .

والمحل صفة للصيد لا للناس ، ولا للفاعل المحذوف .

ووصف الصيد بأنه محل على وجهين : أحدهما : أنْ يكون معناه دخل في الحل كما تقول : أحل الرّجل أي : دخل في الحل ، وأحرم دخل في الحرم .

والوجه الثاني : أن يكون معناه صار ذا حل ، أي حلالاً بتحليل الله .

وذلك أن الصيد على قسمين : حلال ، وحرام .

ولا يختص الصيد في لغة العرب بالحلال .

ألا ترى إلى قول بعضهم : إنه ليصيد الأرانب حتى الثعالب لكنه يختص به شرعاً ؟ وقد تجوزت العرب فأطلقت الصيد على ما يوصف بحل ولا حرمة نحو قوله :

ليث بعثر يصطاد الرجال إذا *** ما كذب الليث عن أقرانه صدقا

وقال آخر :

وقد ذهبت سلمى بعقلك كله *** فهل غير صيد أحرزته حبائله

وقال آخر :

وميّ تصيد قلوب الرّجال *** وأفلت منها ابن عمر وحجر

ومجيء أفعل على الوجهين المذكورين كثير في لسان العرب .

فمن مجيء أفعل لبلوغ المكان ودخوله قولهم : أحرم الرّجل ، وأعرق ، وأشأم ، وأيمن ، وأتهم ، وأنجد إذا بلغ هذه المواضع وحل بها .

ومن مجيء أفعل بمعنى صار ذا كذا قولهم : أعشبت الأرض ، وأبقلت ، وأغد البعير ، وألبنت الشاة ، وغيرها ، وأجرت الكلبة ، وأصرم النخل ، وأتلت الناقة ، وأحصد الزرع ، وأجرب الرّجل ، وأنجبت المرأة .

وإذا تقرر أنّ الصيد يوصف بكونه محلاً باعتبار أحد الوجهين المذكورين من كونه بلغ الحلّ ، أو صار ذا حل ، اتضح كونه استثناء من استثناء ، إذ لا يمكن ذلك لتناقص الحكم .

لأنّ المستثنى من المحلل محرم ، والمستثنى من المحرم محلل .

بل إن كان المعنى بقوله : بهيمة الأنعام ، الأنعام أنفسها ، فيكون استثناء منقطاً .

وإن كان المراد الظباء وبقر الوحش وحمره ونحوها ، فيكون استثناء متصلاً على أحد تفسيري المحل ، استثنى الصيد الذي بلغ الحل في حل كونهم محرمين .

( فإن قلت ) : ما فائدة الاستثناء بقيد بلوغ الحل والصيد الذي في الحرم لا يحل أيضاً ؟ ( قلت ) : الصيد الذي في الحرم لا يحل للمحرم ولا لغير المحرم ، وإنما يحل لغير المحرم الصيد الذي في الحل ، فنبه بأنه إذا كان الصيد الذي في الحل يحرم على المحرم ، وإن كان حلالاً لغيره ، فأحرى أن يحرم عليه الصيد الذي هو بالحرم .

وعلى هذا التفسير يكون قوله : إلا ما يتلى عليكم ، إن كان المراد به ما جاء بعده من قوله : حرمت عليكم الميتة الآية ، استثناء منقطعاً ، إذ لا يختص الميتة وما ذكر معها بالظباء وحمر الوحش وبقره ونحوها ، فيصير لكنْ ما يتلى عليكم أي : تحريمه فهو محرم .

وإن كان المراد ببهيمة الأنعام الأنعام والوحوش ، فيكون الاستثناءان راجعين إلى المجموع على التفصيل ، فيرجع إلا ما يتلى عليكم إلى ثمانية الأزواج ، ويرجع غير محلى الصيد إلى الوحوش ، إذ لا يمكن أن يكون الثاني استثناء من الاستثناء الأول .

وإذا لم يمكن ذلك ، وأمكن رجوعه إلى الأول بوجه ما جاز .

وقد نص النحويون على أنه إذا لم يمكن استثناء بعض المستثنيات من بعض كانت كلها مستثنيات من الاسم الأول نحو قولك : قام القوم إلا زيداً ، إلا عمراً ، إلا بكراً ( فإن قلت ) : ما ذكرته من هذا التخريج الغريب وهو أن يكون المحل من صفة الصيد ، لا من صفة الناس ، ولا من صفة الفاعل المحذوف ، يعكر عليه كونه كتب في رقم المصحف بالياء ، فدل ذلك على أنه من صفات الناس ، إذ لو كان من صفة الصيد لم يكتب بالياء ، وبكون الفراء وأصحابه وقفوا عليه بالياء يأبى ذلك .

