المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تُقۡسِطُواْ فِي ٱلۡيَتَٰمَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۖ فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تَعۡدِلُواْ فَوَٰحِدَةً أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَلَّا تَعُولُواْ} (3)

3- وإن شعرتم بالخوف من ظلم اليتامى لأنه ذنب كبير ، فخافوا كذلك أَلَمَ نسائكم بعدم العدل بينهن ، والزيادة على أربع ، فتزوجوا منهن اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً إذا وثقتم بالقدرة على العدل ، فإن خفتم عدم العدل فتزوجوا واحدة ، أو استمتعوا بما تملك أيديكم من الإماء ، ذلك أقرب إلى عدم الوقوع في الظلم والجور{[38]} ، وأقرب ألا تكثر عيالكم فتعجزوا عن الإنفاق عليهم .


[38]:لم تنفرد الشريعة الإسلامية من بين الشرائع السماوية بمبدأ تعدد الزوجات، فشريعة التوراة تثبت أنه يباح للرجل أن يتزوج بمن يشاء، وهي تذكر أن الأنبياء كانوا يتزوجون من النساء بالعشرات لا بالآحاد. والتوراة هي كتب العهد القديم الذي يؤخذ به عند النصارى ما لم يوجد نص قد جاء في الإنجيل أو رسائل الرسل يخالفها، ولم يوجد نص صريح في المخالفة، والكنيسة كانت تأذن بالتعدد ولا تعارض فيه في القرون الوسطى وما بعدها، وملوك أوروبا الذين عددوا الزوجات معروفون في تاريخها. وإذا كان الإسلام قد انفرد بشيء في هذا المقام، فالذي انفرد به أنه قيد التعدد، فهو أول شريعة سماوية قيدت التعدد صراحة، فقد قيدته بثلاثة أمور: أولها: ألا يزيد عن أربع، وثانيها: ألا يكون فيه ظلم لإحداهن، وثالثها: أن يكون قادرا على الإنفاق. والشرطان الأخيران لازمان في كل زواج ولو كان الأول، فقد قرر فقهاء المسلمين على اختلاف فرقهم بالإجماع أنه يحرم الزواج على من يتأكد أنه لا يعدل مع زوجته إذا تزوج. غير أن ذلك التحريم ديني لا يقع تحت سلطان القضاء، لأن العدل أمر نفسي لا يعلم إلا من جهته، والقدرة على الإنفاق أمر نسبي لا تحدد بميزان واحد، ولذلك ترك الأمر فيها إلى تقدير الشخص وهو إثم عليه العقاب يوم القيامة إن خالفه، ولأن الظلم أو العجز عن الإنفاق أمور تتعلق بالمستقبل، والعقود لا تبني صحتها على أمور متوقعة، بل تبني على أمور واقعة، والظالم قد يكون عادلا، والعاجز في المال قد يكون قادرا. فالمال غاد ورائح، ومع ذلك قرر الإسلام أن الرجل إذا ظلم امرأته أو عجز عن الإنفاق عليها كان لها طلب التفريق ولكن لا يمنعها من العقد إذا دخلت راضية مختارة في إنشائه. والإسلام إذ فتح باب التعدد مع التضييق فيه على ذلك النحو قد دفع أدواء ومشكلات اجتماعية كثيرة: فأولا – قد ينقص عدد الرجال الصالحين للزواج عن عدد النساء الصالحات للزواج، وخصوصا عقب الحروب المفنية، فقد لوحظ في بعض الدول الأوروبية أن عدد الرجال الصالحين بعد الحرب يعادل واحدا إلى سبع من النساء فيكون من كرامة المرأة أن تكون زوجة ولو مع أخرى بدلا من أن تكون حائرة بين أحضان الرجال. وثانيا – قد يكون بين رجل وامرأة ما لا يستطيعان معه ألا تكون بينهما علاقة شرعية أو آثمة، فيكون من المصلحة الاجتماعية أن تكون شرعية، وخير للمرأة أن تكون زوجة من أن تكون خليلة تنتقل بين أحضان الرجال، وإذا كانت هذه صورة شوهاء للتعدد، فإن فيها من عدم التعدد. فإن التعدد على أقبح صوره يدفع شرا اجتماعيا أعظم منه.وثالثا – لا يمكن أن تقبل امرأة الزواج من متزوج إلا إذا كانت مضطرة إلى ذلك اضطرارا، فإذا كانت الزوجة الأولى ينالها ضرر بالزواج بالثانية، فإن الثانية ينالها ضرر أشد بالحرمان، إذ تموت أنوثتها أو تكون ضياعا بين الرجال، والضرر الكبير يدفع بالضرر القليل. ورابعا – قد تصاب الزوجة بمرض لا تكون معه صالحة للعلاقة الجنسية، أو تكون عقيمة، فيكون من المصلحة الاجتماعية والشخصية التزوج من أخرى. لهذه المعاني ولغيرها فتح الإسلام الباب مضيقا، ولم يغلقه تماما. إن الإسلام شريعة الله الذي يعلم كل شيء، فهو العليم الحكيم.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تُقۡسِطُواْ فِي ٱلۡيَتَٰمَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۖ فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تَعۡدِلُواْ فَوَٰحِدَةً أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَلَّا تَعُولُواْ} (3)

1

( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع . فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ، أو ما ملكت أيمانكم ، ذلك أدنى ألا تعولوا ) . .

عن عروة بن الزبير - رضي الله عنه - أنه سأل عائشة - رضي الله عنها - عن قوله تعالى : ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ) فقالت : " يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها ، تشركه في ماله ، ويعجبه مالها وجمالها ، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها ، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره ، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا اليهن ؛ ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق ، وأمروا أن ينكحوا من النساء سواهن " قال عروة : قالت عائشة : " وإن الناس استفتوا رسول الله [ ص ] بعد هذه الآية ، فأنزل الله : ( ويستفتونك في النساء . قل الله يفتيكم فيهن . وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن . . . ) قالت عائشة : [ وقول الله في هذه الآية الأخرى : ( وترغبون أن تنكحوهن ) رغبة أحدكم عن يتيمته إذا كانت قليلة المال والجمال . فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن إذا كن قليلات المال والجمال ] .

وحديث عائشة - رضي الله عنها - يصور جانبا من التصورات والتقاليد التي كانت سائدة في الجاهلية ، ثم بقيت في المجتمع المسلم ، حتى جاء القرآن ينهى عنها ويمحوها ، بهذه التوجيهات

الضمائر ، وهو يقول : ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ) . . فهي مسألة تحرج وتقوى وخوف من الله إذا توقع الولي ألا يعدل مع اليتيمة في حجره ، ونص الآية مطلق لا يحدد مواضع العدل ، فالمطلوب هو العدل في كل صوره وبكل معانيه في هذه الحالة ، سواء فيما يختص بالصداق ، أو فيما يتعلق بأي اعتبار آخر . كأن ينكحها رغبة في مالها ، لا لأن لها في قلبه مودة ، ولا لأنه يرغب رغبة نفسية في عشرتها لذاتها . وكأن ينكحها وهناك فارق كبير من السن لا تستقيم معه الحياة ، دون مراعاة لرغبتها هي في إبرام هذا النكاح ، هذه الرغبة التي قد لا تفصح عنها حياء أو خوفا من ضياع مالها إذا هي خالفت عن إرادته . . إلى آخر تلك الملابسات التي يخشى ألا يتحقق فيها العدل . . والقرآن يقيم الضمير حارسا ، والتقوى رقيبا . وقد أسلف في الآية السابقة التي رتب عليها هذه التوجيهات كلها قوله : ( إن الله كان عليكم رقيبا ) . .

