{ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ }
قد تقدم الحديث فيما إذا قال العبد : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } إلى آخرها أن الله يقول : " هذا لعبدي ولعبدي ما سأل " .
وقوله : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } مفسر للصراط المستقيم . وهو بدل منه عند النحاة ، ويجوز أن يكون عطف بيان ، والله أعلم .
و{ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ{[955]} عَلَيْهِمْ } هم المذكورون في سورة النساء ، حيث قال : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا } [ النساء : 69 ، 70 ] .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : صراط الذين أنعمت عليهم بطاعتك وعبادتك ، من ملائكتك ، وأنبيائك ، والصديقين ، والشهداء ، والصالحين ؛ وذلك نظير ما قال ربنا تعالى : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } الآية [ النساء : 69 ] .
وقال أبو جعفر ، عن الربيع بن أنس : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } قال : هم النبيون . وقال ابن جُرَيْج ، عن ابن عباس : هم المؤمنون . وكذا قال مجاهد . وقال وَكِيع : هم المسلمون . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هم النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه . والتفسير المتقدم ، عن ابن عباس أعم ، وأشمل ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } [ قرأ الجمهور : " غير " بالجر على النعت ، قال الزمخشري : وقرئ بالنصب على الحال ، وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب ، ورويت عن ابن كثير ، وذو الحال الضمير في { عليهم } والعامل : { أنعمت } والمعنى ]{[956]} اهدنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم ممن تقدم وصفهم ونعتهم ، وهم أهل الهداية والاستقامة والطاعة لله ورسله ، وامتثال أوامره وترك نواهيه وزواجره ، غير صراط المغضوب عليهم ، [ وهم ]{[957]} الذين فسدت إرادتهم ، فعلموا الحق وعدلوا عنه ، ولا صراط الضالين وهم الذين فقدوا العلم فهم هائمون في الضلالة لا يهتدون إلى الحق ، وأكد الكلام بلا ليدل على أن ثَمّ مسلكين فاسدين ، وهما طريقتا اليهود والنصارى .
وقد زعم بعض النحاة أن { غير } هاهنا استثنائية ، فيكون على هذا منقطعًا لاستثنائهم من المنعم عليهم وليسوا منهم ، وما أوردناه أولى ، لقول الشاعر{[958]}
كأنَّك من جِمال بني أقَيش *** يُقَعْقَعُ عند{[959]} رِجْلَيْه بشَنِّ
أي : كأنك جمل من جمال بني أقيش ، فحذف الموصوف واكتفى بالصفة{[960]} ، وهكذا ، { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } أي : غير صراط المغضوب عليهم .
اكتفى بالمضاف إليه عن ذكر المضاف ، وقد دل عليه سياق الكلام ، وهو قوله تعالى : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ثم قال تعالى : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } ومنهم من زعم أن( لا ) في قوله : { ولا الضالين } زائدة ، وأن تقدير الكلام عنده : غير المغضوب عليهم والضالين ، واستشهد ببيت العجاج : في بئْر لا حُورٍ *** سرى{[961]} وما شَعَر{[962]}
والصحيح ما قدمناه . ولهذا روى أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب فضائل القرآن ، عن أبي معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه : أنه كان يقرأ : " غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَغَيْر الضَّالّين " . وهذا إسناد صحيح{[963]} ، [ وكذا حكي عن أبي بن كعب أنه قرأ كذلك ]{[964]} وهو محمول على أنه صدر منه على وجه التفسير ، فيدل على ما قلناه من أنه إنما جيء بها لتأكيد النفي ، [ لئلا يتوهم أنه معطوف على { الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ]{[965]} ، وللفرق بين الطريقتين ، لتجتنب كل منهما ؛ فإن طريقة أهل الإيمان مشتملة على العلم بالحق والعمل به ، واليهود فقدوا العمل ، والنصارى فقدوا العلم ؛ ولهذا كان الغضب لليهود ، والضلال للنصارى ، لأن من علم وترك استحق الغضب ، بخلاف من لم يعلم . والنصارى لما كانوا قاصدين شيئًا لكنهم لا يهتدون إلى طريقه ، لأنهم لم يأتوا الأمر من بابه ، وهو اتباع الرسول الحق ، ضلوا ، وكل من اليهود والنصارى ضال مغضوب عليه ، لكن أخص أوصاف اليهود الغضب [ كما قال فيهم : { مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ } ]{[966]} [ المائدة : 60 ] وأخص أوصاف النصارى الضلال [ كما قال : { قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيل " ]{[967]} } [ المائدة : 77 ] ، وبهذا جاءت الأحاديث والآثار . [ وذلك واضح بين ]{[968]} . قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، قال : سمعت سِماك بن حرب ، يقول : سمعت عبَّاد بن حُبَيش ، يحدث عن عدي بن حاتم ، قال : جاءت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذوا عمتي وناسًا ، فلما أتوا بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صُفُّوا له ، فقالت : يا رسول الله ، ناء الوافد وانقطع الولد ، وأنا عجوز كبيرة ، ما بي من خدمة ، فمُنّ علي مَنّ الله عليك ، قال : «من وافدك ؟ » قالت : عدي بن حاتم ، قال : «الذي فر من الله ورسوله ! » قالت : فمنَّ علي ، فلما رجع ، ورجل إلى جنبه{[969]} ، ترى أنه علي ، قال : سليه حُمْلانا ، فسألته ، فأمر لها ، قال : فأتتني فقالت : لقد فعل فعلة ما كان أبوك يفعلها ، فإنه قد أتاه فلان فأصاب منه ، وأتاه فلان فأصاب منه ، فأتيته فإذا عنده امرأة وصبيان أو صبي ، وذكر قربهم من النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : فعرفت أنه ليس بملك كسرى ولا قيصر ، فقال :
«يا عدي ، ما أفرك{[970]} أن يقال{[971]} لا إله إلا الله ؟ فهل من إله إلا الله ؟ قال : ما أفرك{[972]} أن يقال : الله أكبر ، فهل شيء أكبر{[973]} من الله ، عز وجل ؟ » . قال : فأسلمت ، فرأيت وجهه استبشر ، وقال : «المغضوب{[974]} عليهم اليهود ، وإن الضالين النصارى »{[975]} . وذكر الحديث ، ورواه الترمذي ، من حديث سماك بن حرب{[976]} ، وقال : حسن غريب لا نعرفه إلا من حديثه . قلت : وقد رواه حماد بن سلمة ، عن سماك ، عن مُرِّيّ بن قَطَريّ ، عن عدي بن حاتم ، قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } قال : «هم اليهود » { ولا الضالين } قال : «النصارى هم الضالون » . وهكذا رواه سفيان بن عيينة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ، عن عدي بن حاتم به{[977]} . وقد روي حديث عدي هذا من طرق ، وله ألفاظ كثيرة يطول ذكرها .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن بُدَيْل العُقَيْلي ، أخبرني عبد الله بن شَقِيق ، أنه أخبره من سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القُرَى ، وهو على فرسه ، وسأله رجل من بني القين ، فقال : يا رسول الله ، من هؤلاء ؟ قال : «المغضوب عليهم - وأشار إلى اليهود - والضالون هم النصارى »{[978]} . وقد رواه الجُرَيري وعروة ، وخالد الحَذَّاء ، عن عبد الله بن شقيق ، فأرسلوه{[979]} ، ولم يذكروا من سمع النبي صلى الله عليه وسلم . ووقع في رواية عروة تسمية عبد الله بن عمر ، فالله أعلم .
وقد روى ابن مَرْدُويه ، من حديث إبراهيم بن طَهْمان ، عن بديل بن ميسرة ، عن عبد الله بن شقيق ، عن أبي ذر قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المغضوب عليهم قال : «اليهود » ، [ قال ]{[980]} قلت : الضالين ، قال : «النصارى »{[981]} . وقال السُّدِّي ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } هم اليهود ، { ولا الضالين } هم النصارى .
وقال الضحاك ، وابن جُرَيْج ، عن ابن عباس : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } اليهود ، { ولا الضالين } [ هم ]{[982]} النصارى .
وكذلك قال الربيع بن أنس ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغير واحد ، وقال ابن أبي حاتم : ولا أعلم بين المفسرين في هذا اختلافًا .
وشاهد ما قاله هؤلاء الأئمة من أن اليهود مغضوب عليهم ، والنصارى ضالون ، الحديث المتقدم ، وقوله تعالى في خطابه مع بني إسرائيل في سورة البقرة : { بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنزلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ } [ البقرة : 90 ] ، وقال في المائدة{[983]} { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } [ المائدة : 60 ] ، وقال تعالى : { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } [ المائدة : 78 ، 79 ] .
