فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَسۡـَٔلُواْ عَنۡ أَشۡيَآءَ إِن تُبۡدَ لَكُمۡ تَسُؤۡكُمۡ وَإِن تَسۡـَٔلُواْ عَنۡهَا حِينَ يُنَزَّلُ ٱلۡقُرۡءَانُ تُبۡدَ لَكُمۡ عَفَا ٱللَّهُ عَنۡهَاۗ وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٞ} (101)

{ يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم . . } الآية ؛ وروى البخاري-رحمه الله- في صحيحه عن أنس حديثا عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وفيه : " فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا' فقام إليه رجل فقال : أين مدخلي يا رسول الله ؟ قال : " النار " ؛ فقام عبد الله بن حذافة فقال : من أبي يا رسول الله ؟ فقال : " أبوك حذافة " وذكر الحديث ( {[1889]} ) ؛ وروى مسلم في صحيحه عن المغيرة بن شعبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :

" إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنعا وهات وكره لكم ثلاثا قيل قال وكثرة السؤال وإضاعة المال " - قال جماعة من العلماء : المراد بقوله : " وكثرة السؤال " التكثير من السؤال في المسائل الفقهية تنطعا ، وتكلفا فيما لم ينزل ، والأغلوطات وتشقيق المولدات ، . . . قال مالك : أدركت أهل هذا البلد وما عندهم علم غير الكتاب والسنة ، فإذا نزلت نازلة جمع الأمير من حضر من العلماء ، فما اتفقوا عليه أنفذه ، وأنتم تكثرون المسائل وقد كرهها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وذهب قوم إلى تحريم أسئلة النوازل ، لكن الآية مصرحة بأن السؤال المنهي عنه إنما كان فيما تقع المساءة في جوابه ، ولا مساءة في جواب نوازل الوقت فافترقا ؛ لكن بعض السلف قد كان يكرهها إذا لم تكن قد وقعت ، فكان عمر رضي الله عنه يلعن من سأل عما لم يكن ، ونقل عن زيد بن ثابت أنه كان يقول إذا سئل عن الأمر : أكان هذا ؟ فإن قالوا : نعم قد كان حدث فيه بالذي يعلم ، وإن قالوا : لم يكن قال : فذروه حتى يكون ، وعن عمار بن ياسر وقد سئل عن مسألة فقال : هل كان هذا بعد ؟ قالوا : لا ؛ قال : دعونا حتى يكون ، فإذا كان تجشمناها لكم ؛ وعن ابن عباس قال : ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما سألوه عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض ، كلهن في القرآن ؛ منهم : ( ويسألونك عن الشهر الحرام . . ) ( {[1890]} ) ، ( ويسألونك عن المحيض . . ) ( {[1891]} ) ، وشبهه ، ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم ؛ قال ابن عبد البر : السؤال اليوم لا يخاف منه أن ينزل تحريم ولا تحليل من أجله ، فمن سأل مستفهما راغبا في العلم ونفي الجهل عن نفسه ، باحثا عن معنى يجب الوقوف في الديانة عليه ، فلا بأس به ، فشفاء العي ( {[1892]} ) السؤال ؛ ومن سأل متعنتا غير متفقه ولا متعلم فهو الذي لا يحل قليل سؤاله ولا كثيره ( {[1893]} ) .

{ وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم } قال الجرجاني : الكناية في { عنها } ترجع إلى أشياء أخر ؛ كقوله تعالى : ( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ) ( {[1894]} يعني آدم ، ثم قال : ( ثم جعلناه نطفة . . ) ( {[1895]} ) أي : ابن آدم ، لم يجعل نطفة في قرار مكين ، لكن لما ذكر الإنسان وهو آدم دل على إنسان مثله ، وعرف ذلك بقرينة الحال ؛ فالمعنى : وإن تسألوا عن أشياء حين ينزل القرآن من تحليل أو تحريم أو حكم ، أو مست حاجتكم إلى التفسير ، فإذا سألتم فحينئذ تبد لكم ؛ فقد أباح هذا النوع من السؤال ، ومثله : أنه بين عدة المطلقة والمتوفى عنها زوجها والحامل ، ولم يجر ذكر عدة التي ليست بذات قرء ولا حامل ، فسألوا عنها فنزل : ( واللائي يئسن من المحيض . . ) ( {[1896]} ) فالنهي إذا في شيء لم يكن بهم حاجة إلى السؤال فيه ؛ فأما ما مست الحاجة إليه فلا . ا ه .