فعندما لا يكون الأولياء واثقين من قدرتهم على القسط مع اليتيمات اللواتي في حجورهم ، فهناك النساء غيرهن ، وفي المجال متسع للبعد عن الشبهة والمظنة :

( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع . فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم . ذلك أدنى ألا تعولوا ) . .

وهذه الرخصة في التعدد ، مع هذا التحفظ عند خوف العجز عن العدل ، والاكتفاء بواحدة في هذه الحالة ، أو بما ملكت اليمين . .

هذه الرخصة - مع هذا التحفظ - يحسن بيان الحكمة والصلاح فيها . في زمان جعل الناس يتعالمون فيه على ربهم الذي خلقهم ، ويدعون لأنفسهم بصرا بحياة الإنسان وفطرته ومصلحته فوق بصر خالقهم سبحانه ! ويقولون في هذا الأمر وذاك بالهوى والشهوة ، وبالجهالة والعمى . كأن ملابسات وضرورات جدت اليوم ، يدركونها هم ويقدرونها ولم تكن في حساب الله - سبحانه - ولا في تقديره ، يوم شرع للناس هذه الشرائع ! ! !

وهي دعوى فيها من الجهالة والعمى ، بقدر ما فيها من التبجح وسوء الأدب ، بقدر ما فيها من الكفر والضلالة ! ولكنها تقال ، ولا تجد من يرد الجهال العمي المتبجحين المتوقحين الكفار الضلال عنها ! وهم يتبجحون على الله وشريعته ، ويتطاولون على الله وجلاله ، ويتوقحون على الله ومنهجه ، آمنين سالمين غانمين ، مأجورين من الجهات التي يهمها أن تكيد لهذا الدين !

وهذه المسألة - مسألة إباحة تعدد الزوجات بذلك التحفظ الذي قرره الإسلام - يحسن أن تؤخذ بيسر ووضوح وحسم ؛ وأن تعرف الملابسات الحقيقية والواقعية التي تحيط بها . .

روى البخاري - بإسناده - أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم - وتحته عشر نسوة - فقال له النبي [ ص ] : " اختر منهن أربعا " . .

وروى أبو داود - بإسناده - أن عميرة الأسدي قال : أسلمت وعندي ثماني نسوة ، فذكرت ذلك للنبي [ ص ] فقال : " اختر منهن أربعا " .

وقال الشافعي في مسنده : أخبرني من سمع ابن أبي الزياد يقول : أخبرني عبد المجيد عن ابن سهل بن عبد الرحمن ، عن عوف بن الحارث ، عن نوفل بن معاوية الديلمي ، قال : أسلمت وعندي خمس نسوة ، فقال لي رسول الله [ ص ] : " اختر أربعا أيتهن شئت وفارق الأخرى " . .

فقد جاء الإسلام إذن ، وتحت الرجال عشر نسوة أو أكثر أو أقل - بدون حد ولا قيد - فجاء ليقول للرجال : إن هناك حدا لا يتجاوزه المسلم - هو أربع - وإن هناك قيدا - هو إمكان العدل - وإلا فواحدة . . أو ما ملكت أيمانكم . .

جاء الإسلام لا ليطلق ، ولكن ليحدد . ولا ليترك الأمر لهوى الرجل ، ولكن ليقيد التعدد بالعدل . وإلا امتنعت الرخصة المعطاة !

ولكن لماذا أباح هذه الرخصة ؟

إن الإسلام نظام للإنسان . نظام واقعي إيجابي . يتوافق مع فطرة الإنسان وتكوينه ، ويتوافق مع واقعه وضروراته ، ويتوافق مع ملابسات حياته المتغيرة في شتى البقاع وشتى الأزمان ، وشتى الأحوال .

إنه نظام واقعي إيجابي ، يلتقط الإنسان من واقعه الذي هو فيه ، ومن موقفه الذي هو عليه ، ليرتفع به في المرتقى الصاعد ، إلى القمة السامقة . في غير إنكار لفطرته أو تنكر ؛ وفي غير إغفال لواقعه أو إهمال ؛ وفي غير عنف في دفعه أو اعتساف !

إنه نظام لا يقوم على الحذلقة الجوفاء ؛ ولا على التظرف المائع ؛ ولا على " المثالية " الفارغة ؛ ولا على الأمنيات الحالمة ، التي تصطدم بفطرة الإنسان وواقعه وملابسات حياته ، ثم تتبخر في الهواء !

وهو نظام يرعى خلق الإنسان ، ونظافة المجتمع ، فلا يسمح بإنشاء واقع مادي ، من شأنه انحلال الخلق ، وتلويث المجتمع ، تحت مطارق الضرورة التي تصطدم بذلك الواقع . بل يتوخى دائما أن ينشىء واقعا يساعد على صيانة الخلق ، ونظافة المجتمع ، مع أيسر جهد يبذله الفرد ويبذله المجتمع .

فإذا استصحبنا معنا هذه الخصائص الأساسية في النظام الإسلامي ، ونحن ننظر إلى مسألة تعدد الزوجات . . فماذا نرى ؟

نرى . . أولا . . أن هناك حالات واقعية في مجتمعات كثيرة - تاريخية وحاضرة - تبدو فيها زيادة عدد النساء الصالحات للزواج ، على عدد الرجال الصاحلين للزواج . . والحد الأعلى لهذا الاختلال الذي يعتري بعض المجتمعات لم يعرف تاريخيا أنه تجاوز نسبة أربع إلى واحد . وهو يدور دائما في حدودها .

فكيف نعالج هذا الواقع ، الذي يقع ويتكرر وقوعه ، بنسب مختلفة . هذا الواقع الذي لا يجدي فيه الإنكار ؟

نعالجه بهز الكتفين ؟ أو نتركه يعالج نفسه بنفسه ؟ حسب الظروف والمصادفات ؟ !

إن هز الكتفين لا يحل مشكلة ! كما أن ترك المجتمع يعالج هذا الواقع حسبما اتفق لا يقول به إنسان جاد ، يحترم نفسه ، ويحترم الجنس البشري !

ولا بد إذن من نظام ، ولا بد إذن من إجراء . .

وعندئذ نجد أنفسنا أمام احتمال من ثلاثة احتمالات :

1- أن يتزوج كل رجل صالح للزواج امرأة من الصالحات للزواج . . ثم تبقى واحدة أو أكثر - حسب درجة الاختلال الواقعة - بدون زواج ، تقضي حياتها - أو حياتهن - لا تعرف الرجال !

