سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه ، فأمر في هذه السورة بالإجابة بأنه الجامع لصفات الكمال ، الواحد الأحد ، المقصود على الدوام في الحوائج ، الغني عن كل ما سواه ، المتنزه عن المجانسة والمماثلة ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له من خلقه نظير ولا مشاكل .
1- قل - يا محمد - لمن قالوا مستهزئين : صف لنا ربك : هو الله أحد لا سواه ، ولا شريك له .
{ قل هو الله أحد } ، روى أبو العالية عن أبي بن كعب أن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : انسب لنا ربك ، فأنزل الله تعالى هذه السورة . وروى أبو ظبيان ، وأبو صالح ، عن ابن عباس : " أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقال عامر : إلام تدعونا يا محمد ؟ قال : إلى الله ، قال : صفه لنا ، أمن ذهب هو ؟ أم من فضة ؟ أم من حديد ؟ أم من خشب ؟ فنزلت هذه السورة . فأهلك الله أربد بالصاعقة ، وعامر بن الطفيل بالطاعون " ، ذكرناه في سورة الرعد .
وقال الضحاك ، وقتادة ومقاتل : " جاء ناس من أحبار اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : صف لنا ربك يا محمد ، لعلنا نؤمن بك ، فإن الله أنزل نعته في التوراة ، فأنبأنا من أي شيء هو ؟ وهل يأكل ويشرب ؟ ومن يرث السماء ؟ ومن يرث الأرض ؟ فأنزل الله هذه السورة { قل هو الله أحد } ، أي واحد . ولا فرق بين الواحد والأحد ، يدل عليه قراءة ابن مسعود : " قل هو الله الواحد " .
سورة الإخلاص مكية وآياتها أربع
هذه السورة الصغيرة تعدل ثلث القرآن كما جاء في الروايات الصحيحة . قال البخاري : حدثنا إسماعيل : حدثني مالك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة ، عن أبيه ، عن أبي سعد ، أن رجلا سمع رجلا يقرأ : ( قل هو الله أحد )يرددها . فلما أصبح جاء إلى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فذكر ذلك له - وكأن الرجل يتقالها - فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : " والذي نفسي بيده ، إنها لتعدل ثلث القرآن " . .
وليس في هذا من غرابة . فإن الأحدية التي أمر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أن يعلنها : ( قل هو الله أحد ) . . هذه الأحدية عقيدة للضمير ، وتفسير للوجود ، ومنهج للحياة . . وقد تضمنت السورة - من ثم - أعرض الخطوط الرئيسية في حقيقة الإسلام الكبيرة . .
( قل هو الله أحد ) . . وهو لفظ أدق من لفظ " واحد " . . لأنه يضيف إلى معنى " واحد " أن لا شيء غيره معه . وأن ليس كمثله شيء .
إنها أحدية الوجود . . فليس هناك حقيقة إلا حقيقته . وليس هناك وجود حقيقي إلا وجوده . وكل موجود آخر فإنما يستمد وجوده من ذلك الوجود الحقيقي ، ويستمد حقيقته من تلك الحقيقة الذاتية .
وهي - من ثم - أحدية الفاعلية . فليس سواه فاعلا لشيء ، أو فاعلا في شيء ، في هذا الوجود أصلا . وهذه عقيدة في الضمير وتفسير للوجود أيضا . .
فإذا استقر هذا التفسير ، ووضح هذا التصور ، خلص القلب من كل غاشية ومن كل شائبة ، ومن كل تعلق بغير هذه الذات الواحدة المتفردة بحقيقة الوجود وحقيقة الفاعلية .
خلص من التعلق بشيء من أشياء هذا الوجود - إن لم يخلص من الشعور بوجود شيء من الأشياء أصلا ! - فلا حقيقة لوجود إلا ذلك الوجود الإلهي . ولا حقيقة لفاعلية إلا فاعلية الإرادة الإلهية . فعلام يتعلق القلب بما لا حقيقة لوجوده ولا لفاعليته !
وحين يخلص القلب من الشعور بغير الحقيقة الواحدة ، ومن التعلق بغير هذه الحقيقة . . فعندئذ يتحرر من جميع القيود ، وينطلق من كل الأوهاق . يتحرر من الرغبة وهي أصل قيود كثيرة ، ويتحرر من الرهبة وهي أصل قيود كثيرة . وفيم يرغب وهو لا يفقد شيئا متى وجد الله ? ومن ذا يرهب ولا وجود لفاعلية إلا لله ?
ومتى استقر هذا التصور الذي لا يرى في الوجود إلا حقيقة الله ، فستصحبه رؤية هذه الحقيقة في كل وجود آخر انبثق عنها - وهذه درجة يرى فيها القلب يد الله في كل شيء يراه . وورائها الدرجة التي لا يرى فيها شيئا في الكون إلا الله . لأنه لا حقيقة هناك يراها إلا حقيقة الله .
كذلك سيصحبه نفي فاعلية الأسباب . ورد كل شيء وكل حدث وكل حركة إلى السبب الأول الذي منه صدرت ، وبه تأثرت . . وهذه هي الحقيقة التي عني القرآن عناية كبيرة بتقريرها في التصور الإيماني . ومن ثم كان ينحي الأسباب الظاهرة دائما ويصل الأمور مباشرة بمشيئة الله : ( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) . . ( وما النصر إلا من عند الله ) . . ( وما تشاءون إلا أن يشاء الله ) . . وغيرها كثير . .
