غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ} (1)

مقدمة السورة:

( سورة الإخلاص مكية . حروفها سبعة وسبعون . كلمها خمس عشرة . آياتها أربع ) .

1

التفسير : قد وردت الأخبار الكثيرة بفضل سورة الإخلاص ، وأنها تعدل ثلث القرآن ، فاستنبط العلماء لذلك وجهاً مناسباً وهو أن القرآن مع غزارة فوائده اشتمل على ثلاثة معانٍ فقط : معرفة ذات الله تعالى وتقدّس ، ومعرفة صفاته وأسمائه ، ومعرفة أفعاله وسننه مع عباده . ولما تضمنت سورة الإخلاص أحد هذه الأقسام الثلاثة وهو التقديس ، وازنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلث القرآن .

وعن أنس أن رجلاً كان يقرأ في جميع صلاته { قل هو الله أحد } ، فسأله الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : يا رسول الله ، إني أحبها . فقال : " حبك إياها يدخلك الجنة " .

أما سبب نزولها ، فعن أبيّ بن كعب أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : انسب لنا ربك . فأنزل الله تعالى هذه السورة .

وعن عطاء عن ابن عباس قال : قدم وفد نجران فقالوا : صف لنا ربك : أزبرجد أم ياقوت أم ذهب أم فضة ؟ فقال : " إن ربي ليس من شيء ؛ لأنه خلق الأشياء " ، فنزلت : { قل هو الله أحد } ، فقالوا : هو واحد وأنت واحد ، فقال { ليس كمثله شيء } [ الشورى :11 ] . قالوا : زدنا من الصفة . قال { الله الصمد } ، فقالوا : وما الصمد ؟ قال : " الذي يصمد الخلق إليه في الحوائج " ، فقالوا : زدنا ، فقال : " { لم يَلد } كما ولدت مريم { ولم يولد } كما ولد عيسى . { ولم يكن له كفواً أحد } يريد نظيراً من خلقه " .

ولشرف هذه السورة سميت بأسماء كثيرة ، أشهرها الإخلاص ؛ لأنها تخلص العبد من الشرك أو من النار . وقد يقال لها سورة التفريد أو التجريد أو التوحيد أو النجاة أو الولاية ؛ لأن من قرأها صار من أولياء الله ، أو المعرفة ، لما روى جابر أن رجلاً صلى فقرأ السورة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هذا عبد عرف ربه ، أو الجمال لقوله صلى الله عليه وسلم : " إن الله جميل يحب الجمال " ، ومن كمالات الجميل كونه عديم النظير ، أو الأساس لقوله صلى الله عليه وسلم : " أسست السموات السبع والأرضون السبع على { قل هو الله أحد } "

وهذا قول معقول ؛ لأن القول بالتثليث يوجب خراب السماوات والأرض كما قال { تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخرّ الجبال هدّا أن دعوا للرحمن ولداً } [ مريم :90 ] ، فوجب أن يكون التوحيد سبباً لعمارة العالم . وقد تسمى سورة النسبة ، لما مر أنها نزلت عند قول المشركين : " انسب لنا ربك " ، فكأنه قيل : نسبه الله هذا . والمانعة لرواية ابن عباس أنه تعالى قال لنبيه حين عرج به : أعطيتك سورة الإخلاص ، وهي من ذخائر كنوز العرش ، وهي المانعة ، تمنع فتان القبر ونفحات النيران ، والمحضرة ؛ لأن الملائكة تحضر لاستماعها إذا قرئت ، والمنفرة أي للشيطان ، والراءة أي من الشرك ، وسورة النور لقوله صلى الله عليه وسلم : " إن لكل شيء نوراً ، ونور القرآن { قل هو الله أحد } " . قلت : وذلك لأن الله تعالى نور الله نور السماوات والأرض ، وكما أن نور الإنسان في أصغر أعضائه وهو الحدقة ، كذلك نور القرآن في أقصر السور سوى " الكوثر " .

