المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تُقۡسِطُواْ فِي ٱلۡيَتَٰمَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۖ فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تَعۡدِلُواْ فَوَٰحِدَةً أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَلَّا تَعُولُواْ} (3)

3- وإن شعرتم بالخوف من ظلم اليتامى لأنه ذنب كبير ، فخافوا كذلك أَلَمَ نسائكم بعدم العدل بينهن ، والزيادة على أربع ، فتزوجوا منهن اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً إذا وثقتم بالقدرة على العدل ، فإن خفتم عدم العدل فتزوجوا واحدة ، أو استمتعوا بما تملك أيديكم من الإماء ، ذلك أقرب إلى عدم الوقوع في الظلم والجور{[38]} ، وأقرب ألا تكثر عيالكم فتعجزوا عن الإنفاق عليهم .


[38]:لم تنفرد الشريعة الإسلامية من بين الشرائع السماوية بمبدأ تعدد الزوجات، فشريعة التوراة تثبت أنه يباح للرجل أن يتزوج بمن يشاء، وهي تذكر أن الأنبياء كانوا يتزوجون من النساء بالعشرات لا بالآحاد. والتوراة هي كتب العهد القديم الذي يؤخذ به عند النصارى ما لم يوجد نص قد جاء في الإنجيل أو رسائل الرسل يخالفها، ولم يوجد نص صريح في المخالفة، والكنيسة كانت تأذن بالتعدد ولا تعارض فيه في القرون الوسطى وما بعدها، وملوك أوروبا الذين عددوا الزوجات معروفون في تاريخها. وإذا كان الإسلام قد انفرد بشيء في هذا المقام، فالذي انفرد به أنه قيد التعدد، فهو أول شريعة سماوية قيدت التعدد صراحة، فقد قيدته بثلاثة أمور: أولها: ألا يزيد عن أربع، وثانيها: ألا يكون فيه ظلم لإحداهن، وثالثها: أن يكون قادرا على الإنفاق. والشرطان الأخيران لازمان في كل زواج ولو كان الأول، فقد قرر فقهاء المسلمين على اختلاف فرقهم بالإجماع أنه يحرم الزواج على من يتأكد أنه لا يعدل مع زوجته إذا تزوج. غير أن ذلك التحريم ديني لا يقع تحت سلطان القضاء، لأن العدل أمر نفسي لا يعلم إلا من جهته، والقدرة على الإنفاق أمر نسبي لا تحدد بميزان واحد، ولذلك ترك الأمر فيها إلى تقدير الشخص وهو إثم عليه العقاب يوم القيامة إن خالفه، ولأن الظلم أو العجز عن الإنفاق أمور تتعلق بالمستقبل، والعقود لا تبني صحتها على أمور متوقعة، بل تبني على أمور واقعة، والظالم قد يكون عادلا، والعاجز في المال قد يكون قادرا. فالمال غاد ورائح، ومع ذلك قرر الإسلام أن الرجل إذا ظلم امرأته أو عجز عن الإنفاق عليها كان لها طلب التفريق ولكن لا يمنعها من العقد إذا دخلت راضية مختارة في إنشائه. والإسلام إذ فتح باب التعدد مع التضييق فيه على ذلك النحو قد دفع أدواء ومشكلات اجتماعية كثيرة: فأولا – قد ينقص عدد الرجال الصالحين للزواج عن عدد النساء الصالحات للزواج، وخصوصا عقب الحروب المفنية، فقد لوحظ في بعض الدول الأوروبية أن عدد الرجال الصالحين بعد الحرب يعادل واحدا إلى سبع من النساء فيكون من كرامة المرأة أن تكون زوجة ولو مع أخرى بدلا من أن تكون حائرة بين أحضان الرجال. وثانيا – قد يكون بين رجل وامرأة ما لا يستطيعان معه ألا تكون بينهما علاقة شرعية أو آثمة، فيكون من المصلحة الاجتماعية أن تكون شرعية، وخير للمرأة أن تكون زوجة من أن تكون خليلة تنتقل بين أحضان الرجال، وإذا كانت هذه صورة شوهاء للتعدد، فإن فيها من عدم التعدد. فإن التعدد على أقبح صوره يدفع شرا اجتماعيا أعظم منه.وثالثا – لا يمكن أن تقبل امرأة الزواج من متزوج إلا إذا كانت مضطرة إلى ذلك اضطرارا، فإذا كانت الزوجة الأولى ينالها ضرر بالزواج بالثانية، فإن الثانية ينالها ضرر أشد بالحرمان، إذ تموت أنوثتها أو تكون ضياعا بين الرجال، والضرر الكبير يدفع بالضرر القليل. ورابعا – قد تصاب الزوجة بمرض لا تكون معه صالحة للعلاقة الجنسية، أو تكون عقيمة، فيكون من المصلحة الاجتماعية والشخصية التزوج من أخرى. لهذه المعاني ولغيرها فتح الإسلام الباب مضيقا، ولم يغلقه تماما. إن الإسلام شريعة الله الذي يعلم كل شيء، فهو العليم الحكيم.
 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تُقۡسِطُواْ فِي ٱلۡيَتَٰمَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۖ فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تَعۡدِلُواْ فَوَٰحِدَةً أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَلَّا تَعُولُواْ} (3)

وقوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى } أي : إذا كان{[6538]} تحت حجر أحدكم يتيمة وخاف ألا يعطيها مهر مثلها ، فليعدل إلى ما سواها من النساء ، فإنهن كثير ، ولم يضيق الله عليه .

وقال البخاري : حدثنا إبراهيم بن موسى ، حدثنا هشام ، عن ابن جُرَيج ، أخبرني هشام بن عُرْوَة ، عن أبيه ، عن عائشة ؛ أن رجلا كانت له يتيمة فنكحها ، وكان لها عَذْق . وكان يمسكها عليه ، ولم يكن لها من نفسه شيء فنزلت فيه : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا [ فِي الْيَتَامَى ]{[6539]} } أحسبه قال : كانت شريكَتَه في ذلك العَذْق وفي ماله .

