قوله تعالى : { صراط الذين أنعمت عليهم } . أي مننت عليهم بالهداية والتوفيق قال عكرمة : مننت عليهم بالثبات على الإيمان والاستقامة ، وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وقيل : هم كل من ثبته الله على الإيمان من النبيين والمؤمنين الذين ذكرهم الله تعالى في قوله : ( فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين ) الآية وقال ابن عباس : هم قوم موسى وعيسى عليهما السلام قبل أن غيروا دينهم ، وقال عبد الرحمن : هم النبي ومن معه ، وقال أبو العالية : هم الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما ، قال عبد الرحمن بن زيد : إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته ، وقال شهر بن حوشب : هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته . قرأ حمزة : ( عليهم ، ولديهم ، وإليهم ) ، بضم هاءاتها ، ويضم يعقوب كل هاء قبلها ياء ساكنة تثنية وجمعاً إلا قوله : ( بين أيديهن وأرجلهن ) وقرأ الآخرون بكسرهما ، فمن ضم الهاء ردها إلى الأصل ، لأنها مضمومة عند الانفراد ومن كسرها فلأجل الياء الساكنة و الياء أخت الكسرة ، وضم ابن كثير و أبو جعفر كل ميم جمع مشبعاً في الوصل إذا لم يلقها ساكن ، فإن لقيها ساكن فلا يشبع ، ونافع يخير ، ويضم ورش عند ألف القطع ، فإذا تلقته ألف وصل وقبل الهاء كسر أو ياء ساكنة ضم الهاء والميم حمزة و الكسائي ، وكسرهما أبو عمرو ، وكذلك يعقوب إذا انكسر ما قبله ، والآخرون يقرؤون بضم الميم وكسر الهاء في الكل لأجل الياء ، أو لكسر ما قبلها وضم الميم على الأصل .
قوله تعالى : { غير المغضوب عليهم } . يعني غير صراط الذين غضبت عليهم ، والغضب هو : إرادة الانتقام من العصاة ، وغضب الله تعالى لا يلحق عصاة المؤمنين إنما يلحق الكافرين .
قوله تعالى : { ولا الضالين } . أي وغير الضالين عن الهدى . وأصل الضلال الهلاك والغيبوبة ، يقال : ضل الماء في اللبن إذا هلك وغاب . و( غير ) هاهنا بمعنى لا ، ولا بمعنى غير ، ولذلك جاز العطف عليها ، كما يقال : فلان غير محسن ولا مجمل ، فإذا كان ( غير ) بمعنى سوى فلا يجوز العطف عليها بلا ، ولا يجوز في الكلام : عندي سوى عبد الله ولا زيد . وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه " صراط من أنعمت عليهم " لأن الله تعالى حكم على اليهود بالغضب فقال : ( من لعنه الله وغضب عليه ) وحكم على النصارى بالضلال ( غير المغضوب عليهم ) وغير الضالين وقيل المغضوب عليهم هم اليهود ، والضالون هم النصارى فقال : ( ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل ) وقال سهل بن عبد الله ( غير المغضوب عليهم ) بالبدعة ( ولا الضالين ) عن السنة .
والسنة للقارئ أن يقول بعد فراغه من قراءة الفاتحة { آمين } . مفصولا عن الفاتحة بسكتة وهو مخفف ، ويجوز ممدودا ومقصورا ومعناه : اللهم اسمع واستجب . وقال ابن عباس و قتادة : معناه كذلك يكون ، وقال مجاهد : هو اسم من أسماء الله تعالى ، وقيل : هو طابع الدعاء ، وقيل هو خاتم الله على عباده يدفع به الآفات عنهم ، كخاتم الكتاب يمنعه من الفساد وظهور ما فيه .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، و أبو حامد أحمد بن عبد الله الصالحي قالا : أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري ، أنا أبو علي محمد ابن أحمد بن محمد بن معقل الميداني ، ثنا محمد بن يحيى ، ثنا عبد الرزاق ، أنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا قال الإمام غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا آمين ، فإن الملائكة تقول آمين ، وإن الإمام يقول آمين ، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه " صحيح .
أخبرنا أبو الحسن أحمد بن عبد الرحمن بن محمد الكناني ، أنا أبو نصر محمد ابن علي بن الفضل الخزاعي ، أنا أبو عثمان عمر بن عبد الله البصري ، ثنا محمد ابن عبد الوهاب ، ثنا خالد بن مخلد القطراني ، حدثني محمد بن جعفر بن أبي كثير ، هو أخو إسماعيل بن جعفر ، عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال : " مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبيّ بن كعب وهو قائم يصلي فصاح به فقال : تعال يا أبي ، فعجل أبي في صلاته ، ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما منعك يا أبي أن تجيبني إذ دعوتك ؟ أليس الله يقول : ( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذ دعاكم لما يحييكم ) قال أبي : لا جرم يا رسول الله لا تدعوني إلا أجبتك وإن كنت مصليا . قال : أتحب أن أعلمك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها ؟ فقال أبيّ : نعم يا رسول الله فقال : لا تخرج من باب المسجد حتى تعلمها والنبي صلى الله عليه وسلم يمشي يريد أن يخرج من المسجد ، فلما بلغ الباب ليخرج قال له أبي : السورة يا رسول الله ؟ فوقف فقال : نعم كيف تقرأ في صلاتك ؟ فقرأ أبي أم القرآن ، فقال رسول الله : صلى الله عليه وسلم " والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها ، وإنما هي السبع من المثاني التي آتاني الله عز وجل " هذا حديث حسن صحيح .
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الصمد الترابي ، أنا الحاكم أبو الفضل محمد ابن الحسين الحدادي ، أنا أبو يزيد محمد بن يحيى بن خالد ، أنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ، ثنا يحيى بن آدم ، ثنا أبو الأحوص عن عمار بن ذريق عن عبد الله بن عيسى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : " بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جبريل إذ سمع نقضا من فوقه ، فرفع جبريل بصره إلى السماء ، فقال : هذا باب فتح من السماء ما فتح قط ، قال : فنزل منه ملك ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك ، فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة ، لن تقرأ حرفا منهما إلا أعطيته " صحيح .
أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد الشيرازي ، ثنا زاهر بن أحمد السرخسي ، أنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أنا أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري ، عن مالك عن العلاء بن عبد الرحمن أنه سمع أبا السائب مولى هشام بن زهرة ، يقول : سمعت أبا هريرة يقول ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج غير تمام " قال : فقلت يا أبا هريرة إني أحيانا أكون وراء الإمام ؟ فغمز ذراعي وقال : اقرأ بها يا فارسي في نفسك ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " قال الله عز وجل : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقرؤوا يقول العبد : ( الحمد لله رب العالمين ) يقول الله : حمدني عبدي ، يقول العبد : ( الرحمن الرحيم ) يقول الله : أثنى علي عبدي ، يقول العبد : ( مالك يوم الدين ) يقول الله : مجدني عبدي . يقول العبد : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) يقول الله عز وجل : هذه الآية بيني وبين عبدي ، فلعبدي ما سأل . يقول العبد : ( اهدنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) يقول الله : فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل " صحيح .
وهذا الصراط المستقيم هو : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين . { غَيْرِ } صراط { الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } الذين عرفوا الحق وتركوه كاليهود ونحوهم . وغير صراط { الضَّالِّينَ } الذين تركوا الحق على جهل وضلال ، كالنصارى ونحوهم .
فهذه السورة على إيجازها ، قد احتوت على ما لم تحتو عليه سورة من سور القرآن ، فتضمنت أنواع التوحيد الثلاثة : توحيد الربوبية يؤخذ من قوله : { رَبِّ الْعَالَمِينَ }
وتوحيد الألوهية وهو إفراد الله بالعبادة ، يؤخذ من لفظ : { اللَّهِ } ومن قوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } وتوحيد الأسماء والصفات ، وهو إثبات صفات الكمال لله تعالى ، التي أثبتها لنفسه ، وأثبتها له رسوله من غير تعطيل ولا تمثيل ولا تشبيه ، وقد دل على ذلك لفظ { الْحَمْدُ } كما تقدم . وتضمنت إثبات النبوة في قوله : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } لأن ذلك ممتنع بدون الرسالة .
وإثبات الجزاء على الأعمال في قوله : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } وأن الجزاء يكون بالعدل ، لأن الدين معناه الجزاء بالعدل .
وتضمنت إثبات القدر ، وأن العبد فاعل حقيقة ، خلافا للقدرية والجبرية . بل تضمنت الرد على جميع أهل البدع [ والضلال ] في قوله : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } لأنه معرفة الحق والعمل به . وكل مبتدع [ وضال ] فهو مخالف لذلك .
وتضمنت إخلاص الدين لله تعالى ، عبادة واستعانة في قوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فالحمد لله رب العالمين .
وجملة { صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } بدل من الصراط المستقيم . ولم يقل : اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم مستغنيًا عن ذكر الصراط المستقيم ، ليدل أن صراط هؤلاء المنعم عليهم هو الصراط المستقيم .
