السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَسۡـَٔلُواْ عَنۡ أَشۡيَآءَ إِن تُبۡدَ لَكُمۡ تَسُؤۡكُمۡ وَإِن تَسۡـَٔلُواْ عَنۡهَا حِينَ يُنَزَّلُ ٱلۡقُرۡءَانُ تُبۡدَ لَكُمۡ عَفَا ٱللَّهُ عَنۡهَاۗ وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٞ} (101)

ونزل لما أكثروا سؤاله صلى الله عليه وسلم :

{ يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد } أي : تظهر { لكم تسؤكم } أي : لما فيها من المشقة فقيل : سبب نزولها ما في الصحيحين عن أنس رضي الله تعالى عنه إنهم لما سألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه المسألة أي : بالغوا في السؤال فغضب وصعد المنبر وقال : ( لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته لكم ) وشرع يكرّر ذلك وإذا رجل كان إذا لاحى الرجال يدعى لغير أبيه فقال : يا رسول الله من أبي ؟ فقال : «حذافة » فقال عمر رضي الله تعالى عنه : رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً نعوذ بالله من الفتن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما رأيت في الخير والشر كاليوم قط إنه قد صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما وراء الحائط في آخره ) فنزلت هذه الآية .

وروي أنّ عمر رضي الله تعالى عنه قال : يا رسول الله أنا حديث عهد بجاهلية اعف عنا يعف الله عنك فسكن غضبه ، وللبخاريّ في التفسير عن أنس أيضاً قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط قال : ( لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ) فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم لهم خنين فقال رجل : من أبي ؟ قال : فلان فنزلت هذه الآية . وللبخاري أيضاً عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء فيقول الرجل : من أبي ؟ يقول الرجل تضلّ ناقته أين ناقتي ؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية .

وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب ذات يوم وهو غضبان من كثرة ما يسألون عنه مما لا يعنيهم فقال صلى الله عليه وسلم : ( لا أسأل عن شيء إلا وأجيب ) فقال رجل : أين أنا ؟ قال : ( في النار ) وقال آخر : من أبي ؟ قال : «حذافة » وكان يدعى لغيره فنزلت هذه الآية . وقيل غير ذلك ولا تعارض بين هذه الأخبار ولو تعذر ردّها إلى شيء واحد لما مرّ عند قوله تعالى : { لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } ( المائدة ، 87 ) من أنّ الأمر الواحد قد تتعدّد أسبابه . وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتسهيل الهمزة الثانية مع تحقيق الأولى والباقون بتحقيقهما . ولما كان ربما وقع في وهم متعنت أنّ هذا الزجر إنما هو لقصد راحة المسؤول عن السؤال خوفاً من عواقبه قال تعالى : { وإن تسألوا عنها } أي : تلك الأشياء التي تتوقع مساءتكم عند إبدائها { حين ينزل القرآن تبد لكم } المعنى : إذا سألتم عن أشياء في زمنه صلى الله عليه وسلم ينزل القرآن بإبدائها ومتى أبداها ساءتكم فلا تسألوا .

روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( إنّ الله تعالى قد فرض فرائض فلا تضيعوها وحدّ حدوداً فلا تعتدوها ثم عفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها ) ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون وتخيف الزاي والباقون بفتح النون وتشديد الزاي وقوله تعالى : { عفا الله عنها } استئناف أي : عفا الله عما سلف من مسألتكم فلا تعودوا إلى مسألتها أو صفة أخرى أي : عن أشياء عفا الله عنها ولا يكلف بها .

روي أنه لما نزل { ولله على الناس حج البيت } ( آل عمران ، 97 ) قال سراقة بن مالك : ألكل عام فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم حتى أعاد ثلاثاً فقال : ( لا ولو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما استطعتم فاتركوني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بأمر فخذوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ) .

{ والله غفور } يمحو الزلات عيناً وأثراً ويعقبها بالإكرام { حليم } لا يعجل على العاصي بالعقوبة .