ثم قال البخاري : حدثنا عبد العزيز بن عبد الله ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن صالح بن كيسان ، عن ابن شهاب قال : أخبرني عروة بن الزبير أنه سأل عائشة عن قول الله تعالى{[6540]} { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى } قالت : يا ابن أختي{[6541]} هذه اليتيمة تكون في حجر وليها تَشْرَكه{[6542]} في ماله ويعجبُه مالها وجمالها ، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يَقْسِط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره ، فنهوا أن{[6543]} ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ، ويبلغُوا بهنَّ أعلى سُنتهنَّ في الصداق ، وأمِروا أن ينكحُوا ما طاب لهم من النساء سواهُنَّ . قال عروة : قالت عائشة : وإن الناس استفْتَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية ، فأنزل الله [ تعالى ]{[6544]} { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ } قالت عائشة : وقولُ الله في الآية الأخرى : { وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ } [ النساء : 127 ]رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال . فنهوا{[6545]} أن ينكحوا من رغبوا في ماله وجماله من يتامى{[6546]} النساء إلا بالقسط ، من أجل رغبتهم عنهن إذا كُن قليلات المال والجمال{[6547]} .

وقوله : { مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ } [ فاطر : 1 ]أي : انكحوا ما شئتم من النساء سواهن إن{[6548]} شاء أحدكم ثنتين ، [ وإن شاء ثلاثا ]{[6549]} وإن شاء أربعا ، كما قال تعالى : { جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ } [ فاطر : 1 ] أي : منهم من له جناحان ، ومنهم من له ثلاثة ، ومنهم من له أربعة ، ولا ينفي{[6550]} ما عدا ذلك في الملائكة لدلالة الدليل عليه ، بخلاف قصر الرجال على أربع ، فمن{[6551]} هذه الآية كما قاله ابن عباس وجمهور العلماء ؛ لأن المقام مقام امتنان وإباحة ، فلو كان يجوز الجمع بين أكثر من أربع لذكره .

قال الشافعي : وقد دَلَّت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المبينة عن الله أنه لا يجوز لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة .

وهذا الذي قاله الشافعي ، رحمه الله ، مجمع عليه بين العلماء ، إلا ما حُكي عن طائفة من الشيعة أنه يجوز الجمع بين أكثر من أربع إلى تسع . وقال بعضهم : بلا حصر . وقد يتمسك بعضهم بفعل النبي{[6552]} صلى الله عليه وسلم في جمعه بين أكثر من أربع إلى تسع كما ثبت في الصحيحين ، وإما إحدى عشرة كما جاء في بعض ألفاظ البخاري . وقد علقه{[6553]} البخاري ، وقد روينا عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج بخمس عشرة امرأة ، ودخل منهن بثلاث عشرة ، واجتمع عنده إحدى عشرة ومات عن تسع . وهذا عند العلماء من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم دون غيره من الأمة ، لما سنذكره من الأحاديث الدالة على الحصر في أربع .

ذكر الأحاديث في ذلك :

قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ومحمد بن جعفر قالا حدثنا معمر ، عن الزهري . قال ابن جعفر في حديثه : أنبأنا ابن شهاب ، عن سالم ، عن أبيه : أن غيلان بن سَلَمة الثقفي أسلم وتحته عشرة نسوة ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : اختر منهن أربعا . فلما كان في عهد عمر طلق نساءه ، وقسم ماله بين بنيه ، فبلغ ذلك عمر فقال : إني لأظن الشيطان فيما يسترق من السمع سمع بموتك فقذفه في نفسك{[6554]} ولعلك لا تمكث إلا قليلا . وايم الله لتراجعنَّ نساءك ولترجعن في مالك أو لأورثُهن منك ، ولآمرن بقبرك فيرجم ، كما رجم قبرُ أبي رِغَال{[6555]} .

وهكذا رواه الشافعي والترمذي وابن ماجة والدارقطني والبيهقي وغيرهم عن إسماعيل بن عُلَيَّة وغُنْدَر ويزيد بن زُرَيع وسعيد بن أبي عَرُوبة ، وسفيان الثوري ، وعيسى بن يونس ، وعبد الرحمن بن محمد المحاربي ، والفضل بن موسى وغيرهم من الحفاظ ، عن مَعْمَر - بإسناده - مثله إلى قوله : اختر{[6556]} منهن أربعا . وباقي{[6557]} الحديث في قصة عمر من أفراد أحمد{[6558]} وهي زيادة حسنة وهي مضعفة لما علل به البخاري هذا الحديث فيما حكاه عنه الترمذي ، حيث قال بعد روايته له : سمعتُ البخاري يقول : هذا حديث غير محفوظ ، والصحيح ما روى شُعَيْب وغيره ، عن الزهري ، حُدّثتُ عن محمد بن سُوَيد الثقفي أنّ غيلان بن سلمة ، فذكره . قال البخاري : وإنما حديث الزهري عن سالم عن أبيه : أن رجلا من ثقيف طلق نساءه ، فقال له عمر : لتراجعَنَّ نساءك أو لأرجمن قبرك كما رجم قبر أبي رغَال .

وهذا التعليل فيه نظر ، والله أعلم . وقد رواه عبد الرزاق ، عن مَعمر ، عن الزهري مرسلا{[6559]} وهكذا{[6560]} رواه مالك ، عن الزهري مرسلا . قال أبو زرعة : وهو أصح{[6561]} .

قال البيهقي : ورواه عقيل ، عن الزهري : بلغنا عن عثمان بن محمد بن أبي سويد .

قال أبو حاتم : وهذا وَهْم ، إنما هو الزهري عن عثمان بن أبي سويد بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكره{[6562]} .

قال البيهقي : ورواه يونس وابن عُيَيْنَةَ ، عن الزهري ، عن محمد بن أبي سويد .

وهذا كما علله البخاري . وهذا الإسناد الذي قدمناه من مسند الإمام أحمد رجاله ثقاتٌ على شرط الصحيحين{[6563]} ثم قد رُوي من غير طريق مَعْمَر ، بل والزهري قال{[6564]} الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، حدثنا أبو علي{[6565]} الحافظ ، حدثنا أبو عبد الرحمن النسائي ، حدثنا أبو بُرَيد عَمْرو بن يزيد الجرمي{[6566]} أخبرنا سيف بن عُبَيد{[6567]} حدثنا سَرَّار بن مُجَشَّر ، عن أيوب ، عن نافع وسالم ، عن ابن عمر : أن غيلان بن سلمة كان عنده عشر نسوة فأسلم وأسلَمْنَ معه ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار منهن أربعا . هكذا أخرجه النسائي في سننه . قال أبو علي بن السكن : تفرد به سرار بنُ مُجَشر وهو ثقة ، وكذا وثقه ابن معين . قال أبو علي : وكذلك رواه السَّمَيْدع بن واهب{[6568]} عن سرار .

قال البيهقي : وروينا من حديث قيس بن الحارث أو الحارث بن قيس ، وعروة بن مسعود الثقفي ، وصفوان بن أمية - يعني حديث غيلان بن سلمة{[6569]} .