وقال : { صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ولم يقل صراط الأنبياء أو الصالحين ، ليدل على أن الدين فى ذاته نعمة عظيمة ، ويكفى للدلالة على عظمتها إسنادها إليه - تعالى - فى قوله : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } لأن المراد بالإِنعام هنا - على الراجح - الإِنعام الدينى . فالمنعم عليهم هم من عرفوا الحق فتمسكوا به ، وعرفوا الخير فعملوا به . قال بعض العلماء : " وإنما اختار فى البيان أن يضيف الصراط إلى المنعم عليهم لمعنيين : أولهما : هو إبراز نفسية المحب المخلص ، وأنه يكون شديد الاحتياط دقيق التحرى عن الطريق الموصل إلى ساحة الرضا فى ثقة تملأ نفسه ، وتفعم قلبه ، ولا يجد فى مثل هذا المقام ما يملأ نفسه ثقة إلا أن يبين الطريق ، بأنه الطريق الذى وصل بالسير عليه من قبله الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون . وثانيهما : أن من خواطر المؤمل فى نعيم ربه أن يكون تمام أنسه فى رفقة من الناس صالحين ، وصحب منهم محسنين ) .
وقوله - تعالى - { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم } بدل من { الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } وأتى فى وصف الإِنعام بالفعل المسند إلى الله - تعالى - فقال : { أنعمت عليهم } فى وصف الغضب باسم المفعول فقال : { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم } وفى ذلك تعليم لأدب جميل ، وهو أن الإِنسان يجمل به أن يسند أفعال الإِحسان إلى الله ، ويتحامى أن يسند إليه أفعال العقاب والابتلاء ، وإن كان كل من الإِحسان والعقاب صادرًا منه ، ومن شواهد هذا قوله - تعالى - حكاية عن مؤمنى الجن { وَأَنَّا لاَ ندري أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرض أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً } وحرف ( لا ) فى قوله { وَلاَ الضآلين } جئ به لتأكيد معنى النفى المستفاد من كلمة غير . والمراد بالمغضوب عليهم اليهود . وبالضالين النصارى . وقد ورد هذا التفسير عن النبى صلى الله عليه وسلم فى حديث رواه الإِمام أحمد فى مسنده وابن حبان فى صحيحه . ومن المفسرين من قال بأن المراد بالمغضوب عليهم من فسدت إرادتهم حيث علموا الحق ولكنهم تركوه عنادًا وجحودا ، وأن المراد بالضالين من فقدوا العلم فهم تائهون فى الضلالات دون أن يهتدوا إلى طريق قويم . وقدم المغضوب عليهم على الضالين ، لأن معنى المغضوب عليهم كالضد لمعنى المنعم عليهم ، ولأن المقابلة بينهما أوضح منها بين المنعم عليهم والضالين ، فكان جديرًا بأن يوضع فى مقابلته قبل الضالين .
قال العلماء : ويستحب لمن يقرأ الفاتحة أن يقول بعدها ( آمين ) ومعناه اللهم استجب وليس هذا اللفظ من القرآن بدليل أنه لم يثبت فى المصاحف والدليل على استحباب التأمين ما رواه الإِمام أحمد وأبو داود والترمذى عن وائل بن حجر قال : سمعت النبى صلى الله عليه وسلم قرأ { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين } فقال : ( آمين ) مد بها صوته .
وفى الصحيحين عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أمن الإِمام فأمنوا ، فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر الله له ما تقدم من ذنبه " .
هذا ، وقد أفاض العلماء فى الحديث عما اشتملت عليه سورة الفاتحة من آداب وعقائد وعبادات وأحكام ، ومن ذلك قول ابن كثير : ( اشتملت هذه السورة الكريمة ، وهى سبع آيات - على حمد الله وتمجيده والثناء عليه بذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العليا ، وعلى ذكر المعاد وهو يوم الدين ، وعلى إرشاد عبيده إلى سؤاله والتضرع إليه والتبرى من حولهم وقوتهم ، إلى إخلاص العبادة له وتوحيده بالألوهية ، وتنزيهه عن أن يكون له شريك أو نظير ، وإلى سؤالهم إياه الهداية إلى الصراط المستقيم ، وهو الدين القويم وتثبيتهم عليه ، واشتملت على الترغيب فى الأعمال الصالحة ليكونوا مع أهلها يوم القيامة ، والتحذير من مسالك الباطل لئلا يحشروا مع سالكيها يوم القيامة ، وهم المغضوب عليهم والضالون ) . وقال بعض العلماء : سورة الفاتحة مشتملة على أربعة أنواع من العلوم هى مناط الدين . أحدها : علم الأصول وإليه الإِشارة بقوله { الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين الرحمن الرحيم } ، ومعرفة النبوات وإليه الإشارة بقوله : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ومعرفة المعاد وإليه الإشارة بقوله { مالك يَوْمِ الدين } . وثانيها : علم الفروع وأعظمه العبادات وإليه الإِشارة بقوله { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } . وثالثها : علم الأخلاق ، وإليه الإِشارة بقوله { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهدنا الصراط المستقيم } . ورابعها : علم القصص والأخبار عن الأمم السابقة السعداء منه والأشقياء ، وهو المراد بقوله { صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين } . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
{ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ }
قد تقدم الحديث فيما إذا قال العبد : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } إلى آخرها أن الله يقول : " هذا لعبدي ولعبدي ما سأل " .
وقوله : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } مفسر للصراط المستقيم . وهو بدل منه عند النحاة ، ويجوز أن يكون عطف بيان ، والله أعلم .
و{ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ{[955]} عَلَيْهِمْ } هم المذكورون في سورة النساء ، حيث قال : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا } [ النساء : 69 ، 70 ] .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : صراط الذين أنعمت عليهم بطاعتك وعبادتك ، من ملائكتك ، وأنبيائك ، والصديقين ، والشهداء ، والصالحين ؛ وذلك نظير ما قال ربنا تعالى : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } الآية [ النساء : 69 ] .
وقال أبو جعفر ، عن الربيع بن أنس : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } قال : هم النبيون . وقال ابن جُرَيْج ، عن ابن عباس : هم المؤمنون . وكذا قال مجاهد . وقال وَكِيع : هم المسلمون . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هم النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه . والتفسير المتقدم ، عن ابن عباس أعم ، وأشمل ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } [ قرأ الجمهور : " غير " بالجر على النعت ، قال الزمخشري : وقرئ بالنصب على الحال ، وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب ، ورويت عن ابن كثير ، وذو الحال الضمير في { عليهم } والعامل : { أنعمت } والمعنى ]{[956]} اهدنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم ممن تقدم وصفهم ونعتهم ، وهم أهل الهداية والاستقامة والطاعة لله ورسله ، وامتثال أوامره وترك نواهيه وزواجره ، غير صراط المغضوب عليهم ، [ وهم ]{[957]} الذين فسدت إرادتهم ، فعلموا الحق وعدلوا عنه ، ولا صراط الضالين وهم الذين فقدوا العلم فهم هائمون في الضلالة لا يهتدون إلى الحق ، وأكد الكلام بلا ليدل على أن ثَمّ مسلكين فاسدين ، وهما طريقتا اليهود والنصارى .
وقد زعم بعض النحاة أن { غير } هاهنا استثنائية ، فيكون على هذا منقطعًا لاستثنائهم من المنعم عليهم وليسوا منهم ، وما أوردناه أولى ، لقول الشاعر{[958]}
كأنَّك من جِمال بني أقَيش *** يُقَعْقَعُ عند{[959]} رِجْلَيْه بشَنِّ
أي : كأنك جمل من جمال بني أقيش ، فحذف الموصوف واكتفى بالصفة{[960]} ، وهكذا ، { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } أي : غير صراط المغضوب عليهم .