( قلت ) : لا يعكر على هذا التخريج لأنّهم كتبوا كثيراً رسم المصحف على ما يخالف النطق نحو : باييد بياءين بعد الألف ، وكتبهم أولئك بواو بعد الألف ، وبنقصهم منه ألفاً .

وكتابتهم الصلحت ونحوه بإسقاط الألفين ، وهذا كثير في الرسم .

وأما وقفهم عليه بالياء فلا يجوز ، لأنه لا يوقف على المضاف دون المضاف إليه ، وإنما قصدوا بذلك الاختبار أو ينقطع النفس ، فوقفوا على الرسم كما وقفوا على { سندع الزبانية } من غير واو اتباعاً للرسم .

على أنه يمكن توجيه كتابته بالياء والوقف عليه بياء بأنه جاء على لغة الازد ، إذ يقفون على بزيد بزيدي بإبدال التنوين ياء ، فكتب محلي بالياء على الوقف على هذه اللغة ، وهذا توجيه شذوذ رسمي ، ورسم المصحف مما لا يقاس عليه .

وقرأ ابن أبي عبلة : غير بالرفع ، وأحسن ما يخرج عليه أن يكون صفة لقوله : بهيمة الأنعام ، ولا يلزم من الوصف بغير أن يكون ما بعدها مماثلاً للموصوف في الجنسية ، ولا يضر الفصل بين النعت والمنعوت بالاستثناء ، وخرج أيضاً على الصفة للضمير في يتلى .

قال ابن عطية : لأن غير محلى الصيد هو في المعنى بمنزلة غير مستحل إذا كان صيداً انتهى .

ولا يحتاج إلى هذا التكلف على تخريجنا محلي الصيد وأنتم حرم جملة حالية .

وحرم جمع حرام .

ويقال : أحرم الرجل إذا دخل في الإحرام بحج أو بعمرة ، أو بهما ، فهو محرم وحرام ، وأحرم الرجل دخل في الحرم .

وقال الشاعر :

فقلت لها فيىء إليك فإنني *** حرام وإني بعد ذاك لبيب

أي : ملب .

ويحتمل الوجهين قوله : وأنتم حرم ، إذ الصيد يحرم على من كان في الحرم ، وعلى من كان أحرم بالحج والعمرة ، وهو قول الفقهاء .

وقال الزمخشري : وأنتم حرم ، حال عن محل الصيد كأنه قيل : أحللنا لكم بعض الأنعام في حال امتناعكم من الصيد وأنتم محرمون لئلا يتحرج عليكم انتهى .

وقد بينا فساد هذا القول ، بأنّ الأنعام مباحة مطلقاً لا بالتقييد بهذه الحال .

{ إن الله يحكم ما يريد } قال ابن عباس : يحل ويحرم .

وقيل : يحكم فيما خلق بما يريد على الإطلاق وهذه الجملة جاءت مقوية لهذه الأحكام الشرعية المخالفة لمعهود أحكام العرب من الأمر بإيفاء العقود وتحليل بهيمة الأنعام ، والاستثناء منها ما يتلى تحريمه مطلقاً في الحل والحرم إلا في اضطرار ، واستثناء الصيد في حالة الإحرام ، وتضمن ذلك حله لغير المحرم ، فهذه خمسة أحكام ختمها بقوله : إن الله يحكم ما يريد .

فموجب الحكم والتكليف هو إرادته لا اعتراض عليه ، ولا معقب لحكمه ، لا ما يقوله المعتزلة من مراعاة المصالح .

ولذلك قال الزمخشري : إنّ الله يحكم ما يريد من الأحكام ، ويعلم أنه حكمة ومصلحة .

وقال ابن عطية : وقد نبه على ما تضمنته هذه الآية من الأحكام ما نصه هذه الآية مما يلوح فصاحتها وكثرة معانيها على قلة ألفاظها لكل ذي بصر بالكلام ، ولمن عنده أدنى بصيرة .

ثم ذكر ابن عطية الحكاية التي قدمناها عن الكندي وأصحابه ، وفي مثل هذا أقول من قصيدة مدحت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معارضاً لقصيدة كعب منه في وصف كتاب الله تعالى :

جار على منهج الأعراب أعجزهم *** باق مدى الدهر لا يأتيه تبديل

بلاغة عندها كعّ البليغ فلم *** ينبس وفي هديه طاحت أضاليل