قوله تعالى : { يا أولي الألباب لعلكم تفلحون يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } ، الآية .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا محمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا حفص بن عمر ، أنا هشام ، عن قتادة ، عن أنس رضي الله عنه سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة ، فغضب ، فصعد المنبر فقال : ( لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته لكم ) ، فجعلت أنظر يميناً وشمالاً فإذا كل رجل لاف رأسه في ثوبه يبكي ، فإذا رجل كان إذا لاحى الرجال يدعى لغير أبيه ، فقال : يا رسول الله من أبي ؟ قال : حذافة . ثم أنشأ عمر ، فقال : رضينا بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً ، نعوذ بالله من الفتن ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما رأيت في الخير والشر كاليوم قط ، إن صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما وراء الحائط ) .
وكان قتادة يذكر عند هذا الحديث هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } . قال يونس عن ابن شهاب ، أخبرني عبيد الله بن عبد الله قال : قالت أم عبد الله بن حذافة لعبد الله بن حذافة : ما سمعت بابن قط أعق منك ، أأمنت أن تكون أمك قد قارفت بعض ما تقارف نساء أهل الجاهلية فتفضحها على أعين الناس ؟ قال عبد الله بن حذافة : والله لو ألحقني بعبد أسود للحقته . وروي عن عمر قال : يا رسول الله ، إنا حديثو عهد بجاهلية فاعف عنا يعف الله سبحانه وتعالى عنك ، فسكن غضبه .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا الفضل بن سهل ، أخبرنا أبو النضر ، أنا أبو خيثمة ، أنا أبو جويرية ، عن ابن عباس قال : كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاءً ، فيقول الرجل : من أبي ؟ ويقول الرجل ضلت ناقته : أين ناقتي ؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } حتى فرغ من الآية كلها .
وروي عن علي رضي الله عنه قال : لما نزلت { ولله على الناس حج البيت } قال رجل : يا رسول الله ، أفي كل عام ؟ فأعرض عنه ، فعاد مرتين أو ثلاثاً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما يؤمنك أن أقول نعم ؟ والله لو قلت نعم لوجبت ، ولو وجبت ما استطعتم ، فاتركوني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ) ، فأنزل الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } أي : إن تظهر لكم تسؤكم ، أي : إن أمرتم بالعمل بها ، فإن من سأل عن الحج لم يأمن أن يؤمر به في كل عام فيسوءه ، ومن سأل عن نسبه لم يأمن من أن يلحقه بغيره فيفتضح . وقال مجاهد : نزلت حين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحام ، ألا تراه ذكرها بعد ذلك .
قوله تعالى : { وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم } ، معناه إن صبرتم حتى ينزل القرآن بحكم من فرض ، أو نهي ، أو حكم ، وليس في ظاهره شرح ما بكم إليه حاجة ، ومست حاجاتكم إليه ، فإذا سألتم عنها حينئذ تبد لكم .
{ 101 - 102 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ }
ينهى عباده المؤمنين عن سؤال الأشياء التي إذا بينت لهم ساءتهم وأحزنتهم ، وذلك كسؤال بعض المسلمين لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن آبائهم ، وعن حالهم في الجنة أو النار ، فهذا ربما أنه لو بين للسائل لم يكن له فيه خير ، وكسؤالهم للأمور غير الواقعة .
وكالسؤال الذي يترتب عليه تشديدات في الشرع ربما أحرجت الأمة ، وكالسؤال عما لا يعني ، فهذه الأسئلة ، وما أشبهها هي المنهي عنها ، وأما السؤال الذي لا يترتب عليه شيء من ذلك فهذا{[280]} مأمور به ، كما قال تعالى : { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }
{ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ } أي : وإذا وافق سؤالكم محله فسألتم عنها حين ينزل عليكم القرآن ، فتسألون عن آية أشكلت ، أو حكم خفي وجهه عليكم ، في وقت يمكن فيه نزول الوحي من السماء ، تبد لكم ، أي : تبين لكم وتظهر ، وإلا فاسكتوا عمّا سكت الله عنه .
{ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا } أي : سكت معافيا لعباده منها ، فكل ما سكت الله عنه فهو مما أباحه وعفا عنه . { وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } أي : لم يزل بالمغفرة موصوفا ، وبالحلم والإحسان معروفا ، فتعرضوا لمغفرته وإحسانه ، واطلبوه من رحمته ورضوانه .
بعد ذلك يتجه السياق إلى شيء من تربية الجماعة المسلمة وتوجيهها إلى الأدب الواجب مع رسول الله [ ص ] وعدم سؤاله عما لم يخبرها به ؛ مما لو ظهر لساء السائل وأحرجه أو ترتب عليه تكاليف لا يطيقها ، أو ضيق عليه في أشياء وسع الله فيها ، أو تركها بلا تحديد رحمة بعباده .
( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم . وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم . عفا الله عنها والله غفور حليم . لقد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين ) . .
كان بعضهم يكثر على رسول الله [ ص ] من السؤال عن أشياء لم يتنزل فيها أمر أو نهي . أو يلحف في طلب تفصيل أمور أجملها القرآن ، وجعل الله في إجمالها سعة للناس . أو في الاستفسار عن أمور لا ضرورة لكشفها فإن كشفها قد يؤذي السائل عنها أو يؤذي غيره من المسلمين .
وروي أنه لما نزلت آية الحج سأل سائل : أفي كل عام ؟ فكره رسول الله [ ص ] هذا السؤال لأن النص على الحج جاء مجملا : ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلًا ) والحج مرة يجزي . فأما السؤال عنه أفي كل عام فهو تفسير له بالصعب الذي لم يفرضه الله .
وفي حديث مرسل رواه الترمذي والدارقطني عن علي رضي الله عنه قال : لما نزلت هذه الآية : ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلًا ) قالوا : يا رسول الله أفي كل عام ؟ فسكت . فقالوا : أفي كل عام ؟ قال : " لا . ولو قلت نعم لوجبت " فأنزل الله :
( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) . . الخ الآية .