2- أن يتزوج كل رجل صالح للزواج واحدة فقط زواجا شرعيا نظيفا . ثم يخادن أو يسافح واحدة أو أكثر ، من هؤلاء اللواتي ليس لهن مقابل في المجتمع من الرجال . فيعرفن الرجل خدينا أو خليلا في الحرام والظلام !

3- أن يتزوج الرجال الصالحون - كلهم أو بعضهم - أكثر من واحدة . وأن تعرف المرأة الأخرى الرجل ، زوجة شريفة ، في وضح النور لا خدينة وولا خليلة في الحرام والظلام !

الاحتمال الأول ضد الفطرة ، وضد الطاقة ، بالقياس إلى المرأة التي لا تعرف في حياتها الرجال . ولا يدفع هذه الحقيقة ما يتشدق به المتشدقون من استغناء المرأة عن الرجل بالعمل والكسب . فالمسألة أعمق بكثير مما يظنه هؤلاء السطحيون المتحذلقون المتظرفون الجهال عن فطرة الإنسان . وألف عمل ، وألف كسب لا تغني المرأة عن حاجتها الفطرية إلى الحياة الطبيعية . . سواء في ذلك مطالب الجسد والغريزة ، ومطالب الروح والعقل ، من السكن والأنس بالعشير . . والرجل يجد العمل ويجد الكسب ؛ ولكن هذا لا يكفيه فيروح يسعى للحصول على العشيرة ، والمرأة كالرجل - في هذا - فهما من نفس واحدة !

والاحتمال الثاني ضد اتجاه الإسلام النظيف ؛ وضد قاعدة المجتمع الإسلامي العفيف ؛ وضد كرامة المرأة الإنسانية . والذين لا يحفلون أن تشيع الفاحشة في المجتمع ، هم أنفسهم الذين يتعالمون على الله ، ويتطاولون على شريعته . لأنهم لا يجدون من يردعهم عن هذا التطاول . بل يجدون من الكائدين لهذا الدين كل تشجيع وتقدير !

والاحتمال الثالث هو الذي يختاره الإسلام . يختاره رخصة مقيدة . لمواجهة الواقع الذي لا ينفع فيه هز الكتفين ؛ ولا تنفع فيه الحذلقة والادعاء . يختاره متمشيا مع واقعيته الإيجابية ، في مواجهة الإنسان كما هو - بفطرته وظروف حياته - ومع رعايته للخلق النظيف والمجتمع المتطهر ، ومع منهجه في التقاط الإنسان من السفح ، والرقي به في الدرج الصاعد إلى القمة السامقة . ولكن في يسر ولين وواقعية !

ثم نرى . . ثانيا . . في المجتمعات الإنسانية . قديما وحديثا . وبالأمس واليوم والغد . إلى آخر الزمان . واقعا في حياة الناس ، لا سبيل إلى إنكاره كذلك أو تجاهله .

نرى أن فترة الإخصاب في الرجل تمتد إلى سن السبعين أو ما فوقها . بينما هي تقف في المرأة عند سن الخمسين أو حواليها . فهناك في المتوسط عشرون سنة من سني الإخصاب في حياة الرجل لا مقابل لها في حياة المرأة . وما من شك أن من أهداف اختلاف الجنسين ثم التقائهما ، امتداد الحياة بالإخصاب والإنسال ، وعمران الأرض بالتكاثر والانتشار . فليس مما يتفق مع هذه السنة الفطرية العامة أن نكف الحياة عن الانتفاع بفترة الإخصاب الزائدة في الرجال . ولكن مما يتفق مع هذا الواقع الفطري أن يسن التشريع - الموضوع لكافة البيئات في جميع الأزمان والأحوال - هذه الرخصة - لا على سبيل الإلزام الفردي ، ولكن على سبيل إيجاد المجال العام الذي يلبي هذا الواقع الفطري ، ويسمح للحياة أن تنتفع به عند الاقتضاء . . وهو توافق بين واقع الفطرة وبين اتجاه التشريع ملحوظ دائما في التشريع الإلهي . لا يتوافر عادة في التشريعات البشرية ، لأن الملاحظة البشرية القاصرة لا تنتبه له ، ولا تدرك جميع الملابسات القريبة والبعيدة ، ولا تنظر من جميع الزوايا ، ولا تراعي جميع الاحتمالات .

ومن الحالات الواقعية - المرتبطة بالحقيقة السالفة - ما نراه أحيانا من رغبة الزوج في أداء الوظيفة الفطرية ، مع رغبة الزوجة عنها - لعائق من السن أو من المرض - مع رغبة الزوجين كليهما في استدامة العشرة الزوجية وكراهية الانفصال - فكيف نواجه مثل هذه الحالات ؟

نواجهها بهز الكتفين ؛ وترك كل من الزوجين يخبط رأسه في الجدار ؟ ! أو نواجهها بالحذلقة الفارغة والتظرف السخيف ؟

إن هز الكتفين - كما قلنا - لا يحل مشكلة . والحذلقة والتظرف لا يتفقان مع جدية الحياة الإنسانية ، ومشكلاتها الحقيقية . .

وعندئذ نجد أنفسنا - مرة أخرى - أمام احتمال من ثلاثة احتمالات :

1- أن نكبت الرجل ونصده عن مزاولة نشاطه الفطري بقوة التشريع وقوة السلطان ! ونقول له : عيب يا رجل ! إن هذا لا يليق ، ولا يتفق مع حق المرأة التي عندك ولا مع كرامتها !

2- أن نطلق هذا الرجل يخادن ويسافح من يشاء من النساء !

3- أن نبيح لهذا الرجل التعدد - وفق ضرورات الحال - ونتوقى طلاق الزوجة الأولى . .

الاحتمال الأول ضد الفطرة ، وفوق الطاقة ، وضد احتمال الرجل العصبي والنفسي . وثمرته القريبة - إذا نحن أكرهناه بحكم التشريع وقوة السلطان - هي كراهية الحياة الزوجية التي تكلفه هذا العنت ، ومعاناة جحيم هذه الحياة . . وهذه ما يكرهه الإسلام ، الذي يجعل من البيت سكنا ، ومن الزوجة أنسا ولباسا .

والاحتمال الثاني ضد اتجاه الإسلام الخلقي ، وضد منهجه في ترقية الحياة البشرية ، ورفعها وتطهيرها وتزكيتها ، كي تصبح لائقة بالإنسان الذي كرمه الله على الحيوان !

والاحتمال الثالث هو وحده الذي يلبي ضرورات الفطرة الواقعية ، ويلبي منهج الإسلام الخلقي ، ويحتفظ للزوجة الأولى برعاية الزوجية ، ويحقق رغبة الزوجين في الإبقاء على عشرتهما وعلى ذكرياتهما ، وييسر على الإنسان الخطو الصاعد في رفق ويسر وواقعية .

وشيء كهذا يقع في حالة عقم الزوجة ، مع رغبة الزوج الفطرية في النسل . حيث يكون أمامه طريقان لا ثالث لهما :

1- أن يطلقها ليستبدل بها زوجة أخرى تلبي رغبة الإنسان الفطرية في النسل .

2- أو أن يتزوج بأخرى ، ويبقي على عشرته مع الزوجة الأولى .

