قوله تعالى : { صراط الذين أنعمت عليهم } . أي مننت عليهم بالهداية والتوفيق قال عكرمة : مننت عليهم بالثبات على الإيمان والاستقامة ، وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وقيل : هم كل من ثبته الله على الإيمان من النبيين والمؤمنين الذين ذكرهم الله تعالى في قوله : ( فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين ) الآية وقال ابن عباس : هم قوم موسى وعيسى عليهما السلام قبل أن غيروا دينهم ، وقال عبد الرحمن : هم النبي ومن معه ، وقال أبو العالية : هم الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما ، قال عبد الرحمن بن زيد : إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته ، وقال شهر بن حوشب : هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته . قرأ حمزة : ( عليهم ، ولديهم ، وإليهم ) ، بضم هاءاتها ، ويضم يعقوب كل هاء قبلها ياء ساكنة تثنية وجمعاً إلا قوله : ( بين أيديهن وأرجلهن ) وقرأ الآخرون بكسرهما ، فمن ضم الهاء ردها إلى الأصل ، لأنها مضمومة عند الانفراد ومن كسرها فلأجل الياء الساكنة و الياء أخت الكسرة ، وضم ابن كثير و أبو جعفر كل ميم جمع مشبعاً في الوصل إذا لم يلقها ساكن ، فإن لقيها ساكن فلا يشبع ، ونافع يخير ، ويضم ورش عند ألف القطع ، فإذا تلقته ألف وصل وقبل الهاء كسر أو ياء ساكنة ضم الهاء والميم حمزة و الكسائي ، وكسرهما أبو عمرو ، وكذلك يعقوب إذا انكسر ما قبله ، والآخرون يقرؤون بضم الميم وكسر الهاء في الكل لأجل الياء ، أو لكسر ما قبلها وضم الميم على الأصل .
قوله تعالى : { غير المغضوب عليهم } . يعني غير صراط الذين غضبت عليهم ، والغضب هو : إرادة الانتقام من العصاة ، وغضب الله تعالى لا يلحق عصاة المؤمنين إنما يلحق الكافرين .
قوله تعالى : { ولا الضالين } . أي وغير الضالين عن الهدى . وأصل الضلال الهلاك والغيبوبة ، يقال : ضل الماء في اللبن إذا هلك وغاب . و( غير ) هاهنا بمعنى لا ، ولا بمعنى غير ، ولذلك جاز العطف عليها ، كما يقال : فلان غير محسن ولا مجمل ، فإذا كان ( غير ) بمعنى سوى فلا يجوز العطف عليها بلا ، ولا يجوز في الكلام : عندي سوى عبد الله ولا زيد . وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه " صراط من أنعمت عليهم " لأن الله تعالى حكم على اليهود بالغضب فقال : ( من لعنه الله وغضب عليه ) وحكم على النصارى بالضلال ( غير المغضوب عليهم ) وغير الضالين وقيل المغضوب عليهم هم اليهود ، والضالون هم النصارى فقال : ( ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل ) وقال سهل بن عبد الله ( غير المغضوب عليهم ) بالبدعة ( ولا الضالين ) عن السنة .
والسنة للقارئ أن يقول بعد فراغه من قراءة الفاتحة { آمين } . مفصولا عن الفاتحة بسكتة وهو مخفف ، ويجوز ممدودا ومقصورا ومعناه : اللهم اسمع واستجب . وقال ابن عباس و قتادة : معناه كذلك يكون ، وقال مجاهد : هو اسم من أسماء الله تعالى ، وقيل : هو طابع الدعاء ، وقيل هو خاتم الله على عباده يدفع به الآفات عنهم ، كخاتم الكتاب يمنعه من الفساد وظهور ما فيه .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، و أبو حامد أحمد بن عبد الله الصالحي قالا : أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري ، أنا أبو علي محمد ابن أحمد بن محمد بن معقل الميداني ، ثنا محمد بن يحيى ، ثنا عبد الرزاق ، أنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا قال الإمام غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا آمين ، فإن الملائكة تقول آمين ، وإن الإمام يقول آمين ، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه " صحيح .
أخبرنا أبو الحسن أحمد بن عبد الرحمن بن محمد الكناني ، أنا أبو نصر محمد ابن علي بن الفضل الخزاعي ، أنا أبو عثمان عمر بن عبد الله البصري ، ثنا محمد ابن عبد الوهاب ، ثنا خالد بن مخلد القطراني ، حدثني محمد بن جعفر بن أبي كثير ، هو أخو إسماعيل بن جعفر ، عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال : " مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبيّ بن كعب وهو قائم يصلي فصاح به فقال : تعال يا أبي ، فعجل أبي في صلاته ، ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما منعك يا أبي أن تجيبني إذ دعوتك ؟ أليس الله يقول : ( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذ دعاكم لما يحييكم ) قال أبي : لا جرم يا رسول الله لا تدعوني إلا أجبتك وإن كنت مصليا . قال : أتحب أن أعلمك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها ؟ فقال أبيّ : نعم يا رسول الله فقال : لا تخرج من باب المسجد حتى تعلمها والنبي صلى الله عليه وسلم يمشي يريد أن يخرج من المسجد ، فلما بلغ الباب ليخرج قال له أبي : السورة يا رسول الله ؟ فوقف فقال : نعم كيف تقرأ في صلاتك ؟ فقرأ أبي أم القرآن ، فقال رسول الله : صلى الله عليه وسلم " والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها ، وإنما هي السبع من المثاني التي آتاني الله عز وجل " هذا حديث حسن صحيح .
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الصمد الترابي ، أنا الحاكم أبو الفضل محمد ابن الحسين الحدادي ، أنا أبو يزيد محمد بن يحيى بن خالد ، أنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ، ثنا يحيى بن آدم ، ثنا أبو الأحوص عن عمار بن ذريق عن عبد الله بن عيسى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : " بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جبريل إذ سمع نقضا من فوقه ، فرفع جبريل بصره إلى السماء ، فقال : هذا باب فتح من السماء ما فتح قط ، قال : فنزل منه ملك ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك ، فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة ، لن تقرأ حرفا منهما إلا أعطيته " صحيح .
أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد الشيرازي ، ثنا زاهر بن أحمد السرخسي ، أنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أنا أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري ، عن مالك عن العلاء بن عبد الرحمن أنه سمع أبا السائب مولى هشام بن زهرة ، يقول : سمعت أبا هريرة يقول ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج غير تمام " قال : فقلت يا أبا هريرة إني أحيانا أكون وراء الإمام ؟ فغمز ذراعي وقال : اقرأ بها يا فارسي في نفسك ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " قال الله عز وجل : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقرؤوا يقول العبد : ( الحمد لله رب العالمين ) يقول الله : حمدني عبدي ، يقول العبد : ( الرحمن الرحيم ) يقول الله : أثنى علي عبدي ، يقول العبد : ( مالك يوم الدين ) يقول الله : مجدني عبدي . يقول العبد : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) يقول الله عز وجل : هذه الآية بيني وبين عبدي ، فلعبدي ما سأل . يقول العبد : ( اهدنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) يقول الله : فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل " صحيح .