وأخرجه الدارقطني أيضا عن أبي عياض عن أبي هريرة قال : قال رسول الله [ ص ] : يا أيها الناس كتب عليكم الحج . فقام رجل فقال : أفي كل عام يا رسول الله ؟ فأعرض عنه ، ثم عاد فقال : أفي كل عام يا رسول الله ؟ فقال : " ومن القائل ؟ " قالوا : فلان . قال : " والذي نفسي بيده لو قلت : نعم . لوجبت . ولو وجبت ما أطقتموها . ولو لم تطيقوها لكفرتم " . فأنزل الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم )
وفي حديث أخرجه مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه ، عن النبي [ ص ] : " . . . فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا " فقام إليه رجل فقال : أين مدخلي يا رسول الله ؟ قال : " النار " فقام عبدالله بن حذافة فقال : " من أبي يا رسول الله ؟ " فقال : " أبوك حذافة " . . قال ابن عبد البر : عبدالله بن حذافة أسلم قديما ، وهاجر إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية ، وشهد بدرا ، وكانت فيه دعابة ! وكان رسول الله [ ص ] أرسله إلى كسرى بكتاب رسول الله [ ص ] ولما قال : من أبي يا رسول الله ؟ قال : " أبوك حذافة " قالت أمه : ما سمعت بابن أعق منك . أأمنت أن تكون أمك قارفت ما يقارف نساء الجاهلية فتفضحها على أعين الناس ؟ ! فقال : والله لو ألحقني بعبد أسود للحقت به . .
وفي رواية لابن جرير - بسنده - عن أبي هريرة قال : خرج رسول الله [ ص ] وهو غضبان محمار وجهه حتى جلس على المنبر . فقام إليه رجل فقال : أين أنا ؟ قال : " في النار " فقام آخر فقال : من ابي ؟ فقال : " أبوك حذافة " فقام عمر بن الخطاب ، فقال : رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد [ ص ] نبيا وبالقرآن إماما . إنا يا رسول الله حديثو عهد بجاهلية وشرك ، والله أعلم من آباؤنا . قال : فسكن غضبه ، ونزلت هذه الآية ( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) . . الآية .
وروى مجاهد عن ابن عباس أنها نزلت في قوم سألوا رسول الله [ ص ] عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحام . وهو قول سعيد بن جبير . وقال : ألا ترى أن بعده : ( ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ) ؟
ومجموعة هذه الروايات وغيرها تعطي صورة عن نوع هذه الأسئلة التي نهى الله الذين آمنوا أن يسألوها . .
لقد جاء هذا القرآن لا ليقرر عقيدة فحسب ، ولا ليشرع شريعة فحسب . ولكن كذلك ليربي أمة ، وينشى ء مجتمعا ، وليكون الأفراد وينشئهم على منهج عقلي وخلقي من صنعه . . وهو هنا يعلمهم أدب السؤال ، وحدود البحث ، ومنهج المعرفة . . وما دام الله - سبحانه - هو الذي ينزل هذه الشريعة ، ويخبر بالغيب ، فمن الأدب أن يترك العبيد لحكمته تفصيل تلك الشريعة أو إجمالها ؛ وأن يتركوا له كذلك كشف هذا الغيب أو ستره . وأن يقفوا هم في هذه الأمور عند الحدود التي أرادها العليم الخبير . لا ليشددوا على أنفسهم بتنصيص النصوص ، والجري وراء الاحتمالات والفروض . كذلك لا يجرون وراء الغيب يحاولون الكشف عما لم يكشف الله منه وما هم ببالغيه . والله أعلم بطاقة البشر واحتمالهم ، فهو يشرع لهم في حدود طاقتهم ، ويكشف لهم من الغيب ما تدركه طبيعتهم . وهناك أمور تركها الله مجملة أو مجهلة ؛ ولا ضير على الناس في تركها هكذا كما أرادها الله . ولكن السؤال - في عهد النبوة وفترة تنزل القرآن - قد يجعل الإجابة عنها متعينة فتسوء بعضهم ، وتشق عليهم كلهم وعلى من يجيء بعدهم .
لذلك نهى الله الذين آمنوا أن يسألوا عن أشياء يسوؤهم الكشف عنها ؛ وأنذرهم بأنهم سيجابون عنها إذا سألوا في فترة الوحي في حياة رسول الله [ ص ] وستترتب عليهم تكاليف عفا الله عنها فتركها ولم يفرضها :
( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم . وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم . . عفا الله عنها . . ) .
أي لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها وترك فرضها أو تفصيلها ليكون في الإجمال سعة . . كأمره بالحج مثلا . . أو تركه ذكرها أصلا . .
ثم ضرب لهم المثل بمن كانوا قبلهم - من أهل الكتاب - ممن كانوا يشددون على أنفسهم بالسؤال عن التكاليف والأحكام . فلما كتبها الله عليهم كفروا بها ولم يؤدوها . ولو سكتوا وأخذوا الأمور باليسر الذي شاءه الله لعبادة ما شدد عليهم ، وما احتملوا تبعة التقصير والكفران .
ولقد رأينا في سورة البقرة كيف أن بني إسرائيل حينما أمرهم الله أن يذبحوا بقرة ، بلا شروط ولا قيود ، كانت تجزيهم فيها بقرة أية بقرة . . أخذوا يسألون عن أوصافها ويدققون في تفصيلات هذه الأوصاف . وفي كل مرة كان يشدد عليهم . ولو تركوا السؤال ليسروا على أنفسهم .
وكذلك كان شأنهم في السبت الذي طلبوه ثم لم يطيقوه ! . .
ولقد كان هذا شأنهم دائما حتى حرم الله عليهم أشياء كثيرة تربية لهم وعقوبة !
وفي الصحيح عن رسول الله [ ص ] أنه قال : " ذروني ما تركتكم . فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم ، واختلافهم على أنبيائهم " .
وفي الصحيح أيضا : " إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحد حدودا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها . وسكت عن أشياء رحمة بكم - غير نسيان - فلا تسألوا عنها " . .
وفي صحيح مسلم عن عامر بن سعد عن أبيه قال : قال رسول الله [ ص ] " إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما ، من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين فحرم عليهم من أجل مسألته " . .
ولعل مجموعة هذه الأحاديث - إلى جانب النصوص القرآنية - ترسم منهج الإسلام في المعرفة . .
إن المعرفة في الإسلام إنما تطلب لمواجهة حاجة واقعة وفي حدود هذه الحاجة الواقعة . . فالغيب وماوراءه تصان الطاقة البشرية أن تنفق في استجلائه واستكناهه ، لأن معرفته لا تواجه حاجة واقعية في حياة البشرية . وحسب القلب البشري أن يؤمن بهذا الغيب كما وصفه العليم به . فأما حين يتجاوز الإيمان به إلى البحث عن كنهه ؛ فإنه لا يصل إلى شيء أبدا ، لأنه ليس مزودا بالمقدرة على استكناهه إلا في الحدود التي كشف الله عنها . فهو جهد ضائع . فوق أنه ضرب في التيه بلا دليل ، يؤدي إلى الضلال البعيد .
وأما الأحكام الشرعية فتطلب ويسأل عنها عند وقوع الأقضية التي تتطلب هذه الأحكام . . وهذا هو منهج الإسلام . .