اكتفى بالمضاف إليه عن ذكر المضاف ، وقد دل عليه سياق الكلام ، وهو قوله تعالى : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ثم قال تعالى : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } ومنهم من زعم أن( لا ) في قوله : { ولا الضالين } زائدة ، وأن تقدير الكلام عنده : غير المغضوب عليهم والضالين ، واستشهد ببيت العجاج : في بئْر لا حُورٍ *** سرى{[961]} وما شَعَر{[962]}
والصحيح ما قدمناه . ولهذا روى أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب فضائل القرآن ، عن أبي معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه : أنه كان يقرأ : " غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَغَيْر الضَّالّين " . وهذا إسناد صحيح{[963]} ، [ وكذا حكي عن أبي بن كعب أنه قرأ كذلك ]{[964]} وهو محمول على أنه صدر منه على وجه التفسير ، فيدل على ما قلناه من أنه إنما جيء بها لتأكيد النفي ، [ لئلا يتوهم أنه معطوف على { الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ]{[965]} ، وللفرق بين الطريقتين ، لتجتنب كل منهما ؛ فإن طريقة أهل الإيمان مشتملة على العلم بالحق والعمل به ، واليهود فقدوا العمل ، والنصارى فقدوا العلم ؛ ولهذا كان الغضب لليهود ، والضلال للنصارى ، لأن من علم وترك استحق الغضب ، بخلاف من لم يعلم . والنصارى لما كانوا قاصدين شيئًا لكنهم لا يهتدون إلى طريقه ، لأنهم لم يأتوا الأمر من بابه ، وهو اتباع الرسول الحق ، ضلوا ، وكل من اليهود والنصارى ضال مغضوب عليه ، لكن أخص أوصاف اليهود الغضب [ كما قال فيهم : { مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ } ]{[966]} [ المائدة : 60 ] وأخص أوصاف النصارى الضلال [ كما قال : { قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيل " ]{[967]} } [ المائدة : 77 ] ، وبهذا جاءت الأحاديث والآثار . [ وذلك واضح بين ]{[968]} . قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، قال : سمعت سِماك بن حرب ، يقول : سمعت عبَّاد بن حُبَيش ، يحدث عن عدي بن حاتم ، قال : جاءت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذوا عمتي وناسًا ، فلما أتوا بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صُفُّوا له ، فقالت : يا رسول الله ، ناء الوافد وانقطع الولد ، وأنا عجوز كبيرة ، ما بي من خدمة ، فمُنّ علي مَنّ الله عليك ، قال : «من وافدك ؟ » قالت : عدي بن حاتم ، قال : «الذي فر من الله ورسوله ! » قالت : فمنَّ علي ، فلما رجع ، ورجل إلى جنبه{[969]} ، ترى أنه علي ، قال : سليه حُمْلانا ، فسألته ، فأمر لها ، قال : فأتتني فقالت : لقد فعل فعلة ما كان أبوك يفعلها ، فإنه قد أتاه فلان فأصاب منه ، وأتاه فلان فأصاب منه ، فأتيته فإذا عنده امرأة وصبيان أو صبي ، وذكر قربهم من النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : فعرفت أنه ليس بملك كسرى ولا قيصر ، فقال :
«يا عدي ، ما أفرك{[970]} أن يقال{[971]} لا إله إلا الله ؟ فهل من إله إلا الله ؟ قال : ما أفرك{[972]} أن يقال : الله أكبر ، فهل شيء أكبر{[973]} من الله ، عز وجل ؟ » . قال : فأسلمت ، فرأيت وجهه استبشر ، وقال : «المغضوب{[974]} عليهم اليهود ، وإن الضالين النصارى »{[975]} . وذكر الحديث ، ورواه الترمذي ، من حديث سماك بن حرب{[976]} ، وقال : حسن غريب لا نعرفه إلا من حديثه . قلت : وقد رواه حماد بن سلمة ، عن سماك ، عن مُرِّيّ بن قَطَريّ ، عن عدي بن حاتم ، قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } قال : «هم اليهود » { ولا الضالين } قال : «النصارى هم الضالون » . وهكذا رواه سفيان بن عيينة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ، عن عدي بن حاتم به{[977]} . وقد روي حديث عدي هذا من طرق ، وله ألفاظ كثيرة يطول ذكرها .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن بُدَيْل العُقَيْلي ، أخبرني عبد الله بن شَقِيق ، أنه أخبره من سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القُرَى ، وهو على فرسه ، وسأله رجل من بني القين ، فقال : يا رسول الله ، من هؤلاء ؟ قال : «المغضوب عليهم - وأشار إلى اليهود - والضالون هم النصارى »{[978]} . وقد رواه الجُرَيري وعروة ، وخالد الحَذَّاء ، عن عبد الله بن شقيق ، فأرسلوه{[979]} ، ولم يذكروا من سمع النبي صلى الله عليه وسلم . ووقع في رواية عروة تسمية عبد الله بن عمر ، فالله أعلم .
وقد روى ابن مَرْدُويه ، من حديث إبراهيم بن طَهْمان ، عن بديل بن ميسرة ، عن عبد الله بن شقيق ، عن أبي ذر قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المغضوب عليهم قال : «اليهود » ، [ قال ]{[980]} قلت : الضالين ، قال : «النصارى »{[981]} . وقال السُّدِّي ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } هم اليهود ، { ولا الضالين } هم النصارى .
وقال الضحاك ، وابن جُرَيْج ، عن ابن عباس : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } اليهود ، { ولا الضالين } [ هم ]{[982]} النصارى .
وكذلك قال الربيع بن أنس ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغير واحد ، وقال ابن أبي حاتم : ولا أعلم بين المفسرين في هذا اختلافًا .
وشاهد ما قاله هؤلاء الأئمة من أن اليهود مغضوب عليهم ، والنصارى ضالون ، الحديث المتقدم ، وقوله تعالى في خطابه مع بني إسرائيل في سورة البقرة : { بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنزلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ } [ البقرة : 90 ] ، وقال في المائدة{[983]} { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } [ المائدة : 60 ] ، وقال تعالى : { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } [ المائدة : 78 ، 79 ] .
وفي السيرة{[984]} {[985]}عن زيد بن عمرو بن نفيل ؛ أنه لما خرج هو وجماعة من أصحابه إلى الشام يطلبون الدين الحنيف ، قالت له اليهود : إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله . فقال : أنا من غضب الله أفر . وقالت له النصارى : إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ بنصيبك من سَخَط الله فقال : لا أستطيعه . فاستمر على فطرته ، وجانب عبادة الأوثان ودين المشركين ، ولم يدخل مع أحد من اليهود ولا النصارى ، وأما أصحابه فتنصروا ودخلوا في دين النصرانية ؛ لأنهم وجدوه أقرب من دين اليهود إذ ذاك ، وكان منهم ورقة بن نوفل ، حتى هداه الله بنبيه لما بعثه آمن بما وجد من الوحي ، رضي الله عنه .
( مسألة ) : والصحيح من مذاهب العلماء أنه يغتفر الإخلال بتحرير ما بين الضاد والظاء لقرب مخرجيهما ؛ وذلك أن الضاد مخرجها من أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس ، ومخرج الظاء من طرف اللسان وأطراف الثنايا العليا ، ولأن كلا من الحرفين من الحروف المجهورة ومن الحروف الرخوة ومن الحروف المطبقة ، فلهذا كله اغتفر استعمال أحدهما مكان الآخر لمن لا يميز ذلك والله أعلم . وأما حديث : " أنا أفصح من نطق بالضاد " فلا أصل له والله أعلم .
اشتملت هذه السورة الكريمة وهي سبع آيات ، على حمد الله وتمجيده والثناء عليه ، بذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العليا{[1]} ، وعلى ذكر المعاد وهو يوم الدين ، وعلى إرشاده عبيده{[2]} إلى سؤاله والتضرع إليه ، والتبرؤ من حولهم وقوتهم ، وإلى إخلاص العبادة له وتوحيده بالألوهية تبارك وتعالى ، وتنزيهه أن يكون له شريك أو نظير أو مماثل ، وإلى سؤالهم إياه الهداية إلى الصراط المستقيم ، وهو الدين القويم ، وتثبيتهم عليه حتى يُفضي بهم ذلك إلى جواز الصراط الحسي يوم القيامة ، المفضي بهم إلى جنات النعيم في جوار النبيين ، والصديقين ، والشهداء ، والصالحين .
واشتملت على الترغيب في الأعمال الصالحة ، ليكونوا مع أهلها يوم القيامة ، والتحذير من مسالك الباطل ؛ لئلا يحشروا مع سالكيها يوم القيامة ، وهم المغضوب عليهم والضالون . وما أحسن ما جاء إسناد الإنعام إليه في قوله تعالى : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } وحذف الفاعل في الغضب في قوله تعالى : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } وإن كان هو الفاعل لذلك في الحقيقة ، كما قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } الآية [ المجادلة : 14 ] ،
وكذلك إسناد الضلال إلى من قام به ، وإن كان هو الذي أضلهم بقدَره ، كما قال تعالى : { مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا } [ الكهف : 17 ] . وقال : { مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الأعراف : 186 ] . إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه سبحانه هو المنفرد بالهداية والإضلال ، لا كما تقوله الفرقة القدرية ومن حذا حذوهم ، من أن العباد هم الذين يختارون ذلك ويفعلونه{[3]} ، ويحتجون على بدعتهم{[4]} بمتشابه من القرآن ، ويتركون ما يكون فيه صريحا في الرد عليهم ، وهذا حال أهل الضلال والغي ، وقد ورد في الحديث الصحيح : «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه ، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم »{[5]} . يعني في قوله تعالى : { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } [ آل عمران : 7 ] ، فليس - بحمد الله - لمبتدع في القرآن حجة صحيحة ؛ لأن القرآن جاء ليفصل الحق من الباطل مفرقًا بين الهدى والضلال ، وليس فيه تناقض ولا اختلاف ؛ لأنه من عند الله ، تنزيل من حكيم حميد{[6]} .