وجملة { صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } بدل من الصراط المستقيم . ولم يقل : اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم مستغنيًا عن ذكر الصراط المستقيم ، ليدل أن صراط هؤلاء المنعم عليهم هو الصراط المستقيم .
وقال : { صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ولم يقل صراط الأنبياء أو الصالحين ، ليدل على أن الدين فى ذاته نعمة عظيمة ، ويكفى للدلالة على عظمتها إسنادها إليه - تعالى - فى قوله : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } لأن المراد بالإِنعام هنا - على الراجح - الإِنعام الدينى . فالمنعم عليهم هم من عرفوا الحق فتمسكوا به ، وعرفوا الخير فعملوا به . قال بعض العلماء : " وإنما اختار فى البيان أن يضيف الصراط إلى المنعم عليهم لمعنيين : أولهما : هو إبراز نفسية المحب المخلص ، وأنه يكون شديد الاحتياط دقيق التحرى عن الطريق الموصل إلى ساحة الرضا فى ثقة تملأ نفسه ، وتفعم قلبه ، ولا يجد فى مثل هذا المقام ما يملأ نفسه ثقة إلا أن يبين الطريق ، بأنه الطريق الذى وصل بالسير عليه من قبله الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون . وثانيهما : أن من خواطر المؤمل فى نعيم ربه أن يكون تمام أنسه فى رفقة من الناس صالحين ، وصحب منهم محسنين ) .
وقوله - تعالى - { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم } بدل من { الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } وأتى فى وصف الإِنعام بالفعل المسند إلى الله - تعالى - فقال : { أنعمت عليهم } فى وصف الغضب باسم المفعول فقال : { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم } وفى ذلك تعليم لأدب جميل ، وهو أن الإِنسان يجمل به أن يسند أفعال الإِحسان إلى الله ، ويتحامى أن يسند إليه أفعال العقاب والابتلاء ، وإن كان كل من الإِحسان والعقاب صادرًا منه ، ومن شواهد هذا قوله - تعالى - حكاية عن مؤمنى الجن { وَأَنَّا لاَ ندري أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرض أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً } وحرف ( لا ) فى قوله { وَلاَ الضآلين } جئ به لتأكيد معنى النفى المستفاد من كلمة غير . والمراد بالمغضوب عليهم اليهود . وبالضالين النصارى . وقد ورد هذا التفسير عن النبى صلى الله عليه وسلم فى حديث رواه الإِمام أحمد فى مسنده وابن حبان فى صحيحه . ومن المفسرين من قال بأن المراد بالمغضوب عليهم من فسدت إرادتهم حيث علموا الحق ولكنهم تركوه عنادًا وجحودا ، وأن المراد بالضالين من فقدوا العلم فهم تائهون فى الضلالات دون أن يهتدوا إلى طريق قويم . وقدم المغضوب عليهم على الضالين ، لأن معنى المغضوب عليهم كالضد لمعنى المنعم عليهم ، ولأن المقابلة بينهما أوضح منها بين المنعم عليهم والضالين ، فكان جديرًا بأن يوضع فى مقابلته قبل الضالين .
قال العلماء : ويستحب لمن يقرأ الفاتحة أن يقول بعدها ( آمين ) ومعناه اللهم استجب وليس هذا اللفظ من القرآن بدليل أنه لم يثبت فى المصاحف والدليل على استحباب التأمين ما رواه الإِمام أحمد وأبو داود والترمذى عن وائل بن حجر قال : سمعت النبى صلى الله عليه وسلم قرأ { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين } فقال : ( آمين ) مد بها صوته .
وفى الصحيحين عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أمن الإِمام فأمنوا ، فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر الله له ما تقدم من ذنبه " .
هذا ، وقد أفاض العلماء فى الحديث عما اشتملت عليه سورة الفاتحة من آداب وعقائد وعبادات وأحكام ، ومن ذلك قول ابن كثير : ( اشتملت هذه السورة الكريمة ، وهى سبع آيات - على حمد الله وتمجيده والثناء عليه بذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العليا ، وعلى ذكر المعاد وهو يوم الدين ، وعلى إرشاد عبيده إلى سؤاله والتضرع إليه والتبرى من حولهم وقوتهم ، إلى إخلاص العبادة له وتوحيده بالألوهية ، وتنزيهه عن أن يكون له شريك أو نظير ، وإلى سؤالهم إياه الهداية إلى الصراط المستقيم ، وهو الدين القويم وتثبيتهم عليه ، واشتملت على الترغيب فى الأعمال الصالحة ليكونوا مع أهلها يوم القيامة ، والتحذير من مسالك الباطل لئلا يحشروا مع سالكيها يوم القيامة ، وهم المغضوب عليهم والضالون ) . وقال بعض العلماء : سورة الفاتحة مشتملة على أربعة أنواع من العلوم هى مناط الدين . أحدها : علم الأصول وإليه الإِشارة بقوله { الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين الرحمن الرحيم } ، ومعرفة النبوات وإليه الإشارة بقوله : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ومعرفة المعاد وإليه الإشارة بقوله { مالك يَوْمِ الدين } . وثانيها : علم الفروع وأعظمه العبادات وإليه الإِشارة بقوله { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } . وثالثها : علم الأخلاق ، وإليه الإِشارة بقوله { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهدنا الصراط المستقيم } . ورابعها : علم القصص والأخبار عن الأمم السابقة السعداء منه والأشقياء ، وهو المراد بقوله { صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين } . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
ويكشف عن طبيعة هذا الصراط المستقيم : ( صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) . . فهو طريق الذين قسم لهم نعمته . لا طريق الذين غضب عليهم لمعرفتهم الحق ثم حيدتهم عنه . أو الذين ضلوا عن الحق فلم يهتدوا أصلا إليه . . إنه صراط السعداء المهتدين الواصلين . .
وبعد فهذه هي السورة المختارة للتكرار في كل صلاة ، والتي لا تصح بدونها صلاة . وفيها على قصرها تلك الكليات الأساسية في التصور الإسلامي ؛ وتلك التوجهات الشعورية المنبثقة من ذلك التصور .
وقد ورد في صحيح مسلم من حديث العلاء بن عبد الرحمن مولى الحرقة عن أبيه ، عن أبي هريرة عن رسول الله [ ص ] : " يقول الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين . فنصفها لي ونصفها لعبدي ، ولعبدي ما سأل . . إذا قال العبد : الحمد لله رب العالمين . قال الله : حمدني عبدي . وإذا قال الرحمن الرحيم . قال الله أثني علي عبدي . فإذا قال : مالك يوم الدين . قال الله : مجدني عبدي . وإذا قال : إياك نعبد وإياك نستعين . قال : هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل . فإذا قال : اهدنا الصراط المستقيم . صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين . قال : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل " . .
ولعل هذا الحديث الصحيح - بعدما تبين من سياق السورة ما تبين - يكشف عن سر من أسرار اختيار السورة ليرددها المؤمن سبع عشرة مرة في كل يوم وليلة ؛ أو ما شاء الله أن يرددها كلما قام يدعوه في الصلاة .
{ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ }
قد تقدم الحديث فيما إذا قال العبد : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } إلى آخرها أن الله يقول : " هذا لعبدي ولعبدي ما سأل " .
وقوله : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } مفسر للصراط المستقيم . وهو بدل منه عند النحاة ، ويجوز أن يكون عطف بيان ، والله أعلم .
و{ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ{[955]} عَلَيْهِمْ } هم المذكورون في سورة النساء ، حيث قال : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا } [ النساء : 69 ، 70 ] .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : صراط الذين أنعمت عليهم بطاعتك وعبادتك ، من ملائكتك ، وأنبيائك ، والصديقين ، والشهداء ، والصالحين ؛ وذلك نظير ما قال ربنا تعالى : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } الآية [ النساء : 69 ] .
وقال أبو جعفر ، عن الربيع بن أنس : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } قال : هم النبيون . وقال ابن جُرَيْج ، عن ابن عباس : هم المؤمنون . وكذا قال مجاهد . وقال وَكِيع : هم المسلمون . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هم النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه . والتفسير المتقدم ، عن ابن عباس أعم ، وأشمل ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } [ قرأ الجمهور : " غير " بالجر على النعت ، قال الزمخشري : وقرئ بالنصب على الحال ، وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب ، ورويت عن ابن كثير ، وذو الحال الضمير في { عليهم } والعامل : { أنعمت } والمعنى ]{[956]} اهدنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم ممن تقدم وصفهم ونعتهم ، وهم أهل الهداية والاستقامة والطاعة لله ورسله ، وامتثال أوامره وترك نواهيه وزواجره ، غير صراط المغضوب عليهم ، [ وهم ]{[957]} الذين فسدت إرادتهم ، فعلموا الحق وعدلوا عنه ، ولا صراط الضالين وهم الذين فقدوا العلم فهم هائمون في الضلالة لا يهتدون إلى الحق ، وأكد الكلام بلا ليدل على أن ثَمّ مسلكين فاسدين ، وهما طريقتا اليهود والنصارى .
وقد زعم بعض النحاة أن { غير } هاهنا استثنائية ، فيكون على هذا منقطعًا لاستثنائهم من المنعم عليهم وليسوا منهم ، وما أوردناه أولى ، لقول الشاعر{[958]}
كأنَّك من جِمال بني أقَيش *** يُقَعْقَعُ عند{[959]} رِجْلَيْه بشَنِّ
أي : كأنك جمل من جمال بني أقيش ، فحذف الموصوف واكتفى بالصفة{[960]} ، وهكذا ، { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } أي : غير صراط المغضوب عليهم .
اكتفى بالمضاف إليه عن ذكر المضاف ، وقد دل عليه سياق الكلام ، وهو قوله تعالى : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ثم قال تعالى : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } ومنهم من زعم أن( لا ) في قوله : { ولا الضالين } زائدة ، وأن تقدير الكلام عنده : غير المغضوب عليهم والضالين ، واستشهد ببيت العجاج : في بئْر لا حُورٍ *** سرى{[961]} وما شَعَر{[962]}
والصحيح ما قدمناه . ولهذا روى أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب فضائل القرآن ، عن أبي معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه : أنه كان يقرأ : " غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَغَيْر الضَّالّين " . وهذا إسناد صحيح{[963]} ، [ وكذا حكي عن أبي بن كعب أنه قرأ كذلك ]{[964]} وهو محمول على أنه صدر منه على وجه التفسير ، فيدل على ما قلناه من أنه إنما جيء بها لتأكيد النفي ، [ لئلا يتوهم أنه معطوف على { الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ]{[965]} ، وللفرق بين الطريقتين ، لتجتنب كل منهما ؛ فإن طريقة أهل الإيمان مشتملة على العلم بالحق والعمل به ، واليهود فقدوا العمل ، والنصارى فقدوا العلم ؛ ولهذا كان الغضب لليهود ، والضلال للنصارى ، لأن من علم وترك استحق الغضب ، بخلاف من لم يعلم . والنصارى لما كانوا قاصدين شيئًا لكنهم لا يهتدون إلى طريقه ، لأنهم لم يأتوا الأمر من بابه ، وهو اتباع الرسول الحق ، ضلوا ، وكل من اليهود والنصارى ضال مغضوب عليه ، لكن أخص أوصاف اليهود الغضب [ كما قال فيهم : { مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ } ]{[966]} [ المائدة : 60 ] وأخص أوصاف النصارى الضلال [ كما قال : { قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيل " ]{[967]} } [ المائدة : 77 ] ، وبهذا جاءت الأحاديث والآثار . [ وذلك واضح بين ]{[968]} . قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، قال : سمعت سِماك بن حرب ، يقول : سمعت عبَّاد بن حُبَيش ، يحدث عن عدي بن حاتم ، قال : جاءت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذوا عمتي وناسًا ، فلما أتوا بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صُفُّوا له ، فقالت : يا رسول الله ، ناء الوافد وانقطع الولد ، وأنا عجوز كبيرة ، ما بي من خدمة ، فمُنّ علي مَنّ الله عليك ، قال : «من وافدك ؟ » قالت : عدي بن حاتم ، قال : «الذي فر من الله ورسوله ! » قالت : فمنَّ علي ، فلما رجع ، ورجل إلى جنبه{[969]} ، ترى أنه علي ، قال : سليه حُمْلانا ، فسألته ، فأمر لها ، قال : فأتتني فقالت : لقد فعل فعلة ما كان أبوك يفعلها ، فإنه قد أتاه فلان فأصاب منه ، وأتاه فلان فأصاب منه ، فأتيته فإذا عنده امرأة وصبيان أو صبي ، وذكر قربهم من النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : فعرفت أنه ليس بملك كسرى ولا قيصر ، فقال :
«يا عدي ، ما أفرك{[970]} أن يقال{[971]} لا إله إلا الله ؟ فهل من إله إلا الله ؟ قال : ما أفرك{[972]} أن يقال : الله أكبر ، فهل شيء أكبر{[973]} من الله ، عز وجل ؟ » . قال : فأسلمت ، فرأيت وجهه استبشر ، وقال : «المغضوب{[974]} عليهم اليهود ، وإن الضالين النصارى »{[975]} . وذكر الحديث ، ورواه الترمذي ، من حديث سماك بن حرب{[976]} ، وقال : حسن غريب لا نعرفه إلا من حديثه . قلت : وقد رواه حماد بن سلمة ، عن سماك ، عن مُرِّيّ بن قَطَريّ ، عن عدي بن حاتم ، قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } قال : «هم اليهود » { ولا الضالين } قال : «النصارى هم الضالون » . وهكذا رواه سفيان بن عيينة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ، عن عدي بن حاتم به{[977]} . وقد روي حديث عدي هذا من طرق ، وله ألفاظ كثيرة يطول ذكرها .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن بُدَيْل العُقَيْلي ، أخبرني عبد الله بن شَقِيق ، أنه أخبره من سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القُرَى ، وهو على فرسه ، وسأله رجل من بني القين ، فقال : يا رسول الله ، من هؤلاء ؟ قال : «المغضوب عليهم - وأشار إلى اليهود - والضالون هم النصارى »{[978]} . وقد رواه الجُرَيري وعروة ، وخالد الحَذَّاء ، عن عبد الله بن شقيق ، فأرسلوه{[979]} ، ولم يذكروا من سمع النبي صلى الله عليه وسلم . ووقع في رواية عروة تسمية عبد الله بن عمر ، فالله أعلم .
