قوله تعالى : { وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون* أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } قال ابن عباس والحسن وقتادة : معناه ذلك الكافر اتخذ دينه ما يهواه ، فلا يهوى شيئاً إلا ركبه ؛ لأنه لا يؤمن بالله ولا يخافه ، ولا يحرم ما حرم الله . وقال آخرون : معناه اتخذ معبوده هواه فيعبد ما تهواه نفسه . قال سعيد بن جبير : كانت العرب يعبدون الحجارة والذهب والفضة ، فإذا وجدوا شيئاً أحسن من الأول رموه أو كسروه ، وعبدوا الآخر . قال الشعبي : إنما سمي الهوى ؛ لأنه يهوي بصاحبه في النار . { وأضله الله على علم } منه بعاقبة أمره ، وقيل على ما سبق في علمه أنه ضال قبل أن يخلقه ، { وختم } طبع ، { على سمعه } فلم يسمع الهدى ، { وقلبه } فلم يعقل الهدى ، { وجعل على بصره غشاوةً } قرأ حمزة والكسائي : " غشوة بفتح الغين وسكون الشين ، والباقون ( غشاوة ) ظلمة فهو لا يبصر الهدى ، { فمن يهديه من بعد الله } أي : فمن يهديه بعد أن أضله الله ، { أفلا تذكرون* }
وإلى جوار هذا الأصل الثابت يشير إلى الهوى المتقلب . الهوى الذي يجعل منه بعضهم إلها يتعبده ، فيضل ضلالا لا اهتداء بعده ، والعياذ بالله :
( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ، وأضله الله على علم ، وختم على سمعه وقلبه ، وجعل على بصره غشاوة ? فمن يهديه من بعد الله ? أفلا تذكرون ? ) . .
والتعبير القرآني المبدع يرسم نموذجاً عجيباً للنفس البشرية حين تترك الأصل الثابت ، وتتبع الهوى المتقلب وحين تتعبد هواها ، وتخضع له ، وتجعله مصدر تصوراتها وأحكامها ومشاعرها وتحركاتها . وتقيمه إلهاً قاهراً لها ، مستولياً عليها ، تتلقى إشاراته المتقلبة بالطاعة والتسليم والقبول . يرسم هذه الصورة ويعجِّب منها في استنكار شديد :
( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ? ) . .
أفرأيته ? إنه كائن عجيب يستحق الفرجة والتعجيب ! وهو يستحق من الله أن يضله ، فلا يتداركه برحمة الهدى . فما أبقى في قلبه مكاناً للهدى وهو يتعبد هواه المريض !
على علم من الله باستحقاقه للضلالة . أو على علم منه بالحق ، لا يقوم لهواه ولا يصده عن اتخاذه إلهاً يطاع . وهذا يقتضي إضلال الله له والإملاء له في عماه :
( وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة ) . .
فانطمست فيه تلك المنافذ التي يدخل منها النور ؛ وتلك المدارك التي يتسرب منها الهدى . وتعطلت فيه أدوات الإدراك بطاعة للهوى طاعته العبادة والتسليم .
( فمن يهديه من بعد الله ? ) . .
والهدى هدى الله . وما من أحد يملك لأحد هدى أو ضلالة . فذلك من شأن الله ، الذي لا يشاركه فيه أحد ، حتى رسله المختارون .
ومن تذكر صحا وتنبه ، وتخلص من ربقة الهوى ، وعاد إلى النهج الثابت الواضح ، الذي لا يضل سالكوه .
{ أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } ترك متابعة الهدى إلى متابعة الهوى فكأنه يعبده ، وقرئ " آلهة هواه " لأنه كان أحدهم يستحسن حجرا فيعبده فإذا رأى أحسن منه رفضه إليه ، { وأضله الله } وخذله . { على علم } عالما بضلاله وفساد جوهر روحه . { وختم على سمعه وقلبه } فلا يبالي بالمواعظ ولا يتفكر في الآيات . { وجعل على بصره غشاوة } فلا ينظر بعين الاستبصار والاعتبار ، وقرأ حمزة والكسائي " غشوة " . { فمن يهديه من بعد الله } من بعد إضلاله . { أفلا تذكرون } وقرئ " تتذكرون " .
وقوله تعالى : { أفرأيت } سهل بعض القراء الهمزة وخففها قوم ، وكذلك هي في مصحف ابن مسعود مخففة ، وفي مصحف أبي بن كعب : «أفرايت » دون همز . وهذه الآية تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم عن المعرضين عن الإيمان ، أي لا تعجل بهم ولا تهتم بأمرهم ، فليس فيهم حيلة لبشر ، لأن الله تعالى أضلهم . وقال ابن جبير : قوله : { إلهه هواه } إشارة إلى الأصنام إذ كانوا يعبدون ما يهوون من الحجارة . وقال قتادة المعنى : لا يهوى شيئاً إلا ركبه ، لا يخاف الله ، وهذا كما يقال : الهوى إله معبود .
وقرأ الأعرج وابن جبير : «آلهة هواه » على التأنيث في «آلهة » .
وهذه الآية وإن كانت نزلت في هوى الكفر فهي متناولة جميع هوى النفس الأمارة ، قال ابن عباس : ما ذكر الله هوى إلا ذمه . وقال الشعبي : سمي هوى لهويه بصاحبه . وقال النبي عليه السلام : «والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله »{[10275]} وقال سهل التستري : هواك داؤك ، فإن خالفته فدواؤك . وقال سهل : إذا شككت في خير أمرين ، فانظر أبعدهما من هواك فأته . ومن حكمة الشعر في هذا قول القائل :
إذا أنت لم تعص الهوى قادك ال . . . هوى إلى كل ما فيه عليك مقال{[10276]}
وقوله تعالى : { على علم } قال ابن عباس المعنى : على علم من الله تعالى سابق . وقالت فرقة : أي على علم من هذا الضال بأن الحق هو الذي يترك ويعرض عنه ، فتكون الآية على هذا من آيات العناد من نحو قوله : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم }{[10277]} [ النمل : 14 ] وعلى كلا التأويلين : ف { على علم } ، حال .
وقوله تعالى : { وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة } استعارة كلها ، إذ هو الضال لا ينفعه ما يسمع ولا ما يفهم ولا ما يرى ، فكأنه بهذه الأوصاف المذكورة ، وهذه الآية لا حجة للجبرية فيها ، لأن التكسب فيها منصوص عليه في قوله : { اتخذ } وفي قوله : { على علم } على التأويل الأخير فيه ، ولو لم ينص على الاكتساب لكان مراداً في المعنى .
وقرأ أكثر القراء «غِشاوة » بكسر الغين . وقرأ عبد الله بن مسعود : «غَشاوة » بفتح الغين وهي لغة ربيعة ، وحكي عن الحسن وعكرمة : «غُشاوة » بضم الغين وهي لغة عكل ، وقرأ حمزة والكسائي : «غَشْوة » بفتح الغين وإسكان الشين .
و قرأ الأعمش وابن مصرف بكسر الغين دون ألف .
وقوله : { من بعد الله } فيه حذف مضاف تقديره : من بعد إضلال الله إياه .
وقرأ عاصم وأراه الجحدري : «تذكرون » بتخفيف الذال . وقرأ جمهور الناس : «تذّكرون » على الخطاب أيضاً بتشديد الذال . وقرأ الأعمش : «تتذكرون » بتاءين .