التفسير : قد وردت الأخبار الكثيرة بفضل سورة الإخلاص ، وأنها تعدل ثلث القرآن ، فاستنبط العلماء لذلك وجهاً مناسباً وهو أن القرآن مع غزارة فوائده اشتمل على ثلاثة معانٍ فقط : معرفة ذات الله تعالى وتقدّس ، ومعرفة صفاته وأسمائه ، ومعرفة أفعاله وسننه مع عباده . ولما تضمنت سورة الإخلاص أحد هذه الأقسام الثلاثة وهو التقديس ، وازنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلث القرآن .
وعن أنس أن رجلاً كان يقرأ في جميع صلاته { قل هو الله أحد } ، فسأله الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : يا رسول الله ، إني أحبها . فقال : " حبك إياها يدخلك الجنة " .
أما سبب نزولها ، فعن أبيّ بن كعب أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : انسب لنا ربك . فأنزل الله تعالى هذه السورة .
وعن عطاء عن ابن عباس قال : قدم وفد نجران فقالوا : صف لنا ربك : أزبرجد أم ياقوت أم ذهب أم فضة ؟ فقال : " إن ربي ليس من شيء ؛ لأنه خلق الأشياء " ، فنزلت : { قل هو الله أحد } ، فقالوا : هو واحد وأنت واحد ، فقال { ليس كمثله شيء } [ الشورى :11 ] . قالوا : زدنا من الصفة . قال { الله الصمد } ، فقالوا : وما الصمد ؟ قال : " الذي يصمد الخلق إليه في الحوائج " ، فقالوا : زدنا ، فقال : " { لم يَلد } كما ولدت مريم { ولم يولد } كما ولد عيسى . { ولم يكن له كفواً أحد } يريد نظيراً من خلقه " .
ولشرف هذه السورة سميت بأسماء كثيرة ، أشهرها الإخلاص ؛ لأنها تخلص العبد من الشرك أو من النار . وقد يقال لها سورة التفريد أو التجريد أو التوحيد أو النجاة أو الولاية ؛ لأن من قرأها صار من أولياء الله ، أو المعرفة ، لما روى جابر أن رجلاً صلى فقرأ السورة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هذا عبد عرف ربه ، أو الجمال لقوله صلى الله عليه وسلم : " إن الله جميل يحب الجمال " ، ومن كمالات الجميل كونه عديم النظير ، أو الأساس لقوله صلى الله عليه وسلم : " أسست السموات السبع والأرضون السبع على { قل هو الله أحد } "
وهذا قول معقول ؛ لأن القول بالتثليث يوجب خراب السماوات والأرض كما قال { تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخرّ الجبال هدّا أن دعوا للرحمن ولداً } [ مريم :90 ] ، فوجب أن يكون التوحيد سبباً لعمارة العالم . وقد تسمى سورة النسبة ، لما مر أنها نزلت عند قول المشركين : " انسب لنا ربك " ، فكأنه قيل : نسبه الله هذا . والمانعة لرواية ابن عباس أنه تعالى قال لنبيه حين عرج به : أعطيتك سورة الإخلاص ، وهي من ذخائر كنوز العرش ، وهي المانعة ، تمنع فتان القبر ونفحات النيران ، والمحضرة ؛ لأن الملائكة تحضر لاستماعها إذا قرئت ، والمنفرة أي للشيطان ، والراءة أي من الشرك ، وسورة النور لقوله صلى الله عليه وسلم : " إن لكل شيء نوراً ، ونور القرآن { قل هو الله أحد } " . قلت : وذلك لأن الله تعالى نور الله نور السماوات والأرض ، وكما أن نور الإنسان في أصغر أعضائه وهو الحدقة ، كذلك نور القرآن في أقصر السور سوى " الكوثر " .