فوجهُ الدلالة أنَّه لو كان يجوز الجمعُ بين أكثر من أربع لسوغَ له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سائرهن في بقاء العشرة{[6570]} وقد أسلمن معه ، فلما أمره بإمساك أربع وفراق سائرهن دل على أنه لا يجوز الجمعُ بين أكثر من أربع بحال ، وإذا كان هذا في الدوام ، ففي الاستئناف بطريق الأولى والأحرى ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب .

حديث آخر في ذلك : روى أبو داود وابن ماجة في سننهما{[6571]} من طريق محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى ، عن حُمَيضة{[6572]} بن الشَّمَرْدَل - وعند ابن ماجة : بنت الشمردل ، وحكى أبو داود أن منهم من يقول : الشمرذل بالذال المعجمة - عن قيس بن الحارث . وعند أبي داود في رواية : الحارث بن قيس بن{[6573]} عميرة الأسدي قال : أسلمت وعندي ثماني نسوة ، فذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : " اختر منهن أربعا " .

وهذا الإسناد حسن ، ومجرد هذا الاختلاف لا يضر مثلُه ، لما للحديث من الشواهد{[6574]} .

حديث آخر في ذلك : قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي ، رحمه الله ، في مسنده : أخبرني من سمع ابن أبي الزِّناد يقول : أخبرني عبد المجيد بن سُهَيل بن{[6575]} عبد الرحمن عن عوف بن الحارث ، عن نوفل بن معاوية الديلي ، رضي الله عنه ، قال : أسلمت وعندي خمس نسوة ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اختر{[6576]} أربعا أيتهن شئت ، وفارق الأخرى " ، فَعَمَدت إلى أقدمهن صحبة عجوز عاقر معي منذ ستين سنة ، فطلقتها{[6577]} .

فهذه كلها شواهد بصحة ما تقدم من حديث غَيْلان كما قاله الحافظ أبو بكر البيهقي ، رحمه الله{[6578]} .

وقوله : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } أي : فإن خشيتم{[6579]} من تعداد النساء ألا تعدلوا بينهن ، كما قال تعالى : { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ } [ النساء : 129 ] فمن خاف من ذلك فيقتصر على واحدة ، أو على الجواري السراري ، فإنه لا يجب قسم{[6580]} بينهن ، ولكن يستحب ، فمن فعل فحسن ، ومن لا فلا حرج .

وقوله : { ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا } قال بعضهم : [ أي ]{[6581]} أدنى ألا تكثر عائلتكم . قاله زيد بن أسلم وسفيان بن عيينة والشافعي ، رحمهم الله ، وهذا مأخوذ من قوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً } أي{[6582]} فقرًا { فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } [ التوبة : 28 ] وقال الشاعر{[6583]} :

فما يَدري الفقير متى غناه *** ومَا يَدرِي الغَنيُّ متى يعيل

وتقول العرب : عال الرجل يعيل عَيْلة ، إذا افتقر ولكن في هذا التفسير هاهنا نظر ؛ فإنه كما يخشى كثرة العائلة من تعداد الحرائر ، كذلك يخشى من تعداد السراري أيضا . والصحيح قول الجمهور : { ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا } أي : لا تجوروا . يقال : عال في الحكم : إذا قَسَط وظلم وجار ، وقال أبو طالب في قصيدته المشهورة :

بميزان قسطٍ لا يَخيس{[6584]} شعيرة *** له شاهد من نفسه غير عائل{[6585]}

وقال هُشَيم : عن أبي إسحاق قال : كتب عثمان بن عفان إلى أهل الكوفة في شيء عاتبوه فيه : إني لست بميزان لا أعول . رواه ابن جرير .

وقد روى ابن أبي حاتم ، وابن مَرْدويه ، وأبو حاتم ابن حِبَّان في صحيحه ، من طريق عبد الرحمن بن إبراهيم دُحَيْم ، حدثنا محمد بن شعيب ، عن عمر بن محمد بن زيد ، عن{[6586]} عبد الله بن عمر ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم { ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا } قال : " لا تجوروا " .

قال ابن أبي حاتم : قال أبي : هذا حديث خطأ ، والصحيح : عن عائشة . موقوف{[6587]} .

وقال ابن أبي حاتم : وروى عن ابن عباس ، وعائشة ، ومجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، وأبي مالك وأبي رَزِين والنَّخعي ، والشَّعْبي ، والضحاك ، وعطاء الخراساني ، وقتادة ، والسُّدِّي ، ومُقاتل بن حَيَّان : أنهم قالوا : لا تميلوا{[6588]} وقد استشهد عِكْرمة ، رحمه الله ، ببيت أبي طالب الذي قدمناه ، ولكن ما أنشده كما هو المروي في السيرة ، وقد رواه ابن جرير ، ثم أنشده جيدا ، واختار ذلك .