وبتنحية الأسباب الظاهرة كلها ، ورد الأمر إلى مشيئة الله وحدها ، تنسكب في القلب الطمأنينة ، ويعرف المتجه الوحيد الذي يطلب عنده ما يرغب ، ويتقي عنده ما يرهب ، ويسكن تجاه الفواعل والمؤثرات والأسباب الظاهرة التي لا حقيقة لها ولا وجود !
وهذه هي مدارج الطريق التي حاولها المتصوفة ، فجذبتهم إلى بعيد ! ذلك أن الإسلام يريد من الناس أن يسلكوا الطريق إلى هذه الحقيقة وهم يكابدون الحياة الواقعية بكل خصائصها ، ويزاولون الحياة البشرية ، والخلافة الأرضية بكل مقوماتها ، شاعرين مع هذا أن لا حقيقة إلا الله . وأن لا وجود إلا وجوده . وأن لا فاعلية إلا فاعليته . . ولا يريد طريقا غير هذا الطريق !
من هنا ينبثق منهج كامل للحياة ، قائم على ذلك التفسير وما يشيعه في النفس من تصورات ومشاعر واتجاهات : منهج لعبادة الله وحده . الذي لا حقيقة لوجود إلا وجوده ، ولا حقيقة لفاعلية إلا فاعليته ، ولا أثر لإرادة إلا إرادته .
ومنهج للاتجاه إلى الله وحده في الرغبة والرهبة . في السراء والضراء . في النعماء والبأساء . وإلا فما جدوى التوجه إلى غير موجود وجودا حقيقيا ، وإلى غير فاعل في الوجود أصلا ? !
ومنهج للتلقي عن الله وحده . تلقي العقيدة والتصور والقيم والموازين ، والشرائع والقوانين والأوضاع والنظم ، والآداب والتقاليد . فالتلقي لا يكون إلا عن الوجود الواحد والحقيقة المفردة في الواقع وفي الضمير .
ومنهج للتحرك والعمل لله وحده . . ابتغاء القرب من الحقيقة ، وتطلعا إلى الخلاص من الحواجز المعوقة والشوائب المضللة . سواء في قرارة النفس أو فيما حولها من الأشياء والنفوس . ومن بينها حاجز الذات ، وقيد الرغبة والرهبة لشيء من أشياء هذا الوجود !
ومنهج يربط - مع هذا - بين القلب البشري وبين كل موجود برباط الحب والأنس والتعاطف والتجاوب . فليس معنى الخلاص من قيودها هو كراهيتها والنفور منها والهروب من مزاولتها . . فكلها خارجة من يد الله ؛ وكلها تستمد وجودها من وجوده ، وكلها تفيض عليها أنوار هذه الحقيقة . فكلها إذن حبيب ، إذ كلها هدية من الحبيب !
وهو منهج رفيق طليق . . الأرض فيه صغيرة ، والحياة الدنيا قصيرة ، ومتاع الحياة الدنيا زهيد ، والانطلاق من هذه الحواجز والشوائب غاية وأمنية . . ولكن الانطلاق عند الإسلام ليس معناه الاعتزال ولا الإهمال ، ولا الكراهية ولا الهروب . . إنما معناه المحاولة المستمرة ، والكفاح الدائم لترقية البشرية كلها ، وإطلاق الحياة البشرية جميعها . . ومن ثم فهي الخلافة والقيادة بكل أعبائهما ، مع التحرر والانطلاق بكل مقوماتهما . كما أسلفنا .
إن الخلاص عن طريق الصومعة سهل يسير . ولكن الإسلام لا يريده . لأن الخلافة في الأرض والقيادة للبشر طرف من المنهج الإلهي للخلاص . إنه طريق أشق ، ولكنه هو الذي يحقق إنسانية الإنسان . أي يحقق انتصار النفخة العلوية في كيانه . . وهذا هو الانطلاق . انطلاق الروح إلى مصدرها الإلهي ، وتحقيق حقيقتها العلوية . وهي تعمل في الميدان الذي اختاره لها خالقها الحكيم . .
من أجل هذا كله كانت الدعوة الأولى قاصرة على تقرير حقيقة التوحيد بصورتها هذه في القلوب . لأن التوحيد في هذه الصورة عقيدة للضمير ، وتفسير للوجود ، ومنهج للحياة . وليس كلمة تقال باللسان أو حتى صورة تستقر في الضمير . إنما هو الأمر كله ، والدين كله ؛ وما بعده من تفصيلات وتفريعات لا يعدو أن يكون الثمرة الطبيعية لاستقرار هذه الحقيقة بهذه الصورة في القلوب .
والانحرافات التي أصابت أهل الكتاب من قبل ، والتي أفسدت عقائدهم وتصوراتهم وحياتهم ، نشأت أول ما نشأت عن انطماس صورة التوحيد الخالص . ثم تبع هذا الانطماس ما تبعه من سائر الانحرافات .
على أن الذي تمتاز به صورة التوحيد في العقيدة الإسلامية هو تعمقها للحياة كلها ، وقيام الحياة على أساسها ، واتخاذها قاعدة للمنهج العملي الواقعي في الحياة ، تبدو آثاره في التشريع كما تبدو في الاعتقاد سواء . وأول هذه الآثار أن تكون شريعة الله وحدها هي التي تحكم الحياة . فإذا تخلفت هذه الآثار فإن عقيدة التوحيد لا تكون قائمة ، فإنها لا تقوم إلا ومعها آثارها محققة في كل ركن من أركان الحياة . .