التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي - ابن جزي  
{قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الإخلاص

مكية ، وآياتها 4 ، نزلت بعد الناس .

سبب نزول هذه السورة أن اليهود دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد ، صف لنا ربك وانسبه ، فإنه وصف نفسه في التوراة ونسبها ، فارتعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خر مغشيا عليه ، ونزل عليه جبريل بهذه السورة ، وقيل : إن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : انسب لنا ربك ، فنزلت . وعلى الرواية الأولى السورة مدنية ؛ لأن سؤال اليهود بالمدينة ، وعلى الرواية الثانية تكون مكية . واختلف في معنى قوله صلى الله عليه وسلم : " قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن " . فقيل : إن ذلك في الثواب ، أي : لمن قرأها من الأجر مثل أجر من قرأ ثلث القرآن ، وقيل : إن ذلك فيما تضمنته من المعاني والعلوم ، وذلك أن علوم القرآن ثلاثة : توحيد وأحكام وقصص ، وقد اشتملت هذه السورة على التوحيد ، فهي ثلث القرآن بهذا الاعتبار ، وهذا أظهر ، وعليه حمل ابن عطية الحديث . ويؤيده أن في بعض روايات الحديث : " ن الله جزأ القرآن ثلاثة أجزاء : فجعل قل هو الله أحد جزءا من أجزاء القرآن " ؛ وخرج النسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقرؤها فقال : " أما هذا فقد غفر له " ، وفي رواية أنه قال : " وجبت له الجنة " ، وخرج مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلا على سرية فكان يقرأ لأصحابه في الصلاة ( قل هو الله أحد ) ، فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " سلوه لأي شيء يصنع ذلك ؟ فسألوه فقال : لأنها صفة الرحمن ، فأنا أحب أن أقرأها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أخبروه أن الله يحبه " ، وفي رواية خرجها الترمذي : " أنه صلى الله عليه وسلم قال للرجل : حبك إياها أدخلك الجنة " ، وخرج الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من قرأ ( قل هو الله أحد ) مائة مرة كل يوم غفرت له ذنوب خمسين سنة إلا أن يكون عليه دين " .

{ قل هو الله أحد } الضمير هنا عند البصريين ضمير الأمر والشأن ، والذي يراد به التعظيم والتفخيم ، وإعرابه مبتدأ ، وخبره الجملة التي بعده ، وهي المفسرة له ، والله مبتدأ ، وأحد خبره . وقيل : الله هو الخبر ، وأحد بدل منه ، وقيل : الله بدل ، وأحد هو الخبر ، وأحد له معنيان :

أحدهما : أن يكون من أسماء النفي التي لا تقع إلا في غير الواجب ، كقولك : ما جاءني أحد ، وليس هذا موضع هذا المعنى ، وإنما موضعه قوله : { ولم يكن له كفوا أحد } .

والآخر : أن يكون بمعنى واحد ، وأصله وحد بواو ، ثم أبدل من الواو همزة ، وهذا هو المراد هنا . واعلم أن وصف الله تعالى بالواحد له ثلاثة معان كلها صحيحة في حق الله تعالى :

الأول : أنه واحد لا ثاني معه ، فهو نفي للعدد .

والثاني : أنه واحد لا نظير ولا شريك له ، كما تقول فلان واحد عصره ، أي : لا نظير له .

والثالث : أنه واحد لا ينقسم ولا يتبعض .

والأظهر أن المراد في السورة نفي الشريك لقصد الرد على المشركين ، ومنه قوله تعالى : { وإلهكم إله واحد } [ البقرة : 163 ] . قال الزمخشري : أحد وصف بالوحدانية ، ونفي الشركاء . قلت : وقد أقام الله في القرآن براهين قاطعة على وحدانيته ، وذلك في القرآن كثير جدا ، وأوضحها أربعة براهين :

الأول : قوله : { أفمن يخلق كمن لا يخلق } [ النحل : 17 ] ؛ لأنه إذا ثبت أن الله تعالى خلق جميع الموجودات لم يمكن أن يكون واحد منها شريكا له .

والثاني : قوله : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } [ الأنبياء : 22 ] .

والثالث : قوله : { قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا } [ الإسراء : 42 ] .

والرابع : قوله : { وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض } [ المؤمنون : 91 ] ، وقد فسرنا هذه الآيات في مواضعها ، وتكلمنا على حقيقة التوحيد في قوله : { وإلهكم إله واحد } [ البقرة : 163 ] .