اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَسۡـَٔلُواْ عَنۡ أَشۡيَآءَ إِن تُبۡدَ لَكُمۡ تَسُؤۡكُمۡ وَإِن تَسۡـَٔلُواْ عَنۡهَا حِينَ يُنَزَّلُ ٱلۡقُرۡءَانُ تُبۡدَ لَكُمۡ عَفَا ٱللَّهُ عَنۡهَاۗ وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٞ} (101)

في اتِّصال [ هذه الآية ]{[12657]} بما قَبْلَها وجوه :

أحدها : أنَّه تعالى لمَّا قال { مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ } [ المائدة : 99 ] كأنَّه قال : ما بلَّغَهُ الرَّسُول إلَيْكُم ، فَخُذُوهُ وكونوا مُنْقَادِين لَهُ ، وما لم يُبَلِّغْهُ إليكم ، فلا تسْألوا عنه ، ولا تخُوضُوا فيه ، فإنَّكُم إنْ خضتم فيما لا تكليف فيه عَلَيْكم ، فربَّما جَاءَكُمْ بسبب ذلك الخَوْضِ من التَّكْلِيف ما يَثْقُل عليْكم ويَشُقُّ .

وثانيها : أنَّه تعالى لما قال { مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ } [ المائدة : 99 ] وهذا ادعَاءٌ منهُ للرِّسالةِ ، ثُمَّ الكُفَّار كانوا يُطالِبُونَهُ بعدَ ظُهُورِ المُعْجِزَاتِ بمُعْجِزاتٍ أُخَر على سبيلِ التَّعَنُّتِ ، كما حَكَى عَنْهُم قولهمُ : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُر لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً } [ الإسراء : 90 ] ، إلى قوله : { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً } [ الإسراء : 93 ] ، والمعنى : أنِّي رسولٌ أمِرْتُ بتبْليغِ الشَّرائِعِ والأحْكَام إلَيْكُم ، واللَّه تعالى قد أقامَ الدلالة على صِحَّةِ دعْوَى الرِّسالة بإظْهَارِ أنواعٍ كثيرةٍ من المُعْجِزَات ، وطلبُ الزِّيادة بَعْدَ ذلك من بابِ التَّعَنُّتِ ، وذلك لَيْس في وُسْعِي ، ولعلَّ إظْهَارَها يوجبُ ما يَسُوؤكُم ، مثل أنَّها لو ظَهَرَتْ فكُلُّ من خالفَ بعد ذلك ، اسْتَوْجَبَ العِقَابَ في الدُّنيا ، ثُمَّ إنَّ المُسْلمِينَ لمَّا سَمِعُوا مُطالبَةَ الكُفَّار للرَّسُولِ بهذه المُعْجِزَاتِ ، وقع في قُلوبِهِم مَيْلٌ إلى ظُهُورها ، فَعَرفُوا في هذه الآية أنَّهم لا يَنْبَغِي أن يُطالِبُوا ذلك ، فربما كان ظُهُورها يُوجبُ ما يَسُوؤهُم .

وثالثها : أنَّ هذا مُتَّصِلٌ بقوله : { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } [ المائدة : 99 ] ، فاتركُوا الأمُورَ على ظَوَاهِرِهَا ، ولا تَسْألُوا عن أحْوال مُخِيفَةٍ إنْ تُبْدَ لَكُم تَسُؤكُمْ .

قوله تعالى : " عَنْ أشْيَاءَ " : متعلق ب " تَسْألُوا " . واختلف النحويُّون في " أشْيَاء " على خمسة مذاهب :

أحدها - وهو رأي الخليل وسيبويه{[12658]} والمازنيِّ وجمهور البصريين - : أنها اسمُ جمعٍ من لفظ " شَيْء " ، فهي مفردةٌ لفظاً جمعٌ معنًى ؛ ك " طَرْفَاء " ، و " قَصْبَاء " ، وأصلها : " شَيْئاء " بهمزتين بينهما ألفٌ ، ووزنها فعلاء ؛ ك " طَرْفَاء " ، فاستثقلوا اجتماع همزتين بينهما ألفٌ ، لاسيما وقد سبقها حرفُ علَّة ، وهي الياءُ ، وكَثُر دورُ هذه اللفظةِ في لسانهم ، فقلبوا الكلمةَ بأنْ قَدَّمُوا لامَها ، وهي الهمزةُ الأولى على فائها ، وهي الشين ؛ فقالوا " أشْيَاء " فصارَ وزنُها " لَفْعَاء " ، ومُنِعَتْ من الصرف ؛ لألف التأنيث الممدودة ، ورُجِّح هذا المذهبُ بأنه لم يلزمْ منه شيءٌ غيرُ القَلْب ، والقلبُ في لسانهم كثيرٌ ك " الجَاهِ ، والحَادِي ، والقسيِّ ، وناءَ ، وآدُرٍ ، وآرَامٍ ، وضِئَاء في قراءة قُنْبُل ، وأيِسَ " ، والأصل : " وَجهٌ ، وواحِدٌ ، وقُووسٌ ، ونَأى ، وأدْوُرٌ ، وأرَامٌ ، وضِيَاء ، ويَئِسَ " ، واعترضَ بعضُهم على هذا بأن القلْبَ على خلافِ الأصْلِ ، وأنه لم يَرِدْ إلا ضرورةً ، أو في قليلٍ من الكلام ، وهذا مردودٌ بما قدَّمْتُه من الأمثلةِ ، ونحن لا نُنْكِرُ أنَّ القلبَ غير مُطَّردٍ ؛ وأما الشاذُّ القليلُ ، فنحو قولهم : " رَعَمْلِي " في " لَعَمْرِي " ، و " شَوَاعِي " في " شَوَائع " ؛ قال : [ الكامل ]

وكَأنَّ أوْلاَهَا كِعَابُ مُقَامِرٍ *** ضُرِبَتْ على شُزُنٍ فَهُنَّ شَوَاعِي{[12659]}

[ يريد شَوَائِع ] .

