3- وإن شعرتم بالخوف من ظلم اليتامى لأنه ذنب كبير ، فخافوا كذلك أَلَمَ نسائكم بعدم العدل بينهن ، والزيادة على أربع ، فتزوجوا منهن اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً إذا وثقتم بالقدرة على العدل ، فإن خفتم عدم العدل فتزوجوا واحدة ، أو استمتعوا بما تملك أيديكم من الإماء ، ذلك أقرب إلى عدم الوقوع في الظلم والجور{[38]} ، وأقرب ألا تكثر عيالكم فتعجزوا عن الإنفاق عليهم .
قوله تعالى : { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع } . اختلفوا في تأويلهم ، فقال بعضهم : معناه إن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا فيهن إذا نكحتموهن فانكحوا غيرهن من الغرائب مثنى وثلاث ورباع .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا أبو اليمان ، أنا شعيب ، عن الزهري قال : كان عروة بن الزبير يحدث أنه سأل عائشة رضي الله عنها { وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء } . قالت : هي اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في جمالها ومالها ويريد أن يتزوجها بأدنى من سنة نسائها ، فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق ، وأمروا بنكاح من سواهن من النساء ، قالت عائشة رضي الله عنها : ثم استفتى الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى : { ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن } . إلى قوله تعالى : { وترغبون أن تنكحوهن } فبين الله تعالى في هذه الآية أن اليتيمة إذا كانت ذات جمال أو مال رغبوا في نكاحها ولم يلحقوها بسنتها بإكمال الصداق ، وإذا كانت مرغوبة عنها في قلة المال والجمال تركوها والتمسوا غيرها من النساء ، قال : فكما يتركونها حين يرغبون عنها فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها ، إلا أن يقسطوا لها الأوفى من الصداق ويعطوها حقها .
قال الحسن : كان الرجل من أهل المدينة يكون عنده الأيتام وفيهن من يحل له نكاحها فيتزوجها لأجل مالها وهي لا تعجبه كراهية أن يدخل غريب فيشاركه في مالها ثم يسيء صحبتها ويتربص بها أن تموت ويرثها فعاب الله تعالى ذلك وأنزل الله هذه الآية .
وقال عكرمة : كان الرجل من قريش يتزوج العشر من النساء والأكثر إذا صار معدماً من مؤن نسائه مال إلى يتيمته التي في حجره فأنفقه فقيل لهم : لا تزيدوا على أربع حتى لا يحوجكم إلى أخذ أموال اليتامى ، وهذه رواية طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما .
وقال بعضهم : كانوا يتحرجون عن أموال اليتامى ويترخصون في النساء فيتزوجون ما شاءوا وربما عدلوا وربما لم يعدلوا فلما أنزل الله تعالى في أموال اليتامى { وآتوا اليتامى أموالهم } أنزل هذه الآية { وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى } يقول : كما خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فكذلك خافوا في النساء أن لا تعدلوا فيهن فلا تتزوجوا أكثر مما يمكنكم القيام بحقوقهن ، لأن النساء في الضعف كاليتامى ، وهذا قول سعيد بن جبير وقتادة والضحاك والسدي : ثم رخص في نكاح أربع فقال : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة } . .
وقال مجاهد : معناه إن تحرجتم من ولاية اليتامى وأموالهم إيماناً فكذلك تحرجوا من الزنا فانكحوا النساء الحلال نكاحاً طيباً ، ثم بين لهم عدداً ، وكانوا يتزوجون ماشاءوا من غير عدد ، فنزل قوله تعالى { فانكحوا ما طاب لكم من النساء } أي : من طاب ، كقوله تعالى : { والسماء وما بناها } وقوله تعالى : { قال فرعون وما رب العالمين } والعرب تضع " من وما " كل واحدة موضع الأخرى كقوله تعالى { فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين } " وطاب " أي : حل لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ، معدولات عن اثنين وثلاث ، وأربع ، ولذلك لا ينصرفن ، " الواو " بمعنى " أو " للتخيير ، كقوله تعالى { أن تقوموا لله مثنى وفرادى } وقوله تعالى : { أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع } وهذا إجماع أن أحداً من الأمة لا يجوز له أن يزيد على أربع نسوة ، وكانت الزيادة من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم ، لا مشاركة معه لأحد من الأمة فيها . وروي أن قيس بن الحارث كان تحته ثمان نسوة فلما نزلت هذه الآية قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( طلق أربعاً وأمسك أربعاً ) فجعل يقول للمرأة التي لم تلد ، يا فلانة أدبري والتي قد ولدت يا فلانة أقبلي ، وروي أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وعنده عشرة نسوة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( أمسك أربعاً وفارق سائرهن ) . وإذا جمع الحر بين أربع نسوة حرائر فإنه يجوز ، فأما العبد فلا يجوز له أن ينكح أكثر من امرأتين عند أكثر أهل العلم ، لما أخبرنا عبد الوهاب بن أحمد الخطيب أنا عبد العزيز أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا سفيان عن محمد بن عبد الرحمن مولى أبي طلحة عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن عتبة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : ينكح العبد امرأتين ، ويطلق تطلقتين ، وتعتد الأمة بحيضتين ، فإن لم تكن تحيض فبشهرين ، أو شهر ونصف ، وقال ربيعة : يجوز للعبد أن ينكح أربع نسوة كالحر .
قوله تعالى : { فإن خفتم } . خشيتم ، وقيل : علمتم .
قوله تعالى : { أن لا تعدلوا } . بين الأزواج الأربع .
قوله تعالى : { فواحدة } . أي فانكحوا واحدةً ، وقرأ أبو جعفر{ فواحدة } بالرفع .
قوله تعالى : { أو ما ملكت أيمانكم } . يعني السراري ، لا يلزم فيهن من الحقوق ما يلزم في الحرائر ، ولا قسم لهن ، ولا وقف في عددهن ، وذكر الأيمان بيان ، تقديره : أو ما ملكتم ، وقال بعض أهل المعاني : أو ما ملكت أيمانكم أي : ما ينفذ فيه أقسامكم ، جعله من يمين الحلف ، لا يمين الجارحة .
قوله تعالى : { ذلك أدنى } . أقرب .
قوله تعالى : { أن لا تعولوا } . أي : لا تجوروا ولا تميلوا ، يقال : ميزان عائل ، أي : جائر مائل ، هذا قول أكثر المفسرين ، وقال مجاهد : أن لا تضلوا ، وقال الفراء : أن لا تجاوزوا ما فرض الله عليكم ، وأصل العول : المجاوزة ، ومنه عول الفرائض ، وقال الشافعي رحمه الله ، أن لا تكثر عيالكم ، وما قاله أحد إنما يقال ، أعال يعيل إعالة ، إذا كثر عياله ، وقال أبو حاتم : كان الشافعي رضي الله عنه أعلم بلسان العرب منا فلعله لغة ويقال : هي لغة حمير ، وقرأ طلحة بن مصرف { أن لا تعيلوا } وهي حجة لقول الشافعي رضوان الله عليه .
{ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا * وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا }
أي : وإن خفتم ألا تعدلوا في يتامى النساء اللاتي تحت حجوركم وولايتكم وخفتم أن لا تقوموا بحقهن لعدم محبتكم إياهن ، فاعدلوا إلى غيرهن ، وانكحوا { مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء } أي : ما وقع عليهن اختياركم من ذوات الدين ، والمال ، والجمال ، والحسب ، والنسب ، وغير ذلك من الصفات الداعية لنكاحهن ، فاختاروا على نظركم ، ومن أحسن ما يختار من ذلك صفة الدين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " تنكح المرأة لأربع لمالها ولجمالها ولحسبها ولدينها فاظفر بذات الدين تَرِبَتْ يمينك "
وفي هذه الآية - أنه ينبغي للإنسان أن يختار قبل النكاح ، بل وقد أباح له الشارع النظر إلى مَنْ يريد تزوجها ليكون على بصيرة من أمره . ثم ذكر العدد الذي أباحه من النساء فقال : { مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ } أي : من أحب أن يأخذ اثنتين فليفعل ، أو ثلاثا فليفعل ، أو أربعا فليفعل ، ولا يزيد عليها ، لأن الآية سيقت لبيان الامتنان ، فلا يجوز الزيادة على غير ما سمى الله تعالى إجماعا .