وقد يهذر قوم من المتحذلقين - ومن المتحذلقات - بإيثار الطريق الأول . ولكن تسعا وتسعين زوجة - على الأقل - من كل مائة سيتوجهن باللعنة إلى من يشير على الزوج بهذا الطريق ! الطريق الذي يحطم عليهن بيوتهن بلا عوض منظور - فقلما تجد العقيم وقد تبين عقمها راغبا في الزواج - وكثيرا ما تجد الزوجة العاقر أنسا واسترواحا في الأطفال الصغار ، تجيء بهم الزوجة الأخرى من زوجها ، فيملأون عليهم الدار حركة وبهجة أيا كان ابتئاسها لحرمانها الخاص .

وهكذا حيثما ذهبنا نتأمل الحياة الواقعية بملابساتها العملية ، التي لا تصغي للحذلقة ، ولا تستجيب للهذر ، ولا تستروح للهزل السخيف والتميع المنحل في مواضع الجد الصارم . . وجدنا مظاهر الحكمة العلوية ، في سن هذه الرخصة ، مقيدة بذلك القيد : ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء - مثنى وثلاث ورباع - فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ) فالرخصة تلبي واقع الفطرة ، وواقع الحياة ؛ وتحمي المجتمع من الجنوح - تحت ضغط الضرورات الفطرية والواقعية المتنوعة - إلى الانحلال أو الملال . . والقيد يحمي الحياة الزوجية من الفوضى والاختلال ، ويحمي الزوجة من الجور والظلم ؛ ويحمي كرامة المرأة أن تتعرض للمهانة بدون ضرورة ملجئة واحتياط كامل . ويضمن العدل الذي تحتمل معه الضرورة ومقتضياتها المريرة .

إن أحدا يدرك روح الإسلام واتجاهه ، لا يقول : إن التعدد مطلوب لذاته ، مستحب بلا مبرر من ضرورةفطرية أو اجتماعية ؛ وبلا دافع إلا التلذذ الحيواني ، وإلا التنقل بين الزوجات ، كما يتنقل الخليل بين الخليلات . إنما هو ضرورة تواجه ضرورة ، وحل يواجه مشكلة . وهو ليس متروكا للهوى ، بلا قيد ولا حد في النظام الإسلامي ، الذي يواجه كل واقعيات الحياة .

فإذا انحرف جيل من الأجيال في استخدام هذه الرخصة . إذا راح رجال يتخذون من هذه الرخصة فرصة لإحالة الحياة الزوجية مسرحا للذة الحيوانية . إذا أمسوا يتنقلون بين الزوجات كما يتنقل الخليل بين الخليلات . إذا أنشأوا " الحريم " في هذه الصورة المريبة . . فليس ذلك شأن الإسلام ؛ وليس هؤلاء هم الذين يمثلون الإسلام . . إن هؤلاء إنما انحدروا إلى هذا الدرك لأنهم بعدوا عن الإسلام ، ولم يدركوا روحه النظيف الكريم . والسبب أنهم يعيشون في مجتمع لا يحكمه الإسلام ، ولا تسيطر فيه شريعته . مجتمع لا تقوم عليه سلطة مسلمة ، تدين للإسلام وشريعته ؛ وتأخذ الناس بتوجيهات الإسلام وقوانينه ، وآدابه وتقاليده .

إن المجتمع المعادي للإسلام المتفلت من شريعته وقانونه ، هو المسؤول الأول عن هذه الفوضى . هو المسؤول الأول عن " الحريم " في صورته الهابطة المريبة . هو المسؤول الأول عن اتخاذ الحياة الزوجية مسرح لذة بهيمية . فمن شاء أن يصلح هذه الحال فليرد الناس إلى الإسلام ، وشريعة الإسلام ، ومنهج الإسلام ؛ فيردهم إلى النظافة والطهارة والاستقامة والاعتدال . . من شاء الاصلاح فليرد الناس إلى الإسلام لا في هذه الجزئية ولكن في منهج الحياة كلها . فالإسلام نظام متكامل لا يعمل إلا وهو كامل شامل . .

والعدل المطلوب هو العدل في المعاملة والنفقة والمعاشرة والمباشرة . أما العدل في مشاعر القلوب وأحاسيس النفوس ، فلا يطالب به أحد من بني الإنسان ، لأنه خارج عن إرادة الإنسان . . وهو العدل الذي قال الله عنه في الآية الأخرى في هذه السورة : ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء - ولو حرصتم - فلا تميلوا كل الميل ، فتذروها كالمعلقة . . هذه الآية التي يحاول بعض الناس أن يتخذوا منها دليلا على تحريم التعدد . والأمر ليس كذلك . وشريعة الله ليست هازلة ، حتى تشرع الأمر في آية ، وتحرمه في آية ، بهذه الصورة التي تعطي باليمين وتسلب بالشمال ! فالعدل المطلوب في الآية الأولى ؛ والذي يتعين عدم التعدد إذا خيف ألا يتحقق ؛ هو العدل في المعاملة والنفقة والمعاشرة والمباشرة ، وسائر الأوضاع الظاهرة ، بحيث لا ينقص إحدى الزوجات شيء منها ؛ وبحيث لا تؤثر واحدة دون الأخرى بشيء منها . . على نحو ما كان النبي [ ص ] وهو أرفع إنسان عرفته البشرية ، يقوم به . في الوقت الذي لم يكن أحد يجهل من حوله ولا من نسائه ، أنه يحب عائشة - رضي الله عنها - ويؤثرها بعاطفة قلبية خاصة ، لا تشاركها فيها غيرها . . فالقلوب ليست ملكا لأصحابها . إنما هي بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء . . وقد كان [ ص ] يعرف دينه ويعرف قلبه . فكان يقول : " اللهم هذا قسمي فيما أملك ، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك " . .

ونعود فنكرر قبل أن نتجاوز هذه النقطة ، أن الإسلام لم ينشىء التعدد إنما حدده . ولم يأمر بالتعدد إنما رخص فيه وقيده . وأنه رخص فيه لمواجهة واقعيات الحياة البشرية ، وضرورات الفطرة الإنسانية . هذه الضرورات وتلك الواقعيات التي ذكرنا بعض ما تكشف لنا حتى الآن منها . وقد يكون وراءها غيرها تظهره أطوار الحياة في أجيال أخرى ، وفي ظروف أخرى كذلك . كما يقع في كل تشريع أو توجيه جاء به هذا المنهج الرباني ، وقصر البشر في فترة من فترات التاريخ ، عن استيعاب كل ما وراءه من حكمة ومصلحة . فالحكمة والمصلحة مفترضتان وواقعتان في كل تشريع إلهي ، سواء أدركهما البشر أم لم يدركوهما ، في فترة من فترات التاريخ الإنساني القصير ، عن طريق الإدراك البشري المحدود !

ثم ننتقل إلى الإجراء الثاني الذي تنص عليه الآية عند الخوف من عدم تحقق العدل :

( فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ، أو ما ملكت أيمانكم ) . .

أي إنه إن خيف عدم العدل في التزوج بأكثر من واحدة تعين الاقتصار على واحدة ! ولم يجز تجاوزها أو ( ما ملكت أيمانكم ) من الإماء زواجا أو تسريا ، فالنص لم يحدد .