وأمَّا المذاهبُ الآتية ، فإنه يَرِدُ عليها إشكالاتٌ ، هذا المذهبُ سالمٌ منها ؛ فلذلك اعتبره الجُمْهُور دون غيره .

وقال ابنُ الخطيبِ{[12660]} : منعَ الصَّرْفُ لثلاثة أوجهٍ :

أحدها : ما تقدَّم ، وهو أنَّ هذه الكلمةَ لمَّا كانَتْ في الأصْلِ على وزن " فَعْلاء " مثل " حَمْرَاء " ، فلم يتَصَرَّفْ كَحَمْرَاء .

وثانيها : لمَّا كانَتْ في الأصْل " شيآء " ، ثُمَّ جُعِلَت أشْيَاء مَنَعَ ذَلِكَ الصَّرْف .

وثالثها : أنَّا لمَّا قَطَعْنَا الحَرْفَ الأخِيرَ منهُ ، وجَعَلْنَاهُ أوَّلَه ، والكَلِمَةُ إذا قُطِع منها الحرْفُ الأخيرُ صارت كنصْفِ كَلِمَة ، ونِصْفُ الكلمةِ لا تَقْبَلُ الإعراب ، ومن حيث إنَّ ذلك الحَرْفَ الذي قَطَعْنَاهُ ، لم نحذِفْهُ بالكُلِّيَّة ، بل ألصَقْنَاهُ بأوَّلِ الكَلِمَةِ ، فَكَأنَّها بَاقِيَةٌ بِتَمامِهَا ، فلا جرم مَنَعْنَاهُ في بَعْضِ وُجُوه الإعراب دون البَعْض{[12661]} .

الثاني - وبه قال الفراء{[12662]} - : أن " أشْيَاء " جمع ل " شَيْء " ، والأصل في " شَيْء " : " شَيِّء " على " فَيْعلٍ " ك " لَيِّن " ، ثم خُفِّفَ إلى " شَيْء " ؛ كما خففوا لَيناً ، وهَيِّناً ، وميِّتاً إلى لَيْنٍ ، وهيْنٍ ، وميْتٍ ، ثم جمعه بعد تخفيفه ، وأصله " أشْيِئَاء " بهمزتين بينهما ألفٌ بعد ياءٍ بزنة " أفْعِلاء " ، فاجتمع همزتان : لامُ الكلمة والتي للتأنيث ، والألف تشبهُ الهمزة والجَمْعُ ثقيلٌ ، فخَفَّفُوا الكلمة ؛ بأن قلبوا الهمزة الأولى ياءً ؛ لانكسار ما قبلها ، فيجتمع ياءان ، أولاهما مكسورةٌ ، فحذفوا الياء التي هي عينُ الكلمة تخفيفاً ، فصارت " أشْيَاء " ، ووزنها الآن بعد الحذف " أفْلاء " فمَنْعُ الصرف ؛ لأجْلِ ألفِ التأنيثِ ، وهذه طريقةُ بعضهم في تَصْريف هذا المذهب ؛ كمكي{[12663]} بن أبي طالب ، وقال بعضهم كأبي البقاء{[12664]} : لمَّا صارت إلى أشْيِئَاء ، حُذِفَتِ الهمزة الثانيةُ التي هي لام الكلمة ؛ لأنَّها بها حصل الثِّقَلُ ، وفُتِحَتِ الياءُ المكسورةُ ؛ لتسلمَ ألف الجَمْعِ ، فصار وزنُها : أفْعَاء .

المذهب الثالث - وبه قال الأخفش - : أنَّ أشْياء جمعُ " شَيْءٍ " [ بزنة فَلْسٍ ، أي : ليس مخفَّفاً من " شَيِّئ " ، كما يقوله الفرَّاء ، بل جمع " شَيْء " ] ، وقال : إنَّ فَعْلاً يجمعُ على أفْعِلاَء ، فصار أشْيِئَاء بهمزتَيْنِ بينهما ألفٌ بعد ياء ، ثم عُمِلَ فيه ما عُمِلَ في مذْهَب الفرَّاء ، والطريقانِ المذْكُوران عن مَكِّيٍّ وأبي البقاء في تصريف هذا المذهب جاريان هنا ، وأكثر المصنِّفين يذكرون مذهب الفرَّاء عنه وعن الأخفش ، قال مكي{[12665]} : " وقال الفرَّاء والأخفش ؛ والزياديُّ : " أشْيَاء " وزنها " أفْعِلاء " ، وأصلها " أشْيِئَاء " ؛ ك " هَيِّنٍ وأهْوِنَاء " ، لكنه خُفِّفَ " .

