{ 101 - 102 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ }
ينهى عباده المؤمنين عن سؤال الأشياء التي إذا بينت لهم ساءتهم وأحزنتهم ، وذلك كسؤال بعض المسلمين لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن آبائهم ، وعن حالهم في الجنة أو النار ، فهذا ربما أنه لو بين للسائل لم يكن له فيه خير ، وكسؤالهم للأمور غير الواقعة .
وكالسؤال الذي يترتب عليه تشديدات في الشرع ربما أحرجت الأمة ، وكالسؤال عما لا يعني ، فهذه الأسئلة ، وما أشبهها هي المنهي عنها ، وأما السؤال الذي لا يترتب عليه شيء من ذلك فهذا{[280]} مأمور به ، كما قال تعالى : { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }
{ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ } أي : وإذا وافق سؤالكم محله فسألتم عنها حين ينزل عليكم القرآن ، فتسألون عن آية أشكلت ، أو حكم خفي وجهه عليكم ، في وقت يمكن فيه نزول الوحي من السماء ، تبد لكم ، أي : تبين لكم وتظهر ، وإلا فاسكتوا عمّا سكت الله عنه .
{ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا } أي : سكت معافيا لعباده منها ، فكل ما سكت الله عنه فهو مما أباحه وعفا عنه . { وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } أي : لم يزل بالمغفرة موصوفا ، وبالحلم والإحسان معروفا ، فتعرضوا لمغفرته وإحسانه ، واطلبوه من رحمته ورضوانه .
استئناف ابتدائي للنهي عن العودة إلى مسائل سألها بعض المؤمنين رسول الله صلى الله عليه وسلم ليست في شؤون الدين ولكنّها في شؤون ذاتية خاصّة بهم ، فنهوا أن يشغلوا الرسول بمثالها بعد أن قدّم لهم بيان مُهمّة الرسول بقوله تعالى : { ما على الرسول إلاّ البلاغ } [ المائدة : 99 ] الصالح لأن يكون مقدّمة لمضمون هذه الآية ولمضمون الآية السابقة ، وهي قوله : { قل لا يستوي الخبيث والطيّب } [ المائدة : 100 ] فالآيتان كلتاهما مرتبطتان بآية { ما على الرسول إلاّ البلاغ } [ المائدة : 99 ] ، وليست إحدى هاتين الآيتين بمرتبطة بالأخرى .
وقد اختلفت الروايات في بيان نوع هذه الأشياء المسؤول عنها والصحيح من ذلك حديث موسى بن أنس بن مالك عن أبيه في « الصحيحين » قال : سأل الناس رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حتى أحْفَوْهُ بالمسألة ، فصعِد المنبر ذات يوم فقال : " لا تسألونني عن شيء إلاّ بيّنت لكم " ، فأنشأ رجل كانَ إذا لاحَى يُدعى لغير أبيه ، فقال : يا رسول الله من أبي قال : أبوك حذافة ( أي فدعاه لأبيه الذي يعرف به ) ، والسائل هو عبد الله بن حُذَافة السَّهمي ، كما ورد في بعض روايات الحديث . وفي رواية لمسلم عن أبي موسى : فقام رجل آخر فقال مَن أبي ، قال : أبوك سالم مولى شيبة . وفي بعض روايات هذا الخبر في غير الصحيح عن أبي هريرة أنّ رجلاً آخر قام فقال : أين أبي . وفي رواية : أين أنا ؟ فقال : في النار .
وفي « صحيح البخاري » عن ابن عبّاس قال : كان قوم ، أي من المنافقين ، يسألون رسول الله استهزاء فيقول الرجل تضلّ ناقته : أين ناقتي ، ويقول الرجل : من أبي ، ويقول المسافر : ماذا ألقى في سفري ، فأنزل الله فيهم هذه الآية : { يا أيّها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تُبْدَ لكم تَسؤُكم } . قال الأيمّة : وقد انفرد به البخاري . ومحمله أنّه رأي من ابن عباس ، وهو لا يناسب افتتاح الآية بخطاب الذين آمنوا اللهمّ إلاّ أن يكون المراد تحذير المؤمنين من نحو تلك المسائل عن غفلة من مقاصد المستهزئين ، كما في قوله : { يأيها الذين آمنوا لا تقولوا راعِنا } [ البقرة : 104 ] ، أو أريد بالذين آمنوا الذين أظهروا الإيمان ، على أنّ لهجة الخطاب في الآية خالية عن الإيماء إلى قصد المستهزئين ، بخلاف قوله : { لا تقولوا راعنا } [ البقرة : 104 ] فقد عقّب بقوله : { وللكافرين عذاب أليم } [ البقرة : 104 ] .