ولقد سبق أن وقفنا في الجزء الثاني من هذه الظلال وقفة قصيرة أمام مسألة الرق إجمالا . فلعله يحسن هنا أن نلم بمسألة الاستمتاع بالإماء خاصة .

إن الزواج من مملوكة فيه رد لاعتبارها وكرامتها الإنسانية . فهو مؤهل من مؤهلات التحرير لها ولنسلها من سيدها - حتى ولو لم يعتقها لحظة الزواج - فهي منذ اليوم الذي تلد فيه تسمى " أم ولد " ويمتنع على سيدها بيعها ؛ وتصبح حرة بعد وفاته . أما ولدها فهو حر منذ مولده .

وكذلك عند التسري بها . فإنها إذا ولدت أصبحت " أم ولد " وامتنع بيعها ، وصارت حرة بعد وفاة سيدها . وصار ولدها منه كذلك حرا إذا اعترف بنسبه ، وهذا ما كان يحدث عادة .

فالزواج والتسري كلاهما طريق من طرق التحرير التي شرعها الإسلام وهي كثيرة . . على أنه قد يحيك في النفس شيء من مسألة التسري هذه . فيحسن أن نتذكر أن قضية الرق كلها قضية ضرورة - كما بينا هناك - وأن الضروة التي اقتضت إباحة الاسترقاق في الحرب الشرعية التي يعلنها الإمام المسلم المنفذ لشريعة الله ، هي ذاتها التي اقتضت إباحة التسري بالإماء ؛ لأن مصير المسلمات الحرائر العفيفات حين يؤسرن كان شرا من هذا المصير !

على أنه يحسن ألا ننسى أن هؤلاء الأسيرات المسترقات ، لهن مطالب فطرية لا بد أن يحسب حسابها في حياتهن ، ولا يمكن إغفالها في نظام واقعي يراعي فطرة الإنسان وواقعه . . فإما أن تتم تلبية هذه المطالب عن طريق الزواج ، وإما أن تتم عن طريق تسري السيد ، ما دام نظام الاسترقاق قائما ، كي لا ينشرن في المجتمع حالة من الانحلال الخلقي ، والفوضى الجنسية ، لا ضابط لها ، حين يلبين حاجتهن الفطرية عن طريق البغاء أو المخادنة ، كما كانت الحال في الجاهلية .

أما ما وقع في بعض العصور من الاستكثار من الإماء - عن طريق الشراء والخطف والنخاسة وتجميعهن في القصور ، واتخاذهن وسيلة للإلتذاذ الجنسي البهيمي ، وتمضية الليالي الحمراء بين قطعان الإماء ، وعربدة السكر والرقص والغناء . . إلى آخر ما نقلته الينا الأخبار الصادقة والمبالغ فيها على السواء . . أما هذا كله فليس هو الإسلام . وليس من فعل الإسلام ، ولا إيحاء الإسلام . ولا يجوز أن يحسب على النظام الإسلامي ، ولا أن يضاف إلى واقعه التاريخي . .

إن الواقع التاريخي " الإسلامي " هو الذي ينشأ وفق أصول الإسلام وتصوراته وشرعته وموازينه . هذا وحده هو الواقع التاريخي " الإسلامي " . . أما ما يقع في المجتمع الذي ينتسب إلى الإسلام ، خارجا على أصوله وموازينه ، فلا يجوز أن يحسب منه ، لأنه انحراف عنه .

إن للإسلام وجوده المستقل خارج واقع المسلمين في أي جيل . فالمسلمون لم ينشئوا الإسلام ، إنما الإسلام هو الذي أنشأ المسلمين . الإسلام هو الأصل ، والمسلمون فرع عنه ، ونتاج من نتاجه . ومن ثم فإن ما يصنعه الناس أو ما يفهمونه ليس هو الذي يحدد أصل النظام الإسلامي أو مفهوم الإسلام الأساسي . إلا أن يكون مطابقا للأصل الإسلامي الثابت المستقل عن واقع الناس ومفهومهم ، والذي يقاس إليه واقع الناس في كل جيل ومفهومهم ، ليعلم كم هو مطابق أو منحرف عن الإسلام .

إن الأمر ليس كذلك في النظم الأرضية التي تنشأ ابتداء من تصورات البشر ، ومن المذاهب التي يضعونها لأنفسهم - وذلك حين يرتدون إلى الجاهلية ويكفرون بالله مهما ادعوا أنهم يؤمنون به ، فمظهر الإيمان الأول بالله هو استمداد الأنظمة من منهجه وشريعته ، ولا إيمان بغير هذه القاعدة الكبيرة - ذلك أن المفهومات المتغيرة للناس حينئذ ، والأوضاع المتطورة في أنظمتهم ، هي التي تحدد مفهوم المذاهب التي وضعوها لأنفسهم ، وطبقوها على أنفسهم .

فأما في النظام الإسلامي الذي لم يصنعه الناس لأنفسهم ، إنما صنعه للناس رب الناس وخالقهم ورازقهم ومالكهم . . فأما في هذا النظام فالناس إما أن يتبعوه ويقيموا أوضاعهم وفقه ؛ فواقعهم إذن هو الواقع التاريخي " الإسلامي " وإما أن ينحرفوا عنه أو يجانبوه كلية ، فليس هذا واقعا تاريخيا للإسلام . إنما هو انحراف عن الإسلام !

ولا بد من الإنتباه إلى هذا الاعتبار عند النظر في التاريخ الإسلامي . فعلى هذا الاعتبار تقوم النظرية التاريخية الإسلامية ، وهي تختلف تماما مع سائر النظريات التاريخية الأخرى ، التي تعتبر واقع الجماعة الفعلي ، هو التفسير العملي للنظرية أو المذهب ، وتبحث عن " تطور " النظرية أو المذهب في هذا الواقع الفعلي للجماعة التي تعتنقه ، وفي المفهومات المتغيرة لهذه النظرية في فكر الجماعة ! وتطبيق هذه النظرة على الإسلام ينافي طبيعته المتفردة ، ويؤدي إلى أخطار كثيرة ، في تحديد المفهوم الإسلامي الحقيقي .

وأخيرا تفصح الآية عن حكمة هذه الإجراءات كلها . . إنها اتقاء الجور وتحقيق العدل :

( ذلك أدنى ألا تعولوا ) . .

ذلك . . البعد عن نكاح اليتيمات - إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى - ونكاح غيرهن من النساء - مثنى وثلاث ورباع - ونكاح الواحدة فقط - إن خفتم ألا تعدلوا - أو ما ملكت أيمانكم . . ( ذلك أدنى ألا تعولوا ) . . أي ذلك أقرب ألا تظلموا وألا تجوروا .

