تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وقرن في بيوتكن} ولا تخرجن من الحجاب.
{ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى} والتبرج أنها تلقي الخمار عن رأسها ولا تشده، فيرى قرطها وقلائدها.
{ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى} قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم... أمرهن أيضا بالعفة وأمر بضرب الحجاب عليهن.
{وأقمن الصلاة وآتين الزكاة} وأعطين الزكاة {وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس} الإثم، نهاهن عنه في هذه الآيات؛ ومن الرجس الذي يذهبه الله عنهن إنزال الآيات بما أمرهن به، فإن تركهن ما أمرهن به وارتكابهن ما نهاهن عنه من الرجس، فذلك قوله: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس} يا {أهل البيت} يعني نساء النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهن في بيته.
{ويطهركم} من الإثم الذي ذكر في هذه الآيات {تطهيرا}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
واختلفت القرّاء في قراءة قوله:"وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنّ"، فقرأته عامة قرّاء المدينة وبعض الكوفيين: "وَقَرْنَ "بفتح القاف، بمعنى: واقررن في بيوتكنّ... وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة والبصرة «وَقِرْنَ» بكسر القاف، بمعنى: كنّ أهل وقار وسكينة فِي بُيُوتِكُنّ...
وقوله: "وَلا تَبَرّجْنَ تُبرّجَ الجاهِلِيّةِ الأُولى "قيل: إن التبرّج في هذا الموضع التبخْتُر والتكسّر... وقيل: إن التبرّج هو إظهار الزينة، وإبراز المرأة محاسنها للرجال.
وأما قوله: "تَبرّجَ الجاهِلِيّةِ الأُولى" فإن أهل التأويل اختلفوا في الجاهلية الأولى؛ فقال بعضهم: ذلك ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام...
وقال آخرون: ذلك ما بين آدم ونوح...
وقال آخرون: بل ذلك بين نوح وإدريس...
وأَولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره نهى نساء النبيّ أن يتبرّجن تبرّج الجاهلية الأولى، وجائز أن يكون ذلك ما بين آدم وعيسى، فيكون معنى ذلك: ولا تبرّجن تبرّج الجاهلية الأولى التي قبل الإسلام.
فإن قال قائل: أَوَ في الإسلام جاهلية حتى يقال: عنى بقوله الجاهِلِيّةِ الأولى التي قبل الإسلام؟ قيل: فيه أخلاقٌ من أخلاق الجاهلية. كما:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: وَلا تَبرّجْنَ تَبرّجَ الجاهِلِيّةِ الأُولى قال: يقول: التي كانت قبل الإسلام، قال: وفي الإسلام جاهلية؟ قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي الدرداء، وقال للرجل وهو ينازعه: يا ابْن فلانة، لأُمّ كان يعيره بها في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا الدّرْدَاءِ إنّ فِيكَ جاهِلِيّةً»، قال: أجاهلية كفر أو إسلام؟ قال: «بل جاهِلِيّةُ كُفْرٍ»، قال: فتمنيت أن لو كنت ابتدأت إسلامي يومئذ. قال: وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ثَلاثٌ مِنْ عَمَلِ أهْلِ الجاهِلِيّةِ لا يَدَعُهُنّ النّاسُ: الطّعْنُ بالأنْساب، والاسْتِمْطارُ بالكَوَاكِبِ، والنّياحَةُ»...
وجائز أن يكون ذلك ما بين آدم ونوح. وجائز أن يكون ما بين إدريس ونوح، فتكون الجاهلية الاَخرة، ما بين عيسى ومحمد، وإذا كان ذلك مما يحتمله ظاهر التنزيل. فالصواب أن يقال في ذلك، كما قال الله: إنه نهى عن تبرّج الجاهلية الأولى.
وقوله: "وأقِمْنَ الصّلاةَ وآتِينَ الزّكاةَ" يقول: وأقمن الصلاة المفروضة، وآتين الزكاة الواجبة عليكنّ في أموالكنّ، "وَأطِعْنَ اللّهَ وَرَسُولهُ" فيما أمراكنّ ونهياكنّ. "إنّمَا يُريدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أهْلَ البَيْتِ" يقول: إنما يريد الله ليذهب عنكم السوء والفحشاء يا أهل بيت محمد، ويطهركم من الدنس الذي يكون في أهل معاصي الله تطهيرا...
