مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَسۡـَٔلُواْ عَنۡ أَشۡيَآءَ إِن تُبۡدَ لَكُمۡ تَسُؤۡكُمۡ وَإِن تَسۡـَٔلُواْ عَنۡهَا حِينَ يُنَزَّلُ ٱلۡقُرۡءَانُ تُبۡدَ لَكُمۡ عَفَا ٱللَّهُ عَنۡهَاۗ وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٞ} (101)

قوله تعالى : { يأيها الذين ءامنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } في الآية مسائل :

المسألة الأولى : في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه : الأول : أنه تعالى لما قال : { ما على الرسول إلا البلاغ } صار التقدير كأنه قال ، ما بلغه الرسول إليكم فخذوه ، وكونوا منقادين له ، وما لم يبلغه الرسول إليك فلا تسألوا عنه ، ولا تخوضوا فيه ، فإنكم إن خضتم فيما لا تكليف فيه عليكم فربما جاءكم بسبب ذلك الخوض الفاسد من التكاليف ما يثقل عليكم ويشق عليكم . الثاني : أنه تعالى لما قال : { ما على الرسول إلا البلاغ } وهذا ادعاء منه للرسالة ، ثم إن الكفار كانوا يطالبونه بعد ظهور المعجزات ، بمعجزات أخر على سبيل التعنت كما قال تعالى حاكيا عنهم { وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا } إلى قوله { قل سبحان ربى هل كنت إلا بشرا رسولا } والمعنى إني رسول أمرت بتبليغ الرسالة والشرائع والأحكام إليكم ، والله تعالى قد أقام الدلالة على صحة دعواي في الرسالة بإظهار أنواع كثيرة من المعجزات ، فبعد ذلك طلب الزيادة من باب التحكم وذلك ليس في وسعي ولعل إظهارها يوجب ما يسوءكم مثل أنها لو ظهرت فكل من خالف بعد ذلك استوجب العقاب في الدنيا ، ثم إن المسلمين لما سمعوا الكفار يطالبون الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه المعجزات ، وقع في قلوبهم ميل إلى ظهورها فعرفوا في هذه الآية أنهم لا ينبغي أن يطلبوا ذلك فربما كان ظهورها يوجب ما يسوءهم .

الوجه الثالث : أن هذا متصل بقوله : { والله يعلم ما تبدون وما تكتمون } فاتركوا الأمور على ظواهرها ولا تسألوا عن أحوال مخفية إن تبد لكم تسؤكم .

المسألة الثانية : أشياء جمع شيء وأنها غير متصرفة وللنحويين في سبب امتناع الصرف وجوه الأول : قال الخليل وسيبويه : قولنا شيء جمعه في الأصل شياء على وزن فعلاء فاستثقلوا اجتماع الهمزتين في آخره ، فنقلوا الهمزة الأولى التي هي لام الفعل إلى أول الكلمة فجاءت لفعاء ، وذلك يوجب منع الصرف لثلاثة أوجه ، واحد منها مذكور ، وإثنان خطرا ببالي .

أما الأول : وهو المذكور فهو أن الكلمة لما كانت في الأصل على وزن فعلاء ، مثل حمراء ، لا جرم لم تنصرف كما لم ينصرف حمراء ، والثاني : أنها لما كانت في الأصل شياء ثم جعلت أشياء كان ذلك تشبيها بالمعدول كما في عامر وعمر ، وزافر وزفر ، والعدل أحد أسباب منع الصرف . الثالث : وهو إنا لما قطعنا الحرف الأخير منه وجعلناه أوله ، والكلمة من حيث أنها قطع منها الحرف الأخير صارت كنصف الكلمة ، ونصف الكلمة لا يقبل الإعراب ، ومن حيث إن ذلك الحرف الذي قطعناه منها ما حذفناه بالكلية ، بل ألصقناه بأولها ، كانت الكلمة كأنها باقية بتمامها ، فلا جرم منعناه بعض وجوه الإعراب دون البعض ، تنبيها على هذه الحالة ، فهذا ما خطر بالبال في هذا المقام .

الوجه الثاني : في بيان السبب في منع الصرف ما ذكره الأخفش والفراء : وهو أن أشياء وزنه أفعلاء ، كقوله أصدقاء وأصفياء ، ثم إنهم استثقلوا اجتماع الياء والهمزتين فقدموا الهمزة ، فلما كان أشياء في الأصل أشيياء على وزن أصدقاء وأفعلاء ، وكان ذلك مما لا يجري فيه الصرف ، فكذا هاهنا .

الوجه الثالث : ما ذكره الكسائي : وهو أن أشياء على وزن أفعال ، إلا أنهم لم يصرفوه لكونه شبيها في الظاهر بحمراء وصفراء ، وألزمه الزجاج أن لا ينصرف أسماء وأبناء ، وعندي أن سؤال الزجاج ليس بشيء ، لأن للكسائي أن يقول : القياس يقتضي ذلك في أبناء وأسماء ، إلا أنه ترك العمل به للنص ، لأن النص أقوى من القياس ، ولم يوجد النص في لفظ أشياء فوجب الجري فيه على القياس ، ولأن المحققين من النحويين اتفقوا على أن العلل النحوية لا توجب الاطراد ، ألا ترى أنا إذا قلنا الفاعلية توجب الرفع ، لزمنا أن نحكم بحصول الرفع في جميع المواضع ، كقولنا جاءني هؤلاء وضربني هذا بل نقول : القياس ذلك فيعمل به ، إلا إذا عارضه نص فكذا القول فيما أورده الزجاج على الكسائي .