وهكذا يتبين أن البحث عن العدل والقسط ، هو رائد هذا المنهج ، وهدف كل جزئية من جزئياته . . والعدل أجدر أن يراعي في المحضن الذي يضم الأسرة . وهي اللبنة الأولى للبناء الاجتماعي كله ، ونقطة الانطلاق إلى الحياة الاجتماعية العامة ، وفيه تدرج الأجيال وهي لدنة رخصة قابلة للتكيف ، فإن لم يقم على العدل والود والسلام ، فلا عدل ولا ود في المجتمع كله ولا سلام .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تُقۡسِطُواْ فِي ٱلۡيَتَٰمَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۖ فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تَعۡدِلُواْ فَوَٰحِدَةً أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَلَّا تَعُولُواْ} (3)

اشتمال هذه الآية على كلمة { اليتامى } يؤذن بمناسبتها للآية السابقة ، بيد أنّ الأمر بنكاح النساء وعددهنّ في جواب شرط الخوف من عدم العدل في اليتامى ممّا خفي وجهُه على كثير من علماء سلف الأمة ، إذ لا تظهر مناسبة أي ملازمة بين الشرط وجوابه . واعلم أنّ في الآية إيجازاً بديعاً إذ أطلق فيها لفظ اليتامى في الشرط وقوبل بلفظ النساء في الجزاء فعلم السامع أنّ اليتامى هنا جمع يتيمة وهي صنف من اليتامى في قوله السابق : { وآتوا اليتامى أموالهم } [ النساء : 2 ] . وعلم أنّ بين عدم القسط في يتامى النساء ، وبين الأمر بنكاح النساء ، ارتباطاً لا محالة وإلاّ لكان الشرط عبثاً . وبيانه ما في « صحيح البخاري » : أنّ عروة بن الزبير سأل عائشة عن هذه الآية فقالت : « يابنَ أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليّها تشرَكه في ماله ويعجبه مالها وجمالها ، فيريد وليّها أن يتزوجها بغير أن يُقسط في صداقها فلا يعطيها مثل ما يعطيها غيره ، فنُهوا أن ينكحوهنّ إلاّ أن يقسطوا لهنّ ويبلغوا بهنّ أعلى سنتهنّ في الصداق فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء غيرهنّ . ثم إنّ الناس استفتوا رسول الله بعد هذه الآية فأنزل الله : { ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء التي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن } [ النساء : 127 ] . فقول الله تعالى : { وترغبون أن تنكحوهن } [ النساء : 127 ] رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال ، فنهوا عن أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلاّ بالقسط من أجل رغبتهم عنهنّ إذا كنّ قليلات المال والجمال » . وعائشة لم تسند هذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن سياق كلامها يؤذن بأنّه عن توقيف ، ولذلك أخرجه البخاري في باب تفسير سورة النساء بسياق الأحاديث المرفوعة اعتداداً بأنها ما قالت ذلك إلاّ عن معاينة حال النزول ، وأَفهام المسلمين التي أقرّها الرسول عليه السلام ، لا سيما وقد قالت : ثمّ إنّ الناس استفتوا رسول الله ، وعليه فيكون إيجاز لفظ الآية اعتداداً بما فهمه الناس ممّا يعلمون من أحوالهم ، وتكون قد جمعت إلى حكم حفظ حقوق اليتامى في أموالهم الموروثة حفظ حقوقهم في الأموال التي يستحقّها البنات اليتامى من مهور أمثالهنّ ، وموعظة الرجال بأنّهم لمّا لم يجعلوا أواصر القرابة شافعة النساء اللاتي لا مرغِّب فيهنّ لهم فيرغبون عن نكاحهنّ ، فكذلك لا يجعلون القرابة سبباً للإجحاف بهنّ في مهورهنّ . وقولها : ثمّ إنّ الناس استفتوا رسول الله ، معناه استفتوه طلباً لإيضاح هذه الآية . أو استفتوه في حكم نكاح اليتامى ، وله يهتدوا إلى أخذه من هذه الآية ، فنزل قوله : { ويستفتونك في النساء } الآية ، وأنّ الإشارة بقوله : { وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء } أي ما يتلى من هذه الآية الأولى ، أي كان هذا الاستفتاء في زمن نزول هذه السورة .

وكلامها هذا أحسن تفسير لهذه الآية . وقال ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والسدّي ، وقتادة : كانت العرب تتحرّج في أموال اليتامى ولا تتحّرج في العدل بين النساء ، فكانوا يتزوّجون العشر فأكثر فنزلت هذه الآية في ذلك ، وعلى هذا القول فمحلّ الملازمة بين الشرط والجزاء إنّما هو فيما تفرّع عن الجزاء من قوله : { فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة } ، فيكون نسج الآية قد حيك على هذا الأسلوب ليدمج في خلاله تحديد النهاية إلى الأربع . وقال عكرمة : نزلت في قريش ، كان الرجل يتزوّج العشر فأكثر فإذا ضاق ماله عن إنفاقهنّ أخذ مال يتيمه فتزوّج منه ، وعلى هذا الوجه فالملازمة ظاهرة ، لأنّ تزوّج ما لا يستطاع القيام به صار ذريعة إلى أكل أموال اليتامى ، فتكون الآية دليلاً على مشروعية سدّ الذرائع إذا غلبت . وقال مجاهد : الآية تحذير من الزنا ، وذلك أنّهم كانوا يتحرّجون من أكل أموال اليتامى ولا يتحرّجون من الزنا ، فقيل لهم : إن كنتم تخافون من أموال اليتامى فخافوا الزنا ، لأنّ شأن المتنسّك أن يهجر جميع المآثم لا سيما ما كانت مفسدته أشدّ . وعلى هذا الوجه تضعف الملازمة بين الشرط وجوابه ويكون فعل الشرط ماضياً لفظاً ومعنى . وقيل في هذا وجوه أخر هي أضعف ممّا ذكرنا .

ومعنى { ما طاب } ما حسن بدليل قوله : { لكم } ويفهم منه أنّه ممّا حلّ لكم لأن الكلام في سياق التشريع .

وما صَدْقُ { ما طاب } النساء فكان الشأن أن يؤتى ب ( مَن ) الموصولة لكن جيء ب ( ما ) الغالبة في غير العقلاء ، لأنّها نُحِي بها مَنْحى الصفة وهو الطيّب بِلا تعيين ذات ، ولو قال ( مَنْ ) لتبادر إلى إرادة نسوة طيّبات معروفات بينهم ، وكذلك حال ( ما ) في الاستفهام ، كما قال صاحب « الكشاف » وصاحب « المفتاح » . فإذا قلت : ما تزوجت ؟ فأنت تريد ما صفتها أبكرا أم ثيّباً مثلاً ، وإذا قلت : مَن تزوجت ؟ فأنت تريد تعيين اسمها ونسبها .

والآية ليست هي المثبتة لمشروعية النكاح ، لأنّ الأمر فيها معلّق على حالة الخوف من الجور في اليتامى ، فالظاهر أنّ الأمر فيها للإرشاد ، وأنّ النكاح شرع بالتقرير للإباحة الأصلية لما عليه الناس قبل الإسلام مع إبطال ما لا يرضاه الدين كالزيادة على الأربع ، وكنكاح المقت ، والمحرّمات من الرضاعة ، والأمر بأن لا يُخْلوه عن الصداق ، ونحو ذلك .