ففي طوال العهد المكي لم يتنزل حكم شرعي تنفيذي - وإن تنزلت الأوامر والنواهي عن أشياء وأعمال - ولكن الأحكام التنفيذية كالحدود والتعازير الكفارات لم تتنزل إلا بعد قيام الدولة المسلمة التي تتولى تنفيذ هذه الأحكام .
ووعى الصدر الأول هذا المنهج واتجاهه ؛ فلم يكونوا يفتون في مسألة إلا إذا كانت قد وقعت بالفعل ؛ وفي حدود القضية المعروضه دون تفصيص للنصوص ، ليكون للسؤال والفتوى جديتهما وتمشيهما كذلك مع ذلك المنهج التربوي الرباني :
كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يلعن من سأل عما لم يكن . . ذكره الدارمي في مسنده . . وذكر عن الزهري قال : بلغنا أن زيد بن ثابت الأنصاري كان يقول إذا سئل عن الأمر : أكان هذا ؟ فإن قالوا : نعم قد كان ، حدث فيه بالذي يعلم . وإن قالوا : لم يكن ، قال : فذروه حتى يكون . وأسند عن عمار بن ياسر - وقد سئل عن مسألة - فقال : هل كان هذا بعد ؟ قالوا : لا . قال دعونا حتى يكون ، فإذا كان تجشمناها لكم .
وقال الدرامي : حدثنا عبدالله بن محمد بن أبي شيبة ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب رسول الله [ ص ] ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض ، كلهن في القرآن ، منهن : ( يسألونك عن الشهر الحرام ) . . ( ويسألونك عن المحيض ) . . وشبهه . . ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم .
وقال مالك : أدركت هذا البلد [ يعني المدينة ] وما عندهم علم غير الكتاب والسنة . فإذا نزلت نازلة ، جمع الأمير لها من حضر من العلماء ، فما اتفقوا عليه أنفذه . وأنتم تكثرون المسائل وقد كرهها رسول الله [ ص ] !
وقال القرطبي في سياق تفسيره للآية : روى مسلم عن المغيرة بن شعبة عن رسول الله [ ص ] قال : " إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ، ووأد البنات ، ومنعا وهات . وكره لكم ثلاثا : قيل وقال ؛ وكثرة السؤال ، وإضاعة المال " . . قال كثير من العلماء : المراد بقوله : " وكثرة السؤال " : التكثير من السؤال في المسائل الفقهية تنطعا ، وتكلفا فيما لم ينزل ، والأغلوطات ، وتشقيق المولدات . وقد كان السلف يكرهون ذلك ويرونه من التكلف . ويقولون : إذا نزلت النازلة وفق المسؤول لها . .
إنه منهج واقعي جاد . يواجه وقائع الحياة بالأحكام ، المشتقة لها من أصول شريعة الله ، مواجهة عملية واقعية . . مواجهة تقدر المشكلة بحجمها وشكلها وظروفها كاملة وملابساتها ، ثم تقضي فيها بالحكم الذي يقابلها ويغطيها ويشملها وينطبق عليها انطباقا كاملا دقيقا . .
ثم قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } هذا تأديب من الله [ تعالى ]{[10428]} لعباده المؤمنين ، ونهي لهم عن أن يسألوا { عَنْ أَشْيَاءَ } مما لا فائدة لهم في السؤال والتنقيب عنها ؛ لأنها إن أظهرت لهم تلك الأمور ربما ساءتهم وشق عليهم سماعها ، كما جاء في الحديث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يُبْلغني أحد عن أحد شيئًا ، إني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر " . {[10429]}
وقال البخاري : حدثنا مُنْذِر بن الوليد بن عبد الرحمن الجارودي ، حدثنا أبي ، حدثنا شعبة ، عن موسى بن أنس ، عن أنس بن مالك قال : خطب النبي صلى الله عليه وسلم خُطبة ما سمعت مثلها قط ، قال " لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرًا " قال : فغطّى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم لهم حنين . فقال رجل : من أبي ؟ قال : " فلان " ، فنزلت هذه الآية : { لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ }
رواه النَّضْر وروح بن عبادة ، عن شعبة{[10430]} وقد رواه البخاري في غير هذا الموضع ، ومسلم ، وأحمد ، والترمذي ، والنسائي من طرق عن شعبة بن الحجاج ، به . {[10431]}
وقال ابن جرير : حدثنا بِشْر ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } الآية ، قال : فحدثنا أن أنس بن مالك حدثه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه حتى أحفوه بالمسألة ، فخرج عليهم ذات يوم فصعد المنبر ، فقال : " لا تسألوا اليوم عن شيء إلا بينته لكم " . فأشفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون بين يدي أمر قد حَضَر ، فجعلت لا ألتفت يمينًا ولا شمالا إلا وجدت كلا لافا رأسه في ثوبه يبكي ، فأنشأ رجل كان يُلاحي فيدعى إلى غير أبيه ، فقال : يا نبي الله ، من أبي ؟ قال : " أبوك حذافة " . قال : ثم قام عمر - أو قال : فأنشأ عمر - فقال : رضينا بالله ربًا ، وبالإسلام دينًا ، وبمحمد رسولا عائذًا بالله - أو قال : أعوذ بالله - من شر الفتن قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لم أر في الخير والشر كاليوم قط ، صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط " . أخرجاه من طريق سعيد . {[10432]}
ورواه مَعْمَر ، عن الزهري ، عن أنس بنحو ذلك - أو قريبًا منه - قال الزهري : فقالت أم عبد الله بن حذافة : ما رأيت ولدًا أعق منك قط ، أكنت تأمن أن تكون أمك قد قارفَتْ ما قارفَ أهلُ الجاهلية فتفضحها على رؤوس الناس ، فقال : والله لو ألحقني بعبد أسود للحقتُه . {[10433]}
وقال ابن جرير أيضًا : حدثنا الحارث ، حدثنا عبد العزيز ، حدثنا قَيْس ، عن أبي حَصِين ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان محمارّ وجهه حتى جلس على المنبر ، فقام إليه رجل فقال : أين أبي{[10434]} ؟ فقال : " في النار " فقام آخر فقال : من أبي ؟ فقال : " أبوك حذافة " ، فقام عمر بن الخطاب فقال : رضينا بالله ربًّا ، وبالإسلام دينًا ، وبمحمد نبيا ، وبالقرآن إمامًا ، إنا يا رسول الله حَدِيثو عهد بجاهلية وشرْك ، والله أعلم من آباؤنا . قال : فسكن غضبه ، ونزلت هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ }{[10435]} إسناده جيد . {[10436]}
وقد ذكر هذه القصة{[10437]} مرسلة غير واحد من السلف ، منهم أسباط عن السُّدِّي أنه قال في قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } قال : غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا من الأيام ، فقام خطيبًا فقال : " سلوني ، فإنكم لا تسألوني عن شيء إلا أنبأتكم به " . فقام إليه رجل من قريش ، من بني سهم ، يقال له : عبد الله بن حُذَافة ، وكان يُطْعَن فيه ، فقال : يا رسول الله ، من أبي ؟ فقال : " أبوك فلان " ، فدعاه لأبيه ، فقام إليه عمر بن الخطاب فقبل رجله ، وقال : يا رسول الله ، رضينا بالله ربًّا ، وبك نبيًا ، وبالإسلام دينًا ، وبالقرآن إمامًا ، فاعف عنا عفا الله عنك ، فلم يزل به حتى رضي ، فيومئذ قال : " الولد للفِرَاش وللعاهرِ الحَجَر " .