يستحب لمن قرأ الفاتحة أن يقول بعدها : آمين [ مثل : يس ]{[7]} ، ويقال : أمين . بالقصر أيضًا [ مثل : يمين ]{[8]} ، ومعناه : اللهم استجب ، والدليل على ذلك{[9]} ما رواه الإمام أحمد وأبو داود ، والترمذي ، عن وائل بن حجر ، قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } فقال : " آمين " ، مد{[10]} بها صوته ، ولأبي داود : رفع بها صوته{[11]} ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن . وروي عن علي ، وابن مسعود وغيرهم .
وعن أبي هريرة ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تلا { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } قال : " آمين " حتى يسمع من يليه من الصف الأول ، رواه أبو داود ، وابن ماجه ، وزاد : يرتج{[12]} بها المسجد{[13]} ، والدارقطني وقال : هذا إسناد حسن .
وعن بلال أنه قال : يا رسول الله ، لا تسبقني بآمين . رواه أبو داود{[14]} .
ونقل أبو نصر القشيري{[15]} عن الحسن وجعفر الصادق أنهما شددا الميم من آمين مثل : { آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ } [ المائدة : 2 ] .
قال أصحابنا وغيرهم : ويستحب ذلك لمن هو خارج الصلاة ، ويتأكد في حق المصلي ، وسواء كان منفردًا أو إمامًا أو مأمومًا ، وفي جميع الأحوال ، لما جاء في الصحيحين ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أمن الإمام فأمنوا ، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة ، غفر له ما تقدم من ذنبه " ولمسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إذا قال أحدكم في الصلاة : آمين ، والملائكة{[16]} في السماء : آمين ، فوافقت إحداهما الأخرى ، غفر له ما تقدم من ذنبه »{[17]} . [ قيل : بمعنى من وافق تأمينه تأمين الملائكة في الزمان ، وقيل : في الإجابة ، وقيل : في صفة الإخلاص ]{[18]} . وفي صحيح مسلم عن أبي موسى مرفوعا : «إذا{[19]} قال ، يعني الإمام : { ولا الضالين } ، فقولوا : آمين . يجبكم الله »{[20]} . وقال جُوَيبر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : قلت : يا رسول الله ، ما معنى آمين ؟ قال : «رب افعل »{[21]} . وقال الجوهري : معنى آمين : كذلك فليكن ، وقال الترمذي : معناه : لا تخيب رجاءنا ، وقال الأكثرون : معناه : اللهم استجب لنا ، وحكى القرطبي عن مجاهد وجعفر الصادق وهلال بن كيسان : أن آمين اسم من أسماء الله تعالى وروي عن ابن عباس مرفوعًا ولا يصح ، قاله أبو بكر بن العربي المالكي{[22]} . وقال أصحاب مالك : لا يؤمن الإمام ويؤمن المأموم ، لما رواه مالك عن سُمَيّ ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «وإذا قال ، يعني الإمام : { ولا الضالين } ، فقولوا : آمين » . الحديث{[23]} . واستأنسوا - أيضا - بحديث أبي موسى : " وإذا قرأ : { ولا الضالين } ، فقولوا : «آمين » .
وقد قدمنا في المتفق عليه : «إذا أمن الإمام فأمنوا » وأنه عليه الصلاة والسلام كان يؤمن إذا قرأ{[24]} { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } .
وقد اختلف أصحابنا في الجهر بالتأمين للمأموم في الجهرية ، وحاصل الخلاف أن الإمام إن نسي التأمين جهر المأموم به قولا واحدًا ، وإن أمَّن الإمام جهرًا فالجديد أنه لا يجهر المأموم وهو مذهب أبي حنيفة ، ورواية عن مالك ؛ لأنه ذكر من الأذكار فلا يجهر به كسائر أذكار الصلاة . والقديم أنه يجهر به ، وهو مذهب الإمام أحمد بن حنبل ، والرواية الأخرى عن مالك ، لما{[25]} تقدم : " حتى يرتج المسجد " .
ولنا قول آخر ثالث : أنه إن كان المسجد صغيرًا لم يجهر المأموم{[26]} ، لأنهم يسمعون قراءة الإمام ، وإن كان كبيرا جهر ليبلغ التأمين مَنْ في أرجاء المسجد ، والله أعلم .
وقد روى الإمام أحمد في مسنده ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت عنده اليهود ، فقال : " إنهم لن يحسدونا{[27]} على شيء كما يحسدونا{[28]} على الجمعة التي هدانا الله لها وضلوا عنها ، وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلوا عنها ، وعلى قولنا خلف الإمام : آمين " {[29]} ، ورواه ابن ماجه ، ولفظه : " ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين " {[30]} ، وله عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على قول : آمين ، فأكثروا من قول : " آمين " {[31]} وفي إسناده طلحة بن عمرو ، وهو ضعيف .
وروى ابن مَرْدُويه ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «آمين : خاتم رب العالمين على عباده المؤمنين »{[32]} . وعن أنس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أعطيت آمين في الصلاة وعند الدعاء ، لم يعط أحد قبلي إلا أن يكون موسى ، كان موسى يدعو ، وهارون يؤمن ، فاختموا الدعاء بآمين ، فإن الله يستجيبه لكم »{[33]} .
قلت : ومن هنا نزع بعضهم في الدلالة بهذه الآية الكريمة ، وهي قوله تعالى : { وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } [ يونس : 88 ، 89 ] ، فذكر الدعاء عن موسى وحده ، ومن سياق الكلام ما يدل على أن هارون أمَّن ، فنزل منزلة من دعا ، لقوله تعالى : { قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا } [ يونس : 89 ] ، فدلّ ذلك على أن من أمَّن على دعاء فكأنما قاله ؛ فلهذا قال من قال : إن المأموم لا يقرأ لأن تأمينه على قراءة الفاتحة بمنزلة قراءتها ؛ ولهذا جاء في الحديث : " من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة " ، وكان بلال يقول : لا تسبقني بآمين . فدل هذا المنزع على أن المأموم لا قراءة عليه في الجهرية ، والله أعلم .
ولهذا قال ابن مَرْدُويه : حدثنا أحمد بن الحسن ، حدثنا عبد الله بن محمد بن سلام ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا جرير ، عن ليث بن أبي سليم ، عن كعب ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا قال الإمام : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } فقال : آمين ، فتوافق{[34]} آمين أهل الأرض آمين أهل السماء ، غفر الله للعبد ما تقدم من ذنبه ، ومثل من لا يقول : آمين ، كمثل رجل غزا مع قوم ، فاقترعوا ، فخرجت سهامهم ، ولم يخرج سهمه ، فقال : لِمَ لَمْ يخرج سهمي ؟ فقيل : إنك لم تقل : آمين " {[35]} .
{ صِرَاطَ الّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ الضّآلّينَ }
وقوله : صِرَاطَ الذينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ إبانة عن الصراط المستقيم أيّ الصراط هو ، إذ كان كل طريق من طرق الحقّ صراطا مستقيما ، فقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد : اهدنا يا ربنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم ، بطاعتك وعبادتك من ملائكتك ، وأنبيائك ، والصديقين ، والشهداء ، والصالحين . وذلك نظير ما قال ربنا جل ثناؤه في تنزيله : ( وَلَوْ أَنّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكان خَيْرا لَهُمْ وأشَدّ تَثْْبِيتا وإذا لاَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنّا أجْرا عَظِيما ولَهَدَيْناهُمْ صِرَاطا مُسْتَقِيما وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ وَالرّسُولَ فَاولَئِكَ مَعَ الذّينَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ والشهَدَاءِ وَالصالِحِينَ وحسن أولئك رفيقا ) .
قال أبو جعفر : فالذي أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأمته أن يسألوه ربهم من الهداية للطريق المستقيم ، هي الهداية للطريق الذي وصف الله جل ثناؤه صفته . وذلك الطريق هو طريق الذي وصفهم الله بما وصفهم به في تنزيله ، ووعد من سَلَكه فاستقام فيه طائعا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، أن يورده مواردهم ، والله لا يخلف الميعاد . وبنحو ما قلنا في ذلك رُوي الخبر عن ابن عباس وغيره .
حدثنا محمد بن العلاء ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمار ، قال : حدثنا أبو روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : ( صِرَاطَ الّذِينَ أَنْعَمَتَ عَلَيْهِم )ْ يقول : طريق من أنعمت عليم بطاعتك وعبادتك من الملائكة والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، الذين أطاعوك وعبدوك .
وحدثني أحمد بن حازم الغفاري ، قال : أخبرنا عبيد الله بن موسى ، عن أبي جعفر عن ربيع : ( صِرَاطَ الّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) قال : النبيون .
وحدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : ( أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) قال : المؤمنين .
وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : قال وكيع ( أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) : المسلمين .
وحدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال عبد الرحمن بن زيد في قول الله : ( صِرَاطَ الذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) قال : النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه .
قال أبو جعفر : وفي هذه الآية دليل واضح على أن طاعة الله جل ثناؤه لا ينالها المطيعون إلا بإنعام الله بها عليهم وتوفيقه إياهم لها . أوَ لا يسمعونه يقول : ( صِرَاطَ الّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) فأضاف كل ما كان منهم من اهتداء وطاعة وعبادة إلى أنه إنعام منه عليهم ؟
فإن قال قائل : وأين تمام هذا الخبر ، وقد علمت أن قول القائل لاَخر : أنعمت عليك ، مقتض الخبر عما أنعم به عليه ، فأين ذلك الخبر في قوله : ( صِرَاطَ الّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) وما تلك النعمة التي أنعمها عليهم ؟ قيل له : قد قدمنا البيان فيما مضى من كتابنا هذا عن اجتزاء العرب في منطقها ببعض من بعض إذا كان البعض الظاهر دالاّ على البعض الباطن وكافيا منه ، فقوله : ( صِرَاطَ الّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) من ذلك لأن أمر الله جل ثناؤه عباده بمسألته المعونة وطلبهم منه الهداية للصراط المستقيم لما كان متقدما قوله : ( صِرَاطَ الّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) الذي هو إبانة عن الصراط المستقيم ، وإبدالٌ منه ، كان معلوما أن النعمة التي أنعم الله بها على من أمرنا بمسألته الهداية لطريقهم هو المنهاج القويم والصراط المستقيم الذي قد قدمنا البيان عن تأويله آنفا ، فكان ظاهر ما ظهر من ذلك مع قرب تجاور الكلمتين مغنيا عن تكراره كما قال نابغة بني ذبيان :
كأنكَ منْ جِمالِ بَني أُقَيْشٍ *** يُقْعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيْهِ بِشَنّ
يريد كأنك من جمال بني أقيش جمل يقعقع خلف رجليه بشنّ ، فاكتفى بما ظهر من ذكر الجمال الدال على المحذوف من إظهار ما حذف . وكما قال الفرزدق بن غالب :
تَرَى أرْباقَهُمْ مُتَقَلّدِيها *** *** إذَا صَدِىءَ الحَديدُ على الكُماةِ
يريد : متقلديها هم ، فحذف «هم » إذ كان الظاهر من قوله : «أرباقهم » دالاّ عليها .
والشواهد على ذلك من شعر العرب وكلامها أكثر من أن تحصى ، فكذلك ذلك في قوله : ( صِرَاطَ الّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِم )ْ .
القول في تأويل قوله تعالى : غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ .
قال أبو جعفر : والقراء مجمعة على قراءة «غير » بجرّ الراء منها . والخفض يأتيها من وجهين : أحدهما أن يكون غير صفة للذين ونعتا لهم فتخفضها ، إذ كان «الذين » خفضا وهي لهم نعت وصفة وإنما جاز أن يكون «غير » نعتا ل«الذين » ، و«الذين » معرفة وغير نكرة لأن «الذين » بصلتها ليست بالمعرفة المؤقتة كالأسماء التي هي أمارات بين الناس ، مثل : زيد وعمرو ، وما أشبه ذلك وإنما هي كالنكرات المجهولات ، مثل : الرجل والبعير ، وما أشبه ذلك فما كان «الذين » كذلك صفتها ، وكانت غير مضافة إلى مجهول من الأسماء نظير «الذين » في أنه معرفة غير مؤقتة كما «الذين » معرفة غير مؤقتة ، جاز من أجل ذلك أن يكون : غير المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ نعتا ل ( الذين أنعمت عليهم ) كما يقال : لا أجلس إلا إلى العالم غير الجاهل ، يراد : لا أجلس إلا إلى من يعلم ، لا إلى من يجهل . ولو كان الذين أنعمت عليهم معرفة مؤقتة كان غير جائز أن يكون غيرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ لها نعتا ، وذلك أنه خطأ في كلام العرب إذا وصفت معرفة مؤقتة بنكرة أن تلزم نعتها النكرة إعراب المعرفة المنعوت بها ، إلا على نية تكرير ما أعرب المنعوت بها . خطأٌ في كلامهم أن يقال : مررت بعبد الله غير العالم ، فتخفض «غير » إلا على نية تكرير الباء التي أعربت عبد الله ، فكان معنى ذلك لو قيل كذلك : مررت بعبد الله ، مررت بغير العالم . فهذا أحد وجهي الخفض في : ( غيرَ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) .
والوجه الاَخر من وجهي الخفض فيها أن يكون «الذين » بمعنى المعرفة المؤقتة . وإذا وجه إلى ذلك ، كانت غير مخفوضة بنية تكرير الصراط الذي خفض الذين عليها ، فكأنك قلت : صراط الذين أنعمت عليهم صراط غير المغضوب عليهم .
وهذان التأويلان في غير المغضوب عليهم ، وإن اختلفا باختلاف معربيهما ، فإنهما يتقارب معناهما من أجل أن من أنعم الله عليه فهداه لدينه الحق فقد سلم من غضب ربه ونجا من الضلال في دينه ، فسواءٌ إذ كان سامع قوله : ( اهْدِنَا الصّرَاطَ المُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) غير جائز أن يرتاب مع سماعه ذلك من تاليه في أن الذين أنعم الله عليهم بالهداية للصراط ، غير غاضب ربهم عليهم مع النعمة التي قد عظمت منته بها عليهم في دينهم ، ولا أن يكونوا ضلالاً وقد هداهم للحق ربهم ، إذْ كان مستحيلاً في فطرهم اجتماع الرضا من الله جل ثناؤه عن شخص والغضب عليه في حال واحدة واجتماع الهدى والضلال له في وقت واحد أَوُصِف القوم مع وصف الله إياهم بما وصفهم به من توفيقه إياهم وهدايته لهم وإنعامه عليهم بما أنعم الله به عليهم في دينهم بأنهم غير مغضوب عليهم ولا هم ضالون ، أم لم يوصفوا بذلك لأن الصفة الظاهرة التي وصفوا بها قد أنبأت عنهم أنهم كذلك وإن لم يصرّح وصفهم به . هذا إذا وجهنا «غير » إلى أنها مخفوضة على نية تكرير الصراط الخافض الذين ، ولم نجعل غير المغضوب عليهم ولا الضالين من صفة الذين أنعمت عليهم بل إذا جعلناهم غيرهم وإن كان الفريقان لا شك مُنْعَما عليهما في أديانهم . فأما إذا وجهنا : ( غيرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضّالّينَ ) إلى أنها من نعت ( الذين أنعمت عليهم ) فلا حاجة بسامعه إلى الاستدلال ، إذْ كان الصريح من معناه قد أغنى عن الدليل ، وقد يجوز نصب «غير » في غير المغضوب عليهم وإن كنت للقراءة بها كارها لشذوذها عن قراءة القراء . وإن ما شذّ من القراءات عما جاءت به الأمة نقلاً ظاهرا مستفيضا ، فرأي للحق مخالف وعن سبيل الله وسبيل رسوله صلى الله عليه وسلم وسبيل المسلمين متجانف ، وإن كان له لو كانت القراءة جائزة به في الصواب مخرج .
وتأويل وجه صوابه إذا نصبتَ : أن يوجه إلى أن يكون صفة للهاء والميم اللتين في «عليهم » العائدة على «الذين » ، لأنها وإن كانت مخفوضة ب«على » ، فهي في محل نصب بقوله : «أنعمت » . فكأن تأويل الكلام إذا نصبت «غير » التي مع «المغضوب عليهم » : صراط الذين هديتهم إنعاما منك عليهم غير مغضوب عليهم ، أي لا مغضوبا عليهم ولا ضالين . فيكون النصب في ذلك حينئذٍ كالنصب في «غير » في قولك : مررت بعبد الله غير الكريم ولا الرشيد ، فتقطع غير الكريم من عبد الله ، إذ كان عبد الله معرفة مؤقتة وغير الكريم نكرة مجهولة .
وقد كان بعض نحويي البصريين يزعم أن قراءة من نصب «غير » في غير المغضوب عليهم على وجه استثناء غير المغضوب عليهم من معاني صفة الذين أنعمت عليهم ، كأنه كان يرى أن معنى الذين قرءوا ذلك نصبا : اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم إلا المغضوب عليهم الذين لم تنعم عليهم في أديانهم ولم تهدهم للحق ، فلا تجعلنا منهم كما قال نابغة بني ذبيان :
وَقَفْتُ فيها أَُصَِْيلالا أُسائلُها *** أعْيَتْ جَوَابا وَما بالرّبْع منْ أحَدِ
إِلاّ أَوَارِيّ لأيا مَا أُبَيّنُها *** *** والنّؤْي كالحَوْضِ بالمَظْلُومَةِ الجَلَدِ
وأَلاواري معلوم أنها ليست من عداد أحد في شيء . فكذلك عنده استثنى ( غير المغضوب عليهم ) من ( الذين أنعمت عليهم ) ، وإن لم يكونوا من معانيهم في الدين في شيء .