وقوله : { مثنى وثلاث ورباع } أحوال من { طاب } ولا يجوز كونها أحوالاً من النساء لأنّ النساء أريد به الجنس كلّه لأن ( مِنْ ) إمَّا تبعيضية أو بيانية وكلاهما تقتضي بقاء البيان على عمومه ، ليصلح للتبعيض وشبهه ، والمعنى : أنّ الله وسّع عليكم فلكم في نكاح غير أولئك اليتامى مندوحة عن نكاحهنّ مع الإضرار بهنّ في الصداق ، وفي هذا إدماج لحكم شرعي آخر في خلال حكم القسط لليتامى إلى قوله : { ذلك أدنى ألا تعولوا } .

وصيغة مَفْعَل وفُعَال في أسماء الأعداد من واحد إلى أربعة ، وقيل إلى ستة وقيل إلى عشرة ، وهو الأصح ، وهو مذهب الكوفيّين ، وصحّحه المعرّي في « شرح ديوان المتنبيّ » عند قول أبي الطّيب :

أُحَاد أم سُدَاسٌ في آحاد *** لُيَبْلَتُنَا المَنوطةُ بالتنادي

تدُلّ كلّها على معنى تكرير اسم العدد لقصد التوزيع كقوله تعالى : { أولي أجنحة مَثْنَى وثُلاث ورُباع } [ فاطر : 1 ] أي لطائفة جناحان ، ولطائفة ثلاثة ، ولطائفة أربعة . والتوزيع هنا باعتبار اختلاف المخاطبين في السعة والطَّول ، فمنهم فريق يستطيع أن يتزوّجوا اثنتين ، فهؤلاء تكون أزواجهم اثنتين اثنتين ، وهلمّ جرّا ، كقولك لجماعة : اقتسِموا هذا المال درهمين درهمين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة ، على حسب أكبركم سنّاً . وقد دل على ذلك قوله بعد : { فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة } . والظاهر أنّ تحريم الزيادة على الأربع مستفاد من غير هذه الآية لأنّ مجرّد الاقتصار غير كاف في الاستدلال ولكنّه يُستأنس به ، وأنّ هذه الآية قرّرت ما ثبت من الاقتصار ، على أربع زوجات كما دلّ على ذلك الحديث الصحيح : إنّ غيلان بن سلمة أسلم على عشر نسوة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " أمسك أربعاً وفارق سائرهنّ " . ولعلّ الآية صدرت بذكر العدد المقرّر من قبل نزولها ، تمهيداً لشرع العدل بين النساء ، فإنّ قوله : { فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة } صريح في اعتبار العدل في التنازل في مراتب العدد ينزل بالمكلّف إلى الواحدة . فلا جرم أن يكون خوفه في كلّ مرتبة من مراتب العدد ينزل به إلى التي دونها . ومن العجيب ما حكاه ابن العربي في الأحكام عن قوم من الجهّال لم يعيّنهم أنّهم توهّموا أنّ هذه الآية تبيح للرجال تزوّج تسع نساء توهّما بأنّ مثنَى وثُلاث ورُباع مرادفة لاثنين وثلاثاً وأربعاً ، وأنّ الواو للجمع ، فحصلت تسعة وهي العدد الذي جمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين نسائه ، وهذا جهل شنيع في معرفة الكلام العربي . وفي « تفسير القرطبي » نسبة هذا القول إلى الرافضة ، وإلى بعض أهل الظاهر ، ولم يعيّنه . وليس ذلك قولاً لداوود الظاهري ولا لأصحابه ، ونسبه ابن الفرس في أحكام القرآن إلى قوم لا يعبأ بخلافهم ، وقال الفخر : هم قوم سُدى ، ولم يذكر الجصّاص مخالفاً أصلاً . ونسب ابن الفرس إلى قوم القول بأنّه لا حصر في عدد الزوجات وجعلوا الاقتصار في الآية بمعنى : إلى ما كان من العدد ، وتمسّك هذان الفريقان بأنّ النبي صلى الله عليه وسلم مات عن تسع نسوة ، وهو تمسّك واه ، فإنّ تلك خصوصية له ، كما دلّ على ذلك الإجماع ، وتطلُّب الأدلّة القواطع في انتزاع الأحكام من القرآن تطلّب لما يقف بالمجتهدين في استنباطهم موقف الحيرة ، فإنّ مبنى كلام العرب على أساس الفطنة .

ومسلكه هو مسلك اللمحة الدالّة .

وظاهر الخطاب للناس يعم الحرّ والعبد ، فللعبد أن يتزوّج أربع نسوة على الصحيح ، وهو قول مالك ، ويعزى إلى أبي الدرداء ، والقاسم بن محمد ، وسالم ، وربيعة بن أبي عبد الرحمان ، ومجاهد ، وذهب إليه داوود الظاهري . وقيل : لا يتزوّج العبد أكثر من اثنتين ، وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ، وينسب إلى عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وعبد الرحمن بن عوف ، وابن سيرين ، والحسن . وليس هذا من مناسب التنصيف للعبيد ، لأنّ هذا من مقتضى الطبع الذي لا يختلف في الأحرار والعبيد . ومن ادّعى إجماع الصحابة على أنّه لا يتزوّج أكثر من اثنتين فقد جازف القول .

وقوله : { فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة } ، أي فواحدة لكلّ من يخاف عدم العدل . وإنّما لم يقل فأُحاد أو فمَوْحَد لأنّ وزن مَفعل وفُعال في العدد لا يأتي إلاّ بعد جمع ولم يجر جمع هنا . وقرأ الجمهور : فواحدة بالنصب ، وانتصب واحدة على أنّه مفعول لمحذوف أي فانكحوا واحدة . وقرأه أبو جعفر بالرفع على أنه مبتدأ وخبره محذوف أي كفاية .

وخوف عدم العدل معناه عدم العدل بين الزوجات ، أي عدم التسوية ، وذلك في النفقة والكسوة والبشاشة والمعاشرة وترك الضرّ في كلّ ما يدخل تحت قدرة المكلّف وطوقه دون ميل القلب .

وقد شرع الله تعدّد النساء للقادر العادل لِمصالح جمّة : منها أنّ في ذلك وسيلة إلى تكثير عدد الأمة بازدياد المواليد فيها ، ومنها أنّ ذلك يعين على كفالة النساء اللائي هنّ أكثر من الرجال في كلّ أمّة لأنّ الأنوثة في المواليد أكثر من الذكورة ، ولأنّ الرجال يعرض لهم من أسباب الهلاك في الحروب والشدائد ما لا يعرض للنساء ، ولأنّ النساء أطول أعماراً من الرجال غالباً ، بما فطرهنّ الله عليه ، ومنها أنّ الشريعة قد حرّمت الزنا وضيّقت في تحريمه لمّا يجرّ إليه من الفساد في الأخلاق والأنساب ونظام العائلات ، فناسب أن توسّع على الناس في تعدّد النساء لمن كان من الرجال ميّالاً للتعدّد مجبولاً عليه ، ومنها قصد الابتعاد عن الطلاق إلاّ لضرورة .