[6538]:في جـ، ر، أ: "كانت".
[6539]:زيادة من جـ.
[6540]:في جـ، أ: "عز وجل".
[6541]:في ر: "أخي".
[6542]:في أ: "تشتركه".
[6543]:في جـ، أ: "فنهوا عن أن".
[6544]:زيادة من ر.
[6545]:في جـ، ر، أ: "قلت: فنهوا".
[6546]:في ر: "باقي".
[6547]:صحيح البخاري برقم (4573، 4574).
[6548]:في جـ، أ: "إذا".
[6549]:زيادة من أ.
[6550]:في أ: "ولا ينبغي".
[6551]:في جـ، ر، أ: "من".
[6552]:في جـ، ر، أ: "رسول الله".
[6553]:في جـ، ر، أ: "علله".
[6554]:في ر: "نيتك".
[6555]:قبر أبي رغال في الطائف، وقد روى ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى الطائف مر بقبر أبي رغال فقال: إن هذا قبر أبي رغال وهو أبو ثقيف وكان من ثمود وكان بهذا الحرم يدفع عنه، فلما خرج منه أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان، فدفن فيه، وقيل: إن أبا رغال كان دليل أبرهة في طريقه لهدم الكعبة.قال الحافظ ابن كثير: والجمع بينهما أن أبا رغال المتأخر وافق اسمه اسم جده الأعلى ورجمه الناس كما رجموا قبر الأول أيضا. وقد قال جرير: إذا مات الفرزدق فارجموه... كرجمكم بقبر أبي رغالثم قال: والظاهر أنه الثاني. البداية والنهاية (2/159).
[6556]:في جـ: "واختر".
[6557]:في أ: "ويأتي".
[6558]:المسند (2/14) والشافعي في الأم (5/49) وسنن الترمذي برقم (1128) وسنن ابن ماجة برقم (1953) وسنن الدارقطني (3/271) وسنن البيهقي الكبرى (7/182)، وقد توسع الحافظ ابن حجر في التلخيص (3/168) والشيخ ناصر الألباني (6/292) وحكم عليه بالصحة.
[6559]:المصنف لعبد الرزاق (12621).
[6560]:في أ: "وقد".
[6561]:رواه ابن أبي حاتم في العلل (1/400) حدثني أبو زرعة عن عبد العزيز الأويسي عن مالك عن الزهري به مرسلا.
[6562]:العلل لابن أبي حاتم (1/401).
[6563]:في جـ، ر، أ: "على شرط الشيخين".
[6564]:في جـ، ر، أ: "فقال".
[6565]:في أ: "أبو يعلى".
[6566]:في جـ، أ: "أبو يزيد عمرو بن يزيد الحربي"، وفي ر: "أبو يزيد عمر بن يزيد الجرمي".
[6567]:في جـ: "عبد الله".
[6568]:في جـ، ر، أ: "وهب".
[6569]:السنن الكبرى (7/183) وهذه الرواية دليل على أن معمر لم ينفرد بوصله، وهي شاهد جيد على وصل الحديث.
[6570]:في جـ: "العشر".
[6571]:في ر: "سننيهما".
[6572]:في أ: "حميصة".
[6573]:في جـ، ر، أ: "أن".
[6574]:سنن أبي داود برقم (2242، 2241) وسنن ابن ماجة برقم (1952) ورجح المزي أن اسمه "قيس بن الحارث".
[6575]:في أ: "عن".
[6576]:في جـ، ر، أ: "أمسك".
[6577]:مسند الشافعي برقم (1606) ومن طريق البيهقي في السنن الكبرى (7/184).
[6578]:في أ: "رحمة الله عليه".
[6579]:في أ: "خفتم".
[6580]:في ر: "القسم".
[6581]:زيادة من جـ.
[6582]:في جـ، ر: "أو".
[6583]:هو أحيحة بن الجلاح الأوسي، والبيت في تفسير الطبري (7/549) وفي اللسان مادة (عيل).
[6584]:في أ: "تخس".
[6585]:البيت في تفسير الطبري (7/550).
[6586]:في أ: "بن".
[6587]:صحيح ابن حبان برقم (1730) "موارد".
[6588]:في أ: "أن لا تميلوا".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تُقۡسِطُواْ فِي ٱلۡيَتَٰمَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۖ فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تَعۡدِلُواْ فَوَٰحِدَةً أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَلَّا تَعُولُواْ} (3)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَىَ فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَآءِ مَثْنَىَ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَىَ أَلاّ تَعُولُواْ } .

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : وإن خفتم يا معشر أولياء اليتامى ألا تقسطوا في صداقهنّ فتعدلوا فيه ، وتبلغوا بصداقهنّ صدقات أمثالهنّ ، فلا تنكحوهنّ ، ولكن انكحوا غيرهنّ من الغرائب اللواتي أحلهنّ الله لكم وطيبهنّ من واحدة إلى أربع . وإن خفتم أن تجوروا إذا نكحتم من الغرائب أكثر من واحدة ، فلا تعدلوا ، فانكحوا منهنّ واحدة ، أو ما ملكت أيمانكم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة : { وَإنْ خِفْتُمْ ألاّ تُقْسِطُوا في اليَتامَى فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ } فقالت : يا ابن أختي ، هي اليتيمة تكون في حجر وليها ، فيرغب في مالها وجمالها ، ويريد أن ينكحها بأدنى من سنة صداقها ، فنهوا أن ينكحوهنّ إلا أن يقسطوا لهنّ في إكمال الصداق ، وأمروا أن ينكحوا ما سواهنّ من النساء .

حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني عروة بن الزبير ، أنه سأل عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم ، عن قول الله تبارك وتعالى : { وَإنْ خِفْتُمْ ألاّ تُقْسِطُوا في اليَتامَى فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ } قالت : يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها ، تشاركه في ماله ، فيعجبه مالها وجمالها ، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها ، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره ، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهنّ ، ويبلغوا بهنّ أعلى سنتهنّ في الصداق ، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن . قال يونس بن يزيد : قال ربيعة في قول الله : { وَإنْ خِفْتُمْ ألاّ تُقْسِطُوا في اليَتامَى } قال : يقول : اتركوهنّ فقد أحللت لكم أربعا .

حدثنا الحسن بن الجنيد وأبو سعيد بن مسلمة ، قالا : أنبأنا إسماعيل بن أمية ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، قال : سألت عائشة أمّ المؤمنين ، فقلت : يا أمّ المؤمنين أرأيت قول الله : { وَإنْ خِفْتُمْ ألاّ تُقْسِطُوا في اليَتامَى فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ } ؟ قالت : يا ابن أختي هي اليتيمة تكون في حجر وليها ، فيرغب في جمالها ومالها ، ويريد أن يتزوّجها بأدنى من سنة صداق نسائها ، فنهوا عن ذلك أن ينكحوهنّ إلا أن يقسطوا فيكملوا لهنّ الصداق ، ثم أمروا أن ينكحوا سواهنّ من النساء إن لم يكملوا لهنّ الصداق .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني الليث ، قال : ثني يونس ، عن ابن شهاب ، قال : ثني عروة بن الزبير ، أنه سأل عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فذكر مثل حديث يونس ، عن ابن وهب .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، مثل حديث ابن حميد ، عن ابن المبارك .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : نزل ، يعني قوله : { وَإنْ خِفْتُمْ ألاّ تُقْسِطُوا في اليَتامَى } . . . الاَية ، في اليتيمة تكون عند الرجل ، وهي ذات مال ، فلعله ينكحها لمالها ، وهي لا تعجبه ، ثم يضرّ بها ، ويسيء صحبتها ، فوعظ في ذلك .