وذلك لأن الرجل قد لا تندفع شهوته بالواحدة ، فأبيح له واحدة بعد واحدة ، حتى يبلغ أربعا ، لأن في الأربع غنية لكل أحد ، إلا ما ندر ، ومع هذا فإنما يباح له ذلك إذا أمن على نفسه الجور والظلم ، ووثق بالقيام بحقوقهن .
فإن خاف شيئا من هذا فليقتصر على واحدة ، أو على ملك يمينه . فإنه لا يجب عليه القسم في ملك اليمين { ذَلِك } أي : الاقتصار على واحدة أو ما ملكت اليمين { أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا } أي : تظلموا .
وفي هذا أن تعرض العبد للأمر الذي يخاف منه الجور والظلم ، وعدم القيام بالواجب -ولو كان مباحًا- أنه لا ينبغي له أن يتعرض ، له بل يلزم السعة والعافية ، فإن العافية خير ما أعطي العبد .
وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء } أي إن خفتم أن لا تعدلوا في يتامى النساء إذا تزوجتم بهن ، فتزوجوا ما طاب لكم من غيرهن . إذ كان الرجل يجد يتيمة ذات مال وجمال فيتزوجها ضنا بها ، فربما يجتمع عنده منهن عدد ولا يقدر على القيام بحقوقهن . أو إن خفتم أن لا تعدلوا في حقوق اليتامى فتحرجتم منها فخافوا أيضا أن لا تعدلوا بين النساء فانكحوا مقدارا يمكنكم الوفاء بحقه ، لأن المتحرج من الذنب ينبغي أن يتحرج من الذنوب كلها على ما روي : أنه تعالى لما عظم أمر اليتامى تحرجوا من ولايتهم وما كانوا يتحرجون من تكثير النساء وإضاعتهم فنزلت . وقيل : كانوا يتحرجون من ولاية اليتامى ولا يتحرجون من الزنى ، فقيل لهم إن خفتم أن لا تعدلوا في أمر اليتامى فخافوا الزنى ، فانكحوا ما حل لكم . وإنما عبر عنهن بما ذهابا إلى الصفة أو إجراء لهن مجرى غير العقلاء لنقصان عقلهن ، ونظيره { أو ما ملكت أيمانكم } وقرئ { تقسطوا } بفتح التاء على أن " لا " مزيدة أي إن خفتم إن تجوروا . { مثنى وثلاث ورباع } معدولة عن أعداد مكررة وهي : ثنتين ثنتين ، وثلاثا ثلاثا ، وأربعا أربعا0 وهي غير منصرفة للعدل والصفة فإنها بنيت صفات وإن كانت أصولها لم تبن لها . وقيل لتكرير العدل فإنها معدولة باعتبار الصفة والتكرير منصوبة على الحال من فاعل طاب ومعناها : الإذن لكل ناكح يريد الجمع أن ينكح ما شاء من العدد المذكور متفقين فيه ومختلفين كقولك : اقتسموا هذه البدرة درهمين درهمين ، وثلاثة ثلاثة ، ولو أفردت كان المعنى تجويز الجمع بين هذه الأعداد دون التوزيع ولو ذكرت بأو لذهب تجويز الاختلاف في العدد . فإن حفتم ألا تعدلوا } بين هذه الأعداد أيضا . { فواحدة } فاختاروا أو فانكحوا واحدة وذروا الجمع . وقرئ بالرفع على أنه فاعل محذوف أو خبره تقديره فتكفيكم واحدة ، أو فالمقنع واحدة . { أو ما ملكت أيمانكم } سوى بين الواحدة من الأزواج والعدد من السراري لخفة مؤنهن وعدم وجوب القسم بينهن { ذلك } أي التقليل منهن أو اختيار الواحدة أو التسري . { أدنى ألا تعولوا } أقرب من أن لا تميلوا ، يقال عال الميزان إذا مال وعال الحاكم إذا جار ، وعول الفريضة الميل عن حد السهام المسماة . وفسر بأن لا تكثر عيالكم على أنه من عال الرجل عياله يعولهم إذا مانهم ، فعبر عن كثرة العيال بكثرة المؤن على الكناية . ويؤيده قراءة " أن لا تعيلوا " من أعال الرجل إذا كثر عياله ، ولعل المراد بالعيال الأزواج وإن أريد الأولاد فلأن التسري مظنة قلة الولد بالإضافة إلى التزوج لجواز العزل فيه كتزوج الواحدة بالإضافة إلى تزوج الأربع .