وأما نحويو الكوفيين فأنكروا هذا التأويل واستخطئوه ، وزعموا أن ذلك لو كان كما قاله الزاعم من أهل البصرة لكان خطأ أن يقال : ولا الضالين لأن «لا » نفي وجحد ، ولا يعطف بجحد إلا على جحد وقالوا : لم نجد في شيء من كلام العرب استثناء يعطف عليه بجحد ، وإنما وجدناهم يعطفون على الاستثناء بالاستثناء ، وبالجحد على الجحد فيقولون في الاسثتناء : قام القوم إلا أخاك وإلا أباك وفي الجحد : ما قام أخوك ، ولا أبوك وأما قام القوم إلا أباك ولا أخاك ، فلم نجده في كلام العرب قالوا : فلما كان ذلك معدوما في كلام العرب وكان القرآن بأفصح لسان العرب نزوله ، علمنا إذ كان قوله : ( ولا الضالين ) معطوفا على قوله : ( غير المغضوب عليهم ) أن «غير » بمعنى الجحد لا بمعنى الاستثناء ، وأن تأويل من وجهها إلى الاستثناء خطأ . فهذه أوجه تأويل ( غير المغضوب عليهم ) . باختلاف أوجه إعراب ذلك .
وإنما اعترضنا بما اعترضْنا في ذلك من بيان وجوه إعرابه ، وإن كان قصدنا في هذا الكتاب الكشف عن تأويل آي القرآن ، لما في اختلاف وجوه إعراب ذلك من اختلاف وجوه تأويله ، فاضطرّتنا الحاجة إلى كشف وجوه إعرابه ، لتنكشف لطالب تأويله وجوه تأويله على قدر اختلاف المختلفة في تأويله وقراءته .
والصواب من القول في تأويله وقراءته عندنا القول الأول ، وهو قراءة : ( غيرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) بخفض الراء من «غير » بتأويل أنها صفة للذين أنعمت عليهم ونعت لهم لما قد قدمنا من البيان إن شئت ، وإن شئت فبتأويل تكرار «صراط » كل ذلك صواب حسن .
فإن قال لنا قائل : فمن هؤلاء المغضوب عليهم الذين أمرنا الله جل ثناؤه بمسألته أن لا يجعلنا منهم ؟ قيل : هم الذين وصفهم الله جل ثناؤه في تنزيله فقال : ( قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مِنْ ذلكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللّهِ مَنْ لَعنَهُ اللّهُ وغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمْ القِرَدَةَ والخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرّ مَكانا وأضَلّ عَنْ سَوَاءِ السّبِيلِ ) فأعلمنا جل ذكره بمنه ما أحلّ بهم من عقوبته بمعصيتهم إياه ، ثم علمنا ، مِنّةً منه علينا ، وجه السبيل إلى النجاة ، من أن يحل بنا مثل الذي حلّ بهم من المَثُلات ، ورأفة منه بنا .
فإن قيل : وما الدليل على أنهم أولاء الذين وصفهم الله وذكر نبأهم في تنزيله على ما وصفت قيل :
حدثني أحمد بن الوليد الرملي ، قال : حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ، عن عديّ بن حاتم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «المَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ : اليَهُودُ » .
وحدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة عن سماك بن حرب ، قال : سمعت عباد بن حبيش يحدّث عن عديّ بن حاتم قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ المَغْضُوبَ عَلَيْهِمْ : اليَهُودُ » .
وحدثني عليّ بن الحسن ، قال : حدثنا مسلم بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا محمد بن مصعب ، عن حماد بن سلمة ، عن سماك بن حرب ، عن مُرّي بن قَطَري ، عن عدي بن حاتم قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله جل وعز : ( غيرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) قال : «هُمُ اليَهُودُ » .
وحدثنا حميد بن مسعدة الشامي ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا الجريري عن عبد الله بن شقيق : أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محاصرٌ وادي القرى فقال : من هؤلاء الذين تحاصر يا رسول الله ؟ قال : «هَولاءِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ : اليَهُودُ » .
وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن سعيد الجريري ، عن عروة ، عن عبد الله بن شقيق ، أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه .
وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أنبأنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن بديل العقيلي ، قال : أخبرني عبد الله بن شقيق أنه أخبره من سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى وهو على فرسه وسأله رجل من بني القين ، فقال : يا رسول الله من هؤلاء ؟ قال : «المَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ » وأشار إلى اليهود .
وحدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا خالد الواسطي ، عن خالد الحذاء ، عن عبد الله بن شقيق ، أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحوه .
وحدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمار ، قال : حدثنا أبو روق عن الضحاك ، عن ابن عباس : ( غيرِ المَغُضُوبِ عَلَيْهِمْ ) يعني اليهود الذين غضب الله عليهم .
وحدثني موسى بن هارون الهمداني ، قال : حدثنا عمرو بن طلحة ، قال : حدثنا أسباط بن نصر ، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم : ( غيرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) هم اليهود .
وحدثنا ابن حميد الرازي ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن مجاهد ، قال : ( غيرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) قال : هم اليهود .
حدثنا أحمد بن حازم الغفاري ، قال : حدثنا عبد الله ، عن أبي جعفر ، عن ربيع : ( غيرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) قال : اليهود .
وحدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : ( غيرٍ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) قال : اليهود .
وحدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب . قال : قال ابن زيد : ( غير المَغْضُوبِ ) عَلَيْهِمْ اليهود .
وحدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثني ابن زيد ، عن أبيه ، قال : ( المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) اليهود .
قال أبو جعفر : واختلف في صفة الغضب من الله جل ذكره فقال بعضهم : غضب الله على من غضب عليه من خلقه إحلالُ عقوبته بمن غضب عليه ، إما في دنياه ، وإما في آخرته ، كما وصف به نفسه جل ذكره في كتابه فقال : { فَلَمّا آسَفُونا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأغْرَقْنَاهُمْ أجمَعينَ } وكما قال : ( قُلْ هَلْ أُنَبئُكُمْ بشَرّ منْ ذلكَ مَثُوبَةً عنْدَ اللّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللّهُ وغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ منهُمُ القِرَدَةَ والخَنازِير )َ . وقال بعضهم : غضب الله على من غضب عليه من عباده ذمّ منه لهم ولأفعالهم ، وشتم منه لهم بالقول . وقال بعضهم : الغضب منه معنى مفهوم ، كالذي يعرف من معاني الغضب . غير أنه وإن كان كذلك من جهة الإثبات ، فمخالف معناه منه معنى ما يكون من غضب الاَدميين الذين يزعجهم ويحركهم ويشقّ عليهم ويؤذيهم لأن الله جل ثناؤه لا تحل ذاته الاَفات ، ولكنه له صفة كما العلم له صفة ، والقدرة له صفة على ما يعقل من جهة الإثبات ، وإن خالفت معاني ذلك معاني علوم العباد التي هي معارف القلوب وقواهم التي توجد مع وجود الأفعال وتُعدم مع عدمها .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلا الضّالِينَ .
قال أبو جعفر : كان بعض أهل البصرة يزعم أن «لا » مع «الضالين » أدخلت تتميما للكلام والمعنى إلغاؤها ، ويستشهد على قيله ذلك ببيت العجاج :
*** *** في بِئْرٍ لا حُورً سَرَى وَما شَعَرْ
ويتأوله بمعنى : في بئر حُورٍ سَرَى ، أي في بئر هلكة ، وأنّ «لا » بمعنى الإلغاء والصلة . ويعتل أيضا لذلك بقول أبي النجم :
فَمَا ألُوم البِيضَ أنْ لا تَسْخَرَا *** لَمّا رأيْنَ الشّمَطَ القَفَنْدَرَا
وهو يريد : فما ألوم البيض أن تسخر . وبقول الأحوص :
ويَلْحَيْنَنِي في اللّهْوِ أنْ لا أحِبّهُ *** ولَلّهْوِ داعٍ دائِبٌ غَيْرُ غَافِلِ
يريد : ويلحينَني في اللهو أن أحبه . وبقوله تعالى : ( ما مَنَعَكَ ألا تَسْجُدَ ) يريد أن تسجد . وحكي عن قائل هذه المقالة أنه كان يتأول «غير » التي «مع المغضوب عليهم » أنها بمعنى «سوى » ، فكأن معنى الكلام كان عنده : اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم الذين هم سوى المغضوب عليهم والضالين .