ثم ذكر تصريفَ الكلمةِ إلى آخره ، وقال أبو البقاء{[12666]} : " وقال الأخفشُ والفراء : أصلُ الكلمةِ " شَيِّئ " مثل " هَيِّنٍ " ، ثم خُفِّف بالحذف " ، وذكر التصريف إلى آخره ، فهؤلاء نقلوا مذهبهما شيئاً واحداً ، والحقُّ ما ذكرته عنهُما ؛ ويدلُّ على ما قلته ما قاله الواحديُّ ؛ فإنه قال : " وذهبَ الفرَّاء في هذ الحرف مذهب الأخفش " ، غير أنه خلطَ حين ادَّعى أنها كهَيْنٍ وليْنٍ حين جمعا على أهْوِنَاء وألْيِنَاء ، وهَيْنٍ تخفيف " هَيِّن " ؛ فلذلك جاز جمعه على أفْعِلاء ، وشَيْء ليس مخفَّفاً من " شَيِّئ " حتى يُجْمَعَ على أفْعِلاء ، وهذان المذهَبَان - أعني مذهب الفراء والأخفشِ - وإن سَلِمَا من منع الصَّرْف بغير علَّة ، فقد ردَّهُمَا الناس ، قال الزجَّاج{[12667]} : " وهذا القَوْلُ غَلَطٌ ؛ لأنَّ " شَيئاً " فعلٌ ، وفعلٌ لا يجمعُ على أفْعِلاء ، فأما هَيِّنٌ وليِّنٌ ، فأصلُه : هَيِينٌ ولَيِينٌ ، فجُمِعَ على أفعلاء ، كما يُجْمَعُ فَعِيلٌ على أفعلاء ؛ مثل : نَصِيب وأنْصِبَاء " قال شهاب الدين : وهذا غريبٌ جدًّا ، أعني كونه جعل أنَّ أصلَ " هيِّن " " هَيِين " بزنة فعيلٍ ، وكذا ليِّنٌ ولَيِينٌ ، ولذلك صرح بتشبيههما بنصيبٍ ، والناسُ يقولون : إنَّ هَيِّناً أصله هَيْونٌ ، كميِّتٍ أصله مَيْوتٌ ، ثم أعِلَّ الإعلال المعروف ، وأصل ليِّنٍ : لَيْينٌ بياءين ، الأولى ساكنة والثانية مكسورةٌ ، فأدغمتِ الأولى ، والاشتقاقُ يساعدُهم ؛ فإن الهيِّنَ من هانَ يَهُونُ ، ولأنَّهم حين جمعوه على أفعلاء أظْهَرُوا الواو ، فقالوا : أهْوِنَاء . وقال الزجَّاج{[12668]} : " إنَّ المازنيَّ ناظر الأخفش في هذه المسألة ، فقال له : كيف تُصَغِّرُ أشْيَاء ؟ قال : أقول فيها أُشيَّاء . فقال المازنيُّ : لو كانت أفعالاً ، لرُدَّتْ في التصغير إلى واحدهَا ، وقيل : شُيَيْئَات ، مثل شُعَيْعات ، وإجماعُ البصريِّين أن تصغير " أصدقَاء " إن كان لمؤنث " صُدَيِّقَات " ، وإن كان لمذكر : " صُدَيقُونَ " فانقطع الأخْفَشُ " ، وبَسْطُ هذا أنَّ الجمع المُكَسَّرَ ، إذا صُغِّرَ : فإمَّا أن يكون من جموع القلَّة ، وهي أربعٌ على الصحيح : أفْعِلَةٌ وأفْعُل وأفْعَالٌ وفِعْلَةٌ ، فيُصَغَّرُ على لفظه ، وإن كان من جموع الكثرة فلا يُصغَّر على لفظه على الصحيح ، وإنْ وردَ منه شيءٌ ، عُدَّ شَاذًّا ك " أصَيْلان " تصغير " أصْلاَن " جمع " أصيل " ، بل يُرَدُّ إلى واحده ؛ فإن كان من غير العقلاء ، صُغِّرَ وجُمِعَ بالألف والتاء ، فتقول في تصغير حُمُرٍ جمع حِمارٍ : " حُمَيْرات " ، وإن كان من العقلاء صُغِّرَ وجمع بالواو والنون ، فتقول في تصغير " رِجَال " : " رُجَيْلُونَ " ، وإن كان اسم جمعٍ ك " قَوْم " و " رَهْط " أو اسم جنسٍ ، ك " قَمَر " و " شَجَر " صُغِّر على لفظه كسائر المفردات ، رجعنا إلى " أشْيَاء " ، فتصغيرُهم لها على لفظها يَدُلُّ على أنها اسمُ جمع ؛ لأنَّ اسم الجمع يُصَغَّر على لفظه ، نحو : " رُهَيْط " و " قُوَيْم " ، وليست بجمعِ تكسيرٍ ؛ إذ هي من جموعِ الكثرة ، ولم تُرَدَّ إلى واحدها ، وهذا لازمٌ للأخفشِ ؛ لأنه بصريٌّ ، والبصريُّ لا بدَّ وأن يفعل ذلك ، وأصَيْلان عنده شاذٌ ، فلا يقاسُ عليه ، وفي عبارة مَكِّيٍّ قال{[12669]} : " وأيضاً فإنه يلزمُهُم أن يُصَغِّروا " أشْيَاء " على " شُوَيَّات " ، أو على " شُيَيْئَات " ، وذلك لم يَقُلْه أحد " . قال شهاب الدين{[12670]} : قوله " شُوَيَّات " ليس بجيِّد ؛ فإن هذا ليس موضع قلب الياء واواً ، ألا ترى أنك إذا صغَّرْتَ بيتاً ، قلت : بُيَيْتاً لا بُوَيْتاً ، إلاَّ أنّ الكوفيِّين يُجيزُونَ ذلك ، فيمكنُ أن يُرَى رأيهم ، وقد ردَّ مكيٌّ{[12671]} أيضاً مذهب الفراء والأخفش بشيئين :

أحدهما : أنه يلزمُ منه عدمُ النظير ؛ إذ لم يقع " أفْعِلاء " جمعاً ل " فَيْعِل " فيكون هذا نظيرهُ ، وهَيِّن وأهْوِنَاء شاذٌّ لا يقاس عليه .