وفي السيرة{[984]} {[985]}عن زيد بن عمرو بن نفيل ؛ أنه لما خرج هو وجماعة من أصحابه إلى الشام يطلبون الدين الحنيف ، قالت له اليهود : إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله . فقال : أنا من غضب الله أفر . وقالت له النصارى : إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ بنصيبك من سَخَط الله فقال : لا أستطيعه . فاستمر على فطرته ، وجانب عبادة الأوثان ودين المشركين ، ولم يدخل مع أحد من اليهود ولا النصارى ، وأما أصحابه فتنصروا ودخلوا في دين النصرانية ؛ لأنهم وجدوه أقرب من دين اليهود إذ ذاك ، وكان منهم ورقة بن نوفل ، حتى هداه الله بنبيه لما بعثه آمن بما وجد من الوحي ، رضي الله عنه .
( مسألة ) : والصحيح من مذاهب العلماء أنه يغتفر الإخلال بتحرير ما بين الضاد والظاء لقرب مخرجيهما ؛ وذلك أن الضاد مخرجها من أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس ، ومخرج الظاء من طرف اللسان وأطراف الثنايا العليا ، ولأن كلا من الحرفين من الحروف المجهورة ومن الحروف الرخوة ومن الحروف المطبقة ، فلهذا كله اغتفر استعمال أحدهما مكان الآخر لمن لا يميز ذلك والله أعلم . وأما حديث : " أنا أفصح من نطق بالضاد " فلا أصل له والله أعلم .
اشتملت هذه السورة الكريمة وهي سبع آيات ، على حمد الله وتمجيده والثناء عليه ، بذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العليا{[1]} ، وعلى ذكر المعاد وهو يوم الدين ، وعلى إرشاده عبيده{[2]} إلى سؤاله والتضرع إليه ، والتبرؤ من حولهم وقوتهم ، وإلى إخلاص العبادة له وتوحيده بالألوهية تبارك وتعالى ، وتنزيهه أن يكون له شريك أو نظير أو مماثل ، وإلى سؤالهم إياه الهداية إلى الصراط المستقيم ، وهو الدين القويم ، وتثبيتهم عليه حتى يُفضي بهم ذلك إلى جواز الصراط الحسي يوم القيامة ، المفضي بهم إلى جنات النعيم في جوار النبيين ، والصديقين ، والشهداء ، والصالحين .
واشتملت على الترغيب في الأعمال الصالحة ، ليكونوا مع أهلها يوم القيامة ، والتحذير من مسالك الباطل ؛ لئلا يحشروا مع سالكيها يوم القيامة ، وهم المغضوب عليهم والضالون . وما أحسن ما جاء إسناد الإنعام إليه في قوله تعالى : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } وحذف الفاعل في الغضب في قوله تعالى : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } وإن كان هو الفاعل لذلك في الحقيقة ، كما قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } الآية [ المجادلة : 14 ] ،
وكذلك إسناد الضلال إلى من قام به ، وإن كان هو الذي أضلهم بقدَره ، كما قال تعالى : { مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا } [ الكهف : 17 ] . وقال : { مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الأعراف : 186 ] . إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه سبحانه هو المنفرد بالهداية والإضلال ، لا كما تقوله الفرقة القدرية ومن حذا حذوهم ، من أن العباد هم الذين يختارون ذلك ويفعلونه{[3]} ، ويحتجون على بدعتهم{[4]} بمتشابه من القرآن ، ويتركون ما يكون فيه صريحا في الرد عليهم ، وهذا حال أهل الضلال والغي ، وقد ورد في الحديث الصحيح : «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه ، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم »{[5]} . يعني في قوله تعالى : { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } [ آل عمران : 7 ] ، فليس - بحمد الله - لمبتدع في القرآن حجة صحيحة ؛ لأن القرآن جاء ليفصل الحق من الباطل مفرقًا بين الهدى والضلال ، وليس فيه تناقض ولا اختلاف ؛ لأنه من عند الله ، تنزيل من حكيم حميد{[6]} .
يستحب لمن قرأ الفاتحة أن يقول بعدها : آمين [ مثل : يس ]{[7]} ، ويقال : أمين . بالقصر أيضًا [ مثل : يمين ]{[8]} ، ومعناه : اللهم استجب ، والدليل على ذلك{[9]} ما رواه الإمام أحمد وأبو داود ، والترمذي ، عن وائل بن حجر ، قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } فقال : " آمين " ، مد{[10]} بها صوته ، ولأبي داود : رفع بها صوته{[11]} ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن . وروي عن علي ، وابن مسعود وغيرهم .
وعن أبي هريرة ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تلا { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } قال : " آمين " حتى يسمع من يليه من الصف الأول ، رواه أبو داود ، وابن ماجه ، وزاد : يرتج{[12]} بها المسجد{[13]} ، والدارقطني وقال : هذا إسناد حسن .
وعن بلال أنه قال : يا رسول الله ، لا تسبقني بآمين . رواه أبو داود{[14]} .
ونقل أبو نصر القشيري{[15]} عن الحسن وجعفر الصادق أنهما شددا الميم من آمين مثل : { آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ } [ المائدة : 2 ] .
قال أصحابنا وغيرهم : ويستحب ذلك لمن هو خارج الصلاة ، ويتأكد في حق المصلي ، وسواء كان منفردًا أو إمامًا أو مأمومًا ، وفي جميع الأحوال ، لما جاء في الصحيحين ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أمن الإمام فأمنوا ، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة ، غفر له ما تقدم من ذنبه " ولمسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إذا قال أحدكم في الصلاة : آمين ، والملائكة{[16]} في السماء : آمين ، فوافقت إحداهما الأخرى ، غفر له ما تقدم من ذنبه »{[17]} . [ قيل : بمعنى من وافق تأمينه تأمين الملائكة في الزمان ، وقيل : في الإجابة ، وقيل : في صفة الإخلاص ]{[18]} . وفي صحيح مسلم عن أبي موسى مرفوعا : «إذا{[19]} قال ، يعني الإمام : { ولا الضالين } ، فقولوا : آمين . يجبكم الله »{[20]} . وقال جُوَيبر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : قلت : يا رسول الله ، ما معنى آمين ؟ قال : «رب افعل »{[21]} . وقال الجوهري : معنى آمين : كذلك فليكن ، وقال الترمذي : معناه : لا تخيب رجاءنا ، وقال الأكثرون : معناه : اللهم استجب لنا ، وحكى القرطبي عن مجاهد وجعفر الصادق وهلال بن كيسان : أن آمين اسم من أسماء الله تعالى وروي عن ابن عباس مرفوعًا ولا يصح ، قاله أبو بكر بن العربي المالكي{[22]} . وقال أصحاب مالك : لا يؤمن الإمام ويؤمن المأموم ، لما رواه مالك عن سُمَيّ ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «وإذا قال ، يعني الإمام : { ولا الضالين } ، فقولوا : آمين » . الحديث{[23]} . واستأنسوا - أيضا - بحديث أبي موسى : " وإذا قرأ : { ولا الضالين } ، فقولوا : «آمين » .
وقد قدمنا في المتفق عليه : «إذا أمن الإمام فأمنوا » وأنه عليه الصلاة والسلام كان يؤمن إذا قرأ{[24]} { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } .
وقد اختلف أصحابنا في الجهر بالتأمين للمأموم في الجهرية ، وحاصل الخلاف أن الإمام إن نسي التأمين جهر المأموم به قولا واحدًا ، وإن أمَّن الإمام جهرًا فالجديد أنه لا يجهر المأموم وهو مذهب أبي حنيفة ، ورواية عن مالك ؛ لأنه ذكر من الأذكار فلا يجهر به كسائر أذكار الصلاة . والقديم أنه يجهر به ، وهو مذهب الإمام أحمد بن حنبل ، والرواية الأخرى عن مالك ، لما{[25]} تقدم : " حتى يرتج المسجد " .
ولنا قول آخر ثالث : أنه إن كان المسجد صغيرًا لم يجهر المأموم{[26]} ، لأنهم يسمعون قراءة الإمام ، وإن كان كبيرا جهر ليبلغ التأمين مَنْ في أرجاء المسجد ، والله أعلم .
وقد روى الإمام أحمد في مسنده ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت عنده اليهود ، فقال : " إنهم لن يحسدونا{[27]} على شيء كما يحسدونا{[28]} على الجمعة التي هدانا الله لها وضلوا عنها ، وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلوا عنها ، وعلى قولنا خلف الإمام : آمين " {[29]} ، ورواه ابن ماجه ، ولفظه : " ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين " {[30]} ، وله عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على قول : آمين ، فأكثروا من قول : " آمين " {[31]} وفي إسناده طلحة بن عمرو ، وهو ضعيف .
وروى ابن مَرْدُويه ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «آمين : خاتم رب العالمين على عباده المؤمنين »{[32]} . وعن أنس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أعطيت آمين في الصلاة وعند الدعاء ، لم يعط أحد قبلي إلا أن يكون موسى ، كان موسى يدعو ، وهارون يؤمن ، فاختموا الدعاء بآمين ، فإن الله يستجيبه لكم »{[33]} .