وكان بعض نحويي الكوفة يستنكر ذلك من قوله ، ويزعم أن «غير » التي «مع المغضوب عليهم » لو كانت بمعنى «سوى » لكان خطأ أن يعطف عليها ب«لا » ، إذ كانت «لا » لا يعطف بها إلا على جحد قد تقدمها ، كما كان خطأ قول القائل : عندي سوى أخيك ، ولا أبيك لأن «سوى » ليست من حروف النفي والجحود ويقول : لما كان ذلك خطأ في كلام العرب ، وكان القرآن بأفصح اللغات من لغات العرب ، كان معلوما أن الذي زعمه القائل أن «غير مع المغضوب » عليهم بمعنى : «سوى المغضوب عليهم » خطأ ، إذ كان قد كرّ عليه الكلام ب«لا » . وكان يزعم أن «غير » هنالك إنما هي بمعنى الجحد ، إذ كان صحيحا في كلام العرب وفاشيا ظاهرا في منطقها توجيه «غير » إلى معنى النفي ومستعملاً فيهم : أخوك غير محسن ولا مجمل ، يراد بذلك أخوك لا محسن ، ولا مجمل ، ويستنكر أن تأتي «لا » بمعنى الحذف في الكلام مبتدأً ولمّا يتقدمها جحد ، ويقول : لو جاز مجيئها بمعنى الحذف مبتدأ قبل دلالة تدل على ذلك من جحد سابق ، لصح قول قائل قال : أردت أن لا أكرم أخاك ، بمعنى : أردت أن أكرم أخاك . وكان يقول : ففي شهادة أهل المعرفة بلسان العرب على تخطئة قائل ذلك دلالة واضحة على أن «لا » لا تأتي مبتدأة بمعنى الحذف ، ولمّا يتقدمها جحد . وكان يتأول في «لا » التي في بيت العجاج الذي ذكرنا أن البصري استشهد به بقوله إنها جحد صحيح ، وأن معنى البيت : سرى في بئر لا تُحِيرُ عليه خيرا ، ولا يتبين له فيها أثرُ عمل ، وهو لا يشعر بذلك ولا يدري به . من قولهم : طحنت الطاحنة فما أحارت شيئا أي لم يتبين لها أثر عمل . ويقول في سائر الأبيات الأخر ، أعني مثل بيت أبي النجم :
*** *** *** فَمَا ألُومُ البِيضَ أنْ لا تَسْخَرَا
إنما جاز أن تكون «لا » بمعنى الحذف ، لأن الجحد قد تقدمها في أول الكلام ، فكان الكلام الاَخر مواصلاً للأول ، كما قال الشاعر :
ما كانَ يَرْضَى رَسُولُ اللّهِ فِعْلَهُم *** وَالطّيّبان أبُو بَكْرٍ وَلا عُمَرُ
فجاز ذلك ، إذ كان قد تقدم الجحد في أول الكلام .
قال أبو جعفر : وهذا القول الاَخر أولى بالصواب من الأول ، إذ كان غير موجود في كلام العرب ابتداء الكلام من غير جحد تقدمه ب«لا » التي معناها الحذف ، ولا جائز العطف بها على «سوى » ، ولا على حرف الاستثناء . وإنما ل«غير » في كلام العرب معان ثلاثة : أحدها الاستثناء ، والاَخر الجحد ، والثالث سوى ، فإذا ثبت خطأ «لا » أن يكون بمعنى الإلغاء مبتدأ وفسد أن يكون عطفا على «غير » التي مع «المغضوب عليهم » ، لو كانت بمعنى «إلا » التي هي استثناء ، ولم يجز أيضا أن يكون عطفا عليها لو كانت بمعنى «سوى » ، وكانت «لا » موجودة عطفا بالواو التي هي عاطفة لها على ما قبلها ، صحّ وثبت أن لا وجه ل«غير » التي مع «المغضوب عليهم » يجوز توجيهها إليه على صحة إلا بمعنى الجحد والنفي ، وأن لا وجه لقوله : «ولا الضالين » ، إلا العطف على «غير المغضوب عليهم » . فتأويل الكلام إذا إذ كان صحيحا ما قلنا بالذي عليه استشهدنا : اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم لا المغضوب عليهم ولا الضالين .
فإن قال لنا قائل : ومن هؤلاء الضالون الذين أمرنا الله بالاستعاذة بالله أن يسلك بنا سبيلهم ، أو نضل ضلالهم ؟ قيل : هم الذين وصفهم الله في تنزيله ، فقال : ( يا أهْلَ الكِتابِ لا تَغْلُوا في دِينِكُمْ غيرَ الحَقّ ولا تَتّبِعُوا أهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلّوا منْ قَبْلُ وأضَلّوا كَثيرا وضَلّوا عَنْ سَوَاء السّبِيلِ ) فإن قال : وما برهانك على أنهم أولاء ؟ قيل :
حدثنا أحد بن الوليد الرملي ، قال : حدثنا عبد الله بن جعفر ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ، عن عديّ بن أبي حاتم ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ولا الضّالّينَ قال : «النّصارى » .
حدثنا محمد بن المثنى ، أنبأنا محمد بن جعفر ، أنبأنا شعبة عن سماك ، قال : سمعت عباد بن حبيش يحدث عن عديّ بن حاتم ، قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ الضّالّينَ : النّصَارَى » .
وحدثني عليّ بن الحسن ، قال : حدثنا مسلم وعبد الرحمن ، قال : حدثنا محمد بن مصعب ، عن حماد بن سلمة ، عن سماك بن حرب ، عن مري بن قطري ، عن عديّ بن حاتم ، قال : سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم عن قول الله ( وَلا الضّالّينَ ) قال : «النّصَارَى هُمُ الضّالونَ » .
وحدثنا حميد بن مسعدة الشامي ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا الجريري ، عن عبد الله بن شقيق : أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محاصر وادي القرى قال : قلت : من هؤلاء ؟ قال : «هَؤُلاءِ الضّالونَ : النّصَارَى » .
وحدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن سعيد الجريري ، عن عروة ، يعني ابن عبد الله بن قيس ، عن عبد الله بن شقيق ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر عن بديل العقيلي ، قال : أخبرني عبد الله بن شقيق ، أنه أخبره من سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى وهو على فرسه وسأله رجل من بني القين فقال : يا رسول الله من هؤلاء ؟ قال : «هَؤلاءِ الضّالّونَ » ، يَعْنِي النّصَارَى .
وحدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا خالد الواسطي ، عن خالد الحذاء ، عن عبد الله بن شقيق ، أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو محاصر وادي القرى وهو على فرس من هؤلاء ؟ قال : «الضّالونَ » يَعْنِي النّصَارَى .
وحدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن مجاهد : ولا الضالين قال : النصارى .
وحدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عمار ، قال : حدثنا أبو روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : ولا الضالين قال : وغير طريق النصارى الذين أضلهم الله بِفِرْيتهم عليه . قال : يقول : فألهمنا دينك الحقّ ، وهو لا إلَه إلاّ الله وحده لا شريك له ، حتى لا تغضبَ علينا كما غضبت على اليهود ولا تضلّنا كما أضللت النصارى فتعذّبنا بما تعذبهم به . يقول : امنعنا من ذلك برفقك ورحمتك وقدرتك .
وحدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس الضالين : النصارى .
وحدثني موسى بن هارون الهمداني ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط بن نصر ، عن إسماعيل السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم : ولا الضالين : هم النصارى .
وحدثني أحمد بن حازم الغفاري ، قال : أخبرنا عبيد الله بن موسى ، عن أبي جعفر ، عن ربيع : ولا الضالين : النصارى .
وحدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال عبد الرحمن بن زيد : ولا الضالين النصارى .
وحدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن زيد ، عن أبيه . قال : ولا الضالين النصارى .
قال أبو جعفر : وكل حائد عن قصد السبيل وسالك غير المنهج القويم فضالّ عند العرب لإضلاله وجه الطريق ، فلذلك سَمّى الله جل ذكره النصارى ضُلاّلاً لخطئهم في الحق منهج السبيل ، وأخذهم من الدين في غير الطريق المستقيم .
فإن قال قائل : أو ليس ذلك أيضا من صفة اليهود ؟ قيل : بلى . فإن قال : كيف خصّ النصارى بهذه الصفة ، وخص اليهود بما وصفهم به من أنهم مغضوب عليهم ؟ قيل : إن كلا الفريقين ضُلاّل مغضوب عليهم ، غير أن الله جل ثناؤه وَسَم كل فريق منهم من صفته لعباده بما يعرفونه به إذا ذكره لهم ، أو أخبرهم عنه ، ولم يَسِمْ واحدا من الفريقين إلا بما هو له صفة على حقيقته ، وإن كان له من صفات الذم زيادات عليه . وقد ظن بعض أهل الغباء من القدرية أن في وصف الله جل ثناؤه النصارى بالضلال بقوله : ( وَلا الضالّين ) وإضافته الضلال إليهم دون إضافة إضلالهم إلى نفسه ، وتركه وصفهم بأنهم المضللون كالذي وصف به اليهود أنهم المغضوب عليهم ، دلالةً على صحة ما قاله إخوانه من جَهَلَةِ القدرية جهلاً منه بسعة كلام العرب وتصاريف وجوهه . ولو كان الأمر على ما ظنه الغبيّ الذي وصفنا شأنه لوجب أن يكون شأن كل موصوف بصفة أو مضاف إليه فعل لا يجوز أن يكون فيه سبب لغيره ، وأن يكون كل ما كان فيه من ذلك لغيره سبب فالحق فيه أن يكون مضافا إلى مسببه ، ولو وجب ذلك لوجب أن يكون خطأ قول القائل : «تحركت الشجرةُ » إذا حركتها الرياح ، و«اضطربت الأرضُ » إذا حركتها الزلزلة ، وما أشبه ذلك من الكلام الذي يطول بإحصائه الكتاب .