{ عفا الله عنها والله غفور حليم } تجاوز سبحانه عنها فلم يحرمها ولم يبين حلها فهي معفو عنها ، أو تجاوز عز شأنه عما سلف من أمور قد خلت ، كالذي كانوا يسألون عنه من أمور الجاهلية وما جرى مجراه ؛ { والله غفور حليم }- والله ساتر ذنوب من تاب منها فتارك أن يفضحه في الآخرة { حليم } أن يعاقبه بها لتغمده التائب منها برحمته وعفوه عن عقوبته عليها ؛ . .


[1889]:وفي رواية: قالت له أمه ما قد سمعت بابن أعق منك أأمنت أن تكون أمك قارفت مثل ما يقارف نساء الجاهلية فتفضحها على أعين الناس ؟ فقال: والله لو ألحقني بعبد أسود للحقت به. وروى الترمذي والدارقطني عن علي رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية:(..ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا..) قالوا يا رسول الله، أفي كل عام ؟ فسكت فقالوا: أفي كل عام ؟ قال:" لو قلت نعم لوجبت" فأنزل الله تعالى:{ يأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم..} إلى آخر الآية وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" يأيها الناس كتب عليكم الحج" فقام رجل فقال: في كل عام يا رسول الله ؟ فقال:" ومن القائل"؟ قالوا: فلان. قال:" والذي نفسي بيده لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما أطقتموها ولو لم تطيقوها لكفرتم"* فأنزل الله تعالى:{يأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم..}. ذلك أن القرآن الحكيم قد بين أن المولى تقدست أسماؤه قد شرع أن يحج المستطيع، فإن تولى فقد كفر النعمة وجحدها، {..ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين}. * إذ قد بين القرآن الحكيم أن المولى تقدست أسماؤه قد شرِعَ أن يحج المستطيع، فأن تولى فقد جحد النعمة(..ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين. وقال الحسن البصري في هذه الآية: سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أمور الجاهلية التي عفا الله عنها، ولا وجه للسؤال عما عفا عنه؛ وقيل: المراد بكثرة المسائل: السؤال عما لا يعني من الأحوال الناس، بحيث يؤدي ذلك إلى كشف عوراتهم والاطلاع على مساوئهم؛ قال ابن خويز منداد: قال بعض أصحابنا: متى يقدم إليه الطعام لم يسأل عنه: من أين هذا ؟ وعرض عليه شيء يشتريه، لم يسأل! من أين هو حمل أمور المسلمين على السلامة والصحة لكن صاحب الجامع لأحكام القرآن يقول ما حاصله، والأولى الحمل على العموم فيتناول جميع تلك الوجوه، ا هـ وروى الدارقطني عن أبي ثعلبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال" إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها وحرم حرمات فلا تنتهكوها وحد حدودا فلا تعتدوها وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها.
[1890]:من سورة البقرة. من الآية 217.
[1891]:من سورة البقرة. من الآية 222.
[1892]:الجهل.
[1893]:قال ابن العربي: الذي ينبغي للعالم أن يشتغل به هو بسط الأدلة، وإيضاح سبل النظر، وتحصيل مقدمات الاجتهاد، وإعداد الآلة المعينة على الاستمداد؛ فإذا عرضت نازلة أتيت من بابها ونشدت من مظانها، والله يفتح في صوابها.
[1894]:من سورة (المؤمنون). الآية 12.
[1895]:من سورة (المؤمنون) .من الآية 13.
[1896]:من سورة الطلاق. من الآية 4.