قلت : ومن هنا نزع بعضهم في الدلالة بهذه الآية الكريمة ، وهي قوله تعالى : { وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } [ يونس : 88 ، 89 ] ، فذكر الدعاء عن موسى وحده ، ومن سياق الكلام ما يدل على أن هارون أمَّن ، فنزل منزلة من دعا ، لقوله تعالى : { قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا } [ يونس : 89 ] ، فدلّ ذلك على أن من أمَّن على دعاء فكأنما قاله ؛ فلهذا قال من قال : إن المأموم لا يقرأ لأن تأمينه على قراءة الفاتحة بمنزلة قراءتها ؛ ولهذا جاء في الحديث : " من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة " ، وكان بلال يقول : لا تسبقني بآمين . فدل هذا المنزع على أن المأموم لا قراءة عليه في الجهرية ، والله أعلم .
ولهذا قال ابن مَرْدُويه : حدثنا أحمد بن الحسن ، حدثنا عبد الله بن محمد بن سلام ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا جرير ، عن ليث بن أبي سليم ، عن كعب ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا قال الإمام : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } فقال : آمين ، فتوافق{[34]} آمين أهل الأرض آمين أهل السماء ، غفر الله للعبد ما تقدم من ذنبه ، ومثل من لا يقول : آمين ، كمثل رجل غزا مع قوم ، فاقترعوا ، فخرجت سهامهم ، ولم يخرج سهمه ، فقال : لِمَ لَمْ يخرج سهمي ؟ فقيل : إنك لم تقل : آمين " {[35]} .
{ صراط الذين أنعمت عليهم } بدل من الأول بدل الكل ، وهو في حكم تكرير العامل من حيث إنه المقصود بالنسبة ، وفائدته التوكيد والتنصيص على أن طريق المسلمين هو المشهود عليه بالاستقامة على آكد وجه وأبلغه لأنه جعل كالتفسير والبيان له فكأنه من البين الذي لا خفاء فيه أن الطريق المستقيم ما يكون طريق المؤمنين . وقيل : { الذين أنعمت } { عليهم } الأنبياء ، وقيل : النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقيل : أصحاب موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام قبل التحريف والنسخ . وقرئ { صراط الذين أنعمت عليهم } والإنعام : إيصال النعمة ، وهي في الأصل الحالة التي يستلذها الإنسان فأطلقت لما يستلذه من النعمة وهي اللين ، ونعم الله وإن كانت لا تحصى كما قال : { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } تنحصر في جنسين : دنيوي وأخروي .
والأول : قسمان وهبي وكسبي والوهبي قسمان : روحاني كنفخ الروح فيه وإشراقه بالعقل وما يتبعه من القوى كالفهم والفكر والنطق ، وجسماني كتخليق البدن والقوى الحالة فيه والهيئات العارضة له من الصحة وكمال الأعضاء ، والكسبي تزكية النفس عن الرذائل وتحليتها بالأخلاق السنية والملكات الفاضلة ، وتزيين البدن بالهيئات المطبوعة والحلى المستحسنة وحصول الجاه والمال .
والثاني أن يغفر له ما فرط منه ويرضى عنه ويبوئه في أعلى عليين مع الملائكة المقربين أبد الآبدين . والمراد هو القسم الأخير وما يكون وصلة إلى نيله من الآخرة فإن ما عدا ذلك يشترك فيه المؤمن والكافر .
{ غير المغضوب عليهم ولا الضالين } بدل من { الذين } على معنى أن المنعم عليهم هم الذين سلموا من الغضب والضلال . أو صفة له مبينة أو مقيدة على معنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة ، وهي نعمة الإيمان ، وبين السلامة من الغضب والضلال وذلك إنما يصح بأحد تأويلين ، إجراء الموصول مجرى النكرة إذ لم يقصد به معهود كالمحلى في قوله :
ولقد أمر على اللئيم يسبني *** . . .
وقولهم : إني لأمر على الرجل مثلك فيكرمني . أو جعل غير معرفة بالإضافة لأنه أضيف إلى ما له ضد واحد وهو المنعم عليهم ، فيتعين تعين الحركة من غير السكون .
وعن ابن كثير نصبه على الحال من الضمير المجرور والعامل أنعمت . أو بإضمار أعني . أو بالاستثناء إن فسر النعم بما يعم القبيلين ، والغضب : ثوران النفس إرادة الانتقام ، فإذا أسند إلى الله تعالى أريد به المنتهى والغاية على ما مر ، وعليهم في محل الرفع لأنه نائب مناب الفاعل بخلاف الأول ، ولا مزيدة لتأكيد ما في غير من معنى النفي ، فكأنه قال لا المغضوب عليهم ولا الضالين ، ولذلك جاز أنا زيدا غير ضارب ، كما جاز أنا زيدا لا ضارب ، وإن امتنع أنا زيدا مثل ضارب ، وقرئ { وغير الضالين } والضلال : العدول عن الطريق السوي عمدا أو خطأ ، وله عرض عريض والتفاوت ما بين أدناه وأقصاه كثير .
قيل : { المغضوب عليهم } اليهود لقوله تعالى فيهم : { من لعنه الله وغضب عليه } و{ الضالين } النصارى لقوله تعالى : { قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا } وقد روي مرفوعا ، ويتجه أن يقال : المغضوب عليهم العصاة والضالين الجاهلون بالله ، لأن المنعم عليه من وفق للجمع بين معرفة الحق لذاته والخير للعمل به ، وكان المقابل له من اختل إحدى قوتيه العاقلة والعاملة . والمخل بالعمل فاسق مغضوب عليه لقوله تعالى في القاتل عمدا { وغضب الله عليه } . والمخل بالعقل جاهل ضال لقوله : { فماذا بعد الحق إلا الضلال } . وقرئ ولا " الضالين " بالهمزة على لغة من جد في الهرب من التقاء الساكنين .
-آمين- اسم الفعل الذي هو استجب . وعن ابن عباس قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معناه : " فقال افعل بني على الفتح كأين لالتقاء الساكنين " ، وجاء مد ألفه وقصرها قال :
ويرحم الله عبدا قال آمينا *** . . .
أمين فزاد الله ما بيننا بعدا *** . . .
وليس من القرآن وفاقا ، لكن يسن ختم السورة به لقوله عليه الصلاة والسلام " علمني جبريل آمين عند فراغي من قراءة الفاتحة وقال إنه كالختم على الكتاب " . وفي معناه قول علي رضي الله عنه : آمين خاتم رب العالمين ، ختم به دعاء عبده . يقوله الإمام ويجهر به في الجهرية لما روي عن وائل بن حجر " أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا قرأ ولا الضالين قال آمين ورفع بها صوته " .
وعن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه لا يقوله ، والمشهور عنه أنه يخفيه كما رواه عبد الله بن مغفل وأنس ، والمأموم يؤمن معه لقوله عليه الصلاة والسلام : " إذا قال الإمام { ولا الضالين } فقولوا آمين فإن الملائكة تقول آمين فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه " وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي " ألا أخبرك بسورة لم ينزل في التوراة والإنجيل والقرآن مثلها " قال : قلت بلى يا رسول الله . قال " فاتحة الكتاب إنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته " .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ أتاه ملك فقال أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب ، وخواتيم سورة البقرة ، لن تقرأ حرفا منهما إلا أعطيته " .
وعن حذيفة بن اليمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتما مقضيا فيقرأ صبي من صبيانهم في الكتاب : { الحمد لله رب العالمين } فيسمعه الله تعالى فيرفع عنهم بذلك العذاب أربعين سنة " .
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ( 7 )
وقرأ عمر بن الخطاب ، وابن الزبير : «صراط من أنعمت عليهم » .
و { الذين } جمع الذي ، وأصله «لذٍ » ، حذفتْ منه الياء للتنوين كما تحذف من عمٍ ، وقاضٍ ، فلما دخلته الألف واللام ثبتت الياء . و «الذي » اسم مبهم ناقص محتاج إلى صلة وعائد ، وهو مبني في إفراده . وجمعه معرب في تثنيته . ومن العرب( {[97]} ) من يعرب جمعه ، فيقول في الرفع اللذون ، وكتب الذي بلام واحدة في الإفراد والجمع تخفيفاً لكثرة الاستعمال ، واختلف الناس في المشار إليهم بأنه أنعم عليهم .
فقال ابن عباس وجمهور من المفسرين : إنه أراد صراط النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وانتزعوا ذلك من قوله تعالى : { ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً ، وإذاً لآتيناهم من لدنّا أجراً عظيماً ولهديناهم صراطاً مستقيماً ومن يطع اللَّهَ والرسولَ فأولئكَ مع الذينَ أنعمَ اللَّهُ عليهمْ من النبيين والصدّيقين والشهداءِ والصالحين وحَسُنَ أولئك رفيقاً }( {[98]} ) [ النساء : 66-69 ] فالآية تقتضي أن هؤلاء على صراط مستقيم . وهو المطلوب في آية الحمد .
وقال ابن عباس أيضاً : «المنعم عليهم هو المؤمنون » .