وروى الترمذي والدارقطني عن علي بن أبي طالب لمّا نزلت { ولله على الناس حجّ البيت } [ آل عمران : 97 ] قالوا : يا رسول الله في كلّ عام ، فسكت ، فأعادوا . فقال : لا ، ولو قلت : نعم لوجبتْ ، فأنزل الله { يأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } قال : هذا حديث حسن غريب .
وروى الطبري قريباً منه عن أبي أمامة وعن ابن عباس . وتأويل هذه الأسانيد أنّ الآية تليتْ عند وقوع هذا السؤال وإنّما كان نزولها قبل حدوثه فظنّها الراوون نزلت حينئذٍ . وتأويل المعنى على هذا أنّ الأمّة تكون في سعة إذا لم يشرع لها حكم ، فيكون الناس في سعة الاجتهاد عند نزول الحادثة بهم بعد الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإذا سألوا وأجيبوا من قِبل الرسول صلى الله عليه وسلم تعيّن عليهم العمل بما أجيبوا به . وقد تختلف الأحوال والأعصار فيكونون في حرج إن راموا تغييره ؛ فيكون معنى { إن تبد لكم تسؤكم } على هذا الوجه أنّها تسوء بعضهم أو تسوءهم في بعض الأحوال إذا شقّت عليهم . وروى مجاهد عن ابن عباس : نزلت في قوم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البَحيرة والسائبة والوصيلة والحامي . وقال مثله سعيد بن جبير والحسن .
وقوله : { أشياء } تكثير شيء ، والشيء هو الموجود ، فيصدق بالذات وبحال الذات ، وقد سألوا عن أحوال بعض المجهولات أو الضَّوالّ أو عن أحكام بعض الأشياء . و ( أشياء ) كلمة تدلّ على جمع ( شيء ) ، والظاهر أنّه صيغة جمع لأنّ زنة شيء ( فَعْل ) ، و ( فَعْل ) إذا كان معتلّ العين قياس جمعه ( أفعال ) مثل بيت وشيخ . فالجاري على متعارف التصريف أن يكون ( أشياء ) جمعاً وأنّ همزته الأولى همزة مزيدة للجمع . إلاّ أنّ ( أشياء ) ورد في القرآن هنا ممنوعاً من الصرف ، فتردّد أئمّة اللغة في تأويل ذلك ، وأمثل أقوالهم في ذلك قول الكسائي : إنّه لما كثر استعماله في الكلام أشبه ( فعلاء ) ، فمنعوه من الصرف لهذا الشبه ، كما منعواسراويل من الصرف وهو مفرد لأنّه شابه صيغة الجمع مثل مصابيح .
وقال الخليل وسيبويه : ( أشياء ) اسم جمع ( شيء ) وليس جمعاً ، فهو مثل طَرْفاء وحلفاء فأصله شيْئاء ، فالمّدة في آخره مدّة تأنيث ، فلذلك منع من الصرف ، وادّعى أنّهم صيّروه أشياء بقلب مَكَاني . وحقُّه أن يقال : شيْئَاء بوزن ( فعلاء ) فصار بوزن ( لفعاء ) .
وقوله { إن تبد لكم تسؤكم } صفة { أشياء } ، أي إن تُظهرْ لكم وقد أخفيت عنكم يكن في إظهارها ما يسوءكم ، ولمّا كانت الأشياء المسؤول عنها منها ما إذا ظهر ساء من سأل عنه ومنها ما ليس كذلك ، وكانت قبل إظهارها غير متميّزة كان السؤال عن مجموعها معرّضاً للجواب بما بعضه يسوء ، فلمّا كان هذا البعض غير معيّن للسائلين كان سؤالهم عنها سُؤالاً عن ما إذا ظهر يسوءهُم ، فإنّهم سألوا في موطن واحد أسئلة منها : ما سرّهم جوابه ، وهو سؤال عبد الله بن حذافة عن أبيه فأجيب بالذي يصدّق نسبه ، ومنها ما ساءهم جوابه ، وهو سؤال من سأل أين أبي ، أو أين أنا فقيل له : في النار ، فهذا يسوءه لا محالة . فتبيّن بهذا أنّ قوله : { إن تبد لكم تسؤكم } روعي فيه النهي عن المجموع لكراهية بعض ذلك المجموع .