قال أبو جعفر : فعلى هذا التأويل جواب قوله : { وَإنْ خِفْتُمْ ألاّ تُقْسِطُوا } قوله : { فانْكِحُوا } .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : النهي عن نكاح ما فوق الأربع ، حذرا على أموال اليتامى أن يتلفها أولياؤهم ، وذلك أن قريشا ، كان الرجل منهم يتزوّج العشر من النساء ، والأكثر ، والأقلّ ، فإذا صار معدما ، مال على مال يتيمه الذي في حجره ، فأنفقه ، أو تزوّج به ، فنهوا عن ذلك¹ وقيل لهم : إن أنتم خفتم على أموال أيتامكم أن تنفقوها ، فلا تعدلوا فيها من أجل حاجتكم إليها ، لما يلزمكم من مؤن نسائكم ، فلا تجاوزوا فيما تنكحون من عدد النساء على أربع ، وإن خفتم أيضا من الأربع ألا تعدلوا في أموالهم فاقتصروا على الواحدة ، أو على ما ملكت أيمانكم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن سماك ، قال : سمعت عكرمة يقول في هذه الاَية : { وَإنْ خِفْتُمْ ألاّ تُقْسِطُوا في اليَتامَى } قال : كان الرجل من قريش يكون عنده النسوة ، ويكون عنده الأيتام ، فيذهب ماله ، فيميل على مال الأيتام . قال : فنزلت هذه الاَية : { وَإنْ خِفْتُمْ ألاّ تُقْسِطُوا في اليَتامَى فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ } .

حدثنا هناد بن السريّ ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة في قوله : { وَإنْ خِفْتُمْ ألاّ تُقْسِطُوا في اليَتامَى فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُباعَ فإنْ خِفْتُمْ ألاّ تَعِدِلُوا فَوَاحِدَةً أوْ ما مَلَكَتْ أيمانُكُمْ } قال : كان الرجل يتزوّج الأربع والخمس والستّ والعشر ، فيقول الرجل : ما يمنعني أن أتزوّج كما تزوّج فلان ، فيأخذ مال يتيمه فيتزوّج به ، فنهوا أن يتزوّجوا فوق الأربع .

حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبيّ ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، قال : قصر الرجال على أربع من أجل أموال اليتامى .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { وَإنْ خِفْتُمْ ألاّ تُقْسِطُوا في اليَتامَى } فإن الرجل كان يتزوّج بمال اليتيم ما شاء الله تعالى ، فنهى الله عن ذلك .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : أن القوم كانوا يتحوّبون في أموال اليتامى ألا يعدلوا فيها ، ولا يتحوّبون في النساء ألا يعدلوا فيهنّ ، فقيل لهم : كما خفتم أن لا تعدلوا في اليتامى ، فكذلك فخافوا في النساء أن لا تعدلوا فيهنّ ، ولا تنكحوا منهنّ إلا من واحدة إلى الأربع ، ولا تزيدوا على ذلك ، وأن خفتم ألا تعدلوا أيضا في الزيادة على الواحدة ، فلا تنكحوا إلا ما لا تخافون أن تجوروا فيهنّ من واحدة أو ما ملكت أيمانكم . ذكر من قال ذلك :

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير ، قال : كان الناس على جاهليتهم ، إلا أن يؤمروا بشيء أو ينهوا عنه . قال : فذكروا اليتامى ، فنزلت : { وَإنْ خِفْتُمْ ألاّ تُقْسِطُوا في اليَتامَى فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُباعَ فإنْ خِفْتُمْ ألاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أوْ ما مَلَكَتْ أيمانُكُمْ } قال : فكما خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى ، فكذلك فخافوا أن لا تقسطوا في النساء .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَإنْ خِفْتُمْ ألاّ تُقْسِطُوا في اليَتامَى } إلى : { أيمَانُكُمْ } كانوا يشدّدون في اليتامى ، ولا يشدّدون في النساء ، ينكح أحدهم النسوة ، فلا يعدل بينهنّ¹ فقال الله تبارك وتعالى : كما تخافون أن لا تعدلوا بين اليتامى فخافوا في النساء ، فانكحوا واحدة إلى الأربع ، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَإنْ خِفْتُمْ ألاّ تُقْسِطُوا في اليَتامَى فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ } حتى بلغ : { أدْنَى ألاّ تَعُولُوا } يقول : كما خفتم الجور في اليتامى وهمّكم ذلك ، فكذلك فخافوا في جمع النساء . وكان الرجل في الجاهلية يتزوّج العشرة فما دون ذلك ، فأحلّ الله جلّ ثناؤه أربعا ، ثم الذي صيرهنّ إلى أربع قوله : { مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُباعَ فإنْ خِفْتُمْ ألاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً } يقول : إن خفت ألا تعدل في أربع فثلاث ، وإلا فثنتين ، وإلا فواحدة¹ وإن خفت ألا تعدل في واحدة ، فما ملكت يمينك .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير ، قوله : { وَإنْ خِفْتُمْ ألاّ تُقْسِطُوا في اليَتامَى فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ } يقول : ما أحل لكم من النساء ، { مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُباعَ } فخافوا في النساء مثل الذي خفتم في اليتامى ألا تقسطوا فيهن .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير ، قال جاء الإسلام ، والناس على جاهليتهم ، إلا أن يؤمروا بشيء فيتبعوه أو ينهوا عن شيء فيجتنبوه ، حتى سألوا عن اليتامى ، فأنزل الله تبارك وتعالى : { فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُباعَ } .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو النعمان عارم ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير ، قال : بعث الله تبارك وتعالى محمدا صلى الله عليه وسلم ، والناس على أمر جاهليتهم ، إلا أن يؤمروا بشيء أو ينهوا عنه ، وكانوا يسألونه عن اليتامى ، فأنزل الله تبارك وتعالى : { وَإنْ خِفْتُمْ ألاّ تُقْسِطُوا في اليَتامَى فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُباعَ } قال : فكما تخافون ألا تقسطوا في اليتامى فخافوا ألا تقسطوا وتعدلوا في النساء .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : قوله : { وَإنْ خِفْتُمْ ألاّ تُقْسِطُوا في اليَتامَى } قال : كانوا في الجاهلية ينكحون عشرا من النساء الأيامى ، وكانوا يعظمون شأن اليتيم ، فتفقدوا من دينهم شأن اليتيم ، وتركوا ما كانوا ينكحون في الجاهلية ، فقال : { وَإنْ خِفْتُمْ ألاّ تُقْسِطُوا في اليَتامَى فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُباعَ } ونهاهم عما كانوا ينكحون في الجاهلية .

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { وَإنْ خِفْتُمْ ألاّ تُقْسِطُوا في اليَتامَى فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ } كانوا في جاهليتهم لا يرزءون من مال اليتيم شيئا ، وهم ينكحون عشرا من النساء ، وينكحون نساء آبائهم ، فتفقدوا من دينهم شأن النساء ، فوعظهم الله في اليتامى وفي النساء ، فقال في اليتامى : { وَلا تَتَبَدّلُوا الخَبِيثَ بالطّيّبِ } . . . إلى : { إنّهُ كانَ حُوبا كَبِيرا } ووعظهم في شأن النساء ، فقال : { فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ } . . . الاَية ، وقال : { وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النّساءِ } .