وقال الحسن بن أبي الحسن : «المنعم عليهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم » .
وحكى مكي وغيره عن فرقة من المفسرين أن المنعم عليهمْ مؤمنو بني إسرائيل ، بدليل قوله تعالى : { يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم }( {[99]} ) [ البقرة : 40 ، 47 ، 122 ] .
وقال ابن عباس : «المنعم عليهم أصحابُ موسى قبل أن يبدلوا » .
قال القاضي أبو محمد : وهذا والذي قبله سواء .
وقال قتادة بن دعامة : «المنعم عليهم الأنبياء خاصة » .
وحكى مكي عن أبي العالية أنه قال : «المنعم عليهم محمد صلى الله عليه وسلم وأبو بكر عمر » .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وقد تقدم ما حكاه عنه الطبري من أنه فسر { الصراط المستقيم } بذلك ، وعلى ما حكى مكي ينتقض الأول ويكون { الصراط المستقيم } طريق محمد صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما . وهذا أقوى في المعنى ، لأن تسمية أشخاصهم طريقاً تجوز( {[100]} ) ، واختلف القراء في الهاء من { عليهم } ، فقرأ حمزة «عليهُمْ » بضم الهاء وإسكان الميم ، وكذلك لديهم وإليهم ، قرأ الباقون في جميعها بكسر الهاء واختلفوا في الميم .
فروي عن نافع التخيير بين ضمها وسكونها ، وروي عنه أنه كان لا يعيب ضم الميم ، فدل ذلك على أن قراءته كانت بالإسكان .
وكان عبد الله بن كثير يصل الميم بواو انضمت الهاء قبلها أو انكسرت فيقرأ «عليهمو وقلوبهمو وسمعهمو وأبصارهمو » .
وقرأ ورش الهاء مكسورة والميم موقوفة ، إلا أن تلقى الميم ألفاً أصلية فيلحق في اللفظ واواً مثل قوله : { سواء عليهم أأنذرتهم }( {[101]} ) [ البقرة : 6 ] .
وكان أبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر ، والكسائي ، يكسرون ، ويسكنون الميم ، فإذا لقي الميم حرف ساكن اختلفوا فكان عاصم ، وابن كثير ، ونافع يمضون على كسر الهاء وضم الميم ، مثل قوله تعالى : { عليهم الذلة }( {[102]} ) [ البقرة : 61 ، آل عمران : 112 ] و { من دونهم امرأتين }( {[103]} ) [ القصص : 23 ] وما أشبه ذلك ، وكان أبو عمرو يكسر الهاء والميم فيقول : { عليهم الذلة } و { إليهم اثنين } [ يس : 14 ] وما أشبه ذلك .
وكان الكسائي يضم الهاء والميم معاً ، فيقرأ { عليهم الذلة } و { من دونهم امرأتين } .
قال أبو بكر أحمد بن موسى : وكل هذا الاختلاف في كسر الهاء وضمها إنما هو في الهاء التي قبلها كسرة أو ياء ساكنة ، فإذا جاوزت هذين لم يكن في الهاء إلا الضم ، فإذا لم يكن قبل الميم هاء قبلها كسرة أو ياء ساكنة لم يجز في الميم إلا الضم والتسكين في مثل قوله تعالى : منكم وأنتم .
قال القاضي أبو محمد : وحكى صاحب الدلائل قال : «قرأ بعضهم عليهمو بواو وضمتين ، وبعضهم بضمتين وألقى( {[104]} ) الواو ، وبعضهم بكسرتين وألحق الياء ، وبعضهم بكسرتين وألغى الياء ، وبعضهم بكسر الهاء وضم الميم » .
قال : «وذلك مروي عن الأئمة ورؤساء اللغة » .
قال ابن جني( {[105]} ) : «حكى أحمد بن موسى عليهمو وعليهمُ بضم الميم من غير إشباع إلى الواو ، وعليهم بسكون الميم » .
وقرأ الحسن وعمرو بن فائد «عليهمي » .
وقرىء «عليهمِ » بكسر الميم دون إشباع إلى الياء .
وقرأ الأعرج : «علِيهمُ » بكسر الهاء وضم الميم من غير إشباع .
وهذه القراءات كلها بضم الهاء إلا الأخيرة وبإزاء كل واحدة منها قراءة بكسر الهاء فيجيء في الجميع عشر قراءات . ( {[106]} )
قوله تعالى : { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } .
اختلف القراء في الراء من ( غير ) ، فقرأ نافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي بخفض الراء ، وقرأ بن كثير ( غير ) ( {[107]} ) بالنصب ، وروي عنه الخفض .
قال أبو علي : «والخفض( {[108]} ) على ضربين : على البدل ، من { الذين } ، أو على الصفة للنكرة ، كما تقول مررت برجل غيرك ، وإنما وقع هنا صفة ل { الذين } لأن { الذين } هنا ليس بمقصود قصدهم( {[109]} ) ، فالكلام بمنزلة قولك إني لأمر بالرجل مثلك فأكرمه » .
قال : «والنصب في الراء على ضربين : على الحال كأنك قلت أنعمت عليهم لا مغضوباً عليهم ، أو على الاستثناء كأنك قلت إلا المغضوب عليهم ، ويجوز النصب على أعني » . وحكي نحو هذا عن الخليل .
ومما يحتج به لمن ينصب أن { غير } نكرة فكره أن يوصف بها المعرفة . والاختيار الذي لا خفاء به الكسر . وقد روي عن ابن كثير( {[110]} ) ، فأولى القولين ما لم يخرج عن إجماع قراء الأمصار .
قال أبو بكر بن السراج( {[111]} ) : «والذي عندي أن { غير } في هذا الموضع مع ما أضيف إليه معرفة ، وهذا شيء فيه نظر ولبس ، فليفهم عني ما أقول : اعلم أن حكم كل مضاف إلى معرفة أن يكون معرفة ، وإنما تنكرت ( غير ) ومثل مع إضافتهما إلى المعارف من أجل معناهما ، وذلك إذا قلت رأيت غيرك فكل شيء سوى المخاطب فهو غيره ، وكذلك إذا قلت رأيت مثلك فما هو مثله لا يحصى لكثرة وجوه المماثلة ، فإنما صارا نكرتين من أجل المعنى فأما إذا كان شيء معرفة له ضد واحد وأردت إثباته ، ونفي ضده ، وعلم ذلك السامع فوصفته بغير وأضفت غير إلى ضده فهو معرفة ، وذلك كقولك عليك بالحركة غير السكون ، وكذلك قولك غير المغضوب لأن من أنعم عليه لا يعاقبه إلا من غضب عليه ، ومن لم يغضب عليه فهو الذي أنعم عليه ، فمتى كانت غير على هذه الصفة وقصد بها هذا المقصد فهي معرفة » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : أبقى أبو بكر { الذين } على حد التعريف ، وجوز نعتها ب { غير } لما بينه من تعرف غير في هذا الموضع ، وغير أبي بكر وقف مع تنكر غير ، وذهب إلى تقريب { الذين } من النكرة إذ هو اسم شائع لا يختص به معين ، وعلى هذا جوز نعتها بالنكرة ، و { المغضوب عليهم } اليهود ، والضالون النصارى .
وهكذا قال ابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، والسدي ، وابن زيد ، وروي ذلك عدي بن حاتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم( {[112]} ) ، وذلك بين من كتاب الله تعالى ، لأن ذكر غضب الله على اليهود متكرر فيه كقوله : { وباؤوا بغضب من الله }( {[113]} ) [ البقرة : 61 ، آل عمران : 112 ] ، وكقوله تعالى : { قل أؤنبئكم بشرّ من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير }( {[114]} ) [ المائدة : 60 ] فهؤلاء اليهود ، بدلالة قوله تعالى بعده : { ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين }( {[115]} ) [ البقرة : 65 ] والغضب عليهم هو من الله تعالى ، وغضب الله تعالى عبارة عن إظهاره( {[116]} ) عليهم محناً وعقوبات وذلة ونحو ذلك ، مما يدل على أنه قد أبعدهم عن رحمته بعداً مؤكداً مبالغاً فيه ، والنصارى كان محققوهم على شرعة قبل ورود شرع محمد صلى الله عليه وسلم ، فلما ورد ضلوا ، وأما غير محققيهم فضلالهم متقرر منذ تفرقت أقوالهم في عيسى عليه السلام . وقد قال الله تعالى فيهم : { ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل }( {[117]} ) [ المائدة : 77 ] .
قال مكي رحمه الله حكاية( {[118]} ) : دخلت { لا } في قوله { ولا الضالين } لئلا يتوهم أن { الضالين } عطف على { الذين } .
قال : «وقيل هي مؤكدة بمعنى غير » .