اختلف أهل التأويل في الذين عنوا بقوله "أهْلَ البَيْتِ"؛
فقال بعضهم: عني به رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليّ وفاطمة والحسن والحسين رضوان الله عليهم...
حدثني أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري، عن أمّ سلمة، قالت: لما نزلت هذه الآية: إنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيرا، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا، فجلل عليهم كساء خَيبريا، فقال: «اللّهُمّ هَؤُلاءِ أهْلُ بَيْتِي، اللّهُمّ أذْهِبْ عَنْهُمُ الرّجْسَ وَطَهّرْهُمْ تَطْهِيرا» قالت أمّ سلمة: ألستُ منهم؟ قال: أنت إلى خَيْرٍ...
وقال آخرون: بل عنى بذلك أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) قال المبرد: التبرج هو أن تظهر من نفسها ما أمرت بستره.
(ويطهركم تطهيرا) بالتوفيق والهداية.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أمرهن أمراً خاصاً بالصلاة والزكاة، ثم جاء به عاماً في جميع الطاعات؛ لأن هاتين الطاعتين البدنية والمالية هما أصل سائر الطاعات، من أعتنى بهما حق اعتنائه جرّتاه إلى ما وراءهما.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
قَوْلُهُ: {أَهْلَ الْبَيْتِ} رُوِيَ عن عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا، وَجَعَلَ عَلِيًّا خَلْفَ ظَهْرِهِ، وَجَلَّلَهُمْ بِكِسَاءٍ، ثُمَّ قَالَ: (اللَّهُمَّ إنَّ هَؤُلَاءِ أَهْلَ بَيْتِي، فَأَذْهِبْ عَنْهُمْ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا. قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: وَأَنَا مَعَهُمْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ. قَالَ: أَنْتِ عَلَى مَكَانِك، وَأَنْتِ عَلَى خَيْرٍ).
ليس التكليف في النهي فقط حتى يحصل بقوله تعالى: {لا تخضعن ولا تبرجن} بل فيه وفي الأوامر {فأقمن الصلاة} التي هي ترك التشبه بالجبار المتكبر.
{وآتين الزكاة} التي هي تشبه بالكريم الرحيم.
{ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم} فيه لطيفة وهي أن الرجس قد يزول عينا ولا يطهر المحل، فقوله تعالى: {ليذهب عنكم الرجس} أي يزيل عنكم الذنوب ويطهركم أي يلبسكم خلع الكرامة {ليذهب عنكم الرجس} ليدخل فيه نساء أهل بيته ورجالهم، واختلفت الأقوال في أهل البيت، والأولى أن يقال هم أولاده وأزواجه والحسن والحسين منهم وعلي منهم لأنه كان من أهل بيته بسبب معاشرته ببنت النبي عليه السلام وملازمته للنبي.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}: وهذا نص في دخول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في أهل البيت هاهنا؛ لأنهن سبب نزول هذه الآية، وسبب النزول داخل فيه قولا واحدا، إما وحده على قول، أو مع غيره على الصحيح.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{تبرج الجاهلية الأولى} أي المتقدمة على الإسلام وعلى ما قبل الأمر بالحجاب.
{وأقمن الصلاة} أي فرضاً ونفلاً، صلة لما بينكن وبين الخالق لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وفي هذا بشارة بالفتوح وتوسيع الدنيا عليهن، فإن العيش وقت نزولها كان ضيقاً عن القوت فضلاً عن الزكاة.
{وأطعن الله} أي ذاكرات ما له من صفات الكمال {ورسوله} في جميع ما يأمران به؛ فإنه لم يرسل إلا للأمر والنهي تخليصاً للخلائق من أسر الهوى.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
من وقر، يقر، أي ثقل واستقر. وليس معنى هذا الأمر ملازمة البيوت فلا يبرحنها إطلاقا. إنما هي إيماءة لطيفة إلى أن يكون البيت هو الأصل في حياتهن، وهو المقر وما عداه استثناء طارئا لا يثقلن فيه ولا يستقررن. إنما هي الحاجة تقضى، وبقدرها.
والبيت هو مثابة المرأة التي تجد فيها نفسها على حقيقتها كما أرادها الله تعالى. غير مشوهة ولا منحرفة ولا ملوثة، ولا مكدودة في غير وظيفتها التي هيأها الله لها بالفطرة.