والمقصود من هذا استئناسهم للإعراض عن نحو هذه المسائل ، وإلاّ فإنّ النهي غير مقيّد بحال ما يسوءهم جوابه ، بدليل قوله بعده { عفا الله عنها } . لأنّ العفو لا يكون إلاّ عن ذنب وبذلك تعلم أنّه لا مفهوم للصفة هنا لتعذّر تمييز ما يسوء عمّا لا يسوء .
وجملة { وإن تسألوا عنها حين ينزّل القرآن تبْدَ لكم } عطف على جملة { لا تسألوا } ، وهي تفيد إباحة السؤال عنها على الجملة لقوله : { وإن تسألوا } فجعلهم مخيّرين في السؤال عن أمثالها ، وأنّ ترك السؤال هو الأوْلى لهم ، فالانتقال إلى الإذن رخصة وتوسعة ، وجاء ب { إنْ } للدلالة على أنّ الأولى ترك السؤال عنها لأنّ الأصل في ( إنْ ) أن تدلّ على أنّ الشرط نادر الوقوع أو مرغوب عن وقوعه .
وقوله : { حين ينزّل القرآن } ظرف يجوز تعلّقه بفعل الشرط وهو { تسألوا } ، ويجوز تعلّقه بفعل الجواب وهو { تُبدَ لكم } ، وهو أظهر إذ الظاهر أنّ حين نزول القرآن لم يجعل وقتاً لإلقاء الأسئلة بل جعل وقتاً للجواب عن الأسئلة . وتقديمه على عامله للاهتمام ، والمعنى أنّهم لا ينتظرون الجواب عمّا يسألون عنه إلاّ بعد نزول القرآن ، لقوله تعالى : { قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب إلى قوله إن أتّبعُ إلاّ ما يوحى إليّ } [ الأنعام : 50 ] فنبّههم الله بهذا على أنّ النبي يتلقّى الوحي من علاّم الغيوب . فمن سأل عن شيء فلينتظر الجواب بعد نزول القرآن ، ومن سأل عند نزول القرآن حصل جوابه عقِب سؤاله . ووقتُ نزول القرآن يعرفه من يحضر منهم مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فإنّ له حالة خاصّة تعتري الرسول صلى الله عليه وسلم يعرفها الناس ، كما ورد في حديث يعلى بن أمية في حكم العمرة . ومما يدلّ لهذا ما وقع في حديث أنس من رواية ابن شهاب في « صحيح مسلم » أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى لهم صلاة الظهر فلما سلّم قام على المنبر فذكر الساعة وذكر أنّ قبلها أموراً عظاماً ثم قال : مَنْ أحبّ أن يسألني عن شيء فليسألني عنه فوالله لا تسألونني عن شيء إلاّ أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا . ثم قال : " لقد عرضت عليَّ الجنة والنار آنفاً في عُرض هذا الحائط فلم أر كاليوم في الخير والشر " الحديث ، فدلّ ذلك على أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ذلك الحينَ في حال نزول وحي عليه . وقد جاء في رواية موسى بن أنس عن أبيه أنس أنّه أنزل عليه حينئذٍ قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء } الآية . فتلك لا محالة ساعة نزول القرآن واتّصال الرسول عليه الصلاة والسلام بعالم الوحي .