والثاني : أن حذفه واعتلاله مُجْرى على غير قياسٍ ، فهذا القولُ خارجٌ في جمعه واعتلاله عن القياس والسَّماع .

المذهب الرابع - وهو قول الكسائي وأبي حاتم - : أنها جمعُ شيءٍ على أفعالٍ ك " بَيْتٍ " و " أبْيَاتٍ " و " ضَيْفٍ " و " أضْيَافٍ " ، واعترض الناس هذا القول ؛ بأنه يلزم منه منعُ الصرفِ بغير علته ؛ إذ لو كان على " أفْعَال " ، لانصرفَ كأبْيَاتٍ ، قال الزجَّاج{[12672]} " أجمع البصريُّون وأكثر الكوفيِّين على أن قول الكسائيِّ خطأٌ ، وألزموه ألاَّ يصرفَ أنْبَاء وأسْمَاء " . قال شهاب الدين{[12673]} : والكسائيُّ قد استشعر بهذا الردِّ ، فاعتذر عنه ، ولكن بما لا يُقْبَلُ ، قال الكسائيُّ - رحمه الله - : " هي - أي أشياء - على وزن أفعالٍ ، ولكنها كَثُرَتْ في الكلام ، فأشبهَتْ فعلاء ، فلم تُصْرَف كما لم يُصْرَفْ حَمْرَاء " ، قال : " وجَمَعُوهَا أشَاوَى ، كما جمعوا عذرَاء وعَذارَى ، وصَحْرَاء وصَحَارى ، وأشْيَاوَات كما قيل حَمْرَاوَات " ، يعني أنهم عاملوا " أشْيَاء " ، وإن كانت على أفعالٍ معاملةَ حَمْرَاء وعَذْرَاء في جمعي التكسير والتصحيح ، إلا أن الفرَّاء والزجَّاج اعترضا على هذا الاعتذار ، فقال الفرَّاء{[12674]} : " لو كان كما قال ، لكان أملكَ الوجهين أنْ تُجْرَى ؛ لأن الحرْفَ إذا كَثُرَ في الكلام ، خَفَّ وجاز أن يُجْرَى كما كَثُرَتِ التسميةُ ب " يَزِيدَ " ، وأجروه في النَّكرة ، وفيه ياءٌ زائدةٌ تَمْنَعُ من الإجراء " . والمراد بالإجراء الصرْفُ ، وقال الزجَّاج : " أجمع البصريون وأكثر الكوفيِّين " وقد تقدَّم آنفاً ، وقال مكي{[12675]} : وقال الكسائيُّ وأبو عُبَيْد : لم تَنْصَرِفْ - أي أشياء - ؛ لأنها أشبهت " حَمْرَاء " ؛ لأن العرب تقول : " أشْيَاوَات " كما تقول : " حَمْرَاوَات " قال : " ويلزمُهما ألاَّ يَصْرِفَا في الجمْعِ أسْمَاء وأبْنَاء لقول العرب فيهما : أسْمَاوَات وأبْنَاوَات " ، وقد تقدَّم شرح هذا ، ثم إنَّ مَكِّيًّا - رحمه الله - بعد أن ذكر عن الكسائيِّ ما تقدَّم ، ونقل مذهب الأخفشِ والفرَّاء ، قال : " قال أبو حاتم : أشياء أفعال جمع شَيءٍ كأبياتٍ " فهذا يُوهِمُ أن مذهب الكسائيِّ المتقدِّمَ غيرُ هذا المذهب ، وليس كذلك ، بل هو هو ، وقد أجاب بعضهم عن الكسائيِّ بأن النحويِّين قد اعتبروا في باب ما لا يَنصرِفُ الشبه اللفظيَّ ، دون المعنويَّ ، يَدُلُّ على ذلك مسألةُ " سَراويلَ " في لغةِ مَنْ يمنعُه ؛ فإنَّ فيه تأويليْن : أحدهما : أنه مفردٌ أعجميٌّ ، حُمِلَ على مُوازنِهِ في العربيَّة ، أي صيغة مصابيح مثلاً ؛ ويدُلُّ له أيضاً أنهم أجروا ألف الإلحاقِ المقْصُورة مُجْرَى ألف التأنيث المقْصُورة ، ولكن مع العلميَّة ، فاعتبروا مُجَرَّدَ الصُّورة .