حُدثت عن عمار عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { وَإنْ خِفْتُمْ ألاّ تُقْسِطُوا في اليَتامَى } . . . إلى : { ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } يقول : فإن خفتم الجور في اليتامى وغمكم ذلك ، فكذلك فخافوا في جمع النساء . قال : وكان الرجل يتزوّج العشر في الجاهلية فما دون ذلك ، وأحلّ الله أربعا وصيرهم إلى أربع ، يقول : { فإنْ خِفْتُمْ ألاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً } وإن خفت ألا تعدل في واحدة ، فما ملكت يمينك .

وقال آخرون : معنى ذلك : فكما خفتم في اليتامى ، فكذلك فتخوفوا في النساء أن تزنوا بهنّ ، ولكن انكحوا ما طاب لكم من النساء . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : أخبرنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { وَإنْ خِفْتُمْ ألاّ تُقْسِطُوا في اليَتامَى } يقول : إن تحرّجتم في ولاية اليتامى وأكل أموالهم إيمانا وتصديقا ، فكذلك فتحرّجوا من الزنا ، وانكحوا النساء نكاحا طيبا : { مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُباعَ فإنْ خِفْتُمْ ألاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أوْ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى اللاتي أنتم ولاتهن ، فلا تنكحوهنّ ، وانكحوا أنتم ما أحلّ لكم منهنّ . ذكر من قال ذلك :

حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : { وَإنْ خِفْتُمْ ألاّ تُقْسِطُوا في اليَتامَى } قال : نزلت في اليتيمة تكون عند الرجل هو وليها ، ليس لها وليّ غيره ، وليس أحد ينازعه فيها ، ولا ينكحها لمالها ، فيضرّ بها ، ويسيء صحبتها .

حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا يونس ، عن الحسن في هذه الاَية : { وَإنْ خِفْتُمْ ألاّ تُقْسِطُوا في اليَتامَى فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ } : أي ما حلّ لكم من يتاماكم من قراباتكم { مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُباعَ فإنْ خِفْتُمْ ألاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أوْ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال التي ذكرناها في ذلك بتأويل الاَية قول من قال : تأويلها : وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ، فكذلك فخافوا في النساء ، فلا تنكحوا منهنّ إلا ما لا تخافون أن تجوروا فيه منهنّ من واحدة إلا الأربع ، فإن خفتم الجور في الواحدة أيضا فلا تنكحوها ، ولكن عليكم بما ملكت أيمانكم ، فإنه أحرى أن لا تجوروا عليهنّ .

وإنما قلنا : إن ذلك أولى بتأويل الاَية ، لأن الله جلّ ثناؤه افتتح الاَية التي قبلها بالنهي عن أكل أموال اليتامى بغير حقها ، وخلطها بغيرها من الأموال ، فقال تعالى ذكره : { وآتوا اليَتامَى أمْوَالَهمْ وَلا تَتَبَدّلُوا الخَبِيثَ بالطّيّبِ وَلا تَأْكُلُوا أمْوَالَهمْ إلى أمْوَالِكمْ إنّهُ كانَ حُوبا كَبِيرا } . ثم أعلمهم أنهم إن اتقوا الله في ذلك فتحرّجوا فيه ، فالواجب عليهم من اتقاء الله ، والتحرّج في أمر النساء مثل الذي عليهم ظن التحرّج في أمر اليتامى ، وأعلمهم كيف التخلص لهم من الجور فيهنّ ، كما عرّفهم المخلص من الجور في أموال اليتامى ، فقال : انكحوا إن أمنتم الجور في النساء على أنفسكم ، ما أبحت لكم منهنّ وحللته ، مثنى وثلاث ورباع ، فإن خفتم أيضا الجور على أنفسكم في أمر الواحدة بأن تقدروا على إنصافها ، فلا تنكحوها ، ولكن تسرّوا من المماليك ، فإنكم أحرى أن لا تجوروا عليهنّ ، لأنهنّ أملاككم وأموالكم ، ولا يلزمكم لهنّ من الحقوق كالذي يلزمكم للحرائر ، فيكون ذلك أقرب لكم إلى السلامة من الإثم والجور ، ففي الكلام إذ كان المعنى ما قلنا ، متروك استغنى بدلالة ما ظهر من الكلام عن ذكره . وذلك أن معنى الكلام : وإن خفتم ألا تقسطوا في أموال اليتامى فتعدّلوا فيها ، فكذلك فخافوا ألا تقسطوا في حقوق النساء التي أوجبها الله عليكم ، فلا تتزّوّجوا منهنّ إلا ما أمنتم معه الجور ، مثنى وثلاث ورباع ، وإن خفتم أيضا في ذلك فواحدة ، وإن خفتم في الواحدة فما ملكت أيمانكم فترك ذكر قوله فكذلك فخافوا أن تقسطوا في حقوق النساء بدلالة ما ظهر من قوله تعالى : { فإنْ خِفْتُمْ ألاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أوْ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } .

فإن قال قائل : فأين جواب قوله : { وَإنْ خِفْتُمْ ألاّ تُقْسِطُوا في اليَتامَى } ؟ قيل : قوله : { فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ } غير أن المعنى الذي يدلّ على أن المراد بذلك ما قلنا : قوله : { فإنْ خِفْتُمْ ألاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أوْ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ ذَلِكَ أدْنَى ألاّ تَعُولوا } .

وقد بينا فيما مضى قبل أن معنى الإقساط في كلام العرب : العدل والإنصاف ، وأن القسط : الجور والحيف ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . وأما اليتامى ، فإنها جمع لذكران الأيتام وإناثهم في هذا الموضع . وأما قوله : { فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ } فإنه يعني : فانكحوا ما حلّ لكم منهنّ دون ما حرّم عليكم منهنّ . كما :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي مالك ، قوله : { فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ } : ما حلّ لكم .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير في قوله : { فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ } يقول : ما حَلّ لكم .

