11- ومن الناس صنف ثالث لم يتمكن الإيمان من قلبه ، بل هو مزعزع العقيدة ، تتحكم مصالحه في إيمانه ، إن أصابه خير فرح به واطمأن ، وإن أصابته شدة في نفسه أو ماله أو ولده ارتد إلى الكفر ، فخسر في الدنيا راحة الاطمئنان إلى قضاء الله ونصره ، كما خسر في الآخرة النعيم الذي وعده الله للمؤمنين الثابتين الصابرين ، ذلك الخسران المزدوج هو الخسران الحقيقي الواضح .
قوله تعالى :{ ومن الناس من يعبد الله على حرف } الآية نزلت في وقم من الأعراب كانوا يقدمون المدينة مهاجرين من باديتهم فكان أحدهم إذا قدم المدينة فصح بها جسمه ونتجت بها فرسه مهراً حسناً وولدت امرأته غلاماً وكثر ماله ، قال : هذا دين حسن وقد أصبت فيه خيراً واطمأن إليه ، وإن أصابه مرض وولدت امرأته جارية وأجهضت رماكه وقل ماله ، قال : ما أصبت منذ دخلت في هذا الدين إلا شراً فينقلب عن دينه ، وذلك الفتنة فأنزل الله عز وجل : { ومن الناس من يعبد الله على حرف } أكثر المفسرين قالوا : على شك وأصله من حرف الشيء وهو طرفه ، نحو حرف الجبل والحائط الذي كالقائم عليه غير مستقر ، فقيل للشاك في الدين إنه يعبد الله على حرف لأنه على طرف وجانب من الدين لم يدخل فيه على الثبات والتمكن ، كاقائم على حرف الجبل مضطرب غير مستقر ، يعرض أن يقع في أحد جانبي الطرف لضعف قيامه ، ولو عبدوا الله في الشكر على السراء والصبر على الضراء لم يكونوا على حرف ، قال الحسن : هو المنافق يعبده بلسانه دون قلبه { فإن أصابه خير } صحة في جسمه ، وسعة في معيشته ، { اطمأن به } أي : رضي به وسكن إليه ، { وإن أصابته فتنة } بلاء في جسده ، وضيق في معيشته ، { انقلب على وجهه } ارتد ورجع على عقبه إلى الوجه الذي كان عليه من الكفر ، { خسر الدنيا } يعني هذا الشاك خسر الدنيا بفوات ما كان يؤمله { والآخرة } بذهاب الدين والخلود في النار . قرأ يعقوب خاسر بالألف والآخرة جر . { ذلك هو الخسران المبين } الظاهر .
ثم بين - سبحانه - نوعاً آخر من الناس ، لا يقل جرماً عن سابقه فقال - تعالى - : { وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطمأن بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقلب على وَجْهِهِ . . } .
قال صاحب الكشاف : " على حرف " أى : على طرف من الدين لا فى وسطه وقلبه . وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب فى دينهم : لا على سكون وطمأنينة ، كالذى يكون على طرف من العسكر ، فإن أحس بظفر وغنيمة قر واطمأن ، وإلا فر وطار على وجهه . . " .
وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآية روايات منها : ما أخرجه البخارى عن ابن عباس قال : كان الرجل يقدم المدينة ، فإذا ولدت أمرأته غلاماً ، ونتجت خيله . قال : هذا دين صالح ، وإن لم تلد امرأته ، ولم تنتج خيله قال : هذا دين سوء . . . " .
والمتأمل فى هذه الآية الكريمة يراها قد صورت المذبذبين فى عقيدتهم أكمل تصوير ، فهم يقيسون العقيدة بميزان الصفقات التجارية ، إن ربحوا من ورائها فرحوا ، وإن خسروا فيها أصابهم الغم والحزن .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - فى شأن المنافقين : { وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } والتعبير بقوله - سبحانه - { على حَرْفٍ } يصور هذا النوع من الناس ، وكأنه يتأرجح فى عبادته كما يتأرجح من يكون على طرف الشىء . فهو معرض للسقوط فى أية لحظة .
والمراد من الخير فى قوله - تعالى - { فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطمأن بِهِ } الخير الدنيوى من صحة وغنى ومنافع دنيوية .
أى : فإن نزل بهذا المذبذب فى عبادته خير دنيوى { اطمأن بِهِ } أى : ثبت على ما هو عليه من عبادة ثباتاً ظاهرياً ، وليس ثباتاً قلبياً حقيقياً كما هو شأن المؤمنين الصادقين الذين لا يزحزحهم عن إيمانهم وعد أو وعيد .
{ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ } أى : مصيبة أو شر { انقلب على وَجْهِهِ } أى : ارتد ورجع عن عبادته ودينه إلى الكفر والمعاصى .
وقوله - تعالى - : { خَسِرَ الدنيا والآخرة ذلك هُوَ الخسران المبين } بيان لسوء عاقبة صنيعه .
أى : هذا الذى يعبد الله على حرف ، جمع على نفسه خسارتين ، خسارة الدنيا بسبب عدم حصوله على ما يريده منها ، وخسارة الآخرة بسبب ارتداده إلى الكفر وغشيان السيئات ، وذلك الذى جمعه على نفسه هو الخسران الواضح ، الذى لا ينازع فى شأنه عاقلان ، إذ لا خسران أشد وأظهر ، من الخسران الذى ضيع دنياه وآخرته .
{ ومن الناس من يعبد اله على حرف } على طرف من الدين لا ثبات له فيه كالذي يكون على طرف الجيش ، فإن أحس بظفر قر وإلا فر . { فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه } روي أنها نزلت في أعاريب قدموا المدينة ، فكان أحدهم إذا صح بدنه ونتجت فرسه مهرا سريا وولدت امرأته غلاما سويا وكثر ماله وماشيته قال : ما أصبت منذ دخلت في ديني هذا إلا خيرا واطمأن ، وإن كان الأمر بخلافه قال ما أصبت إلا شرا وانقلب وعن أبي سعيد أن يهوديا أسلم فأصابته مصائب فتشاءم بالإسلام ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أقلني فقال " إن الإسلام لا يقال " فنزلت . { خسر الدنيا والآخرة } بذهاب عصمته وحبوط عمله بالارتداد ، وقرئ " خاسرا " بالنصب على الحال والرفع على الفاعلية ووضع الظاهر موضع الضمير تنصيصا على خسرانه أو على أنه خبر محذوف . { ذلك هو الخسران المبين } إذ لا خسران مثله .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.