المذهب الخامس : أنَّ وزنها " أفْعِلاء " أيضاً جَمْعاً ل " شَيئٍ " بزنة " ظَرِيفٍ " ، وفعيلٌ يجمع على أفْعِلاء ، ك " نَصِيبٍ وأنْصِبَاء " ، و " صَديقٍ وأصْدِقَاء " ، ثم حُذِفت الهمزة الأولى التي هي لامُ الكلمة ، وفُتحتِ الياءُ ؛ لتسلمَ ألفُ الجمع ؛ فصارت أشياء ، ووزنُها بعد الحذف أفْعَاء ، وجعله مَكِّيٌّ{[12676]} في التصريف كتصريف [ مذهب ] الأخفشِ ؛ من حيث إنه تُبْدَلُ الهمزة ياءً ، ثم تُحْذفُ إحدى الياءين ، قال - رحمه الله - : " وحَسَّنَ الحذفَ في الجمع حَذْفُها في الواحد ، وإنما حُذِفَتْ من الواحد ؛ تخفيفاً لكثرة الاستعمال ؛ إذ " شَيْء " يقعُ على كل مُسَمًّى من عرضٍ ، أو جوهرٍ ، أو جسمٍ ، فلم ينصرفْ لهمزةِ التأنيثِ في الجمع " ، قال : " وهذا قولٌ حسنٌ جارٍ في الجَمْعِ ، وتُرِكَ الصرفُ على القياس ، لولا أنَّ التصغير يعترضُهُ ، كما اعترض الأخْفَش " . قال شهاب الدين{[12677]} : قوله " هذا قول حسن " ، فيه نظر ؛ لكثرة ما يَرِدُ عليه ، وهو ظاهر ممَّا تقدَّم ، ولمَّا ذكر أبو حيان هذا المذهب ، قال في تصريفه : " ثمَّ حذفتِ الهمزة الأولى ، وفتحت ياءُ المدِّ ؛ لكون ما بعدها ألفاً " ، قال : وَزْنُهَا في هذا القولِ إلى " أفْيَاء " ، وفي القول قبله إلى " أفْلاء " ، كذا رأيته " أفْيَاء " ، بالياء ، وهذا غلطٌ فاحشٌ ، ثم إنِّي جوَّزتُ أن يكون هذا غلطاً عليه من الكاتبِ ، وإنما كانت " أفْعَاء " بالعين ، فصحَّفها الكاتب إلى " أفْيَاء " ، وقد ردَّ الناس هذا القول : بأنَّ أصل شَيْء : " شَيِيءٌ " بزنة " صديقٍ " دعوى من غير دليل ، وبأنه كان ينبغي ألاَّ يُصَغَّر على لفظه ، بل يُرَدُّ إلى مفرده ؛ كما تقدم تحريره .

وقد تلخص القول في " أشْيَاء " : أنها هَلْ هي اسمُ جمعٍ ، وأصلها " شَيْئَاء " ؛ كطَرْفَاء ، ثم قُلِبت لامُها قبل فائِها ، فصار وزنُها " لَفْعَاء " أو جمعٌ صريحٌ ؟ وإذا قيل بأنها جمعٌ صريحٌ ، فهل أصلها " أفْعِلاء " ثم تحذفُ ، فتصير إلى " أفْعَاء " أو " أفْلاَء " ، أو أنَّ وزنها " أفْعَال " ؛ كأبْيَات .

قوله تعالى : " إنْ تُبْدَ " شرط ، وجوابه " تَسُؤكُمْ " ، وهذه الجملة الشرطية في محلِّ جرِّ صفةً ل " أشْيَاء " ، وكذا الشرطيَّة المعطوفة أيضاً ، وقرأ ابن عبَّاس{[12678]} : " إنَّ تَبْدُ لَكُمْ تَسُؤكُمْ " ببناء الفعليْنِ للفاعلِ ، مع كون حرف المضارعةِ تاءً مثنَّاةً من فوقُ ، والفاعل ضميرُ " أشْياء " ، وقرأ الشعبي{[12679]} - فيما نقله عنه أبو محمَّد بن عطيَّة : " إنْ يَبْدُ " بفتح الياء من تحتُ ، وضم الدال ، " يَسُؤكُمْ " بفتح الياء من تحتُ ، والفاعل ضميرٌ عائدٌ على ما يليق تقديره بالمعنى ، أي : إنْ يَبْدُ لكُمْ جوابُ سؤالكُمْ أو سُؤلُكُمْ ، يَسُؤكُمْ ، ولا جائزٌ أن تعود على " أشْيَاء " ؛ لأنه جارٍ مجرَى المؤنَّث المجازيِّ ، ومتى أسند فعلٌ إلى ضمير مؤنَّثٍ مطلقاً ، وجبَ لَحَاقُ العلامة على الصحيح ، ولا يُلتفتُ لضرورة الشعر ، ونقل غيره عن الشعبيِّ ؛ أنه قرأ{[12680]} : " يُبْدَ لَكُمْ يَسُؤكُمْ " بالياء من تحت فيهما ، إلا أنه ضمَّ الياء الأولى وفتح الثانية ، والمعنى : إن يُبْدَ - أي يُظْهَر - السؤالُ عَنْهَا ، يَسُؤكُمْ ذلك السُّؤالُ ، أي : جوابُهُ ، أو هُوَ ؛ لأنه سببٌ في ذلك والمُبْدِيه هو اللَّهُ تعالى ، والضميرُ في " عَنْهَا " يحتمل أن يعود على نوعِ الأشياءِ المنهِيِّ عنها ، لا عليها أنفسها ، قاله ابن عطيَّة{[12681]} ، ونقله الواحديُّ عن صاحب " النَّظمِ " ، ونظَّرهُ بقوله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } [ المؤمنون : 12 ] يعني آدم ، " ثُمَّ جعلْنَاهُ " قال " يعني ابنَ آدَمَ " فعاد الضميرُ على ما دلَّ عليه الأول ، ويحتملُ أن يعود عليها أنْفُسِها ، قاله الزمخشريُّ{[12682]} بمعناه .