وفي قول الله جل ثناؤه : ( حتّى إذا كنْتُمْ في الفُلْكِ وجَرَيْنَ بِهمْ ) بإضافته الجري إلى الفلك ، وإن كان جَرْيُها بإجراء غيرها إياها ، ما يدل على خطأ التأويل الذي تأوله من وصفنا قوله في قوله : ( وَلا الضّالينَ ) ، وادعائه أن في نسبة الله جل ثناؤه الضلالةَ إلى من نسبها إليه من النصارى تصحيحا لما ادعى المنكرون أن يكون لله جل ثناؤه في أفعال خلقه سببٌ من أجله وُجدت أفعالهم ، مع إبانة الله عز ذكره نصّا في آي كثيرة من تنزيله أنه المضلّ الهادي فمن ذلك قوله جل ثناؤه : ( أفَرأيْتَ مَنِ اتّخَذَ إلهَهُ هَوَاهُ وأضَلّهُ اللّهُ على عِلْمٍ وخَتَمَ على سَمْعِهِ وقَلْبِهِ وجَعَلَ على بَصَرِهِ غَشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مَنْ بَعْدِ اللّهِ أفَلا تَذَكرُونَ ) فأنبأ جل ذكره أنه المضلّ الهادي دون غيره .
ولكن القرآن نزل بلسان العرب ، على ما قد قدمنا البيان عنه في أول الكتاب . ومن شأن العرب إضافة الفعل إلى من وُجد منه ، وإن كان مسببه غير الذي وجد منه أحيانا ، وأحيانا إلى مسببه ، وإن كان الذي وجد منه الفعل غيرُه . فكيف بالفعل الذي يكتسبه العبد كسبا ويوجده الله جل ثناؤه عينا مُنْشأةً ؟ بل ذلك أحرى أن يضاف إلى مكتسبه كسبا له بالقوة منه عليه والاختيار منه له ، وإلى الله جل ثناؤه بإيجاد عينه وإنشائها تدبيرا .
مسألة يسأل عنها أَهل الإلحاد الطاعنون في القرآن
إن سألنا منهم سائل فقال : إنك قد قدمت في أول كتابك هذا في وصف البيان بأن أعلاه درجة وأشرفه مرتبة ، أبلغه في الإبانة عن حاجة المبين به عن نفسه وأبْينُه عن مراد قائله وأقربه من فهم سامعه ، وقلت مع ذلك إن أولى البيان بأن يكون كذلك كلام الله جل ثناؤه بفضله على سائر الكلام وبارتفاع درجته على أعلى درجات البيان . فما الوجه إذ كان الأمر على ما وصفتَ في إطالة الكلام بمثل سورة أمّ القرآن بسبع آيات ؟ وقد حوت معاني جميعها منها آيتان ، وذلك قوله : ( مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ إيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ ) إذ كان لا شك أن من عرف : مَلِكِ يَوْمِ الدّينِ فقد عرفه بأسمائه الحسنى وصفاته المثلى . وأنّ من كان لله مطيعا ، فلا شك أنه لسبيل من أنعم الله عليه في دينه متبع ، وعن سبيل من غضب عليه وضل منعدل ، فما في زيادة الاَيات الخمس الباقية من الحكمة التي لم تحوها الاَيتان اللتان ذكرنا ؟
قيل له : إن الله تعالى ذكره جمع لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولأمته بما أنزل إليه من كتابه معاني لم يجمعهن بكتاب أنزله إلى نبي قبله ولا لأمة من الأمم قبلهم . وذلك أن كل كتاب أنزله جل ذكره على نبي من أنبيائه قبله ، فإنما أنزل ببعض المعاني التي يحوي جميعها كتابه الذي أنزله إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، كالتوراة التي هي مواعظ وتفصيل ، والزّبُور الذي هو تحميد وتمجيد ، والإنجيل الذي هو مواعظ وتذكير لا معجزة في واحد منها تشهد لمن أنزل إليه بالتصديق . والكتابُ الذي أنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يحوي معاني ذلك كله ، ويزيد عليه كثيرا من المعاني التي سائر الكتب غيره منها خالٍ ، وقد قدمنا ذكرها فيما مضى من هذا الكتاب . ومن أشرف تلك المعاني التي فضل بها كتابنا سائر الكتب قبله : نظمه العجيب ، ورصفه الغريب ، وتأليفه البديع ، الذي عجزت عن نظم مثل أصغر سورة منه الخطباء ، وكلّتْ عن وصف شكل بعضه البلغاء ، وتحيرت في تأليفه الشعراء ، وتبلّدت قصورا عن أن تأتي بمثله لديه أفهام الفهماء . فلم يجدوا له إلا التسليم ، والإقرار بأنه من عند الواحد القهار ، مع ما يحوي مع ذلك من المعاني التي هي ترغيب ، وترهيب . وأمر ، وزجر ، وقصص ، وجدل ، ومثل ، وما أشبه ذلك من المعاني التي لم تجتمع في كتاب أنزل إلى الأرض من السماء .
فمهما يكن فيه من إطالة على نحو ما في أم القرآن ، فلما وصفت قبلُ من أن الله جل ذكره أراد أن يجمع برصفه العجيب ، ونظمه الغريب ، المنعدل عن أوزان الأشعار ، وسجع الكهان ، وخطب الخطباء ، ورسائل البلغاء ، العاجز عن وصف مثله جميع الأنام ، وعن نظم نظيره كل العباد ، الدلالة على نبوّة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وبما فيه من تحميد وتمجيد وثناء عليه ، تنبيه للعباد على عظمته وسلطانه وقدرته وعظم مملكته ، ليذكروه بآلائه ويحمدوه على نعمائه ، فيستحقوا به منه المزيد ويستوجبوا عليه الثوابَ الجزيل . وبما فيه من نعت من أنعم عليه بمعرفته ، وتفضل عليه بتوفيقه لطاعته ، تعريف عباده أن كل ما بهم من نعمة في دينهم ودنياهم فمنه ، ليصرفوا رغبتهم إليه ، ويبتغوا حاجاتهم من عنده دون ما سواه من الاَلهة والأنداد ، وبما فيه من ذكره ما أحل بمن عصاه من مثلاته ، وأنزل بمن خالف أمره من عقوباته ترهيب عباده عن ركوب معاصيه ، والتعرّض لما لا قبل لهم به من سخطه ، فيسلك بهم في النكال والنقمات سبيل من ركب ذلك من الهلاك . فذلك وجه إطالة البيان في سورة أم القرآن ، وفيما كان نظيرا لها من سائر سور الفرقان ، وذلك هو الحكمة البالغة والحجة الكاملة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا المحاربي ، عن محمد بن إسحاق ، قال : حدثني العلاء بن عبد الرّحمن بن يعقوب ، عن أبي السائب مولى زهرة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذَا قالَ العَبْدُ : الحَمْدُ لِلّهِ َرّب العالَمِينَ ، قالَ اللّهُ : حَمَدَنِي عَبْدِي ، وَإذَا قالَ : الرحْمَنُ الرّحِيمِ ، قال : أثنى عَليّ عَبْدِي ، وَإذَا قالَ : مالِكِ يَوْمِ الدّينِ ، قالَ : مَجّدَنِي عَبْدِي ، فَهَذَا لي . وَإذَا قالَ : إياكَ نَعْبُدُ وَإياكَ نَسْتَعِينُ إلى أنْ يَخْتِمَ السورَةَ قالَ : فَذَاكَ لَهُ » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبدة ، عن ابن إسحاق ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبي السائب ، عن أبي هريرة ، قال : إذا قال العبد : الحمد لله ، فذكر نحوه ، ولم يرفعه .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو أسامة ، قال : حدثنا الوليد بن كثير ، قال : حدثني العلاء بن عبد الرحمن مولى الحرقة ، عن أبي السائب ، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله .
حدثني صالح بن مسمار المروزي ، قال : حدثنا زيد بن الحباب ، قال : حدثنا عنبسة بن سعيد ، عن مطرف بن طريف ، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قال الله عَزّ وَجَلّ : قَسَمْتُ الصّلاةَ بَيْني وبينَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلَهُ ما سألَ ، فإذَا قالَ العَبْدُ : الحَمْدُ لِلّهِ رَبّ العالَمِينَ ، قالَ الله : حَمِدَنِي عَبْدِي ، وَإذَا قالَ الرّحْمَنِ الرّحيمِ ، قالَ : أثْنى عَليّ عَبْدِي ، وَإذَا قالَ : مالكِ يَوْم الدّين ، قالَ : مَجّدَنِي عَبْدِي ، قالَ : هَذَا لي وَلَهُ ما بَقيَ » .