فإن قال قائل : وكيف قيل : { فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ } ولم يقل : فانكحوا من طاب لكم ، وإنما يقال ما في غير الناس ؟ قيل : معنى ذلك على غير الوجه الذي ذهبت إليه ، وإنما معناه : فانكحوا نكاحا طيبا . كما :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ } فانكحوا النساء نكاحا طيبا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

فالمعنيّ بقوله : { ما طابَ لَكمْ } الفعل دون أعيان النساء وأشخاصهنّ ، فلذلك قيل «ما » ولم يقل «من » ، كما يقال : خذ من رقيقي ما أردت إذا عنيت ، خذ منهم إرادتك ، ولو أردت خذ الذي تريد منهم لقلت : خذ من رقيقي من أردت منهم . وكذلك قوله : { أوْ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } بمعنى : أو ملك أيمانكم . وإنما معنى قوله : { فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُباعَ } فلينكح كل واحد منكم مثنى وثلاث ورباع ، كما قيل : { وَالّذِينَ يَرْمونَ المحْصَناتِ ثُمّ لَمْ يَأْتَوا بأرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فاجْلِدُوهُم ثَمانِينَ جَلْدَةً } . وأما قوله { مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُباعَ } فإنما ترك إجراؤهنّ لأنهنّ معدولات عن اثنين وثلاث وأربع ، كما عدل عمر عن عامر وزفر عن زافر فترك إجراؤه ، وكذلك أحاد وثناء وموحد ومثنى ومثلث ومربع ، لا يجري ذلك كله للعلة التي ذكرت من العدول عن وجوهه . ومما يدلّ على أن ذلك كذلك ، وأن الذكر والأنثى فيه سواء ، ما قيل في هذه السورة وسورة فاطر : مثنى وثلاث ورباع ، يراد به الجناح ، والجناح ذكر ، وأنه أيضا لا يضاف إلى ما يضاف إليه الثلاثة والثلاث ، وأن الألف واللام لا تدخله ، فكان في ذلك دليل على أنه اسم للعدد معرفة ، ولو كان نكرة لدخله الألف واللام وأضيف كما يضاف الثلاثة والأربعة ، ومما يبين في ذلك قول تميم بن أبي مقبل :

تَرَى النّعَرَاتِ الزّرْقَ تَحْتَ لَبانِهِ *** أُحادَ وَمَثْنَى أصْعَقَتْها صَوَاهِلُهْ

فردّ أحاد ومثنى على النعرات وهي معرفة . وقد تجعلها العرب نكرة فتجريها ، كما قال الشاعر :

قَتَلْنا بِهِ مِنْ بَيْنِ مَثْنَى وَمَوْحَدٍ *** بأرْبَعَةٍ مِنْكُمْ وآخَرَ خامِسِ

ومما يبين أن ثناء وأحاد غير جارية قول الشاعر :

ولَقَدْ قَتَلْتكمُ ثُناءَ وَمَوْحَدا *** وتركتُ مُرّةَ مِثْلَ أَمْسِ الدّابِرِ

وقول الشاعر :

مَنَتْ لَك أن تلاقِيَنِي المَنايَا *** أُحادَ أُحادَ فِي شَهْرٍ حَلالِ

ولم يسمع من العرب صرف ما جاوز الرباع والمربع عن جهته ، لم يسمع منها خماس ولا المخمس ، ولا السباع ولا المسبع وكذلك ما فوق الرباع ، إلا في بيت للكميت ، فإنه يروي له في العشرة عشار وهو قوله :

فَلَمْ يَسْتَرِيثوكَ حتى رَمَيْ *** تَ فوْقَ الرّجالِ خِصالاً عُشارَا

يريد عشرا عشرا ، يقال : إنه لم يسمع غير ذلك .

وأما قوله : { فإنْ خِفْتُمْ ألاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً } فإن نصب واحدة ، بمعنى : فإن خفتم ألا تعدلوا فيما يلزمكم من العدل ما زاد على الواحدة من النساء عندكم بنكاح فيما أوجبه الله لهنّ عليكم ، فانكحوا واحدة منهنّ ، ولو كانت القراءة جاءت في ذلك بالرفع كان جائزا بمعنى : فواحدة كافية ، أو فواحدة مجزئة ، كما قال جلّ ثناؤه : { فإنْ لَمْ يَكونَا رَجُلَيْنِ فَرَجلٌ وَامْرأتانِ } وإن قال لنا قائل : قد علمت أن الحلال لكم من جميع النساء الحرائر نكاح أربع ، فكيف قيل : { فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ مَثْنَى وَثلاثَ وَرُباعَ } وذلك في العدد تسع ؟ قيل : إن تأويل ذلك : فانكحوا ما طاب لكم من النساء ، إما مثنى إن أمنتم الجور من أنفسكم فيما يجب لهما عليكم¹ وإما ثلاث إن لم تخافوا ذلك¹ وإما أربع إن أمنتم ذلك فيهنّ ، يدلّ على صحة ذلك قوله : { فإنْ خِفْتمْ ألاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً } لأن المعنى : فإن خفتم في الثنتين فانكحوا واحدة ، ثم قال : وإن خفتم ألا تعدلوا أيضا في الواحدة ، فما ملكت أيمانكم .

فإن قال قائل : فإن أمر الله ونهيه على الإيجاب والإلزام حتى تقوم حجة بأن ذلك على التأديب والإرشاد والإعلام ، وقد قال تعالى ذكره : { فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ } وذلك أمر ، فهل من دليل على أنه من الأمر الذي هو على غير وجه الإلزام والإيجاب ؟ قيل : نعم ، والدليل على ذلك قوله : { فإنْ خِفْتُمْ ألاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً } فكان معلوما بذلك أن قوله : { فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ } وإن كان مخرجه مخرج الأمر ، فإنه بمعنى الدلالة على النهي عن نكاح ما خاف الناكح الجور فيه من عدد النساء ، لا بمعنى الأمر بالنكاح . فإن المعنيّ به : وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فتحرّجتم فيهنّ ، فكذلك فتحرّجوا في النساء ، فلا تنكحوا إلا ما أمنتم الجور فيه منهنّ ، ما أحللته لكم من الواحدة إلى الأربع . وقد بينا في غير هذا الموضع بأن العرب تخرّج الكلام بلفظ الأمر ، ومعناها فيه النهي أو التهديد والوعيد ، كما قال جلّ ثناؤه : { فَمَنْ شاءَ فَلْيؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفرْ } وكما قال : { لَيكْفرُوا بِمَا آتَيْناهمْ فَتَمَتّعوا فَسَوْفَ تَعْلَمونَ } فخرج ذلك مخرج الأمر ، والمقصود به التهديد والوعيد ، والزجر والنهي ، فكذلك قوله : { فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ } بمعنى النهي ، فلا تنكحوا إلا ما طاب لكم من النساء . وعلى النحو الذي قلنا في معنى قوله : { أوْ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { فإنْ خِفْتُمْ ألاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أوْ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } يقول : فإن خفت ألا تعدل في واحدة ، فما ملكت يمينك .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { أوْ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } : السراري .

حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { فإنْ خِفْتُمْ ألاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أوْ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } فإن خفت ألا تعدل في واحدة فما ملكت يمينك .

حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا جويبر ، عن الضحاك ، قوله : { فإنْ خِفْتمْ ألاّ تَعْدِلُوا } قال : في المجامعة والحبّ .

القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ أدْنَى أنْ لا تَعولوا } .

يعني بقوله تعالى ذكره : وإن خفتم ألا تعدلوا في مثنى أو ثلاث أو رباع فنكحتم واحدة ، أو خفتم ألا تعدلوا في الواحدة فتسرّرتم ملك أيمانكم¹ فهو أدنى ، يعني : أقرب ألا تعولوا ، يقول : أن لا تجوروا ولا تَميلوا ، يقال منه : عال الرجل فهو يَعُول عَوْلاً وعِيالة ، إذا مال وجار ، ومنه عَوْل الفرائض ، لأن سهامها إذا زادت دخلها النقص¹ وأما من الحاجة ، فإنما يقال : عالَ الرجل عَيْلَةً ، وذلك إذا احتاج ، كما قال الشاعر :

وَما يَدْرِي الفَقِيرُ متى غِناهُ *** وما يَدْرِي الغَنِيّ متى يَعِيلُ

بمعنى يفتقر . وبنحو ما قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا يونس ، عن الحسن : { ذَلِكَ أدْنَى أنْ لا تَعولوا } قال : العول : الميل في النساء .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثني حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزّة ، عن مجاهد في قوله : { ذَلِكَ أدْنَى ألاّ تَعولوا } يقول : لا تميلوا .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { ذَلِكَ أدْنَى ألاّ تَعولوا } : أن لا تميلوا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد . مثله .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو النعمان محمد بن الفضل ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا داود بن أبي هند ، عن عكرمة : { ألاّ تَعولوا } قال : أن لا تميلوا ، ثم قال : أما سمعت إلى قول أبي طالب :

*** بِمِيزَانِ قِسْطٍ وَزْنهُ غَيْرُ عائِل ***ِ

حدثني المثنى ، قال : حدثنا حجاج ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن الزبير ، عن حريث ، عن عكرمة في هذه الاَية : { ألاّ تَعولوا } قال : أن لا تميلوا ، قال : وأنشد بيتا من شعر زعم أن أبا طالب قاله :

بِمِيزَانِ قِسْطٍ لا يُخِسّ شَعِيرَةً *** وَوَازِنِ صِدْقٍ وَزْنهُ غيرُ عائِلِ

قال أبو جعفر : ويروى هذا البيت على غير هذه الرواية :

بِمِيزَانِ صِدْقٍ لا يُغِلّ شَعِيرَةً *** لهُ شاهِدٌ مِنْ نفسِهِ غيُر عائِلِ

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم في قوله : { ألاّ تَعولوا } قال : ألا تميلوا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، مثله .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن أبي إسحاق الكوفيّ ، قال : كتب عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى أهل الكوفة في شيء عاتبوه عليه فيه : «إنّي لست بميزان لا أعول » .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثام بن عليّ ، قال : حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي مالك في قوله : { أدْنَى ألاّ تَعُولُوا } قال : لا تميلوا .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { ذَلِكَ أدْنَى ألاّ تَعُولُوا } : أدنى أن لا تميلوا .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { ألاّ تَعولوا } قال : تميلوا .

حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { ذَلِكَ أدْنَى ألاّ تَعُولُوا } يقول : ألا تميلوا .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { ذَلِكَ أدْنَى ألاّ تَعُولُوا } يقول : تميلوا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثنا معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس . قوله : { أدْنَى ألاّ تَعُولُوا } يعني : ألا تميلوا .

حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { ذَلِكَ أدْنَى ألاّ تَعُولُوا } يقول : ذلك أدنى ألا تميلوا .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن أبي مالك في قوله : { ذَلِكَ أدْنَى ألاّ تَعُولُوا } قال : ألا تجوروا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون وعارم أبو النعمان ، قالا : حدثنا هشيم ، عن حصين ، عن أبي مالك ، مثله .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن يونس ، عن أبي إسحاق ، عن مجاهد : { ذَلِكَ أدْنَى ألاّ تَعُولُوا } قال : تميلوا .

حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { ذَلِكَ أدْنَى ألاّ تَعُولُوا } ذلك أقلّ لنفقتك الواحدة ، أقلّ من ثنتين وثلاث وأربع ، وجاريتك أهون نفقة من حرّة¹ { أنْ لا تَعُولُوا } : أهون عليك في العيال .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تُقۡسِطُواْ فِي ٱلۡيَتَٰمَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۖ فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تَعۡدِلُواْ فَوَٰحِدَةً أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَلَّا تَعُولُواْ} (3)

{ أدنى } معناه : أقرب ، وهو من الدنو ، وموضع - أن - من الإعراب نصب بإسقاط الخافض ، والناصب أريحية الفعل الذي في { أدنى } ، التقدير : ذلك أدنى إلى أن لا تعولوا ، و { تعولوا } معناه : تميلوا ، قاله ابن عباس وقتادة والربيع وقتادة والربيع بن أنس وأبو مالك والسدي وغيرهم ، يقال : عال الرجل يعول : إذا مال وجار ، ومنه قول أبي طالب في شعره في النبي صلى الله عليه وسلم{[3852]} :

بميزان قسط لا يخسُّ شعيرة . . . ووزان صدق وزنه غير عائل

يريد غير مائل ، ومنه قول عثمان لأهل الكوفة حين كتب إليهم : إني لست بميزان لا أعول ، ويروى بيت أبي طالب : «له شاهد من نفسه غير عائل » وعال يعيل ، معناه : افتقر فصار عالة ، وقالت فرقة منهم زيد بن أسلم وابن زيد والشافعي : معناه : ذلك أدنى ألا يكثر عيالكم ، وحكى ابن الأعرابي أن العرب تقول : عال الرجل يعول إذا كثر عياله ، وقدح في هذا الزجاج وغيره ، بأن الله قد أباح كثرة السراري ، وفي ذلك تكثير العيال ، فكيف يكون أقرب إلى أن لا يكثر .

قال القاضي أبو محمد : وهذا القدح غير صحيح ، لأن السراري إنما هن مال يتصرف فيه بالبيع ، وإنما العيال الفادح الحرائر ذوات الحقوق الواجبة .


[3852]:- انظر سيرة ابن هشام 1/242 وتفسير القرطبي 5/21