" ولكي يهيئ الإسلام للبيت جوه ويهيئ للفراخ الناشئة فيه رعايتها، أوجب على الرجل النفقة، وجعلها فريضة، كي يتاح للأم من الجهد، ومن الوقت، ومن هدوء البال، ما تشرف به على هذه الفراخ الزغب، وما تهيئ به للمثابة نظامها وعطرها وبشاشتها. فالأم المكدودة بالعمل للكسب، المرهقة بمقتضيات العمل، المقيدة بمواعيده، المستغرقة الطاقة فيه.. لا يمكن أن تهب للبيت جوه وعطره، ولا يمكن أن تمنح الطفولة النابتة فيه حقها ورعايتها. وبيوت الموظفات والعاملات ما تزيد على جو الفنادق والخانات؛ وما يشيع فيها ذلك الأرج الذي يشيع في البيت. فحقيقة البيت لا توجد إلا أن تخلقها امرأة، وأرج البيت لا يفوح إلا أن تطلقه زوجة، وحنان البيت لا يشيع إلا أن تتولاه أم. والمرأة أو الزوجة أو الأم التي تقضي وقتها وجهدها وطاقتها الروحية في العمل لن تطلق في جو البيت إلا الإرهاق والكلال والملال.
" وإن خروج المرأة لتعمل كارثة على البيت قد تبيحها الضرورة. أما أن يتطوع بها الناس وهم قادرون على اجتنابها، فتلك هي اللعنة التي تصيب الأرواح والضمائر والعقول، في عصور الانتكاس والشرور والضلال".
فأما خروج المرأة لغير العمل. خروجها للاختلاط ومزاولة الملاهي. والتسكع في النوادي والمجتمعات... فذلك هو الارتكاس في الحمأة الذي يرد البشر إلى مراتع الحيوان!
ولقد كان النساء على عهد رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يخرجن للصلاة غير ممنوعات شرعا من هذا. ولكنه كان زمان فيه عفة، وفيه تقوى، وكانت المرأة تخرج إلى الصلاة متلفعة لا يعرفها أحد، ولا يبرز من مفاتنها شيء. ومع هذا فقد كرهت عائشة لهن أن يخرجن بعد وفاة رسول الله [صلى الله عليه وسلم]!
في الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: كان نساء المؤمنين يشهدن الفجر مع رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ثم يرجعن متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس.
وفي الصحيحين أيضا أنها قالت: لو أدرك رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ما أحدث النساء لمنعهن من المساجد، كما منعت نساء بني إسرائيل!
فماذا أحدث النساء في حياة عائشة -رضي الله عنها-؟ وماذا كان يمكن أن يحدثن حتى ترى أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] كان مانعهن من الصلاة؟! ماذا بالقياس إلى ما نراه في هذه الأيام؟!
(ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى)..
ذلك حين الاضطرار إلى الخروج، بعد الأمر بالقرار في البيوت. ولقد كانت المرأة في الجاهلية تتبرج. ولكن جميع الصور التي تروى عن تبرج الجاهلية الأولى تبدو ساذجة أو محتشمة حين تقاس إلى تبرج أيامنا هذه في جاهليتنا الحاضرة!
قال مجاهد: كانت المرأة تخرج تمشي بين الرجال. فذلك تبرج الجاهلية!
وقال قتادة: وكانت لهن مشية تكسر وتغنج. فنهى الله تعالى عن ذلك!
وقال مقاتل بن حيان: والتبرج أنها تلقي الخمار على رأسها ولا تشده فيداري قلائدها وقرطها وعنقها، ويبدو ذلك كله منها. وذلك التبرج!
وقال ابن كثير في التفسير: كانت المرأة منهن تمر بين الرجال مسفحة بصدرها لا يواريه شيء؛ وربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها وأقرطة آذانها. فأمر الله المؤمنات أن يستترن في هيئاتهن وأحوالهن.
هذه هي صور التبرج في الجاهلية التي عالجها القرآن الكريم. ليطهر المجتمع الإسلامي من آثارها ويبعد عنه عوامل الفتنة، ودواعي الغواية؛ ويرفع آدابه وتصوراته ومشاعره وذوقه كذلك!
ونقول: ذوقه.. فالذوق الإنساني الذي يعجب بمفاتن الجسد العاري ذوق بدائي غليظ. وهو من غير شك أحط من الذوق الذي يعجب بجمال الحشمة الهادئ، وما يشي به من جمال الروح، وجمال العفة، وجمال المشاعر.