ثم إن العلماء أجمعوا على أن الوحدانية مما يمكن معرفتها بطريق السمع والعقل جميعاً ، وليست كمعرفة ذات الصانع ، حيث لا يمكن معرفته إلا بطريق العقل ، فقال أهل العرفان في بيانه : إن العقل يريد عالماً كاملاً أميناً تودع عنده الحسنات ، والشهوة تريد غنياً تطلب منه المستلذات ؛ بل العقل كالإنسان الذي له همة عليه لا تنقاد إلا لمولاه ، والهوى كالمنتجع الذي يطلب غنياً يتكدى منه ؛ بل العقل يطلب معرفة المولى ليشكر له على النعم السابقة ، والهوى يطلبها ليستفيد منه النعم اللاحقة . فلما عرفاه كما أرادا تعلقاً بذيل عنايته فقال العقل : لا أشكر أحداً سواك . وقالت الشهوة : لا أسأل أحداً إلا إياك . فجاءت الشبهة وقالت : يا عقل ، كيف أفردته بالشكر ، ولعل له مثلاً ؟ ويا شهوة ، كيف اقتصرت عليه ، ولعل هاهنا باباً آخر ؟ فبقي العقل متحيراً وتنغصت عليه راحة المعرفة حين أراد أن يسافر في عالم الاستدلال لتحصيل ربح التوحيد ، ويغوص في بحر الفكر ليعود بجوهرة النحر ، فأدركته عناية المولى فقال : كيف أنغص على عبدي لذة الاشتغال بخدمتي وشكري ؟ فبعث إليه رسولاً صادقاً وقال : لا تقله من عند نفسك فيوقعك الوهم في الشك ، ولكن اقبله من الصادق الأمين . { قل هو الله أحد }
والضمير للشأن ، أي الشأن والحديث الله أحد ، هذا قول جمهور النحاة ، وقريب منه قول الزجاج : إن المراد هذا الذي سألتم عنه الله أحد . وقيل : هو كناية عن الله فيكون كقولك : " زيد أخوك قائم " . قال الأزهري : لا يوصف شيء بالأحدية غير الله تعالى . لا يقال : رجل أحد ، ولا درهم أحد . وقال غيره : الفرق بين الواحد والأحد من ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الواحد يدخل في الأحد ، والأحد لا يدخل فيه .
وثانيها : أنك إذا قلت : " فلان لا يقاومه واحد " جاز أن يقال : لكنه يقاومه اثنان .
وثالثها : أن الواحد يستعمل في الإثبات كقولك " رأيت رجلاً واحداً " ، والأحد يستعمل في النفي نحو " ما رأيت أحداً " ، فيفيد العموم .
قلت : ولعلّ وجه تخصيص الله بالأحد هو هذا المعنى ، وذلك أنه أبسط الأشياء ، وكأنك قلت : إنه لا جزء له أصلاً بوجه من الوجوه ، ومن هنا قال بعضهم : إن الأحد يدل على جميع المعاني السلبية ، ككونه ليس بجوهر ولا عرض ولا متحيز وغير ذلك ، كما أن اسم الله يدل على مجامع الصفات الإضافية ؛ لأن الله اسم للمعبود بالحق ، واستحقاق العبادة لا يتجه إلا إذا كان مبدأ لجميع ما سواه ، عالماً قادراً إلى غير ذلك . وأما لفظة { هو } فإنها تدل على نفس الذات ، فتبين أن قوله { قل هو الله أحد } يدل على الذات والصفات جميعاً .
وهاهنا لطيفة ، وهي أن قوله { هو } إشارة إلى مرتبة السابقين الذين لا يرون معه شيئاً آخر ، فيكفي الكناية بالنسبة إليهم ، وأما اسم { الله } فإشارة إلى مرتبة أصحاب اليمين ، وهم الذين عرفوه بالبرهان ، مستدلين على الوجوب بالإمكان ، فهم ينظرون إلى الحق وإلى الخلق جميعاً ، فيحتاجون في التمييز إلى اسمه العلم . وأما " الأحد " فرمز إلى أدون المراتب الإنسانية ، وهم أصحاب الشمال الذي يثبتون مع الله إلهاً آخر ، فوجب التنبيه على إبطال معتقدهم بأن الله أحد لا شريك له ، أو لا جزء بوجه من الوجوه ، وبعبارة أخرى هو للأخص ، والله للخواص ، وأحد للعموم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.