وقد روى ابن مَرْدُويه ، من حديث إبراهيم بن طَهْمان ، عن بديل بن ميسرة ، عن عبد الله بن شقيق ، عن أبي ذر قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المغضوب عليهم قال : «اليهود » ، [ قال ]{[980]} قلت : الضالين ، قال : «النصارى »{[981]} . وقال السُّدِّي ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } هم اليهود ، { ولا الضالين } هم النصارى .
وقال الضحاك ، وابن جُرَيْج ، عن ابن عباس : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } اليهود ، { ولا الضالين } [ هم ]{[982]} النصارى .
وكذلك قال الربيع بن أنس ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغير واحد ، وقال ابن أبي حاتم : ولا أعلم بين المفسرين في هذا اختلافًا .
وشاهد ما قاله هؤلاء الأئمة من أن اليهود مغضوب عليهم ، والنصارى ضالون ، الحديث المتقدم ، وقوله تعالى في خطابه مع بني إسرائيل في سورة البقرة : { بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنزلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ } [ البقرة : 90 ] ، وقال في المائدة{[983]} { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } [ المائدة : 60 ] ، وقال تعالى : { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } [ المائدة : 78 ، 79 ] .
وفي السيرة{[984]} {[985]}عن زيد بن عمرو بن نفيل ؛ أنه لما خرج هو وجماعة من أصحابه إلى الشام يطلبون الدين الحنيف ، قالت له اليهود : إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله . فقال : أنا من غضب الله أفر . وقالت له النصارى : إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ بنصيبك من سَخَط الله فقال : لا أستطيعه . فاستمر على فطرته ، وجانب عبادة الأوثان ودين المشركين ، ولم يدخل مع أحد من اليهود ولا النصارى ، وأما أصحابه فتنصروا ودخلوا في دين النصرانية ؛ لأنهم وجدوه أقرب من دين اليهود إذ ذاك ، وكان منهم ورقة بن نوفل ، حتى هداه الله بنبيه لما بعثه آمن بما وجد من الوحي ، رضي الله عنه .
( مسألة ) : والصحيح من مذاهب العلماء أنه يغتفر الإخلال بتحرير ما بين الضاد والظاء لقرب مخرجيهما ؛ وذلك أن الضاد مخرجها من أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس ، ومخرج الظاء من طرف اللسان وأطراف الثنايا العليا ، ولأن كلا من الحرفين من الحروف المجهورة ومن الحروف الرخوة ومن الحروف المطبقة ، فلهذا كله اغتفر استعمال أحدهما مكان الآخر لمن لا يميز ذلك والله أعلم . وأما حديث : " أنا أفصح من نطق بالضاد " فلا أصل له والله أعلم .
اشتملت هذه السورة الكريمة وهي سبع آيات ، على حمد الله وتمجيده والثناء عليه ، بذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العليا{[1]} ، وعلى ذكر المعاد وهو يوم الدين ، وعلى إرشاده عبيده{[2]} إلى سؤاله والتضرع إليه ، والتبرؤ من حولهم وقوتهم ، وإلى إخلاص العبادة له وتوحيده بالألوهية تبارك وتعالى ، وتنزيهه أن يكون له شريك أو نظير أو مماثل ، وإلى سؤالهم إياه الهداية إلى الصراط المستقيم ، وهو الدين القويم ، وتثبيتهم عليه حتى يُفضي بهم ذلك إلى جواز الصراط الحسي يوم القيامة ، المفضي بهم إلى جنات النعيم في جوار النبيين ، والصديقين ، والشهداء ، والصالحين .
واشتملت على الترغيب في الأعمال الصالحة ، ليكونوا مع أهلها يوم القيامة ، والتحذير من مسالك الباطل ؛ لئلا يحشروا مع سالكيها يوم القيامة ، وهم المغضوب عليهم والضالون . وما أحسن ما جاء إسناد الإنعام إليه في قوله تعالى : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } وحذف الفاعل في الغضب في قوله تعالى : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } وإن كان هو الفاعل لذلك في الحقيقة ، كما قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } الآية [ المجادلة : 14 ] ،
وكذلك إسناد الضلال إلى من قام به ، وإن كان هو الذي أضلهم بقدَره ، كما قال تعالى : { مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا } [ الكهف : 17 ] . وقال : { مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الأعراف : 186 ] . إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه سبحانه هو المنفرد بالهداية والإضلال ، لا كما تقوله الفرقة القدرية ومن حذا حذوهم ، من أن العباد هم الذين يختارون ذلك ويفعلونه{[3]} ، ويحتجون على بدعتهم{[4]} بمتشابه من القرآن ، ويتركون ما يكون فيه صريحا في الرد عليهم ، وهذا حال أهل الضلال والغي ، وقد ورد في الحديث الصحيح : «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه ، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم »{[5]} . يعني في قوله تعالى : { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } [ آل عمران : 7 ] ، فليس - بحمد الله - لمبتدع في القرآن حجة صحيحة ؛ لأن القرآن جاء ليفصل الحق من الباطل مفرقًا بين الهدى والضلال ، وليس فيه تناقض ولا اختلاف ؛ لأنه من عند الله ، تنزيل من حكيم حميد{[6]} .
يستحب لمن قرأ الفاتحة أن يقول بعدها : آمين [ مثل : يس ]{[7]} ، ويقال : أمين . بالقصر أيضًا [ مثل : يمين ]{[8]} ، ومعناه : اللهم استجب ، والدليل على ذلك{[9]} ما رواه الإمام أحمد وأبو داود ، والترمذي ، عن وائل بن حجر ، قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } فقال : " آمين " ، مد{[10]} بها صوته ، ولأبي داود : رفع بها صوته{[11]} ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن . وروي عن علي ، وابن مسعود وغيرهم .
وعن أبي هريرة ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تلا { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } قال : " آمين " حتى يسمع من يليه من الصف الأول ، رواه أبو داود ، وابن ماجه ، وزاد : يرتج{[12]} بها المسجد{[13]} ، والدارقطني وقال : هذا إسناد حسن .
وعن بلال أنه قال : يا رسول الله ، لا تسبقني بآمين . رواه أبو داود{[14]} .
ونقل أبو نصر القشيري{[15]} عن الحسن وجعفر الصادق أنهما شددا الميم من آمين مثل : { آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ } [ المائدة : 2 ] .