وحكى الطبري أن { لا } زائدة ، وقال : هي هنا على نحو ما هي عليه في قول الراجز( {[119]} ) :
. . . . . . فما ألوم البيض ألا تسخرا . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أراد أن تسخر . وفي قول الأحوص( {[120]} ) : [ الطويل ]
ويلحينني في اللهو أن لا أحبّه . . . وللهو داعٍ دائبٌ غيرُ غافلِ
وقال الطبري : يريد : ويلحينني في اللهو أن أحبه .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وبيت الأحوص إنما معناه إرادة أن لا أحبه ف ( لا ) فيه متمكنة . ( {[121]} )
قال الطبري : ومنه قوله تعالى : { ما منعك أن لا تسجد } ( {[122]} ) [ الأعراف : 12 ] وإنما جاز أن تكون لا بمعنى الحذف ، ولأنها تقدمها الجحد ( {[123]} ) في صدر الكلام ، فسيق الكلام الآخر مناسباً للأول ، كما قال الشاعر ( {[124]} ) :
ما كان يرضي رسول الله فعلهم . . . والطيبان أبو بكر ولا عمر
وقرأ عمر بن الخطاب وأبي بن كعب :«غير المغضوب عليهم وغير الضالين » .
وروي عنهما في الراء النصب والخفض في الحرفين .
قال الطبري : «فإن قال قائل أليس الضلال من صفة اليهود ، كما أن النصارى عليهم غضب فلم خص كل فريق بذكر شيء مفرد ؟ قيل : هم كذلك ولكن وسم الله لعباده كل فريق بما قد تكررت العبارة عنه به وفهم به أمره » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق : وهذا غير شاف ، والقول في ذلك أن أفاعيل اليهود من اعتدائهم ، وتعنتهم ، وكفرهم مع رؤيتهم الآيات ، وقتلهم الأنبياء أمور توجب الغضب في عرفنا ، فسمى تعالى ما أحل بهم غضباً ، والنصارى لم يقع لهم شيء من ذلك ، إنما ضلوا من أول كفرهم دون أن يقع منهم ما يوجب غضباً خاصاً بأفاعيلهم ، بل هو الذي يعم كل كافر وإن اجتهد ، فلهذا تقررت العبارة عن الطائفتين بما ذكر ، وليس في العبارة ب { الضالين } تعلق( {[125]} ) للقدرية في أنهم أضلوا أنفسهم لأن هذا إنما هو كقولهم تهدم الجدار وتحركت الشجرة والهادم والمحرك غيرهما ، وكذلك النصارى خلق الله الضلال فيهم وضلوا هم بتكسبهم .
وقرأ أيوب السختياني( {[126]} ) : «الضألين » بهمزة غير ممدودة كأنه فر من التقاء الساكنين ، وهي لغة .
حكى أبو زيد( {[127]} ) قال : سمعت عمرو بن عبيد يقرأ : «فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جأن » فظننته قد لحن حتى سمعت من العرب دأبة وشأبة .
قال أبو الفتح : وعلى هذه اللغة قول كُثَيِّر [ الطويل ] .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . إذا ما العوالي بالعبيط احْمَأَرَّتِ( {[128]} )
وقول الآخر( {[129]} ) : [ الطويل ] .
وللأرض أما سودُها فتجللَتْ . . . بياضاً وأمّا بيضُها فادْهأَمَّتِ
وأجمع الناسُ على أنَّ عدد آي سورة الحمد سبعُ آيات : { العالمين } آية ، { الرحيم } آية ، { الدين } آية ، { نستعين } آية ، { المستقيم } آية ، { أنعمت عليهم } آية ، { ولا الضالين } آية ، وقد ذكرنا في تفسير بسم الله الرحمن الرحيم ما ورد من خلاف ضعيف في ذلك .
روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : إذا قال الإمام : { ولا الضالين } [ الفاتحة : 7 ] فقولوا آمين . فإن الملائكة في السماء تقول آمين ، فمن وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه( {[1]} ) .
وروي أن جبريل عليه السلام لما علم النبي عليه السلام فاتحة الكتاب وقت نزولها فقرأها قال له : «قل آمين »( {[2]} ) .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : «آمين خاتم رب العالمين ، يختم بها دعاء عبده المؤمن »( {[3]} ) .
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يدعو فقال : «أوجب إن ختم . فقال له رجل بأي شيء يختم يا رسول الله ؟ قال : «بآمين »( {[4]} ) .
ومعنى » آمين «عند أكثر أهل العلم : اللهم استجب ، أو أجب يا رب ، ونحو هذا . قاله الحسن بن أبي الحسن وغيره ، ونص عليه أحمد بن يحيى ثعلب وغيره .
وقال قوم : » هو اسم من أسماء الله تعالى « ، روي ذلك عن جعفر بن محمد( {[5]} ) ومجاهد وهلال بن يساف( {[6]} ) ، وقد روي أن » آمين «اسم خاتم يطبع به كتب أهل الجنة التي تؤخذ بالإيمان( {[7]} ) .
قال القاضي أبو محمد : فمقتضى هذه الآثار أن كلّ داعٍ ينبغي له في آخر دعائه أن يقول : «آمين » وكذلك كل قارىء للحمد في غير صلاة ، لكن ليس بجهر الترتيل( {[8]} ) . وأما في الصلاة فقال بعض العلماء : «يقولها كل مصلّ من إمام وفذ( {[9]} ) ومأموم قرأها أو سمعها » .
وقال مالك في المدونة : «لا يقول الإمام » آمين «ولكن يقولها من خلفه ويخفون ، ويقولها الفذ » .
وقد روي عن مالك رضي الله عنه : أن الإمام يقولها أسرّ أم جَهَرَ .
وروي عنه : «الإمام لا يؤمن في الجهر » .
قال القاضي أبو محمد عبدالحق رضي الله عنه : فهذا الخلاف إنما هو في الإمام ، ولم يختلف في الفذ ولا في المأموم إلا ابن نافع . قال في كتاب ابن حارث : «لا يقولها المأموم إلا إن سمع الإمام يقول { ولا الضالين } [ الفاتحة : 7 ] ، وإذا كان ببعد لا يسمعه فلا يقل » .
وقال ابن عبدوس : «يتحرى قدر القراءة ويقول آمين » . وهي لفظة مبنية على الفتح لالتقاء الساكنين ، وكأن الفتح مع الياء أخف من سائر الحركات ، ومن العرب من يقول «آمين » فيمده ، ومنه قول الشاعر( {[10]} ) : [ البسيط ]
آمين آمين لا أرضى بواحدة . . . حتى أبلغها ألفين آمينا
ومن العرب من يقول «أمين » بالقصر ، ومنه قول الشاعر : [ جبير بن الأضبط ] .
تباعد مني فَطْحَلٌ إذْ رأيتُه . . . أمين فزاد الله ما بيننا بعدا( {[11]} )
واختلف الناس في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : «فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة » فقيل في الإجابة ، وقيل في خلوص النية ، وقيل : في الوقت( {[12]} ) ، والذي يترجح أن المعنى فمن وافق في الوقت مع خلوص النية ، والإقبال على الرغبة إلى الله تعالى بقلب سليم ، والإجابة تتبع حينئذ ، لأنّ من هذه حاله فهو على الصراطِ المستقيم .
{ صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } .
بدل أو عطف بيان من { الصراط المستقيم } ، وإنما جاء نظم الآية بأسلوب الإبدال أو البيان دون أن يقال : اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم المستقيم ، لفائدتين : الأولى : أن المقصود من الطلب ابتداء هو كون المهدى إليه وسيلة للنجاة واضحة سمحة سهلة ، وأما كونها سبيل الذين أنعم الله عليهم فأمر زائد لبيان فضله . الفائدة الثانية : ما في أسلوب الإبدال من الإجمال المعقب بالتفصيل ليتمكن معنى الصراط للمطلوب فضل تمكن في نفوس المؤمنين الذين لقنوا هذا الدعاء فيكون له من الفائدة مثل ما للتوكيد المعنوي ، وأيضاً لما في هذا الأسلوب من تقرير حقيقة هذا الصراط وتحقيق مفهومه في نفوسهم فيحصل مفهومه مرتين فيحصل له من الفائدة ما يحصل بالتوكيد اللفظي واعتبار البدلية مساوٍ لاعتباره عطف بيان لا مزية لأحدهما على الآخر خلافاً لمن حاول التفاضل بينهما ، إذ التحقيق عندي أن عطف البيان اسم لنوع من البدل وهو البدل المطابق وهو الذي لم يفصح أحد من النحاة على تفرقة معنوية بينهما ولا شاهداً يعين المصير إلى أحدهما دون الآخر .
قال في « الكشاف » : « فإن قلت ما فائدة البدل ؟ قلت فائدته التوكيد لما فيه من التثنية والتكرير » ا هـ فأفهم كلامه أن فائدة الإبدال أمران يرجعان إلى التوكيد وهما ما فيه من التثنية أي تكرار لفظ البدل ولفظ المبدل منه وعنى بالتكرير ما يفيده البدل عند النحاة من تكرير العامل وهو الذي مهد له في صدر كلامه بقوله : « وهو في حكم تكرير العامل كأنه قيل : اهدنا الصراط المستقيم اهدنا صراط الذين ، وسماه تكريراً لأنه إعادة للفظ بعينه ، بخلاف إعادة لفظ المبدل منه فإنه إعادة له بما يتحد مع ما صدقه فلذلك عبر بالتكرير وبالتثنية ، ومراده أن مثل هذا البدل وهو الذي فيه إعادة لفظ المبدل منه يفيد فائدة البدل وفائدة التوكيد اللفظي ، وقد علمت أن الجمع بين الأمرين لا يتأتى على وجه معتبر عند البلغاء إلا بهذا الصوغ البديع .