قوله : { حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ } في هذا الظرفِ احتمالان :

أظهرهما : أنه منصوبٌ ب " تسْألُوا " ، قال الزمخشريُّ : " وإنْ تَسْألُوا عنها : عن هذه التكاليفِ الصعبةِ ، حين يُنَزَّلُ القرآنُ : في زمانِ الوحي ، وهو ما دام الرسولُ بين أظْهُرِكُمْ يُوحَى إليه تَبْدُ لكم تلك التكاليفُ التي تَسُؤكُمْ وتُؤمَرُوا بتحمُّلِها ، فَتُعَرِّضُوا أنفسكُمْ لِغَضَبِ اللَّهِ ؛ لتفريطكم فيها " ، ومن هنا قلنا : إنَّ الضمير في " عَنْهَا " عائدٌ على الأشياءِ الأولِ ، لا على نوعها .

والثاني : أنَّ الظرف منصوبٌ ب " تُبْدَ لَكُمْ " ، أي : تَظْهَرْ لكم تلك الأشياءُ حين نُزُولِ القرآنِ ، قال بعضهم : " في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ ؛ لأنَّ التقدير : عن أشياءَ ، إنْ تُسْألوا عَنْهَا ، تُبْدَ لكم حين نُزولِ القرآنِ ، وإن تُبْدَ لَكُمْ ، تَسُؤكُمْ " ، ولا شك أن المعنى على هذا الترتيب ، لا أنه لا يقالُ في ذلك تقديمٌ وتأخيرٌ ، فإنَّ الواو لا تقتضي ترتيباً ، فلا فرق ، ولكن إنما قُدِّم هذا أولاً على قوله : " وإنْ تَسْألُوا " ؛ لفائدةٍ ، وهي الزجرُ عن السؤالِ ؛ فإنه قدَّم لهم أنَّ سؤالهم عن أشياء متى ظهرتْ ، أساءتهم قبل أن يُخْبِرَهم بأنهم إنْ سألُوا عنها ، بدتْ لهم لينزجرُوا ، وهو معنًى لائقٌ .

قوله : { عَفَا الله عَنْهَا } فيه وجهان :

أحدهما : أنه في محلِّ جرٍّ ؛ لأنه صفةٌ أخرى ل " أشياء " ، والضميرُ على هذا في " عَنْهَا " يعود على " أشْيَاء " ، ولا حاجة إلى ادِّعاء التقديم والتأخيرِ في هذا ؛ كما قاله بعضهم ، قال : " تقديرُه : لا تَسْألُوا عن أشْيَاءَ عفا الله عَنْهَا إنْ تُبْدَ لَكُمْ إلى آخر الآية " ؛ لأنَّ كلاًّ من الجملتين الشرطيَتَيْنِ وهذه الجملة صفةٌ ل " أشْيَاء " ، فمِنْ أين أنَّ هذه الجملةَ مستحقةٌ للتقديمِ على ما قبلها ؟ وكأنَّ هذا القائل إنَّما قدَّرَها متقدِّمةً ؛ ليتضحَ أنها صفةٌ لا مستأنفةٌ .

والثاني : أنها لا محلَّ لها ؛ لاستئنافها ، والضميرُ في " عَنْهَا " على هذا يعودُ على المسألةِ المدُلولِ عليها ب " لا تَسْألُوا " ، ويجوزُ أنْ تعودَ على " أشْيَاء " ، وإنْ كان في الوجه الأولِ يتعيَّن هذا ؛ لضرورةِ الربطِ بين الصفةِ والموصوف .

فصل في سبب نزول الآية

في سببِ نزولِ الآية : ما روى [ قتادة ]{[12683]} عن أنسْ : " سألوا رسُول الله صلى الله عليه وسلم حتَّى أحفوه بالمسْئَلَةِ{[12684]} ، فغضِبَ فصَعَد المِنْبَر ، قال : " لا تَسْألونِي اليَوْمَ عن شَيْءٍ إلاَّ بَيَّنْتُهُ لكم " ، فجعلتُ أنظر يميناً وشمالاً ، فإذا كلّ رَجُل لاف رأسَهُ في ثوبِه يَبكِي ، فإذا [ رَجُلٌ ]{[12685]} كان [ إذا ]{[12686]} لاقى الرِّجالَ يُدْعَى لغير أبيه ، فقال : يا رسُول اللَّهِ ، من أبِي ؟ قال : " حُذافَةُ " ، ثم أنشأ عُمر - رضي الله عنه - فقال : رضينا باللَّه رَبًّا وبالإسْلام ديناً ، وبمُحَمَّدٍ رسُولاً ، نعوذُ باللَّه من الفِتَنِ ، فقال رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " ما رأيتُ في الخَيْرِ والشَّرِّ كاليَوْمِ قَطّ ، إنه صُوِّرتْ لي الجنَّةُ والنَّارُ حتَّى رَأيْتُهُمَا ورَاءَ الحَائِطِ " وكان قتادةُ يَذْكُر عِنْدَ هذا الحديثِ هذه الآية{[12687]} .