قال أصحابنا وغيرهم : ويستحب ذلك لمن هو خارج الصلاة ، ويتأكد في حق المصلي ، وسواء كان منفردًا أو إمامًا أو مأمومًا ، وفي جميع الأحوال ، لما جاء في الصحيحين ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أمن الإمام فأمنوا ، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة ، غفر له ما تقدم من ذنبه " ولمسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إذا قال أحدكم في الصلاة : آمين ، والملائكة{[16]} في السماء : آمين ، فوافقت إحداهما الأخرى ، غفر له ما تقدم من ذنبه »{[17]} . [ قيل : بمعنى من وافق تأمينه تأمين الملائكة في الزمان ، وقيل : في الإجابة ، وقيل : في صفة الإخلاص ]{[18]} . وفي صحيح مسلم عن أبي موسى مرفوعا : «إذا{[19]} قال ، يعني الإمام : { ولا الضالين } ، فقولوا : آمين . يجبكم الله »{[20]} . وقال جُوَيبر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : قلت : يا رسول الله ، ما معنى آمين ؟ قال : «رب افعل »{[21]} . وقال الجوهري : معنى آمين : كذلك فليكن ، وقال الترمذي : معناه : لا تخيب رجاءنا ، وقال الأكثرون : معناه : اللهم استجب لنا ، وحكى القرطبي عن مجاهد وجعفر الصادق وهلال بن كيسان : أن آمين اسم من أسماء الله تعالى وروي عن ابن عباس مرفوعًا ولا يصح ، قاله أبو بكر بن العربي المالكي{[22]} . وقال أصحاب مالك : لا يؤمن الإمام ويؤمن المأموم ، لما رواه مالك عن سُمَيّ ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «وإذا قال ، يعني الإمام : { ولا الضالين } ، فقولوا : آمين » . الحديث{[23]} . واستأنسوا - أيضا - بحديث أبي موسى : " وإذا قرأ : { ولا الضالين } ، فقولوا : «آمين » .
وقد قدمنا في المتفق عليه : «إذا أمن الإمام فأمنوا » وأنه عليه الصلاة والسلام كان يؤمن إذا قرأ{[24]} { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } .
وقد اختلف أصحابنا في الجهر بالتأمين للمأموم في الجهرية ، وحاصل الخلاف أن الإمام إن نسي التأمين جهر المأموم به قولا واحدًا ، وإن أمَّن الإمام جهرًا فالجديد أنه لا يجهر المأموم وهو مذهب أبي حنيفة ، ورواية عن مالك ؛ لأنه ذكر من الأذكار فلا يجهر به كسائر أذكار الصلاة . والقديم أنه يجهر به ، وهو مذهب الإمام أحمد بن حنبل ، والرواية الأخرى عن مالك ، لما{[25]} تقدم : " حتى يرتج المسجد " .
ولنا قول آخر ثالث : أنه إن كان المسجد صغيرًا لم يجهر المأموم{[26]} ، لأنهم يسمعون قراءة الإمام ، وإن كان كبيرا جهر ليبلغ التأمين مَنْ في أرجاء المسجد ، والله أعلم .
وقد روى الإمام أحمد في مسنده ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت عنده اليهود ، فقال : " إنهم لن يحسدونا{[27]} على شيء كما يحسدونا{[28]} على الجمعة التي هدانا الله لها وضلوا عنها ، وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلوا عنها ، وعلى قولنا خلف الإمام : آمين " {[29]} ، ورواه ابن ماجه ، ولفظه : " ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين " {[30]} ، وله عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على قول : آمين ، فأكثروا من قول : " آمين " {[31]} وفي إسناده طلحة بن عمرو ، وهو ضعيف .
وروى ابن مَرْدُويه ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «آمين : خاتم رب العالمين على عباده المؤمنين »{[32]} . وعن أنس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أعطيت آمين في الصلاة وعند الدعاء ، لم يعط أحد قبلي إلا أن يكون موسى ، كان موسى يدعو ، وهارون يؤمن ، فاختموا الدعاء بآمين ، فإن الله يستجيبه لكم »{[33]} .
قلت : ومن هنا نزع بعضهم في الدلالة بهذه الآية الكريمة ، وهي قوله تعالى : { وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } [ يونس : 88 ، 89 ] ، فذكر الدعاء عن موسى وحده ، ومن سياق الكلام ما يدل على أن هارون أمَّن ، فنزل منزلة من دعا ، لقوله تعالى : { قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا } [ يونس : 89 ] ، فدلّ ذلك على أن من أمَّن على دعاء فكأنما قاله ؛ فلهذا قال من قال : إن المأموم لا يقرأ لأن تأمينه على قراءة الفاتحة بمنزلة قراءتها ؛ ولهذا جاء في الحديث : " من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة " ، وكان بلال يقول : لا تسبقني بآمين . فدل هذا المنزع على أن المأموم لا قراءة عليه في الجهرية ، والله أعلم .
ولهذا قال ابن مَرْدُويه : حدثنا أحمد بن الحسن ، حدثنا عبد الله بن محمد بن سلام ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا جرير ، عن ليث بن أبي سليم ، عن كعب ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا قال الإمام : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } فقال : آمين ، فتوافق{[34]} آمين أهل الأرض آمين أهل السماء ، غفر الله للعبد ما تقدم من ذنبه ، ومثل من لا يقول : آمين ، كمثل رجل غزا مع قوم ، فاقترعوا ، فخرجت سهامهم ، ولم يخرج سهمه ، فقال : لِمَ لَمْ يخرج سهمي ؟ فقيل : إنك لم تقل : آمين " {[35]} .
{ صراط الذين أنعمت عليهم } بدل من الأول بدل الكل ، وهو في حكم تكرير العامل من حيث إنه المقصود بالنسبة ، وفائدته التوكيد والتنصيص على أن طريق المسلمين هو المشهود عليه بالاستقامة على آكد وجه وأبلغه لأنه جعل كالتفسير والبيان له فكأنه من البين الذي لا خفاء فيه أن الطريق المستقيم ما يكون طريق المؤمنين . وقيل : { الذين أنعمت } { عليهم } الأنبياء ، وقيل : النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقيل : أصحاب موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام قبل التحريف والنسخ . وقرئ { صراط الذين أنعمت عليهم } والإنعام : إيصال النعمة ، وهي في الأصل الحالة التي يستلذها الإنسان فأطلقت لما يستلذه من النعمة وهي اللين ، ونعم الله وإن كانت لا تحصى كما قال : { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } تنحصر في جنسين : دنيوي وأخروي .
والأول : قسمان وهبي وكسبي والوهبي قسمان : روحاني كنفخ الروح فيه وإشراقه بالعقل وما يتبعه من القوى كالفهم والفكر والنطق ، وجسماني كتخليق البدن والقوى الحالة فيه والهيئات العارضة له من الصحة وكمال الأعضاء ، والكسبي تزكية النفس عن الرذائل وتحليتها بالأخلاق السنية والملكات الفاضلة ، وتزيين البدن بالهيئات المطبوعة والحلى المستحسنة وحصول الجاه والمال .
والثاني أن يغفر له ما فرط منه ويرضى عنه ويبوئه في أعلى عليين مع الملائكة المقربين أبد الآبدين . والمراد هو القسم الأخير وما يكون وصلة إلى نيله من الآخرة فإن ما عدا ذلك يشترك فيه المؤمن والكافر .
{ غير المغضوب عليهم ولا الضالين } بدل من { الذين } على معنى أن المنعم عليهم هم الذين سلموا من الغضب والضلال . أو صفة له مبينة أو مقيدة على معنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة ، وهي نعمة الإيمان ، وبين السلامة من الغضب والضلال وذلك إنما يصح بأحد تأويلين ، إجراء الموصول مجرى النكرة إذ لم يقصد به معهود كالمحلى في قوله :
ولقد أمر على اللئيم يسبني *** . . .