وإن إعادة الاسم في البدل أو البيان لِيُبنى عليه ما يُراد تعلقه بالاسم الأول أسلوبٌ بهيج من الكلام البليغ لإشعار إعادة اللفظ بأن مدلولَه بمحلِّ العناية وأنه حبيب إلى النفس ، ومثله تكرير الفعل كقوله تعالى : { وإذا مروا باللغو مروا كراماً } [ الفرقان : 72 ] وقوله : { ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا } [ القصص : 63 ] فإن إعادة فعل { مروا } وفعل { أغويناهم } وتعليق المتعلِّق بالفعل المعاد دون الفعل الأول تَجِدُ له من الروعة والبهجة ما لا تجده لتعليقه بالفعل الأول دون إعادة ، وليست الإعادة في مثله لمجرد التأكيد لأنه قد زيد عليه ما تعلق به . قال ابن جني في « شرح مشكل الحماسة » عند قول الأحوص :
فإذَا تزولُ تزول عن مُتَخَمِّطٍ *** تُخْشَى بَوَادِرُه على الأَقرانِ
محالٌ أن تقول إذا قُمتَ قُمتَ وإذا أقْعُدُ أقعد لأنه ليس في الثاني غير ما في الأول وإنما جاز أن يقول فإذَا تزولُ تزول لِما اتصل بالفعل الثاني من حَرْف الجر المفادة منه الفائدةُ ، ومثله قول الله تعالى : { هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا } وقد كان أبو علي ( يعني الفارسي ) امتنع في هذه الآية مما أخذناه ا هـ .
قلت ولم يتضح توجيه امتناع أبي علي فلعله امتنع من اعتبار { أغويناهم } بدلاً من { أغوينا } وجعله استئنافاً وإن كان المآل واحداً . وفي استحضار المنعم عليهم بطريق الموصول ، وإسناد فعل الإنعام عليهم إلى ضمير الجلالة ، تنويه بشأنهم خلافاً لغيرهم من المغضوب عليهم والضالين .
ثم إن في اختيار وصف الصراط المستقيم بأنه صراط الذين أنعمتَ عليهم دون بقية أوصافه تمهيداً لبساط الإجابة فإن الكريم إذا قلت له أعطني كما أعطيتَ فلاناً كان ذلك أَنْشَطَ لكرمه ، كما قرره الشيخ الجد قدس الله سره في قوله صلى الله عليه وسلم « كما صليتَ على إبراهيم » ، فيقول السائلون : إهدنا الصراط المستقيم الصراط الذين هديت إليه عبيد نعمك مع ما في ذلك من التعريض بطلب أن يكونوا لاحقين في مرتبة الهدى بأولئك المنعم عليهم ، وتهمماً بالاقتداء بهم في الأخذ بالأسباب التي ارتقوا بها إلى تلك الدرجات ، قال تعالى : { لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة } [ الممتحنة : 6 ] ، وتوطئةً لما سيأتي بعد من التبرىء من أحوال المغضوب عليهم والضالين فتضمن ذلك تفاؤلاً وتعوذاً .
والنعمة بالكسر وبالفتح مشتقة من النعيم وهو راحة العيش ومُلائم الإنسان والترفه ، والفعل كسمع ونصر وضرب . والنعمة الحالة الحسنة لأن بناء الفعلة بالكسر للهيئات ومتعلق النعمة اللذاتُ الحسية ثم استعملت في اللذات المعنوية العائدة بالنفع ولو لم يحس بها صاحبها . فالمراد من النعمة في قوله : { الذين أنعمت عليهم } النعمةُ التي لم يَشُبْها ما يكدرها ولا تكون عاقبتها سُوأَى ، فهي شاملة لخيرات الدنيا الخالصة من العواقب السيئة ولخيرات الآخرة ، وهي الأهم ، فيشمل النعم الدنيوية الموهوبيَّ منها والكسبيَّ ، والرُّوحانيَّ والجثماني ، ويشمل النعم الأخروية . والنعمة بهذا المعنى يرجع معظمها إلى الهداية ، فإن الهداية إلى الكسبي من الدنيويّ وإلى الأخرويّ كلِّه ظاهرة فيها حقيقة الهداية ، ولأن الموهوب في الدنيا وإن كان حاصلاً بلا كسب إلا أن الهداية تتعلق بحسن استعماله فيما وُهب لأجله .
فالمراد من المنعم عليهم الذين أفيضت عليهم النعم الكاملة ولا تخفى تمام المناسبة بين المنعم عليهم وبين المهديين حينئذٍ فيكون في إبدال { صراط الذين } من { الصراط المستقيم } معنى بديع وهو أن الهداية نعمة وأن المنعَم عليهم بالنعمة الكاملة قد هُدوا إلى الصراط المستقيم . والذين أنعم الله عليهم هم خيار الأمم السابقة من الرسل والأنبياء الذين حصلت لهم النعمة الكاملة . وإنما يلتئم كون المسؤول طريق المنعم عليهم فيما مضى وكونه هو دينَ الإسلام الذي جاء من بعدُ باعتبار أن الصراط المستقيم جار على سَنن الشرائع الحقة في أصول الديانة وفروع الهداية والتقوى ، فسألوا ديناً قويماً يكون في استقامته كصراط المنعم عليهم فأجيبوا بدين الإسلام ، وقد جمع استقامة الأديان الماضية وزاد عليها ، أو المراد من المنعم عليهم الأنبياءُ والرسل فإنهم كانوا على حالة أكمل مما كان عليه أممهم ، ولذلك وصف الله كثيراً من الرسل الماضين بوصف الإسلام وقد قال يعقوب لأبنائه :
{ فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } [ البقرة : 132 ] ذلك أن الله تعالى رفق بالأمم فلم يبلغ بهم غاية المراد من الناس لعدم تأهلهم للاضطلاع بذلك ولكنه أمر المرسلين بأكمل الحالات وهي مراده تعالى من الخلق في الغاية ، ولْنمثل لذلك بشرب الخمر فقد كان القدرُ غيرُ المسكر منه مباحاً وإنما يحرم السُّكر أوْ لا يحرم أصلاً غير أن الأنبياء لم يكونوا يتعاطون القليل من المسكرات وهو المقدار الذي هدى الله إليه هذه الأمة كلها ، فسواء فسرنا المنعم عليهم بالأنبياء أو بأفضل أَتْبَاعهم أو المسلمين السابقين فالمقصد الهداية إلى صراط كامل ويكون هذا الدعاء محمولاً في كل زمان على ما يناسب طرق الهداية التي سبقت زمانَه والتي لم يبلغ إلى نهايتها .
والقول في المطلوب من { اهدنا } على هذه التقادير كلها كالقول فيما تقدم من كون { اهدنا } لطلب الحصول أو الزيادة أو الدوام .
والدعاء مبني على عدم الاعتداد بالنعمة غير الخالصة ، فإن نعم الله على عباده كلهم كثيرة والكافر منعم عليه بما لا يمترَى في ذلك ولكنها نعم تحفها آلام الفكرة في سوء العاقبة ويعقبها عذاب الآخرة ، فالخلاف المفروض بين بعض العلماء في أن الكافر هل هو منعم عليه خلاف لا طائل تحته فلا فائدة في التطويل بظواهر أدلة الفريقين .
{ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ وَلاَ الضآلين } .