وهذا المقياس لا يخطئ في معرفة ارتفاع المستوى الإنساني وتقدمه. فالحشمة جميلة جمالا حقيقيا رفيعا. ولكن هذا الجمال الراقي لا يدركه أصحاب الذوق الجاهلي الغليظ، الذي لا يرى إلا جمال اللحم العاري، ولا يسمع إلا هتاف اللحم الجاهر!
ويشير النص القرآني إلى تبرج الجاهلية، فيوحي بأن هذا التبرج من مخلفات الجاهلية. التي يرتفع عنها من تجاوز عصر الجاهلية، وارتفعت تصوراته ومثله ومشاعره عن تصورات الجاهلية ومثلها ومشاعرها.
والجاهلية ليست فترة معينة من الزمان. إنما هي حالة اجتماعية معينة، ذات تصورات معينة للحياة. ويمكن أن توجد هذه الحالة، وأن يوجد هذا التصور في أي زمان وفي أي مكان، فيكون دليلا على الجاهلية حيث كان!
وبهذا المقياس نجد أننا نعيش الآن في فترة جاهلية عمياء، غليظة الحس، حيوانية التصور، هابطة في درك البشرية إلى حضيض مهين. وندرك أنه لا طهارة ولا زكاة ولا بركة في مجتمع يحيا هذه الحياة؛ ولا يأخذ بوسائل التطهر والنظافة التي جعلها الله سبيل البشرية إلى التطهر من الرجس، والتخلص من الجاهلية الأولى؛ وأخذ بها، أول من أخذ، أهل بيت النبي [صلى الله عليه وسلم] على طهارته ووضاءته ونظافته.
والقرآن الكريم يوجه نساء النبي [صلى الله عليه وسلم] إلى تلك الوسائل؛ ثم يربط قلوبهن بالله، ويرفع أبصارهن إلى الأفق الوضيء الذي يستمددن منه النور، والعون على التدرج في مراقي ذلك الأفق الوضيء:
(وأقمن الصلاة، وآتين الزكاة، وأطعن الله ورسوله)..
وعبادة الله ليست بمعزل عن السلوك الاجتماعي أو الأخلاقي في الحياة؛ إنما هي الطريق للارتفاع إلى ذلك المستوى؛ والزاد الذي يقطع به السالك الطريق. فلا بد من صلة بالله يأتي منها المدد والزاد. ولا بد من صلة بالله تطهر القلب وتزكيه. ولا بد من صلة بالله يرتفع بها الفرد على عرف الناس وتقاليد المجتمع وضغط البيئة؛ ويشعر أنه أهدى وأعلى من الناس والمجتمع والبيئة. وأنه حري أن يقود الآخرين إلى النور الذي يراه؛ لا أن يقوده الآخرون إلى الظلمات وإلى الجاهلية التي تغرق فيها الحياة، كلما انحرفت عن طريق الله.
والإسلام وحدة تجمع الشعائر والآداب والأخلاق والتشريعات والنظم.. كلها في نطاق العقيدة. ولكل منها دور تؤديه في تحقيق هذه العقيدة؛ وتتناسق كلها في اتجاه واحد؛ ومن هذا التجمع والتناسق يقوم الكيان العام لهذا الدين. وبدونهما لا يقوم هذا الكيان.
ومن ثم كان الأمر بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الله ورسوله، هو خاتمة التوجيهات الشعورية والأخلاقية والسلوكية لأهل البيت الكريم. لأنه لا يقوم شيء من تلك التوجيهات بغير العبادة والطاعة.. وكل ذلك لحكمة وقصد وهدف:
(إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا)..
وفي التعبير إيحاءات كثيرة، كلها رفاف، رفيق، حنون..
فهو يسميهم (أهل البيت) بدون وصف للبيت ولا إضافة. كأنما هذا البيت هو (البيت) الواحد في هذا العالم، المستحق لهذه الصفة. فإذا قيل (البيت) فقد عرف وحدد ووصف. ومثل هذا قيل عن الكعبة. بيت الله. فسميت البيت. والبيت الحرام. فالتعبير عن بيت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] كذلك تكريم وتشريف واختصاص عظيم.
