وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء } الآية ، اختلف الرواة في سببها فقالت فرقة منهم أنس بن مالك وغيره : نزلت بسبب سؤال عبد الله بن حذافة السهمي{[4740]} ، ( وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد المنبر مغضباً ، فقال : لا تسألوني اليوم عن شيء إلا أخبرتكم به ، فقام رجل فقال أين أنا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : في النار فقام عبد الله بن حذافة السهمي وكان يطعن في نسبه ، فقال من أبي ؟ فقال : أبوك حذافة ) .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وفي الحديث مما لم يذكر الطبري ( فقام آخر فقال من أبي ؟ فقال أبوك سالم مولى أبي شيبة ، فقام عمر بن الخطاب فجثا على ركبتيه وقال رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً ومحمد نبياً نعوذ بالله من الفتن ، وبكى الناس من غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونزلت هذه الآية بسبب هذه الاسئلة ){[4741]} .
قال القاضي أبو محمد : وصعود رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر مغضباً إنما كان بسبب سؤالات الأعراب والجهال والمنافقين ، فكان منهم من يقول أين ناقتي ؟ وآخر يقول ما الذي ألقى في سفري هذا ؟ ونحو هذا مما هو جهالة أو استخفاف وتعنيت ، وقال علي بن أبي طالب وأبو هريرة وأبو أمامة الباهلي وابن عباس ، في لفظهم اختلاف ، والمعنى واحد ، خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال : أيها الناس كتب عليكم الحج وقرأ عليهم { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً }{[4742]} قال علي : فقالوا يا رسول الله : أفي كل عام ؟ فسكت ، فأعادوا ، قال : لا ولو قلت نعم ، لوجبت ، وقال أبو هريرة : فقال عكاشة بن محصن وقال مرة فقال محصن الأسدي ، وقال غيره فقام رجل من بني أسد ، وقال بعضهم فقام أعرابي فقال يا رسول الله ، أفي كل عام ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : من السائل ؟ فقيل فلان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت لم تطيقوه ، ولو تركتموه ، لهلكتم »{[4743]} فنزلت هذه الآية بسبب ذلك ، ويقوي هذا حديث سعد بن أبي وقاص أن النبي عليه السلام قال : «إن أعظم المسلمين على المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته »{[4744]} وروي عن ابن عباس أنه قال : نزلت الآية بسبب قوم سألوا عن البحيرة والسائبة والوصيلة ونحو هذا من أحكام الجاهلية ، وقاله سعيد بن جبير{[4745]} .
قال القاضي أبو محمد : وروي أنه لما بين الله تعالى في هذه الآيات أمر الكعبة والهدي والقلائد ، وأعلم أن حرمتها هو الذي جعلها إذ هي أمور نافعة قديمة من لدن عهد إبراهيم عليه السلام ، ذهب ناس من العرب إلى السؤال عن سائر أحكام الجاهلية ليروا هل تلحق بتلك أم لا ، إذ كانوا قد اعتقدوا الجميع سنة لا يفرقون بين ما هو من عند الله وما هو من تلقاء الشيطان والمغيرين لدين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام كعمرو بن لحي وغيره ، وفي عمرو بن لحي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : رأيته يجر قصبه في النار وكان أول من سيب السوائب{[4746]} .
قال القاضي أبو محمد : والظاهر من الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألحت عليه الأعراب والجهال بأنواع من السؤالات حسبما ذكرناه ، فزجر الله تعالى عن ذلك بهذه الآية و { أشياء } اسم جمع لشيء أصله عند الخليل وسيبويه شيئاً مثل فعال قلبت إلى الفعل لثقل اجتماع الهمزتين ، وقال أبو حاتم { أشياء } وزنها أفعال وهو جمع شيء وترك الصرف فيه سماع ، وقال الكسائي : لم ينصرف { أشياء } لشبه آخرها بآخر حمراء ، ولكثرة استعمالها ، والعرب تقول أشياوات كما تقول حمراوات ، ويلزم على هذا أن لا ينصرف أسماء لأنهم يقولون أسماوات{[4747]} ، وقال الأخفش : { أشياء } أصلها أشياء على وزن أفعلاء ، اسثقلت اجتماع الهمزتين فأبدلت الأولى ياء لانكسار ما قبلها ثم حذفت الياء استخفافاً ، ويلزم على هذا أن يكون واحد الأشياء شيئاً مثل هين وأهوناء{[4748]} .
وقرأ جمهور الناس «إن تُبدَ » بضم التاء وفتح الدال وبناء الفعل للمفعول ، وقرأ مجاهد «إن تَبدُ » بفتح التاء وضم الدال على بناء الفعل للفاعل ، وقرأ الشعبي «إن يبد لكم » بالياء من أسفل مفتوحة والدال مضمومة «يسؤكم » بالياء من أسفل ، أي يبده الله لكم .
وقوله تعالى { وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم } قال ابن عباس : معناه لا تسألوا عن أشياء في ضمن الإخبار عنها مساءة لكم إما لتكليف شرعي يلزمكم وإما لخبر يسوء ، كما قيل للذي قال أين أنا ؟ ولكن إذا نزل القرآن بشيء وابتدأكم ربكم بأمر فحينئذٍ إن سألتم عن تفصيله وبيانه ُبِّين لكم وُأبدى .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : فالضمير في قوله { عنها } عائد على نوعها لا على الأولى التي نهى عن السؤال عنها ، وقال أبو ثعلبة الخشني رضي الله عنه : إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وحد حدوداً فلا تعتدوها وعفا من غير نسيان عن أشياء فلا تبحثوا عنها ، وكان عبيد بن عمير يقول : إن الله أحل وحرم فما أحل فاستحلوا وما حرم فاجتنبوا وترك بين ذلك أشياء لم يحلها ولم يحرمها ، فذلك عفو من الله عفاه ، ثم يتلو هذه الآية .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل قوله تعالى : { وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم } أن يكون في معنى الوعيد كأنه قال لا تسألوا وإن سألتم لقيتم عبء ذلك وصعوبته لأنكم تكلفون وتستعجلون علم ما يسوءكم كالذي قيل له إنه في النار ، وقوله تعالى : { عفا الله عنها } تركها ولم يعرف بها ، وهذه اللفظة التي هي { عفا } ، تؤيد أن الأشياء التي هي في تكليفات الشرع ، وينظر إلى ذلك قول النبي عليه السلام ( إن الله قد عفا لكم عن صدقة الخيل ){[4749]} ، و { غفور حليم } صفتان تناسب{[4750]} العفو وترك المباحثة والسماحة في الأمور .