كلمة غير مجرورة باتفاق القراء العشرة ، وهي صفة للذين أنعمت عليهم ، أو بدل منه والوصف والبدلية سواء في المقصود ، وإنما قدم في « الكشاف » بيان وجه البدلية لاختصار الكلام عليها ليفضي إلى الكلام على الوصفية ، فيورد عليها كيفية صحة توصيف المعرفة بكلمة ( غير ) التي لا تتعرف ، وإلا فإن جعل { غير المغضوب } صفة للذين هو الوجه وكذلك أعربه سيبويه فيما نقل عنه أبو حيان ووجهه بأن البدل بالوصف ضعيف إذ الشأن أن البدل هو عين المبدل منه أي اسم ذات له ، يريد أن معنى التوصيف في { غير } أغلب من معنى ذات أخرى ليست السابقة ، وهو وقوف عند حدود العبارات الاصطلاحية حتى احتاج صاحب « الكشاف » إلى تأويل { غير المغضوب } بالذين سلموا من الغضب ، وأنا لا أظن الزمخشري أراد تأويل غير بل أراد بيان المعنى . وإنما صح وقوع ( غير ) صفة للمعرفة مع قولهم إن غير لتوغلها في الإبهام لا تفيدها الإضافة تعريفاً أي فلا يكون في الوصف بها فائدة التمييز فلا توصف بها المعرفة لأن الصفة يلزم أن تكون أشهر من الموصوف ، فغير وإن كانت مضافة للمعرفة إلا أنها لما تضمنه معناها من الإبهام انعدمت معها فائدة التعريف ، إذ كل شيء سوى المضاف إليه هو غير ، فماذا يستفاد من الوصف في قولك مررت بزيد غير عمرو ، فالتوصيف هنا إما باعتبار كون { الذين أنعمت عليهم } ليس مراداً به فريق معين فكان وزان تعريفه بالصلة وزان المعرف بأل الجنسية المسماة عند علماء المعاني بلام العهد الذهني ، فكان في المعنى كالنكرة وإن كان لفظه لفظ المعرفة فلذلك عرف بمثله لفظاً ومعنى ، وهو { غير المغضوب } الذي هو في صورة المعرفة لإضافته لمعرفة وهو في المعنى كالنكرة لعدم إرادة شيء معين ، وإما باعتبار تعريف غير في مثل هذا لأن غير إذا أريد بها نفي ضد الموصوف أي مساوي نقيضه صارت معرفة ، لأن الشيء يتعرف بنفي ضده نحو عليك بالحركة غير السكون ، فلما كان من أُنعم عليه لا يعاقب كان المعاقب هو المغضوب عليه ، هكذا نقل ابن هشام عن ابن السراج والسيرافي وهو الذي اختاره ابن الحاجب في أماليه على قوله تعالى :
{ غير أولي الضرر } [ النساء : 95 ] ونقل عن سيبوبه أن غيراً إنما لم تتعرف لأنها بمعنى المغاير فهي كاسم الفاعل وألْحَقَ بها مِثْلاً وسِوى وحَسب وقال : إنها تتعرف إذا قصد بإضافتها الثبوت . وكأن مآل المذهبين واحد لأن غيراً إذا أضيفت إلى ضد موصوفها وهو ضد واحد أي إلى مساوي نقيضه تعينت له الغيرية فصارت صفة ثابتة له غير منتقلة ، إذ غيرية الشيء لنقيضه ثابتة له أبداً فقولك عليك بالحركة غيرِ السكون هو غير قولك مررت بزيد غيرِ عمرو وقوله : { غير المغضوب عليهم } من النوع الأول .
ومن غرض وصف { الذين أنعمتَ عليهم } بأنهم { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } التعوذُ مما عرض لأمم أنعم الله عليهم بالهداية إلى صراط الخير بحسب زمانهم بدعوة الرسل إلى الحق فتقلدوها ثم طرأ عليهم سوء الفهم فيها فغيروها وما رعَوْها حق رعايتها ، والتبرُّؤ من أن يكونُوا مثلهم في بَطَر النعمة وسوء الامتثال وفساد التأويل وتغليب الشهوات الدنيوية على إقامة الدين حتى حق عليهم غضب الله تعالى ، وكذا التبرؤ من حال الذين هُدوا إلى صراط مستقيم فما صرفوا عنايتهم للحفاظ على السير فيه باستقامة ، فأصبحوا من الضالين بعد الهداية إذْ أساءوا صفة العلم بالنعمة فانقلبت هدايتهم ضلالاً .
والظاهر أنهم لم يحق عليهم غضب الله قبل الإسلام لأنهم ضلوا عن غير تعمد فلم يسبق غضب الله عليهم قديماً واليهود من جملة الفريق الأول ، والنصارى من جملة الفريق الثاني كما يعلم من الاطلاع على تاريخ ظهور الدينين فيهم . وليس يلزم اختصاص أول الوصفين باليهود والثاني بالنصارى فإن في الأمم أمثالَهم وهذا الوجه في التفسير هو الذي يستقيم معه مقام الدعاء بالهداية إلى الصراط المستقيم ولو كان المراد دين اليهودية ودين النصرانية لكان الدعاء تحصيلاً للحاصل فإن الإسلام جاء ناسخاً لهما .
ويشمل المغضوب عليهم والضالون فِرَق الكفر والفسوق والعصيان ، فالمغضوب عليهم جنس للفرق التي تعمدت ذلك واستخفت بالديانة عن عمد أو عن تأويل بعيد جداً ، والضالون جنس للفِرَق التي أخطأت الدين عن سوء فهم وقلة إصغاء ؛ وكلا الفريقين مذموم لأننا مأمورون باتباع سبيل الحق وصرف الجهد إلى إصابته ، واليهود من الفريق الأول والنصارى من الفريق الثاني . وما ورد في الأثر مما ظاهره تفسير المغضوب عليهم باليهود والضالين بالنصارى فهو إشارة إلى أن في الآية تعريضاً بهذين الفريقين اللذين حق عليهما هذان الوصفان لأن كلاً منهما صار عَلَماً فيما أريد التعريض به فيه . وقد تبين لك من هذا أن عطف { ولا الضالين } على { غير المغضوب عليهم } ارتقاء في التعوذ من شر سوء العاقبة لأن التعوذ من الضلال الذي جلب لأصحابه غَضَبَ اللَّهِ لا يغني عن التعوذ من الضلال الذي لم يبلغ بأصحابه تلك الدركات وذلك وجه تقديم { المغضوب عليهم } على { ولا الضالين } ، لأن الدعاء كان بسؤال النفي ، فالتدرج فيه يحصل بنفي الأضعف بعد نفي الأقوى ، مع رعاية الفواصل .
والغضب المتعلق بالمغضوب عليهم هو غضبُ اللَّهِ . وحقيقة الغضب المعروفِ في الناس أنه كيفية تعرض للنفس يتبعها حركة الروح إلى الخارج وثورانها فتطلب الانتقام ، فالكيفيةُ سبب لطلب الانتقام وطلب الانتقام سبب لحصول الانتقام . والذي يظهر لي أن إرادة الانتقام ليست من لوازم ماهية الغضب بحيث لا تنفك عنه ولكنها قد تكون من آثاره ، وأن الغضب هو كيفية للنفس تعرض من حصول ما لا يلائمها فتترتب عليه كراهية الفعل المغضوب منه وكراهية فاعله ، ويلازمه الإعراض عن المغضوب عليه ومعاملتُه بالعُنف وبقطع الإحسان وبالأذى وقد يفضى ذلك إلى طلب الانتقام منه فيختلف الحد الذي يثور عند الغضب في النفس باختلاف مراتب احتمال النفوس للمنافرات واختلاف العادات في اعتبار أسبابه ، فلعل الذين جعلوا إرادة الانتقام لازمة للغضب بنَوا على القوانين العربية .
وإذْ كانت حقيقة الغضب يستحيل اتصاف الله تعالى بها وإسنادُها إليه على الحقيقة للأدلة القطعية الدالة على تنزيه الله تعالى عن التغيرات الذاتية والعرضية ، فقد وجب على المؤمن صَرف إسناد الغضب إلى الله عن معناه الحقيقي ، وطريقةُ أهل العلم والنظر في هذا الصرف أن يصرف اللفظ إلى المجاز بعلاقة اللزوم أو إلى الكناية باللفظ عن لازم معناه فالذي يكون صفة لله من معنى الغضب هو لازمه ، أعني العقاب والإهانة يوم الجزاء واللعنة أي الإبعاد عن أهل الدين والصلاح في الدنيا أو هو من قبيل التمثيلية .
وكان السلف في القرن الأول ومنتصفِ القرن الثاني يمسكون عن تأويل هذه المتشابهات لما رأوا في ذلك الإمساك من مصلحة الاشتغال بإقامة الأعمال التي هي مراد الشرع من الناس فلما نشأ النظر في العلم وطَلَبُ معرفة حقائق الأشياء وحدَث قول الناس في معاني الدين بما لا يلائم الحق ، لم يجد أهل العلم بداً من توسيع أساليب التأويل الصحيح لإفهام المسلم وكبت الملحد ، فقام الدين بصنيعهم على قواعِده ، وتميز المخلص له عن ماكِره وجاحده .
وكلٌّ فيما صنعوا على هُدى . وبعد البيانِ لا يُرْجَع إلى الإجمال أبداً . وما تأوَّلوه إلا بما هو معروف في لسان العرب مفهوم لأهله .
فغضَبُ الله تعالى على العموم يرجع إلى معاملته الحائدين عن هديه العاصين لأوامره ويترتب عليه الانتقام وهو مراتب أَقصاها عقاب المشركين والمنافقين بالخلود في الدرك الأسفل من النار ودون الغضب الكراهية فقد ورد في الحديث : « ويَكْرَهُ لكم قيلَ وقال وكثرةَ السؤال » ، ويقابلهما الرضى والمحبة وكل ذلك غيرُ المشيئة والإرادةِ بمعنى التقدير والتكوينِ ، { ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم } [ الزمر : 7 ] { ولو شاء ربك ما فعلوه } [ الأنعام : 112 ] { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً } [ يونس : 99 ] وتفصيل هذه الجملة في علم الكلام .