المسألة الثالثة : روى أنس أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فأكثروا المسألة ، فقام على المنبر فقال : «سلوني فوالله لا تسألوني عن شيء ما دمت في مقامي هذا إلا حدثتكم به » فقام عبد الله ابن حذافة السهمي وكان يطعن في نسبه ، فقال يا نبي الله من أبي فقال : «أبوك حذافة بن قيس » وقال سراقة بن مالك ويروي عكاشة بن محصن يا رسول الله : الحج علينا في كل عام فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أعاد مرتين أو ثلاثة ، فقال عليه الصلاة والسلام : «ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم والله لو قلت نعم لوجبت ، ولو وجبت لتركتم ، ولو تركتم لكفرتم فاتركوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم فإذا أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه » وقام آخر فقال : يا رسول الله أين أبي فقال «في النار » ولما اشتد غضب الرسول صلى الله عليه وسلم قام عمر وقال : رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا فأنزل الله تعالى هذه الآية .

واعلم أن السؤال عن الأشياء ربما يؤدي إلى ظهور أحوال مكتومة يكره ظهورها وربما ترتبت عليه تكاليف شاقة صعبة فالأولى بالعاقل أن يسكت عما لا تكليف عليه فيه ، ألا ترى أن الذي سأل عن أبيه فإنه لم يأمن أن يلحقه الرسول عليه الصلاة والسلام بغير أبيه فيفتضح ، وأما السائل عن الحج فقد كاد أن يكون ممن قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه : «إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من كان سببا لتحريم حلال » إذ لم يؤمن أن يقول في الحج إيجاب في كل عام وكان عبيد بن عمير يقول : إن الله أحل وحرم فما أحل فاستحلوه ، وما حرم فاجتنبوه ، وترك بين ذلك أشياء لم يحللها ولم يحرمها ، فذلك عفو من الله تعالى ، ثم يتلو هذه الآية وقال أبو ثعلبة الخشني : إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها ، وحد حدودا فلا تعتدوها ، وعفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها .

ثم قال تعالى : { وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم } وفيه وجوه : الأول : أنه بين بالآية الأولى أن تلك الأشياء التي سألوا عنها أن أبديت لهم ساءتهم ثم بين بهذه الآية أنهم إن سألوا عنها أبديت لهم ، فكان حاصل الكلام أنهم إن سألوا عنها أبديت لهم ، وإن أبديت لهم ساءتهم ، فيلزم من مجموع المقدمتين أنهم إن سألوا عنها ظهر لهم ما يسوءهم ولا يسرهم . والوجه الثاني : في تأويل الآية أن السؤال على قسمين . أحدهما : السؤال عن شيء لم يجز ذكره في الكتاب والسنة بوجه من الوجوه ، فهذا السؤال منهي عنه بقوله { لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } .

والنوع الثاني من السؤال : السؤال عن شيء نزل به القرآن لكن السامع لم يفهمه كما ينبغي فهاهنا السؤال واجب ، وهو المراد بقوله { وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم } والفائدة في ذكر هذا القسم أنه لما منع في الآية الأولى من السؤال أوهم أن جميع أنواع السؤال ممنوع منه فذكر ذلك تمييزا لهذا القسم عن ذلك القسم .

فإن قيل قوله { وإن تسألوا عنها } هذا الضمير عائد إلى الأشياء المذكورة في قوله { لا تسألوا عن أشياء } فكيف يعقل في { أشياء } بأعيانها أن يكون السؤال عنها ممنوعا وجائزا معا .

قلنا : الجواب عنه من وجهين : الأول : جائز أن يكون السؤال عنها ممنوعا قبل نزول القرآن بها ومأمورا به بعد نزول القرآن بها ، والثاني : أنهما وإن كانا نوعين مختلفين ، إلا أنهما في كون كل واحد منهما مسؤولا عنه شيء واحد ، فلهذا الوجه حسن اتحاد الضمير وإن كانا في الحقيقة نوعين مختلفين .

الوجه الثالث في تأويل الآية : إن قوله { لا تسألوا عن أشياء } دل على سؤالاتهم عن تلك الأشياء ، فقوله { وإن تسألوا عنها } أي وإن تسألوا عن تلك السؤالات حين ينزل القرآن يبين لكم أن تلك السؤالات هل هي جائزة أم لا ، والحاصل أن المراد من هذه الآية أنه يجب السؤال أولا ، وأنه هل يجوز السؤال عن كذا وكذا أم لا .

ثم قال تعالى : { عفا الله عنها } وفيه وجوه : الأول : عفا الله عما سلف من مسائلكم وإغضابكم للرسول بسببها ، فلا تعودوا إلى مثلها . الثاني : أنه تعالى ذكر أن تلك الأشياء التي سألوا عنها إن أبديت لهم ساءتهم ، فقال { عفا الله عنها } يعني عما ظهر عند تلك السؤالات مما يسؤكم ويثقل ويشق في التكليف عليكم . الثالث : في الآية تقديم وتأخير ، والتقدير : لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها في الآية { إن تبد لكم تسؤكم } وهذا ضعيف لأن الكلام إذا استقام من غير تغيير النظم لم يجز المصير إلى التقديم والتأخير ، وعلى هذا الوجه فقوله { عفا الله عنها } أي أمسك عنها وكف عن ذكرها ولم يكلف فيها بشيء ، وهذا كقوله عليه الصلاة والسلام : «عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق » أي خففت عنكم بإسقاطها .

ثم قال تعالى : { والله غفور حليم } وهذه الآية تدل على أن المراد من قوله عفا الله عنها ما ذكرناه في الوجه الأول .