وقولهم : إني لأمر على الرجل مثلك فيكرمني . أو جعل غير معرفة بالإضافة لأنه أضيف إلى ما له ضد واحد وهو المنعم عليهم ، فيتعين تعين الحركة من غير السكون .
وعن ابن كثير نصبه على الحال من الضمير المجرور والعامل أنعمت . أو بإضمار أعني . أو بالاستثناء إن فسر النعم بما يعم القبيلين ، والغضب : ثوران النفس إرادة الانتقام ، فإذا أسند إلى الله تعالى أريد به المنتهى والغاية على ما مر ، وعليهم في محل الرفع لأنه نائب مناب الفاعل بخلاف الأول ، ولا مزيدة لتأكيد ما في غير من معنى النفي ، فكأنه قال لا المغضوب عليهم ولا الضالين ، ولذلك جاز أنا زيدا غير ضارب ، كما جاز أنا زيدا لا ضارب ، وإن امتنع أنا زيدا مثل ضارب ، وقرئ { وغير الضالين } والضلال : العدول عن الطريق السوي عمدا أو خطأ ، وله عرض عريض والتفاوت ما بين أدناه وأقصاه كثير .
قيل : { المغضوب عليهم } اليهود لقوله تعالى فيهم : { من لعنه الله وغضب عليه } و{ الضالين } النصارى لقوله تعالى : { قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا } وقد روي مرفوعا ، ويتجه أن يقال : المغضوب عليهم العصاة والضالين الجاهلون بالله ، لأن المنعم عليه من وفق للجمع بين معرفة الحق لذاته والخير للعمل به ، وكان المقابل له من اختل إحدى قوتيه العاقلة والعاملة . والمخل بالعمل فاسق مغضوب عليه لقوله تعالى في القاتل عمدا { وغضب الله عليه } . والمخل بالعقل جاهل ضال لقوله : { فماذا بعد الحق إلا الضلال } . وقرئ ولا " الضالين " بالهمزة على لغة من جد في الهرب من التقاء الساكنين .
-آمين- اسم الفعل الذي هو استجب . وعن ابن عباس قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معناه : " فقال افعل بني على الفتح كأين لالتقاء الساكنين " ، وجاء مد ألفه وقصرها قال :
ويرحم الله عبدا قال آمينا *** . . .
أمين فزاد الله ما بيننا بعدا *** . . .
وليس من القرآن وفاقا ، لكن يسن ختم السورة به لقوله عليه الصلاة والسلام " علمني جبريل آمين عند فراغي من قراءة الفاتحة وقال إنه كالختم على الكتاب " . وفي معناه قول علي رضي الله عنه : آمين خاتم رب العالمين ، ختم به دعاء عبده . يقوله الإمام ويجهر به في الجهرية لما روي عن وائل بن حجر " أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا قرأ ولا الضالين قال آمين ورفع بها صوته " .
وعن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه لا يقوله ، والمشهور عنه أنه يخفيه كما رواه عبد الله بن مغفل وأنس ، والمأموم يؤمن معه لقوله عليه الصلاة والسلام : " إذا قال الإمام { ولا الضالين } فقولوا آمين فإن الملائكة تقول آمين فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه " وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي " ألا أخبرك بسورة لم ينزل في التوراة والإنجيل والقرآن مثلها " قال : قلت بلى يا رسول الله . قال " فاتحة الكتاب إنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته " .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ أتاه ملك فقال أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب ، وخواتيم سورة البقرة ، لن تقرأ حرفا منهما إلا أعطيته " .
وعن حذيفة بن اليمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتما مقضيا فيقرأ صبي من صبيانهم في الكتاب : { الحمد لله رب العالمين } فيسمعه الله تعالى فيرفع عنهم بذلك العذاب أربعين سنة " .
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ( 7 )
وقرأ عمر بن الخطاب ، وابن الزبير : «صراط من أنعمت عليهم » .
و { الذين } جمع الذي ، وأصله «لذٍ » ، حذفتْ منه الياء للتنوين كما تحذف من عمٍ ، وقاضٍ ، فلما دخلته الألف واللام ثبتت الياء . و «الذي » اسم مبهم ناقص محتاج إلى صلة وعائد ، وهو مبني في إفراده . وجمعه معرب في تثنيته . ومن العرب( {[97]} ) من يعرب جمعه ، فيقول في الرفع اللذون ، وكتب الذي بلام واحدة في الإفراد والجمع تخفيفاً لكثرة الاستعمال ، واختلف الناس في المشار إليهم بأنه أنعم عليهم .
فقال ابن عباس وجمهور من المفسرين : إنه أراد صراط النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وانتزعوا ذلك من قوله تعالى : { ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً ، وإذاً لآتيناهم من لدنّا أجراً عظيماً ولهديناهم صراطاً مستقيماً ومن يطع اللَّهَ والرسولَ فأولئكَ مع الذينَ أنعمَ اللَّهُ عليهمْ من النبيين والصدّيقين والشهداءِ والصالحين وحَسُنَ أولئك رفيقاً }( {[98]} ) [ النساء : 66-69 ] فالآية تقتضي أن هؤلاء على صراط مستقيم . وهو المطلوب في آية الحمد .
وقال ابن عباس أيضاً : «المنعم عليهم هو المؤمنون » .
وقال الحسن بن أبي الحسن : «المنعم عليهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم » .
وحكى مكي وغيره عن فرقة من المفسرين أن المنعم عليهمْ مؤمنو بني إسرائيل ، بدليل قوله تعالى : { يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم }( {[99]} ) [ البقرة : 40 ، 47 ، 122 ] .
وقال ابن عباس : «المنعم عليهم أصحابُ موسى قبل أن يبدلوا » .
قال القاضي أبو محمد : وهذا والذي قبله سواء .
وقال قتادة بن دعامة : «المنعم عليهم الأنبياء خاصة » .
وحكى مكي عن أبي العالية أنه قال : «المنعم عليهم محمد صلى الله عليه وسلم وأبو بكر عمر » .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وقد تقدم ما حكاه عنه الطبري من أنه فسر { الصراط المستقيم } بذلك ، وعلى ما حكى مكي ينتقض الأول ويكون { الصراط المستقيم } طريق محمد صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما . وهذا أقوى في المعنى ، لأن تسمية أشخاصهم طريقاً تجوز( {[100]} ) ، واختلف القراء في الهاء من { عليهم } ، فقرأ حمزة «عليهُمْ » بضم الهاء وإسكان الميم ، وكذلك لديهم وإليهم ، قرأ الباقون في جميعها بكسر الهاء واختلفوا في الميم .
فروي عن نافع التخيير بين ضمها وسكونها ، وروي عنه أنه كان لا يعيب ضم الميم ، فدل ذلك على أن قراءته كانت بالإسكان .
وكان عبد الله بن كثير يصل الميم بواو انضمت الهاء قبلها أو انكسرت فيقرأ «عليهمو وقلوبهمو وسمعهمو وأبصارهمو » .