واعلم أن الغضب عند حكماء الأخلاق مبدأ من مجموع الأخلاق الثلاثة الأصلية التي يعبر عن جميعها بالعدالة وهي : الحكمة والعفة والشجاعة ، فالغضب مبدأ الشجاعة إلا أن الغضب يعبر به عن مبدأ نفساني لأَخلاق كثيرة متطرفةٍ ومعتدلة فيلقِّبون بالقوة الغضبية ما في الإنسان من صفات السَّبُعِية وهي حب الغلبة ومن فوائدها دفع ما يضره ولها حد اعتدال وحد انحراف فاعتدالها الشجاعة وكِبَر الهمة ، وثباتُ القلب في المخاوف ، وانحرافُها إما بالزيادة فهي التهور وشدة الغضب من شيء قليل والكبرُ والعُجب والشراسةُ والحِقْد والحَسَد والقَساوة ، أو بالنقصان فالجبن وخور النفس وصغر الهمة فإذا أُطلق الغضب لغةً انصرف إلى بعض انحراف الغضبية ، ولذلك كان من جوامع كَلِم النبيء صلى الله عليه وسلم " أن رجلاً قال له أوصني قال : لا تغضب فكرَّرَ مِراراً فقال : لا تغضب " رواه الترمذي . وسُئل بعض ملوك الفرس بم دام ملككم ؟ فقال : لأنا نعاقب على قدر الذنب لا على قدر الغضب . فالغضب المنهى عنه هو الغضب للنَّفس لأنه يصدر عنه الظلم والعدوان ، ومن الغضب محمودٌ وهو الغضب لحماية المصالح العامة وخصوصاً الدينية وقد ورد أن النبيء كان لا يغضب لنفسه فإذا انتهكت حرمة من حرمات الله غضب لله .
وقوله : { ولا الضالين } معطوف على { المغضوب عليهم } كما هو متبادر ، قال ابن عطية ، قال مكي ابن أبي طالب إن دخول ( لا ) لدفع توهم عطف ( الضالين ) على ( الذين أَنْعَم عليهم ) ، وهو توجيه بعيد فالحق أن ( لا ) مزيدة لتأكيد النفي المستفاد من لفظ ( غير ) على طريقة العرب في المعطوف على ما في حيز النفي نحو قوله :
{ أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير } [ المائدة : 19 ] وهو أسلوب في كلام العرب . وقال السيد في « حواشي الكشاف » لئلا يتوهم أن المنفي هو المجموع فيجوِّز ثبوتَ أحدهما ، ولما كانت غير في معنى النفي أجريت إعادة النفي في المعطوف عليها ، وليست زيادة ( لا ) هنا كزيادتها في نحو : { ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك } [ الأعراف : 12 ] كما توهمه بعض المفسرين ؛ لأن تلك الزيادة لفظية ومعنوية لأن المعنى على الإثبات والتي هنا زيادة لفظية فحسب والمعنى على النفي .
والضلال سلوك غير الطريق المراد عن خطإٍ سواء علم بذلك فهو يتطلب الطريق أم لم يعلم ، ومنه ضالة الإبل ، وهو مقابل الهُدى وإطلاقُ الضال على المخطىء في الدين أو العلم استعارة كما هنا . والضلال في لسان الشرع مقابل الاهتداء والاهتداء هو الإيمان الكامل والضلال ما دون ذلك ، قالوا وله عَرض عريض أدناه ترك السنن وأقصاه الكفر . وقد فسرنا الهداية فيما تقدم أنها الدلالة بلطف ، فالضلال عدم ذلك ، ويطلق على أقصى أنواعه الختمُ والطبعُ والأَكِنَّةُ .
والمراد من المغضوب عليهم والضالين جنسَا فِرَق الكفر ، فالمغضوب عليهم جنس للفِرق التي تعمدت ذلك واستحقت بالديانة عن عمد وعن تأويل بعيد جداً تَحمِل عليه غلبة الهوى ، فهؤلاء سلكوا من الصراط الذي خط لهم مسالك غير مستقيمة فاستحقوا الغضب لأنهم أخطأوا عن غير معذرة إذ ما حملهم على الخطأ إلا إيثار حظوظ الدنيا .
والضالون جنس للفِرق الذين حرفوا الديانات الحق عن عمد وعن سوء فهم وكلا الفريقين مذموم معاقب لأن الخلق مأمورون باتباع سبيل الحق وبذل الجهد إلى إصابته والحذر من مخالفة مقاصده .
وإذ قد تقدم ذكر المغضوب عليهم وعلم أن الغضب عليهم لأنهم حادُوا عن الصراط الذي هُدوا إليه فحرموا أنفسهم من الوصول به إلى مرضاة الله تعالى ، وأن الضالين قد ضلوا الصراط ، فحصل شِبْه الاحتباك وهو أن كلا الفريقين نال حظاً من الوصفين إلا أن تعليق كل وصف على الفريق الذي علق عليه يرشد إلى أن الموصوفين بالضالين هم دون المغضوب عليهم في الضلال فالمراد المغضوب عليهم غضباً شديداً لأن ضلالهم شنيع . فاليهود مَثَلٌ للفريق الأول والنصارى من جملة الفريق الثاني كما ورد به الحديث عن النبيء صلى الله عليه وسلم في « جامع الترمذي » وحسَّنه . وما ورد في الأثر من تفسير المغضوب عليهم باليهود والضالين بالنصارى ، فهو من قبيل التمثيل بأشْهَر الفرق التي حق عليها هذان الوصفَانِ ، فقد كان العرب يعرفون اليهود في خيبر والنضير وبعض سكان المدينة وفي عرب اليمن . وكانوا يعرفون نصارى العرب مثل تغلب وكلب وبعض قضاعة ، وكل أولئك بدلوا وغيروا وتنكبوا عن الصراط المستقيم الذي أرشدهم الله إليه وتفرقوا في بنيات الطرق على تفاوت في ذلك .
فاليهود تمردوا على أنبيائهم وأحبارهم غير مرة وبدلوا الشريعة عمداً فلزمهم وصفُ المغضوب عليهم وعَلِقَ بهم في آيات كثيرة .
والنصارى ضلوا بعدَ الحواريين وأساءوا فهم معنى التقديس في عيسى عليه السلام فزعموه ابن الله على الحقيقة قال تعالى : { قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل } [ المائدة : 77 ] . وفي وصف الصراط المسؤول في قوله : { اهدنا الصراط المستقيم } بالمستقيم إيماء إلى أن الإسلام واضح الحجة قويم المحجة لا يَهْوى أهلُه إلى هُوة الضلالة كما قال تعالى : { قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً } [ الأنعام : 161 ] وقال : { وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } [ الأنعام : 153 ] ، على تفاوت في مراتب إصابة مراد الله تعالى ولذلك قال النبيء صلى الله عليه وسلم « من اجتهد وأصاب فله أجران ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد » ولم يترك بيانُ الشريعة مجاريَ اشتباه بين الخلافِ الذي تحيط به دائرة الإسلام والخلافِ الذي يَخرج بصاحبه عن محيط الإسلام قال تعالى : { إنك على الحق المبين } [ النمل : 79 ] .
واختلف القراء في حركة هاء الضمير من قوله : { أنعمت عليهم } ، وقوله : { غير المغضوب عليهم } ، وما ضاهاهما من كل ضمير جمع وتثنية مذكر ومؤنث للغائب وقع بعد ياء ساكنة ، فالجمهور قرأوها بكسر الهاء تخلصاً من الثقل لأن الهاء حاجز غير حصين فإذا ضمت بعد الياء فكأن ضمتها قد وليت الكسرة أو الياء الساكنة وذلك ثقيل وهذه لغة قيس وتميم وسعد بن بكر . وقرأ حمزة عليهم وإليهم ولديهم فقط بضم الهاء وما عداها بكسر الهاء نحو إليهما وصياصيهم وهي لغة قريش والحجازيين . وقرأ يعقوب كل ضمير من هذا القبيل مما قبل الهاء فيه ياء ساكنة بضم الهاء . وقد ذكرنا هذا هنا فلا نعيد ذكره في أمثاله وهو مما يرجع إلى قواعد علم القراءات في هاء الضمير .
واختلفوا أيضاً في حركة ميم ضمير الجمع الغائب المذكر في الوصل إذا وقعت قبل متحرك فالجمهور قرأوا : { عليهم غير المغضوب عليهم } بسكون الميم وقرأ ابن كثير وأبو جعفر وقالون في رواية عنه بضمة مشبعة : { غير المغضوب عليهم } وهي لغة بعض العرب وعليها قول لبيد : *وهمو فوارسها وهمْ حكامها * فجاء باللغتين ، وقرأ ورش بضم الميم وإشباعها إذا وقع بعد الميم همز دون نحو : { غير المغضوب عليهم } وأجمع الكل على إسكان الميم في الوقف .