وهو يقول: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس -أهل البيت- ويطهركم تطهيرا).. وفي العبارة تلطف ببيان علة التكليف وغايته. تلطف يشي بأن الله سبحانه -يشعرهم بأنه بذاته العلية- يتولى تطهيرهم وإذهاب الرجس عنهم. وهي رعاية علوية مباشرة بأهل هذا البيت. وحين نتصور من هو القائل -سبحانه وتعالى- رب هذا الكون. الذي قال للكون: كن. فكان. الله ذو الجلال والإكرام. المهيمن العزيز الجبار المتكبر.. حين نتصور من هو القائل -جل وعلا- ندرك مدى هذا التكريم العظيم.
وهو -سبحانه- يقول هذا في كتابه الذي يتلى في الملأ الأعلى، ويتلى في هذه الأرض، في كل بقعة وفي كل أوان؛ وتتعبد به ملايين القلوب، وتتحرك به ملايين الشفاه.
وأخيرا فإنه يجعل تلك الأوامر والتوجيهات وسيلة لإذهاب الرجس وتطهير البيت. فالتطهير من التطهر، وإذهاب الرجس يتم بوسائل يأخذ الناس بها أنفسهم، ويحققونها في واقع الحياة العملي. وهذا هو طريق الإسلام.. شعور وتقوى في الضمير. وسلوك وعمل في الحياة. يتم بهما معا تمام الإسلام، وتتحقق بهما أهدافه واتجاهاته في الحياة.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}. هذا أمر خُصِّصْنَ به وهو وجوب ملازمتهن بيوتهن توقيراً لهن، وتقوية في حرمتهن، فقرارهن في بيوتهن عبادة، وأن نزول الوحي فيها وتردد النبي صلى الله عليه وسلم في خلالها يكسبها حرمة وقد كان المسلمون لما ضاق عليهم المسجد النبوي يصلُّون الجمعة في بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث « الموطأ».
وهذا الحكم وجوب على أمهات المؤمنين وهو كمال لسائر النساء، وإضافة البيوت إليهن لأنهن ساكنات بها أسكَنهُنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت بيوت النبي صلى الله عليه وسلم يميَّز بعضها عن بعض بالإِضافة إلى ساكنة البيت، يقولون: حُجرة عائشة، وبيت حفصة، فهذه الإِضافة كالإِضافة إلى ضمير المطلقات في قوله تعالى: {لا تخرجوهن من بيوتهن} [الطلاق: 1].
{وَأَقِمْنَ الصلاة وَءَاتِينَ الزكواة وَأَطِعْنَ اللهَ ورَسُوله} أريد بهذه الأوامر الدوام عليها لأنهن متلبسات بمضمونها من قبل، وليعلم الناس أن المقربين والصالحين لا ترتفع درجاتهم عند الله تعالى عن حق توجه التكليف عليهم، وفي هذا مقمع لبعض المتصوفين الزاعمين أن الأولياء إذا بلغوا المراتب العليا من الولاية، سقطت عنهم التكاليف الشرعية؛ فالمعنى أمَركن الله بما أمر ونَهاكُنّ عما نهى، لأنه أراد لكُنّ تخلية عن النقائص والتحْلية بالكمالات.
قوله : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } { قَرْنَ } ، من القرار . والأصل ، اقْرَرْنَ بفتح الراء ، فحذفت الراء الأولى تخفيفا ونقلت حركتها إلى القاف وحذفت الألف لتحرك القاف فصارت قََرْنَ .
والخطاب ، وإنْ كان لنساء النبي صلى الله عليه وسلم فإن حكمه يعم النساء جميعا . والمعنى : الْزَمْنَ القرار في بيوتكن ولا تخرجن إلا لحاجة . ومن الحوائج المشروعة التي تجوز الخروج للنساء ، خروجهن للصلاة في المسجد . وفي الخبر : " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله " وفي رواية : " وبيوتهن خير لهن " .
ومن جملة الحوائج ، خروجها في طلب العلم . فإن طلب العلم فريضة على المسلمين ولا مناص لها من الخروج إذا أرادت أن تشهد مجالس العلم أو تنهل من مناهله ؛ إذ تلقاه من أهله .
ومنها : خروجها لمشاهدة أولي القربى والأرحام كالآباء والأمهات والأبناء والبنات والإخوة والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات وغيرهم من أولي القربى .
ومنها : خروجهن لتطبيب أنفسهن أو مداواة أولادهن أو قضاء حوائج أبنائهن وبناتهن ، التي لا يُحسِن القيام بها غيرهن .