وقرأ ورش الهاء مكسورة والميم موقوفة ، إلا أن تلقى الميم ألفاً أصلية فيلحق في اللفظ واواً مثل قوله : { سواء عليهم أأنذرتهم }( {[101]} ) [ البقرة : 6 ] .
وكان أبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر ، والكسائي ، يكسرون ، ويسكنون الميم ، فإذا لقي الميم حرف ساكن اختلفوا فكان عاصم ، وابن كثير ، ونافع يمضون على كسر الهاء وضم الميم ، مثل قوله تعالى : { عليهم الذلة }( {[102]} ) [ البقرة : 61 ، آل عمران : 112 ] و { من دونهم امرأتين }( {[103]} ) [ القصص : 23 ] وما أشبه ذلك ، وكان أبو عمرو يكسر الهاء والميم فيقول : { عليهم الذلة } و { إليهم اثنين } [ يس : 14 ] وما أشبه ذلك .
وكان الكسائي يضم الهاء والميم معاً ، فيقرأ { عليهم الذلة } و { من دونهم امرأتين } .
قال أبو بكر أحمد بن موسى : وكل هذا الاختلاف في كسر الهاء وضمها إنما هو في الهاء التي قبلها كسرة أو ياء ساكنة ، فإذا جاوزت هذين لم يكن في الهاء إلا الضم ، فإذا لم يكن قبل الميم هاء قبلها كسرة أو ياء ساكنة لم يجز في الميم إلا الضم والتسكين في مثل قوله تعالى : منكم وأنتم .
قال القاضي أبو محمد : وحكى صاحب الدلائل قال : «قرأ بعضهم عليهمو بواو وضمتين ، وبعضهم بضمتين وألقى( {[104]} ) الواو ، وبعضهم بكسرتين وألحق الياء ، وبعضهم بكسرتين وألغى الياء ، وبعضهم بكسر الهاء وضم الميم » .
قال : «وذلك مروي عن الأئمة ورؤساء اللغة » .
قال ابن جني( {[105]} ) : «حكى أحمد بن موسى عليهمو وعليهمُ بضم الميم من غير إشباع إلى الواو ، وعليهم بسكون الميم » .
وقرأ الحسن وعمرو بن فائد «عليهمي » .
وقرىء «عليهمِ » بكسر الميم دون إشباع إلى الياء .
وقرأ الأعرج : «علِيهمُ » بكسر الهاء وضم الميم من غير إشباع .
وهذه القراءات كلها بضم الهاء إلا الأخيرة وبإزاء كل واحدة منها قراءة بكسر الهاء فيجيء في الجميع عشر قراءات . ( {[106]} )
قوله تعالى : { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } .
اختلف القراء في الراء من ( غير ) ، فقرأ نافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي بخفض الراء ، وقرأ بن كثير ( غير ) ( {[107]} ) بالنصب ، وروي عنه الخفض .
قال أبو علي : «والخفض( {[108]} ) على ضربين : على البدل ، من { الذين } ، أو على الصفة للنكرة ، كما تقول مررت برجل غيرك ، وإنما وقع هنا صفة ل { الذين } لأن { الذين } هنا ليس بمقصود قصدهم( {[109]} ) ، فالكلام بمنزلة قولك إني لأمر بالرجل مثلك فأكرمه » .
قال : «والنصب في الراء على ضربين : على الحال كأنك قلت أنعمت عليهم لا مغضوباً عليهم ، أو على الاستثناء كأنك قلت إلا المغضوب عليهم ، ويجوز النصب على أعني » . وحكي نحو هذا عن الخليل .
ومما يحتج به لمن ينصب أن { غير } نكرة فكره أن يوصف بها المعرفة . والاختيار الذي لا خفاء به الكسر . وقد روي عن ابن كثير( {[110]} ) ، فأولى القولين ما لم يخرج عن إجماع قراء الأمصار .
قال أبو بكر بن السراج( {[111]} ) : «والذي عندي أن { غير } في هذا الموضع مع ما أضيف إليه معرفة ، وهذا شيء فيه نظر ولبس ، فليفهم عني ما أقول : اعلم أن حكم كل مضاف إلى معرفة أن يكون معرفة ، وإنما تنكرت ( غير ) ومثل مع إضافتهما إلى المعارف من أجل معناهما ، وذلك إذا قلت رأيت غيرك فكل شيء سوى المخاطب فهو غيره ، وكذلك إذا قلت رأيت مثلك فما هو مثله لا يحصى لكثرة وجوه المماثلة ، فإنما صارا نكرتين من أجل المعنى فأما إذا كان شيء معرفة له ضد واحد وأردت إثباته ، ونفي ضده ، وعلم ذلك السامع فوصفته بغير وأضفت غير إلى ضده فهو معرفة ، وذلك كقولك عليك بالحركة غير السكون ، وكذلك قولك غير المغضوب لأن من أنعم عليه لا يعاقبه إلا من غضب عليه ، ومن لم يغضب عليه فهو الذي أنعم عليه ، فمتى كانت غير على هذه الصفة وقصد بها هذا المقصد فهي معرفة » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : أبقى أبو بكر { الذين } على حد التعريف ، وجوز نعتها ب { غير } لما بينه من تعرف غير في هذا الموضع ، وغير أبي بكر وقف مع تنكر غير ، وذهب إلى تقريب { الذين } من النكرة إذ هو اسم شائع لا يختص به معين ، وعلى هذا جوز نعتها بالنكرة ، و { المغضوب عليهم } اليهود ، والضالون النصارى .
وهكذا قال ابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، والسدي ، وابن زيد ، وروي ذلك عدي بن حاتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم( {[112]} ) ، وذلك بين من كتاب الله تعالى ، لأن ذكر غضب الله على اليهود متكرر فيه كقوله : { وباؤوا بغضب من الله }( {[113]} ) [ البقرة : 61 ، آل عمران : 112 ] ، وكقوله تعالى : { قل أؤنبئكم بشرّ من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير }( {[114]} ) [ المائدة : 60 ] فهؤلاء اليهود ، بدلالة قوله تعالى بعده : { ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين }( {[115]} ) [ البقرة : 65 ] والغضب عليهم هو من الله تعالى ، وغضب الله تعالى عبارة عن إظهاره( {[116]} ) عليهم محناً وعقوبات وذلة ونحو ذلك ، مما يدل على أنه قد أبعدهم عن رحمته بعداً مؤكداً مبالغاً فيه ، والنصارى كان محققوهم على شرعة قبل ورود شرع محمد صلى الله عليه وسلم ، فلما ورد ضلوا ، وأما غير محققيهم فضلالهم متقرر منذ تفرقت أقوالهم في عيسى عليه السلام . وقد قال الله تعالى فيهم : { ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل }( {[117]} ) [ المائدة : 77 ] .
قال مكي رحمه الله حكاية( {[118]} ) : دخلت { لا } في قوله { ولا الضالين } لئلا يتوهم أن { الضالين } عطف على { الذين } .
قال : «وقيل هي مؤكدة بمعنى غير » .