ولم يكن في الشرائع السالفة ولا في الجاهلية حدّ للزوجات ، ولم يثبت أن جاء عيسى عليه السلام بتحديد للتزوّج ، وإن كان ذلك توهّمه بعض علمائنا مثل القرافي ، ولا أحسبه صحيحاً ، والإسلام هو الذي جاء بالتحديد ، فأمّا أصل التحديد فحكمته ظاهرة : من حيث إنّ العدل لا يستطيعه كلّ أحد ، وإذا لم يقم تعدّدُ الزوجات على قاعدة العدل بينهنّ اختلّ نظام العائلة ، وحدثت الفتن فيها ، ونشأ عقوق الزوجات أزواجهنّ ، وعقوق الأبناء آباءهم بأذاهم في زوجاتهم وفي أبنائهم ، فلا جرم أن كان الأذى في التعدّد لمصلحة يجب أن تكون مضبوطة غير عائدة على الأصل بالإبطال .

وأمّا الانتهاء في التعدّد إلى الأربع فقد حاول كثير من العلماء توجيهه فلم يبلغوا إلى غاية مرضية ، وأحسب أنّ حكمته ناظرة إلى نسبة عدد النساء من الرجال في غالب الأحوال ، وباعتبار المعدّل في التعدّد فليس كلّ رجل يتزوّج أربعاً ، فلنفرض المعدّل يكشف عن امرأتين لكلّ رجل ، يدلّنا ذلك على أنّ النساء ضعف الرجال . وقد أشار إلى هذا ما جاء في « الصحيح » : أنه يكثر النساء في آخر الزمان حتّى يكون لخمسين امرأةً القيِّم الواحد .

وقوله : { أو ما ملكت أيمانكم } إن عطف على قوله : { فواحدة } ، فقد خيّر بينه وبين الواحدة باعتبار التعدّد ، أي فواحدة من الأزواج أو عدد ممّا ملكت أيمانكم ، وذلك أنّ المملوكات لا يشترط فيهنّ من العدل ما يشترط في الأزواج ، ولكن يشترط حسن المعاملة وترك الضرّ ، وإن عطفتَه على قوله : { فانكحوا ما طاب } كان تخييراً بين التزوّج والتسرّي بحسب أحوال الناس ، وكان العدل في الإماء المتّخذات للتسرّي مشروطاً قياساً على الزوجات ، وكذلك العدد بحسب المقدرة غير أنّه لا يمتنع في التسرّي الزيادة على الأربع لأنّ القيود المذكورة بين الجمل ترجع إلى ما تقدّم منها . وقد منع الإجماع من قياس الإماء على الحراير في نهاية العدد ، وهذا الوجه أدخل في حكمة التشريع وأنظم في معنى قوله : { ذلك أدنى ألا تعولوا } والإشارة بقوله { ذلك أدنى ألا تعولوا } إلى الحكم المتقدّم ، وهو قوله : { فانكحوا ما طاب لكم } إلى قوله : { أو ما ملكت أيمانكم } باعتبار ما اشتمل عليه من التوزيع على حسب العدل . وإفراد اسم الإشارة باعتبار المذكور كقوله تعالى : { ومن يفعل ذلك يلق أثاماً } .

و ( أدنى ) بمعنى أقرب ، وهو قرب مجازي أي أحقّ وأعون على أن لا تعُولوا ، و« تعولوا » مضارع عال عَوْلاً ، وهو فعل واوي العين ، بمعنى جار ومال ، وهو مشهور في كلام العرب ، وبه فسّر ابن عباس وجمهور السلف ، يقال : عَال الميزان عَولاً إذا مال ، وعال فلان في حكمه أي جار ، وظاهر أنّ نزول المكلّف إلى العدد الذي لا يخاف معه عدم العدل أقرب إلى عدم الجور ، فيكون قوله : { أدنى ألا تعولوا } في معنى قوله : { فإن خفتم ألا تعدلوا } فيفيد زيادة تأكيد كراهية الجور .

ويجوز أن تكون الإشارة إلى الحكم المتضمّن له قوله : { فواحدة أو ما ملكت أيمانكم } أي ذلك أسلم من الجور ، لأنّ التعدّد يعرّض المكلّف إلى الجور وإن بذل جهده في العدل ، إذ للنفس رغبات وغفلات ، وعلى هذا الوجه لا يكون قوله : { أدنى ألا تعولوا } تأكيداً لمضمون { فإن خفتم ألا تعدلوا } ويكون ترغيباً في الاقتصار على المرأة الواحدة أو التعدّد بملك اليمين ، إذ هو سدّ ذريعة الجور ، وعلى هذا الوجه لا يكون العدل شرطاً في ملك اليمين ، وهو الذي نحاه جمهور فقهاء الأمصار في ملك اليمين .

وقيل : « معنى ألا تعولوا » أن لا تكثر عيالكم ، مأخوذ من قولهم عال الرجل أهله يعولهم بمعنى مالهم ، يعني فاستعمل نفي كثرة العيال على طريق الكناية لأنّ العول يستلزم وجود العيال ، والإخبار عن الرجل بأنّه يعول يستلزم كثرة العيال ، لأنّه إخبار بشيء لا يخلو عنه أحد فما يخبر المخبر به إلاّ إذا رآه تجاوز الحدّ المتعارف . كما تقول فلان يأكل ، وفلان ينام ، أي يأكل كثيراً وينام كثيراً ، ولا يصحّ أن يراد كونه معنى لعال صريحاً ، لأنّه لا يقال عال بمعنى كثرت عياله ، وإنّما يقال أعال . وهذا التفسير مأثور عن زيد بن أسلم ، وقاله الشافعي ، وقال به ابن الأعرابي من علماء اللغة وهو تفسير بعيد ، وكناية خفيّة ، لا يلائم إلاّ أن تكون الإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما تضمنّه قوله : { فواحدة أو ما ملكت أيمانكم } ويكون في الآية ترغيب في الاقتصار على الواحدة لخصوص الذي لا يستطيع السعة في الإنفاق ، لأنّ الاقتصار على الواحدة يقلل النفقة ويقلّل النسل فيُبقي عليه مالَه ، ويدفع عنه الحاجة ، إلاّ أنّ هذا الوجه لا يلائم قوله : { أو ما ملكت أيمانكم } لأنّ تعدّد الإماء يفضي إلى كثرة العيال في النفقة عليهنّ وعلى ما يتناسل منهنّ ، ولذلك ردّ جماعة على الشافعي هذا الوجه بين مُفرط ومقتصد .

وقد أغلظ في الردّ أبو بكر الجصّاص في أحكامه حتّى زعم أنّ هذا غلط في اللغة ، اشتبه به عال يَعيل بعال يَعُول . واقتصد ابن العربي في ردّ هذا القول في كتاب الأحكام . وانتصر صاحب « الكشاف » للشافعي ، وأُورد عليهم أنّ ذلك لا يلاقي قوله تعالى : { أو ما ملكت أيمانكم } فإن تعدّد الجواري مثل تَعدّد الحرائر فلا مفرّ من الإعالة على هذا التفسير . وأجيب عنه بجواب فيه تكلّف .

وحكم هذه الآية ممّا أشار إليه قوله : { وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء } [ النساء : 1 ] .