وقال يونُسُ عن [ ابن ]{[12688]} شهابٍ : أخْبَرَنِي عُبَيْد الله بن عبد الله قال : قالتْ أمُّ عبد الله بن حُذافةَ لعبد الله بن حُذافَة : ما سمعت بابْن قَطُّ أعقَّ{[12689]} منك أأمنت أن تكُونَ أمُّكَ قد فارقت بعْضَ ما يُفارق نساء الجاهليَّةِ ، فتَفْضَحَهَا على أعْيُنِ النَّاسِ ؟ قال عبد الله بن حُذَافة : " واللَّهِ لَوْ ألْحَقَنِي بعبْدٍ أسْوَد [ لَلَحِقْتُه ]{[12690]} " {[12691]} .

ورُوِيَ أنَّ عُمَر قال : " يا رسُول الله ، أنا حَدِيثُ عَهْدٍ [ بجاهلية ]{[12692]} ، فاعفُ عنَّا يَعْفُ اللَّهُ عَنْكَ ، فسكَنَ غَضَبُهُ " .

وروى ابْنُ عبَّاسٍ قال : كان قومٌ يَسْألُون رسُول الله صلى الله عليه وسلم استهْزَاءً ، فيقول الرجل مَنْ أبِي ؟ ويقولُ الرَّجُلُ تَضِلُّ نَاقَتُهُ أين نَاقَتِي ؟ فأنْزَلَ اللَّهُ تعالى هذه الآية{[12693]} .

ورُوِيَ عن عَلِيٍّ بن أبِي طالبٍ - رضي الله عنه - قال : لمَّا نزلت { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } [ آل عمران : 97 ] ، قال سُرَاقَةُ بن مالكٍ :- " ويروى عكاشَةُ بن محصن - يا رسُول اللَّهِ أفي كُلِّ عامٍ ؟ فأعْرَضَ عنهُ ، فعاد مَرَّتَيْنِ أوْ ثلاثاً ، فقال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم " مَا يُؤمنكَ أنْ أقُولَ : نَعَمْ ، واللَّهِ لو قُلْتُ : نَعَمْ لوَجَبَتْ ، وَلَو وَجَبَتْ ما استطعْتُم ، فاتْركُوُنِي ما تَرَكْتُكُمْ ، فإنَّمَا هَلَكَ مَنْ كان قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤالِهِم ، واخْتِلافِهِم على أنْبِيَائِهم ، فإذا أمَرْتُكُمْ بأمْرٍ فأتُوا مِنْهُ ما اسْتَطعْتُمْ ، وإذا نَهَيْتُكُم عَنْ شيءٍ فَاجْتَنِبُوهُ " {[12694]} " فأنْزَل اللَّهُ هذه الآية .

فإنَّ من سألَ عن الحَجِّ لَمْ يَأمَنْ أنْ يُؤمَرَ به في كُلِّ عامٍ فَيَسُوؤهُ{[12695]} ، ومن سألَ عن نَسَبِهِ لمْ يَأمَنْ أن يُلْحِقَه بِغيرِهِ ، فَيَفْتَضِحَ .

وقال مُجَاهِد : نزلت حين سَألُوا رسُول اللَّهَ صلى الله عليه وسلم عن البحيرةِ ، والسَّائِبةِ ، والوصِيلَةِ ، والْحَامِ ، ألا تَرَاهُ ذكرهَا بَعْدَ ذَلِكَ{[12696]} .

وكان عُبَيْد اللَّهِ بن عُمَيْر{[12697]} يقول : إنْ اللَّهَ إنْ أحَلَّ أحِلُّوا ، وإن حرَّمَ اجْتَنِبُوا{[12698]} ، ولو تَرَكَ بين ذلك أشياءَ لم يُحَلِّلْهَا ولمْ يُحَرِّمها ، فذلك عَفْوٌ من اللَّهِ ، ثمَّ يَتْلُو هذه الآية .

وقال أبُو ثَعْلَبَة الخشني{[12699]} : إنَّ اللَّه تعالى بيَّنَ في الآية الأولى فرضَ فرائِضَ فلا تُضَيِّعُوهَا ، ونَهَى عن أشياء فلا تَنْتَهِكُوهَا ، وحَدَّ حُدُوداً فلا تَعْتَدُوها ، وعَفَا عن أشْيَاءَ من غير نِسْيَانٍ فلا تَبْحَثُوا عنها ، ثم إنَّ تلك الأشياء التي سألُوا عنها ظهر لهم ما يسوؤهم .

وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - : " إن من أعْظَمِ المُسْلِمين في المُسْلِمين جُرْماً ، من سألَ عن شَيْءٍ لَمْ يُحرَّم فَحُرِّم من أجْلِ مَسْألَتِهِ " {[12700]} .

وقوله : { وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ } معناه : إن صَبَرْتُمْ حتَّى [ ينزل ]{[12701]} القرآنُ بحكم من فرضٍ أو نهيٍ ، وليسَ في ظاهرهِ شَرْح ما بكم فيه حَاجَةٌ ، ومَسَّتْ حَاجَتُكُمْ إليه ، فإذَا سَألْتُم عَنْهَا حينئذْ تُبْدَ لَكُم { عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } .

واعلم أنَّ السُّؤالَ على قسمَيْن :

أحدهما : السُّؤالُ عن شَيْءٍ لَمْ يَجْرِ ذكْرُه في الكتابِ والسُّنَّة بوجه من الوُجُوه ، فهذا السُّؤالُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لهذه الآية .

والقسم الثاني : السُّؤال عن شيء نزل به القُرآنُ ، لكنَّ السَّامِع لَمْ يَفْهَمْهُ كما يَنْبَغِي ، فَههُنَا يَجِبُ السُّؤالُ عنه ، وهُوَ مَعْنَى قوله : { وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ } .

والفائِدَةُ في ذِكْرِ هذا القسْمِ ؛ أنَّه لما منعَ في الآيَةِ الأولَى من السُّؤالِ ، أوْهَمَ أنَّ جَمِيع أنْوَاع السُّؤال مَمْنُوع منه ، فذكرَ ذلك تَمْيِيزاً لهذا القِسْمِ عن ذَلِكَ .

فإن قيل : قوله : { وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا } ، هذا الضَّمِيرُ عائدٌ إلى الأشياء المذكُورَة في قوله : { لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ } ، فكيف يُعقلُ في " أشْياء " بأعْيَانِهَا أن يكون السُّؤال عنهَا مَمْنُوعاً وجَائِزاً معاً ؟ .

فالجوابُ من وَجْهَيْن :

الأول : جاز أن يكون السُّؤالُ عنها مَمْنُوعاً قَبْلَ نُزُولِ القُرْآنِ بِهَا ، ومأمُوراً بها بَعْدَ نُزُولِ القُرْآنِ بها .

الثاني : أنَّهُمَا وإن كانا نَوْعَيْن مُخْتلِفَين ، إلاَّ أنَّهُمَا في كوْنِ كلِّ منهما واحدٌ مَسْؤولٌ عنه شَيْءٌ واحِدٌ ، فلهذا الوجه حَسُنَ اتِّحَاد الضَّمِير ، وإن كان في الحَقيقَةِ نَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْن .

فإن قيل : ما ذكر من كراهةِ السُّؤالِ والنَّهْي عنْهُ يُعَارِضُهُ قوله تعالى : { فَسْئَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [ الأنبياء : 7 ] فالجواب : هذا الذي أمَرَ اللَّهُ به عِبَادَهُ ، هو ما تَقرَّرَ وثَبَتَ وُجُوبُهُ ، مِمَّا يَجِبُ عليهم العملُ به ، والَّذِي نَهَى عنه هو ما لَمْ يَقْصِد اللَّهُ به عِبَاده ، ولم يَذْكُرْهُ في كِتَابِهِ .


[12657]:سقط في أ.
[12658]:ينظر: الكتاب 2/379.
[12659]:البيت للأجدع بن مالك. ينظر: المقتضب 1/140، المنصف 2/57، اللسان "شزن" الدر المصون 2/615، ويروى "صرعاها" بدل "أولاها".
[12660]:ينظر تفسير الفخر الرازي 12/87.
[12661]:في ب: دون بعض المذاهب.
[12662]:ينظر: معاني القرآن 1/321.
[12663]:ينظر: المشكل 1/247.
[12664]:ينظر: الإملاء 1/227.
[12665]:ينظر: المشكل 1/247.
[12666]:ينظر: الإملاء 1/227.
[12667]:ينظر: معاني القرآن 3/233.
[12668]:ينظر: معاني القرآن 2/234.
[12669]:ينظر: المشكل 1/247.
[12670]:ينظر: الدر المصون 2/617.
[12671]:ينظر: المشكل 1/247.
[12672]:ينظر: معاني القرآن 2/233.
[12673]:ينظر: الدر المصون 2/617.
[12674]:ينظر: معاني القرآن 1/321.
[12675]:ينظر: المشكل 1/246.
[12676]:ينظر: المشكل 1/248.
[12677]:ينظر: الدر المصون 2/618.
[12678]:وقرأ بها مجاهد كما في المحرر الوجيز 2/246، والبحر المحيط 4/35، وينظر: الدر المصون 2/618.
[12679]:ينظر: المحرر الوجيز 2/246.
[12680]:وهو أبو حيان الأندلسي الذي نقل هذه القراءة عن الشعبي في البحر المحيط 4/35، وينظر الدر المصون 2/618.
[12681]:ينظر: المحرر الوجيز 2/246.
[12682]:ينظر: الكشاف 1/683.
[12683]:سقط في أ.
[12684]:في أ: أخروه المسألة.
[12685]:سقط في أ.
[12686]:سقط في ب.
[12687]:أخرجه الطبري (5/81) وذكره السيوطي في "الدر المنثور"(2/591) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق قتادة عن أنس.
[12688]:سقط في أ.
[12689]:في أ: أغلق.
[12690]:سقط في أ.
[12691]:ذكره القرطبي في "تفسيره"(6/213).
[12692]:سقط في أ.
[12693]:أخرجه البخاري(8/130) كتاب التفسير باب قوله تعالى: {لا تسألوا عن أشياء عن تبد لكم} حديث(4622) والطبري (5/81) عن ابن عباس. وذكره السيوطي في "الدر المنثور"(2/591) وزاد نسبته لابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه.
[12694]:تقدم.
[12695]:في أ: فيسره.
[12696]:أخرجه الطبري في "تفسيره"(5/85) عن ابن عباس وذكره السيوطي في "الدر المنثور"(2/593) وزاد نسبته لسعيد بن منصور وابن المنذر وأبي الشيخ وابن مردويه من طريق خصيف عن مجاهد عن ابن عباس.
[12697]:ينظر: الفخر الرازي 12/88.
[12698]:ذكره الرازي في "تفسيره"(12/88).
[12699]:ينظر: المصدر السابق.
[12700]:أخرجه مسلم كتاب الفضائل(132) وأبو داود(4610) والطحاوي في "مشكل الآثار"(2/212).
[12701]:سقط في أ.