ثم إن العلماء أجمعوا على أن الوحدانية مما يمكن معرفتها بطريق السمع والعقل جميعاً ، وليست كمعرفة ذات الصانع ، حيث لا يمكن معرفته إلا بطريق العقل ، فقال أهل العرفان في بيانه : إن العقل يريد عالماً كاملاً أميناً تودع عنده الحسنات ، والشهوة تريد غنياً تطلب منه المستلذات ؛ بل العقل كالإنسان الذي له همة عليه لا تنقاد إلا لمولاه ، والهوى كالمنتجع الذي يطلب غنياً يتكدى منه ؛ بل العقل يطلب معرفة المولى ليشكر له على النعم السابقة ، والهوى يطلبها ليستفيد منه النعم اللاحقة . فلما عرفاه كما أرادا تعلقاً بذيل عنايته فقال العقل : لا أشكر أحداً سواك . وقالت الشهوة : لا أسأل أحداً إلا إياك . فجاءت الشبهة وقالت : يا عقل ، كيف أفردته بالشكر ، ولعل له مثلاً ؟ ويا شهوة ، كيف اقتصرت عليه ، ولعل هاهنا باباً آخر ؟ فبقي العقل متحيراً وتنغصت عليه راحة المعرفة حين أراد أن يسافر في عالم الاستدلال لتحصيل ربح التوحيد ، ويغوص في بحر الفكر ليعود بجوهرة النحر ، فأدركته عناية المولى فقال : كيف أنغص على عبدي لذة الاشتغال بخدمتي وشكري ؟ فبعث إليه رسولاً صادقاً وقال : لا تقله من عند نفسك فيوقعك الوهم في الشك ، ولكن اقبله من الصادق الأمين . { قل هو الله أحد }

والضمير للشأن ، أي الشأن والحديث الله أحد ، هذا قول جمهور النحاة ، وقريب منه قول الزجاج : إن المراد هذا الذي سألتم عنه الله أحد . وقيل : هو كناية عن الله فيكون كقولك : " زيد أخوك قائم " . قال الأزهري : لا يوصف شيء بالأحدية غير الله تعالى . لا يقال : رجل أحد ، ولا درهم أحد . وقال غيره : الفرق بين الواحد والأحد من ثلاثة أوجه :

أحدها : أن الواحد يدخل في الأحد ، والأحد لا يدخل فيه .

وثانيها : أنك إذا قلت : " فلان لا يقاومه واحد " جاز أن يقال : لكنه يقاومه اثنان .

وثالثها : أن الواحد يستعمل في الإثبات كقولك " رأيت رجلاً واحداً " ، والأحد يستعمل في النفي نحو " ما رأيت أحداً " ، فيفيد العموم .

قلت : ولعلّ وجه تخصيص الله بالأحد هو هذا المعنى ، وذلك أنه أبسط الأشياء ، وكأنك قلت : إنه لا جزء له أصلاً بوجه من الوجوه ، ومن هنا قال بعضهم : إن الأحد يدل على جميع المعاني السلبية ، ككونه ليس بجوهر ولا عرض ولا متحيز وغير ذلك ، كما أن اسم الله يدل على مجامع الصفات الإضافية ؛ لأن الله اسم للمعبود بالحق ، واستحقاق العبادة لا يتجه إلا إذا كان مبدأ لجميع ما سواه ، عالماً قادراً إلى غير ذلك . وأما لفظة { هو } فإنها تدل على نفس الذات ، فتبين أن قوله { قل هو الله أحد } يدل على الذات والصفات جميعاً .

وهاهنا لطيفة ، وهي أن قوله { هو } إشارة إلى مرتبة السابقين الذين لا يرون معه شيئاً آخر ، فيكفي الكناية بالنسبة إليهم ، وأما اسم { الله } فإشارة إلى مرتبة أصحاب اليمين ، وهم الذين عرفوه بالبرهان ، مستدلين على الوجوب بالإمكان ، فهم ينظرون إلى الحق وإلى الخلق جميعاً ، فيحتاجون في التمييز إلى اسمه العلم . وأما " الأحد " فرمز إلى أدون المراتب الإنسانية ، وهم أصحاب الشمال الذي يثبتون مع الله إلهاً آخر ، فوجب التنبيه على إبطال معتقدهم بأن الله أحد لا شريك له ، أو لا جزء بوجه من الوجوه ، وبعبارة أخرى هو للأخص ، والله للخواص ، وأحد للعموم .

/خ4