وحكى الطبري أن { لا } زائدة ، وقال : هي هنا على نحو ما هي عليه في قول الراجز( {[119]} ) :
. . . . . . فما ألوم البيض ألا تسخرا . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أراد أن تسخر . وفي قول الأحوص( {[120]} ) : [ الطويل ]
ويلحينني في اللهو أن لا أحبّه . . . وللهو داعٍ دائبٌ غيرُ غافلِ
وقال الطبري : يريد : ويلحينني في اللهو أن أحبه .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وبيت الأحوص إنما معناه إرادة أن لا أحبه ف ( لا ) فيه متمكنة . ( {[121]} )
قال الطبري : ومنه قوله تعالى : { ما منعك أن لا تسجد } ( {[122]} ) [ الأعراف : 12 ] وإنما جاز أن تكون لا بمعنى الحذف ، ولأنها تقدمها الجحد ( {[123]} ) في صدر الكلام ، فسيق الكلام الآخر مناسباً للأول ، كما قال الشاعر ( {[124]} ) :
ما كان يرضي رسول الله فعلهم . . . والطيبان أبو بكر ولا عمر
وقرأ عمر بن الخطاب وأبي بن كعب :«غير المغضوب عليهم وغير الضالين » .
وروي عنهما في الراء النصب والخفض في الحرفين .
قال الطبري : «فإن قال قائل أليس الضلال من صفة اليهود ، كما أن النصارى عليهم غضب فلم خص كل فريق بذكر شيء مفرد ؟ قيل : هم كذلك ولكن وسم الله لعباده كل فريق بما قد تكررت العبارة عنه به وفهم به أمره » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق : وهذا غير شاف ، والقول في ذلك أن أفاعيل اليهود من اعتدائهم ، وتعنتهم ، وكفرهم مع رؤيتهم الآيات ، وقتلهم الأنبياء أمور توجب الغضب في عرفنا ، فسمى تعالى ما أحل بهم غضباً ، والنصارى لم يقع لهم شيء من ذلك ، إنما ضلوا من أول كفرهم دون أن يقع منهم ما يوجب غضباً خاصاً بأفاعيلهم ، بل هو الذي يعم كل كافر وإن اجتهد ، فلهذا تقررت العبارة عن الطائفتين بما ذكر ، وليس في العبارة ب { الضالين } تعلق( {[125]} ) للقدرية في أنهم أضلوا أنفسهم لأن هذا إنما هو كقولهم تهدم الجدار وتحركت الشجرة والهادم والمحرك غيرهما ، وكذلك النصارى خلق الله الضلال فيهم وضلوا هم بتكسبهم .
وقرأ أيوب السختياني( {[126]} ) : «الضألين » بهمزة غير ممدودة كأنه فر من التقاء الساكنين ، وهي لغة .
حكى أبو زيد( {[127]} ) قال : سمعت عمرو بن عبيد يقرأ : «فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جأن » فظننته قد لحن حتى سمعت من العرب دأبة وشأبة .
قال أبو الفتح : وعلى هذه اللغة قول كُثَيِّر [ الطويل ] .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . إذا ما العوالي بالعبيط احْمَأَرَّتِ( {[128]} )
وقول الآخر( {[129]} ) : [ الطويل ] .
وللأرض أما سودُها فتجللَتْ . . . بياضاً وأمّا بيضُها فادْهأَمَّتِ
وأجمع الناسُ على أنَّ عدد آي سورة الحمد سبعُ آيات : { العالمين } آية ، { الرحيم } آية ، { الدين } آية ، { نستعين } آية ، { المستقيم } آية ، { أنعمت عليهم } آية ، { ولا الضالين } آية ، وقد ذكرنا في تفسير بسم الله الرحمن الرحيم ما ورد من خلاف ضعيف في ذلك .
روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : إذا قال الإمام : { ولا الضالين } [ الفاتحة : 7 ] فقولوا آمين . فإن الملائكة في السماء تقول آمين ، فمن وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه( {[1]} ) .
وروي أن جبريل عليه السلام لما علم النبي عليه السلام فاتحة الكتاب وقت نزولها فقرأها قال له : «قل آمين »( {[2]} ) .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : «آمين خاتم رب العالمين ، يختم بها دعاء عبده المؤمن »( {[3]} ) .
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يدعو فقال : «أوجب إن ختم . فقال له رجل بأي شيء يختم يا رسول الله ؟ قال : «بآمين »( {[4]} ) .
ومعنى » آمين «عند أكثر أهل العلم : اللهم استجب ، أو أجب يا رب ، ونحو هذا . قاله الحسن بن أبي الحسن وغيره ، ونص عليه أحمد بن يحيى ثعلب وغيره .
وقال قوم : » هو اسم من أسماء الله تعالى « ، روي ذلك عن جعفر بن محمد( {[5]} ) ومجاهد وهلال بن يساف( {[6]} ) ، وقد روي أن » آمين «اسم خاتم يطبع به كتب أهل الجنة التي تؤخذ بالإيمان( {[7]} ) .
قال القاضي أبو محمد : فمقتضى هذه الآثار أن كلّ داعٍ ينبغي له في آخر دعائه أن يقول : «آمين » وكذلك كل قارىء للحمد في غير صلاة ، لكن ليس بجهر الترتيل( {[8]} ) . وأما في الصلاة فقال بعض العلماء : «يقولها كل مصلّ من إمام وفذ( {[9]} ) ومأموم قرأها أو سمعها » .
وقال مالك في المدونة : «لا يقول الإمام » آمين «ولكن يقولها من خلفه ويخفون ، ويقولها الفذ » .
وقد روي عن مالك رضي الله عنه : أن الإمام يقولها أسرّ أم جَهَرَ .
وروي عنه : «الإمام لا يؤمن في الجهر » .
قال القاضي أبو محمد عبدالحق رضي الله عنه : فهذا الخلاف إنما هو في الإمام ، ولم يختلف في الفذ ولا في المأموم إلا ابن نافع . قال في كتاب ابن حارث : «لا يقولها المأموم إلا إن سمع الإمام يقول { ولا الضالين } [ الفاتحة : 7 ] ، وإذا كان ببعد لا يسمعه فلا يقل » .
وقال ابن عبدوس : «يتحرى قدر القراءة ويقول آمين » . وهي لفظة مبنية على الفتح لالتقاء الساكنين ، وكأن الفتح مع الياء أخف من سائر الحركات ، ومن العرب من يقول «آمين » فيمده ، ومنه قول الشاعر( {[10]} ) : [ البسيط ]
آمين آمين لا أرضى بواحدة . . . حتى أبلغها ألفين آمينا
ومن العرب من يقول «أمين » بالقصر ، ومنه قول الشاعر : [ جبير بن الأضبط ] .
تباعد مني فَطْحَلٌ إذْ رأيتُه . . . أمين فزاد الله ما بيننا بعدا( {[11]} )
واختلف الناس في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : «فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة » فقيل في الإجابة ، وقيل في خلوص النية ، وقيل : في الوقت( {[12]} ) ، والذي يترجح أن المعنى فمن وافق في الوقت مع خلوص النية ، والإقبال على الرغبة إلى الله تعالى بقلب سليم ، والإجابة تتبع حينئذ ، لأنّ من هذه حاله فهو على الصراطِ المستقيم .