ومنها : خروجهن في طلب الرزق إذا لم يكن لهن من يضطلع بالإنفاق عليهن نفقة كافية تحقق لها البحبوحة والسعة .
قوله : { وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى } التبرج ، إظهار الزينة والمحاسن للرجال{[3740]} واختلفوا في المراد بالجاهلية الأولى . والأظهر أنها جاهلية الكفر قبل الإسلام . وأن الجاهلية الأخرى هي جاهلية الفسوق والفجور والضلال والبعد عن منهج الله عقب غياب الإسلام .
وصور الجاهلية من الضلال والكفر والجحود كثيرة ومغالية ومفْرِطة . إنها كثيرة وفادحة ومفحشة فحشا فاق كل تصور . لقد برعت الجاهلية في الزمان الراهن في ابتداع الضلال والفسق واصطناع الأساليب والظواهر المختلفة من الفساد والغواية التي تهوي بالأفراد والمجتمعات في مستنقع الرجس والدنس ، وتنزلق بهم إلى كحمأة الرذيلة والفواحش والخنا . ويأتي في طليعة ذلك كله ظاهرة التبرج في أفحش صوره في المغالاة والإسفاف والابتذال مما يفضي بالضرورة إلى الفتنة والسقوط في الدركات من القَذَر والانحطاط ، ولقد أسهم في إشاعة هذه الخسيسة الذميمة من التبرج ، تلك الأسباب المسخرة من وسائل الإعلام . وهي وسائل الإعلام . وهي وسائل كثيرة ومختلفة ولها من بالغ التأثير في سلوك المجتمعات ما أثار فيها الفتة وألْهَبَ فيها الشهوات والغرائز أيما إلْهاب .
لقد أسهمت أسباب الإعلام الكثيرة والمختلفة بلغ الإسهام في إذكاء الغريزة والفسق ، وإشاعة الفجور والتهتك ، وإثارة الهوى والشهوة لتظل على الدوام متأججة ومضطربة ومشوبة .
وهذه هي الحضارة المادية الحديثة بجحودها وتحللها وعتوها وتمردها على منهج الله ، تُحرّض على التبرج الفاحش والزراية المُسفّة ، والابتذال المُستقذر . كتبرج العاريات في الشوارع والمنازل والأندية ، وفي بيوت العلم ودوائر الدولة ، وسائر المحافل الرسمية والشعبية . ثم التبرج على المسارح وفي دور الملاهي حيث الانفلات الكامل من ربقة القيم والعفة ، وحيث العري والتهتك والسقوط ، والتحلل المذهل من كل الضوابط التي قررتها شرائع السماء ، ونطقت به فطرة الإنسان السوي . تلك هي الجاهلية المظلمة التي طغت على البشرية عقب غياب الإسلام . جاهلية المادية الثقيلة الصماء حيث الشهوات والأهواء وحيث الأنانيات والغرائز المحمومة وظلم الإنسان للإنسان .
قوله : { وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ } أمرهن بإقامة أعظم فريضة وهي الصلاة المفروضة ، وأن يؤدين الزكاة الواجبة في أموالهن .
قوله : { وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أمرهن بالعام بعد الخاص . فقد أمرهن ههنا بسائر الطاعات .
قوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ } إنما يريد الله مما نهاكنّ وأمركنّ ووعظكنّ أن يذهب عنكن الإثم والفحشاء { أَهْلَ الْبَيْتِ } { أهل } منصوب على المدح ، أو على النداء{[3741]} أي يا أهل بيت محمد ، وأن يطهركم من السوء والدنس تطهيرا .
واختلفوا في المراد بأهل البيت . فقيل : محمد صلى الله عليه وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين رضوان الله عليهم ؛ فقد أخرج الإمام أحمد عن أنس بن مالك ( رضي الله عنه ) قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمرّ بباب فاطمة ( رضي الله عنها ) ستة أشهر إذْ خرج إلى صلاة الفجر يقول : " الصلاة يا أهل البيت { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } " .
وقيل : إن المراد بأهل البيت نساء النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الآية نزلت فيهن خاصة . والصحيح أن المراد نساء النبي صلى الله عليه وسلم وأهله الذين هم أهل بيته . فنساء النبي سبب في نزول الآية ، وسبب النزول داخل فيه مع غيره . فيكون المراد عموم زوجات الرسول وأهله .