ثم قال البخاري : حدثنا الفَضْل بن سَهْل ، حدثنا أبو النَّضْر ، حدثنا أبو خَيْثَمَة ، حدثنا أبو الجُويرية ، عن ابن عباس قال : كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء ، فيقول الرجل : من أبي ؟ ويقول الرجل تَضل ناقتُه : أين ناقتي ؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } حتى فرغ من الآية كلها . تفرد{[10438]} به البخاري . {[10439]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا منصور بن وَرْدَان الأسدي ، حدثنا عليّ بن عبد الأعلى ، عن أبيه ، عن أبي البَخْتَريّ - وهو سعيد بن فيروز - عن{[10440]} علي قال : لما نزلت هذه الآية : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا } [ آل عمران : 97 ] قالوا : يا رسول الله ، {[10441]} كل عام ؟ فسكت . فقالوا : أفي كل عام ؟ فسكت ، قال : ثم قالوا : أفي كل عام ؟ فقال : " لا ولو قلت : نعم لوجبت " ، فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } إلى آخر الآية .
وكذا رواه الترمذي وابن ماجه ، من طريق منصور بن وردان ، به{[10442]} وقال الترمذي : غريب من هذا الوجه ، وسمعت البخاري يقول : أبو البختري لم يدرك عليًّا .
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان ، عن إبراهيم بن مسلم الهَجَرِيّ ، عن أبي عياض ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله كتب عليكم الحج " فقال رجل : أفي كل عام يا رسول الله ؟ فأعرض عنه ، حتى عاد مرتين أو ثلاثًا ، فقال : " من السائل ؟ " فقال : فلان . فقال : " والذي نفسي بيده ، لو قلت : نعم لوَجَبَتْ ، ولو وجبت عليكم ما أطقتموه ، ولو تركتموه لكفرتم " ، فأنزل الله ، عز وجل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } حتى ختم الآية .
ثم رواه ابن جرير من طريق الحسين بن واقد ، عن محمد بن زياد ، عن أبي هريرة - وقال : فقام مِحْصَن الأسدي - وفي رواية من هذه الطريق : عُكَاشة بن محْصن - وهو أشبه . {[10443]}
وإبراهيم بن مسلم الهجري ضعيف .
وقال ابن جرير أيضًا : حدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصري قال : حدثنا أبو زيد عبد الرحمن ابن أبي الغمر ، حدثنا ابو مطيع معاوية بن يحيى ، عن صفوان بن عمرو ، حدثني سليم بن عامر قال : سمعت أبا أمامة الباهلي يقول : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فقال : " كتب عليكم الحج " . فقام رجل من الأعراب فقال : أفي كل عام ؟ قال : فَغَلقَ كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأسكت واستغضب ، ومكث طويلا ثم تكلم فقال : " من السائل ؟ " فقال الأعرابي : أنا ذا ، فقال : " ويحك ، ماذا يؤمنك أن أقول : نعم ، والله لو قلت : نعم لوجبت ، ولو وجبت لكفرتم ، ألا إنه إنما أهلك الذين من قبلكم أئمة الحَرَج ، والله لو أني أحللت لكم جميع ما في الأرض ، وحرمت عليكم منها موضع خُفٍّ ، لوقعتم فيه " قال : فأنزل الله عند ذلك : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } إلى آخر الآية . {[10444]} في إسناده ضعف .
وظاهر{[10445]} الآية النهي عن السؤال عن الأشياء التي إذا علم بها الشخص ساءته ، فالأولى الإعراض عنها وتركها . وما أحسن الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال :
حدثنا حَجَّاج قال : سمعت إسرائيل بن يونس ، عن الوليد بن أبي هشام مولى الهمداني ، عن زيد بن زائد ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : " لا يبلغني أحد عن أحد شيئًا ؛ فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر " الحديث .
وقد رواه أبو داود والترمذي ، من حديث إسرائيل{[10446]} - قال أبو داود : عن الوليد - وقال الترمذي : عن إسرائيل - عن السدي ، عن الوليد بن أبي هاشم ، به . ثم قال الترمذي : غريب من هذا الوجه .
وقوله : { وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنزلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ } أي : وإن تسألوا عن هذه الأشياء التي نهيتم عن السؤال عنها حين ينزل الوحي على الرسول تُبَيَّن لكم ، وذلك [ على الله ]{[10447]} يسير .
ثم قال{[10448]} { عَفَا اللَّهُ عَنْهَا } أي : عما كان منكم قبل ذلك ، { وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ }
وقيل : المراد بقوله : { وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنزلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ } أي : لا تسألوا عن أشياء تستأنفون السؤال عنها ، فلعلَّه قد ينزل بسبب سؤالكم تشديد أو تضييق{[10449]} وقد ورد في الحديث : " أعظم المسلمين جُرْمًا من سأل عن شيء لم يُحَرّم فحرم من أجل مسألته " {[10450]} ولكن إذا نزل القرآن بها مجملة فسألتم عن بيانها حينئذ ، تبينت لكم لاحتياجكم إليها . {[10451]}
{ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا } أي : ما لم يذكره{[10452]} في كتابه فهو مما عفا عنه ، فاسكتوا أنتم عنها كما سكت عنها . وفي الصحيح ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ذروني ما تُرِكْتُم ؛ فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم " . {[10453]}
وفي الحديث الصحيح أيضًا : " إن الله فرض فرائض فلا تُضيِّعُوها ، وحَدَّ حدودًا فلا تعتدوها ، وحَرَّم أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء رحمة بكم غَيْرَ نِسْيان فلا تسألوا عنها " . {[10454]}
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } . .
ذكر أن هذه الاية أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب مسائل كان يسألها إياه أقوام ، امتحانا له أحيانا ، واستهزاء أحيانا ، فيقول له بعضهم : من أبي ؟ ويقول له بعضهم إذا ضلت ناقته : أين ناقتي ؟ فقال لهم تعالى ذكره : لا تسألوا عن أشياء من ذلك ، كمسألة عبد الله بن حذافة إياه من أبوه ، " إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ " يقول : إن أبدينا لكم حقيقة ما تسألون عنه ساءكم إبداؤها وإظهارها .
وبنحو الذي قلنا في ذلك تظاهرت الأخبار عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر الرواية بذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا بعض بني نفيل ، قال : حدثنا زهير بن معاوية ، قال : حدثنا أبو الجويرية ، قال : قال ابن عباس لأعرابي من بني سليم : هل تدري فيما أنزلت هذه الاية " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أشْياءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ " ؟ حتى فرغ من الاية ، فقال : كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء ، فيقول الرجل : من أبي ؟ والرجل تضلّ ناقته فيقول : أين ناقتي ؟ فأنزل الله فيهم هذه الاية .
حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا أبو عامر وأبو داود ، قالا : حدثنا هشام ، عن قتادة ، عن أنس ، قال : سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة ، فصعد المنبر ذات يوم ، فقال : «لا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إلاّ بَيّنْتُهُ لَكُمْ » . قال أنس : فجعلت أنظر يمينا وشمالاً ، فأرى كلْ إنسان لافّا ثوبه يبكي فأنشأ رجل كان ذا لاحى يدعى إلى غير أبيه ، فقال : يا رسول الله ، من أبي ؟ فقال : «أبُوكَ حُذَافَةُ » . قال : فأنشأ عمر فقال : رضينا بالله ربّا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً ، وأعوذ بالله من سوء الفتن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَمْ أرَ فِي الشّرّ والخَيْرِ كاليَوْم قَطّ ، إنّهُ صُوّرَتْ لِيَ الجَنّةُ وَالنّارُ حتى رأيْتُهُما وَرَاءَ الحائِطِ » . وكان قتادة يذكر هذا الحديث عند هذه الاية : " لا تَسأَلُوا عَنْ أشْياءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ " .
حدثني محمد بن معمر البحراني ، قال : حدثنا روح بن عبادة ، قال : حدثنا شعبة ، قال : أخبرني موسى بن أنس ، قال : سمعت أنسا يقول : قال رجل : يا رسول الله من أبي ؟ قال : «أبُوكَ فُلانٌ » . قال : فنزلت : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَسْألُوا عَنْ أشْياءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ " .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أشْياءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ " قال : فحُدّثنا أن أنس بن مالك حدثهم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه حتى أحفوه بالمسألة ، فخرج عليهم ذات يوم فصعد المنبر ، فقال : «لا تَسْأَلُونِي اليَوْمَ عَنْ شَيْءٍ إلاّ بَيّنْتُهُ لَكُمْ » فأشفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون بين يديه أمر قد حضر ، فجعلت لا ألتفت يمينا ولا شمالاً إلاّ وجدت كلاًّ لافّاً رأسه في ثوبه يبكي . فأنشأ رجل كان يُلاحَى فيدعى إلى غير أبيه ، فقال : يا نبيّ الله من أبي ؟ قال : «أبُوكَ حُذَافة » . قال : ثم قام عمر أو قال : فأنشأ عمر فقال : رضينا بالله ربّا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً عائذا بالله أو قال : أعوذ بالله من سوء الفتن . قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَمْ أرَ فِي الخَيْرِ والشّرّ كاليَوْمِ قَطّ ، صُوّرَتْ ليَ الجَنّةُ والنّارُ حتى رأيْتُهُما دُونَ الحائِطِ » .
حدثنا أحمد بن هشام وسفيان بن وكيع ، قالا : حدثنا معاذ ، قال : حدثنا ابن عون ، قال : سألت عكرمة مولى ابن عباس عن قوله : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أشْيَاءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ " قال : ذاك يوم قام فيهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : «لا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إلاّ أخْبَرْتُكُمْ بِهِ » قال : فقام رجل ، فكره المسلمون مقَامه يومئذ ، فقال : يا رسول الله من أبي ؟ قال : «أبُوكَ حُذَافَة » قال : فنزلت هذه الاية .
حدثنا الحسين بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه قال : نزلت : " لا تَسْأَلُوا عَنْ أشْياءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ " في رجل قال : يا رسول الله من أبي ؟ قال : «أبُوك فلان » .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني سفيان ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : سألوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أكثروا عليه ، فقام مغضبا خطيبا ، فقال : " سَلُوني فَوَاللّهِ لا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ ما دُمْتُ في مَقامي إلاّ حَدّثْتُكُمْ " فقام رجل فقال : من أبي ؟ قال : «أبُوكَ حُذَافَة » واشتدّ غضبه وقال : «سَلُونِي » فلما رأى الناس ذلك كثر بكاؤهم ، فجثا عمر على ركبتيه فقال : رضينا بالله ربّا ، قال معمر : قال الزهري : قال أنس مثل ذلك : فجثا عمر على ركبتيه ، فقال : رضينا بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أمَا وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَقَدْ صُوّرَتْ ليَ الجَنّةُ وَالنّارُ آنِفا فِي عَرْضِ هَذَا الحائِطِ ، فَلَمْ أرَ كاليَوْمِ فِي الخَيْرِ والشّرّ » . قال الزهريّ : فقالت أمّ عبد الله بن حُذافة : ما رأيت ولدا أعقّ منك قطّ ، أتأمن أن تكون أمك قارفت ما قارف أهل الجاهلية ، فتفضحها على رؤوس الناس فقال : والله لو ألحقني بعبد أسود للحقته .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أشْيَاءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ " قال : غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما من الأيام فقام خطيبا ، فقال : «سَلُونِي فإنّكُمْ لا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْء إلاّ أنْبَأْتُكُمْ بِهِ » فقام إليه رجل من قريش من بني سَهْم يقال له عبد الله بن حُذَافة ، وكان يُطعنَ فيه ، قال : فقال يا رسول الله من أبي ؟ قال : «أبُوكَ فُلانٌ » فدعاه لأبيه فقام إليه عمر ، فقبّل رجله وقال : يا رسول الله ، رضينا بالله ربا ، وبك نبيا ، وبالإسلام دينا ، وبالقرآن إماما ، فاعف عنا عفا الله عنك فلم يزل به حتى رضي ، فيومئذ قال : «الوَلَدُ للفِرَاش وللعاهِرِ الحَجَرُ » .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا قيس ، عن أبي حصين ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان محمارّ وجههُ ، حتى جلس على المنبر ، فقام إليه رجل ، فقال أين أبي ؟ قال : «في النّارِ » فقام آخر فقال : من أبي ؟ قال : «أبُوكَ حُذَافَةُ » . فقام عمر بن الخطاب فقال : رضينا بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ، وبالقرآن إماما ، إنا يا رسول الله حديثو عهد بجاهلية وشرك ، والله يعلم من آباؤنا . قال : فسكن غضبه ، ونزلت : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أشْيَاءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ " .
وقال آخرون : نزلت هذه الاية على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل مسألة سائل سأله عن شيء في أمر الحجّ . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا منصور بن وردان الأسديّ ، قال : حدثنا عليّ بن عبد الأعلى ، قال : لما نزلت هذه الاية : " وَللّهِ على النّاسِ حِجّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً " قالوا : يا رسول الله أفي كلّ عام ؟ فسكت ، ثم قالوا : أفي كلّ عام ؟ فسكت ، ثم قال : «لا ، ولَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ » فأنزل الله هذه الاية : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أشْياءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ " .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن سليمان ، عن إبراهيم بن مسلم الهَجَريّ ، عن ابن عياض ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ اللّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ الحَجّ » فقال رجل : أفي كلّ عام يا رسول الله ؟ فأعرض عنه ، حتى عاد مرّتين أو ثلاثا ، فقال : «مَنِ السّائِلُ ؟ » فقال فلان ، فقال : «والذي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ ، وَلَوْ وَجَبَتْ عَلَيْكُمْ ما أطَقْتُموه ، وَلَوْ تَرَكْتُمُوهُ لَكَفَرْتمْ » . فأنزل الله هذه الاية : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أشْياءَ إن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ " حتى ختم الاية .
حدثني محمد بن عليّ بن الحسين بن شقيق ، قال سمعت أبي ، قال : أخبرنا الحسين بن واقد ، عن محمد بن زياد ، قال : سمعت أبا هريرة يقول : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : «يا أيّهَا النّاسُ ، كَتَبَ اللّهُ عَلَيْكُمْ الحَجّ » . فقام محصن الأسديّ ، فقال : أفي كلّ عام يا رسول الله ؟ فقال : «أمَا إنّي لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ ، ولَوْ وَجَبَتْ ثُمّ تَرَكْتُمْ لَضَلَلْتُمْ . اسْكُتُوا عَنّى ما سَكَتّ عَنْكُمْ ، فإنّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ واخْتِلافِهِمْ على أنْبِيائِهمْ » فأنزل الله تعالى : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أشْيَاءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ " إلى آخر الاية .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين وقد ، عن محمد بن زيادة ، قال : سمعت أبا هريرة يقول : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر مثله ، إلا أنه قال : فقام عُكاشة ابنِ محْصَن الأسديّ .
حدثنا زكريا بن يحيى بن أبان المصري ، قال : حدثنا أبو زيد عبد الرحمن بن أبي العمر ، قال : حدثنا أبو مطيع معاوية بن يحيى ، عن صفوان بن عمرو ، قال : ثني سليم بن عامر ، قال : سمعت أبا أمامة الباهلي يقول : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فقال : «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الحَجّ » فقام رجل من الأعراب ، فقال : أفي كل عام ؟ قال : فعلا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسكت وأغضب واستغضب . فمكث طويلاً ثم تكلم فقال : مَنِ السّائِلُ ؟ » فقال الأعرابيّ : أنا ذا ، فقال : «وَيْحَكَ ماذَا يُؤْمِنُكَ أنْ أقُولَ نَعَمْ ، وَلَوْ قُلْتُ نَعَمُ لَوَجَبَتْ ، وَلَوْ وَجَبَتْ لَكَفَرْتُمْ ؟ ألا إنّهُ إنّمَا أهْلَكَ الّذِينَ قبْلَكُمْ أئِمّةُ الحَرَجِ ، وَاللّهُ لَوْ أنّي أحْلَلْتُ لَكُمْ جَمِيعَ ما فِي الأرْضِ وَحَرّمْتُ عَلَيْكُمْ مِنْها مَوْضِعَ خُفّ لَوَقَعْتُمْ فِيهِ » قال : فأنزل الله تعالى عند ذلك " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أشْياءَ . . . " إلى آخر الاية .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أشْيَاء إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ " وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذّن في الناس ، فقال : «يا قَوْمِ ، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الحَجّ » فقام رجل من بني أسد فقال : يا رسول الله ، أفي كلّ عام ؟ فأُغْضِبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا ، فقال : «وَالّذِي نَفْسُ مُحَمّدِ بَيَدِهِ لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ ، وَلَوْ وَجَبَتْ ما اسْتَطَعْتُمْ ، وِإذَنْ لَكَفَرْتُمْ فاتْرُكُونِي ما تَرَكْتُكُمْ ، فإذَا أمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فافْعَلُوا ، وإذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْء فانُتَهُوا عَنْهُ » . فأنزل الله تعالى : " يا أيّها الّذِين آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أشْياءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ " . نهاهم أن يسألوا عن مثل الذي سألت النصارى من المائدة ، فأصبحوا بها كافرين فنهى الله تعالى عن ذلك ، وقال : لا تسألوا عن أشياء إن نزل القرآن فيها بتغليظ ساءكم ذلك ، ولكن انتظروا فإذا نزل القرآن فإنّكُمْ لا تسألون عن شيء إلا وجدتم تبيانه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، قال : حدثنا عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : " يا أيّها الّذِين آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أشْياءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وإنْ تَسْأَلُوا عَنْها حِينَ يُنزّل القُرْآنِ تُبْدَ لَكُمْ " قال : لما أنزلت آية الحجّ ، نادى النبي صلى الله عليه وسلم في الناس ، فقال «يا أيّها النّاسُ ، إنّ اللّهَ قَدْ كَتَبَ عَلَيْكُمْ الحَجّ فَحُجّوا » فقالوا : يا رسول الله ، أعاما واحدا أم كل عام ؟ فقال «لا بَلْ عاما وَاحِدا ، وَلَوْ قُلْتُ كُلّ عامٍ لَوَجَبَتْ ، وَلَوْ وَجَبَتْ لَكَفَرْتُمْ » ثم قال الله تعالى : " يا أيّها الّذِين آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أشْياءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ " قال : سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء فوعظهم ، فانتهوا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : " يا أيّها الّذِين آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أشْياءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ " قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجّ ، فقيل : أواجب هو يا رسول الله كلّ عام ؟ قال : «لا ، لَوْ قُلْتُها لَوَجَبَتْ ، وَلَوْ وَجَبَتْ ما أطَقْتُمْ ، وَلَوْ لَمْ تُطِيقُوا لَكَفَرْتُمْ » ثم قال : «سَلُونِي فَلا يَسْأَلُنِي رَجُلٌ في مَجْلِسِي هَذَا عَنْ شَيْءٍ إلاّ أخْبَرْتُهُ ، وإنْ سَأَلَنِي عَنْ أبِيهِ » فقام إليه رجل ، فقال : من أبي ؟ قال : «أبُوكَ حُذَافَةُ بْنُ قَيْسٍ » فقام عمر ، فقال : يا رسول اصلى الله عليه وسلم رضينا بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ، ونعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله .
وقال آخرون : بل نزلت هذه الاية من أجل أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي . ذكر من قال ذلك :
حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد ، قال : حدثنا عتاب بن بشير ، عن خصيف ، عن مجاهد ، عن ابن عباس لا تَسْأَلُوا عَنْ أشْياءَ قال : هي البحيرة والسائبة والوصيلة والحام . ألا ترى أنه يقول بعد ذلك : ما جعل الله من كذا ولا كذا ؟ قال : وأما عكرمة فإنه قال : إنهم كانوا يسألونه عن الايات فنهوا عن ذلك . ثم قال : " قَدْ سَأَلها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمّ أصْبَحُوا بها كَافِرينَ " قال : فقلت : قد حدثني مجاهد بخلاف هذا ابن عباس ، فما لك تقول هذا ؟ فقال هيه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن ابن عون ، عن عكرمة عن الأعمش ، قال : هو الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أبي ؟ . وقال سعيد بن جبير : هم الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحيرة والسائبة .
وأولى الأقوال بالصواب في ذلك قول من قال : نزلت هذه الاية من أجل إكثار السائلين رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل ، كمسألة ابن حذافة إياه من أبوه ، ومسألة سائله إذ قال : «إنّ اللّهَ فَرَضَ عَلَيْكُمْ الحَجّ » : أفي كلّ عام ؟ وما أشبه ذلك من المسائل ، لتظاهر الأخبار بذلك عن الصحابة والتابعين وعامة أهل التأويل ، وأما القول الذي رواه مجاهد عن ابن عباس ، فقول غير بعيد من الصواب ، ولكن الأخبار المتظاهرة عن الصحابة والتابعين بخلافه ، وكرهنا القول به من أجل ذلك . على أنه غير مستنكر أن تكون المسألة عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحام كانت فيما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عنه من المسائل التي كره الله لهم السؤال عنها ، كما كره الله لهم المسألة عن الحجّ ، أكلّ عام هو أم عاما واحدا ؟ وكما كره لعبد الله بن حذافة مسألته عن أبيه ، فنزلت الاية بالنهي عن المسائل لها ، فأخبر كلّ مخبر منهم ببعض ما نزلت الاية من أجله وأجل غيره . وهذا القول أولى الأقوال في ذلك عندي بالصحة ، لأن مخارج الأخبار بجميع المعاني التي ذُكرت إصحاح ، فتوجيهها إلى الصواب من وجودها أوْلى .
القول في تأويل قوله تعالى : " وَإنْ تَسْأَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزّلُ القُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ " :
يقول تعالى ذكره للذين نهاهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن مسألة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عما نهاهم عن مسألتهم إياه عنه ، من فرائض لم يفرضها الله عليهم ، وتحليل أمور لهم يحللها لهم ، وتحريم أشياء لم يحرّمها عليهم قبل نزول القرآن بذلك : أيها المؤمنون السائلون عما سألوا عنه رسولي مما لم أنزل به كتابا ولا وحيا ، لا تسألوا عنه ، فإنكم إن أظهر ذلك لكم تبيان بوحي وتنزيل ساءكم لأن التنزيل بذلك إذا جاءكم يجيئكم بما فيه امتحانكم واختباركم ، إما بإيجاب عمل عليكم ، ولزوم فرض لكم ، وفي ذلك عليكم مشقة ولزوم مؤنة وكلفة ، وإما بتحريم ما لو لم يأتكم بتحريمه وحي كنتم من التقدّم عليه في فسحة وسعة ، وإما بتحليل ما تعتقدون تحريمه ، وفي ذلك لكم مساءة لنقلكم عما كنتم ترونه حقا إلى ما كنتم ترونه باطلاً ، ولكنكم إن سألتم عنها بعد نزول القرآن بها وبعد ابتدائكم شأن أمرها في كتابي إلى رسولي إليكم ، بين لكم ما أنزلته إليه من إتيان كتابي وتأويل تنزيلي ووحيي ، وذلك نظير الخبر الذي رُويَ عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي :
حدثنا به هناد بن السريّ ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن داود بن أبي هند ، عن مكحول ، عن أبي ثعلبة الخشني ، قال : «إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها ، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها ، وحدّ حدودا فلا تعتدوها ، وعفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها » .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، قال : أخبرنا ابن جريج ، عن عطاء ، قال : كان عبيد بن عمير يقول : إن الله تعالى أحلّ وحرّم ، فما أحلّ فاستحلوه وما حرّم فاجتنبوه ، وترك من ذلك أشياء لم يحلها ولم يحرّمها فذلك عفو من الله عفاه ثم يتلو : " يا أيّها الّذِين آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أشْياءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ " .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا الضحاك ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : أخبرني عطاء ، عن عبيد ابن عمير ، أنه كان يقول : إن الله حرّم وأحلّ ، ثم ذكر نحوه .
وأما قوله : عَفا اللّهُ عَنْها فإنه يعني به : عفا الله لكم عن مسألتكم عن الأشياء التي سألتم عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كره الله لكم مسألتكم إياه عنها ، أن يؤاخذكم بها ، أو يعاقبكم عليها ، إن عرف منها توبتكم وإنابتكم . وَاللّهُ غَفُورٌ يقول : والله ساتر ذنوب من تاب منها ، فتارك أن يصفحه في الاخرة ، حَلِيمٌ أن يعاقبه بها ، لتغمده التائب منها برحمته وعفوه ، عن عقوبته عليها .
وبنحو الذي قلنا في ذلك رُوي الخبر عن ابن عباس الذي ذكرناه آنفا . وذلك ما :
حدثني به محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " لا تسْأَلُوا عَنْ أشْيَاءَ " إن نزل القرآن فيها بتغليظ ساءكم ذلك ، ولكن انتظروا فإذا نزل القرآن ، فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم تبيانه .
وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء } الآية ، اختلف الرواة في سببها فقالت فرقة منهم أنس بن مالك وغيره : نزلت بسبب سؤال عبد الله بن حذافة السهمي{[4740]} ، ( وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد المنبر مغضباً ، فقال : لا تسألوني اليوم عن شيء إلا أخبرتكم به ، فقام رجل فقال أين أنا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : في النار فقام عبد الله بن حذافة السهمي وكان يطعن في نسبه ، فقال من أبي ؟ فقال : أبوك حذافة ) .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وفي الحديث مما لم يذكر الطبري ( فقام آخر فقال من أبي ؟ فقال أبوك سالم مولى أبي شيبة ، فقام عمر بن الخطاب فجثا على ركبتيه وقال رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً ومحمد نبياً نعوذ بالله من الفتن ، وبكى الناس من غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونزلت هذه الآية بسبب هذه الاسئلة ){[4741]} .
قال القاضي أبو محمد : وصعود رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر مغضباً إنما كان بسبب سؤالات الأعراب والجهال والمنافقين ، فكان منهم من يقول أين ناقتي ؟ وآخر يقول ما الذي ألقى في سفري هذا ؟ ونحو هذا مما هو جهالة أو استخفاف وتعنيت ، وقال علي بن أبي طالب وأبو هريرة وأبو أمامة الباهلي وابن عباس ، في لفظهم اختلاف ، والمعنى واحد ، خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال : أيها الناس كتب عليكم الحج وقرأ عليهم { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً }{[4742]} قال علي : فقالوا يا رسول الله : أفي كل عام ؟ فسكت ، فأعادوا ، قال : لا ولو قلت نعم ، لوجبت ، وقال أبو هريرة : فقال عكاشة بن محصن وقال مرة فقال محصن الأسدي ، وقال غيره فقام رجل من بني أسد ، وقال بعضهم فقام أعرابي فقال يا رسول الله ، أفي كل عام ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : من السائل ؟ فقيل فلان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت لم تطيقوه ، ولو تركتموه ، لهلكتم »{[4743]} فنزلت هذه الآية بسبب ذلك ، ويقوي هذا حديث سعد بن أبي وقاص أن النبي عليه السلام قال : «إن أعظم المسلمين على المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته »{[4744]} وروي عن ابن عباس أنه قال : نزلت الآية بسبب قوم سألوا عن البحيرة والسائبة والوصيلة ونحو هذا من أحكام الجاهلية ، وقاله سعيد بن جبير{[4745]} .
قال القاضي أبو محمد : وروي أنه لما بين الله تعالى في هذه الآيات أمر الكعبة والهدي والقلائد ، وأعلم أن حرمتها هو الذي جعلها إذ هي أمور نافعة قديمة من لدن عهد إبراهيم عليه السلام ، ذهب ناس من العرب إلى السؤال عن سائر أحكام الجاهلية ليروا هل تلحق بتلك أم لا ، إذ كانوا قد اعتقدوا الجميع سنة لا يفرقون بين ما هو من عند الله وما هو من تلقاء الشيطان والمغيرين لدين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام كعمرو بن لحي وغيره ، وفي عمرو بن لحي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : رأيته يجر قصبه في النار وكان أول من سيب السوائب{[4746]} .
قال القاضي أبو محمد : والظاهر من الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألحت عليه الأعراب والجهال بأنواع من السؤالات حسبما ذكرناه ، فزجر الله تعالى عن ذلك بهذه الآية و { أشياء } اسم جمع لشيء أصله عند الخليل وسيبويه شيئاً مثل فعال قلبت إلى الفعل لثقل اجتماع الهمزتين ، وقال أبو حاتم { أشياء } وزنها أفعال وهو جمع شيء وترك الصرف فيه سماع ، وقال الكسائي : لم ينصرف { أشياء } لشبه آخرها بآخر حمراء ، ولكثرة استعمالها ، والعرب تقول أشياوات كما تقول حمراوات ، ويلزم على هذا أن لا ينصرف أسماء لأنهم يقولون أسماوات{[4747]} ، وقال الأخفش : { أشياء } أصلها أشياء على وزن أفعلاء ، اسثقلت اجتماع الهمزتين فأبدلت الأولى ياء لانكسار ما قبلها ثم حذفت الياء استخفافاً ، ويلزم على هذا أن يكون واحد الأشياء شيئاً مثل هين وأهوناء{[4748]} .
وقرأ جمهور الناس «إن تُبدَ » بضم التاء وفتح الدال وبناء الفعل للمفعول ، وقرأ مجاهد «إن تَبدُ » بفتح التاء وضم الدال على بناء الفعل للفاعل ، وقرأ الشعبي «إن يبد لكم » بالياء من أسفل مفتوحة والدال مضمومة «يسؤكم » بالياء من أسفل ، أي يبده الله لكم .
وقوله تعالى { وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم } قال ابن عباس : معناه لا تسألوا عن أشياء في ضمن الإخبار عنها مساءة لكم إما لتكليف شرعي يلزمكم وإما لخبر يسوء ، كما قيل للذي قال أين أنا ؟ ولكن إذا نزل القرآن بشيء وابتدأكم ربكم بأمر فحينئذٍ إن سألتم عن تفصيله وبيانه ُبِّين لكم وُأبدى .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : فالضمير في قوله { عنها } عائد على نوعها لا على الأولى التي نهى عن السؤال عنها ، وقال أبو ثعلبة الخشني رضي الله عنه : إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وحد حدوداً فلا تعتدوها وعفا من غير نسيان عن أشياء فلا تبحثوا عنها ، وكان عبيد بن عمير يقول : إن الله أحل وحرم فما أحل فاستحلوا وما حرم فاجتنبوا وترك بين ذلك أشياء لم يحلها ولم يحرمها ، فذلك عفو من الله عفاه ، ثم يتلو هذه الآية .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل قوله تعالى : { وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم } أن يكون في معنى الوعيد كأنه قال لا تسألوا وإن سألتم لقيتم عبء ذلك وصعوبته لأنكم تكلفون وتستعجلون علم ما يسوءكم كالذي قيل له إنه في النار ، وقوله تعالى : { عفا الله عنها } تركها ولم يعرف بها ، وهذه اللفظة التي هي { عفا } ، تؤيد أن الأشياء التي هي في تكليفات الشرع ، وينظر إلى ذلك قول النبي عليه السلام ( إن الله قد عفا لكم عن صدقة الخيل ){[4749]} ، و { غفور حليم } صفتان تناسب{[4750]} العفو وترك المباحثة والسماحة في الأمور .