وقوله : { عفا الله عنها } يحتمل أنّه تقرير لمضمون قوله : { وإن تسألوا عنها حين ينزّل القرآن تبدَ لكم } ، أي أنّ الله نهاكم عن المسألة وعفا عنكم أن تسألوا حين ينزّل القرآن . وهذا أظهر لعوذ الضمير إلى أقرب مذكور باعتبار تقييده { حين ينزّل القرآن } . ويحتمل أن يكون إخباراً عن عفوه عمّا سلف من إكثار المسائل وإحفاء الرسول صلى الله عليه وسلم فيها لأنّ ذلك لا يناسب ما يجب من توقيره .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم}، يعني إن تبين لكم فلعلكم إن تسألوا عما لم ينزل به قرآنا فينزل به قرآنا مغلظا لا تطيقوه. {وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن}، يعني عن الأشياء حين ينزل بها قرآنا، {تبد لكم} تبين لكم، {عفا الله عنها}: عفا الله عن تلك الأشياء حين لم يوجبها عليكم. {والله غفور حليم}، يعني ذو تجاوز حين لا يعجل بالعقوبة.
قد أخبرنا إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن عامر بن سعد، عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يكن فحرم من أجل مسألته»...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ذكر أن هذه الآية أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب مسائل كان يسألها إياه أقوام، امتحانا له أحيانا، واستهزاء أحيانا، فيقول له بعضهم: من أبي؟ ويقول له بعضهم إذا ضلت ناقته: أين ناقتي؟ فقال لهم تعالى ذكره:"لا تسألوا عن أشياء" من ذلك، كمسألة عبد الله بن حذافة إياه من أبوه، "إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ "يقول: إن أبدينا لكم حقيقة ما تسألون عنه ساءكم إبداؤها وإظهارها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك تظاهرت الأخبار عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:
حدثني محمد بن المثنى، قال: حدثنا أبو عامر وأبو داود، قالا: حدثنا هشام، عن قتادة، عن أنس، قال: سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة، فصعد المنبر ذات يوم، فقال: «لا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إلاّ بَيّنْتُهُ لَكُمْ». قال أنس: فجعلت أنظر يمينا وشمالاً، فأرى كل إنسان لافّا ثوبه يبكي فأنشأ رجل كان إذا لاحى يدعى إلى غير أبيه، فقال: يا رسول الله، من أبي؟ فقال: «أبُوكَ حُذَافَةُ». قال: فأنشأ عمر فقال: رضينا بالله ربّا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً، وأعوذ بالله من سوء الفتن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَمْ أرَ فِي الشّرّ والخَيْرِ كاليَوْم قَطّ، إنّهُ صُوّرَتْ لِيَ الجَنّةُ وَالنّارُ حتى رأيْتُهُما وَرَاءَ الحائِطِ». وكان قتادة يذكر هذا الحديث عند هذه الآية: "لا تَسأَلُوا عَنْ أشْياءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ"
وقال آخرون: نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل مسألة سائل سأله عن شيء في أمر الحجّ.
حدثني محمد بن عليّ بن الحسين بن شقيق، قال سمعت أبي، قال: أخبرنا الحسين بن واقد، عن محمد بن زياد، قال: سمعت أبا هريرة يقول: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أيّهَا النّاسُ، كَتَبَ اللّهُ عَلَيْكُمْ الحَجّ». فقام [عكاشة بن] محصن الأسديّ، فقال: أفي كلّ عام يا رسول الله؟ فقال: «أمَا إنّي لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ، ولَوْ وَجَبَتْ ثُمّ تَرَكْتُمْ لَضَلَلْتُمْ. اسْكُتُوا عَنّى ما سَكَتّ عَنْكُمْ، فإنّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ واخْتِلافِهِمْ على أنْبِيائِهمْ» فأنزل الله تعالى: "يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أشْيَاءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ" إلى آخر الآية.
حدثنا زكريا بن يحيى بن أبان المصري، قال: حدثنا أبو زيد عبد الرحمن بن أبي العمر، قال: حدثنا أبو مطيع معاوية بن يحيى، عن صفوان بن عمرو، قال: ثني سليم بن عامر، قال: سمعت أبا أمامة الباهلي يقول: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فقال: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الحَجّ» فقام رجل من الأعراب، فقال: أفي كل عام؟ قال: فعلا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسكت وأغضب واستغضب. فمكث طويلاً ثم تكلم فقال: مَنِ السّائِلُ؟» فقال الأعرابيّ: أنا ذا، فقال: «وَيْحَكَ ماذَا يُؤْمِنُكَ أنْ أقُولَ نَعَمْ، وَلَوْ قُلْتُ نَعَمُ لَوَجَبَتْ، وَلَوْ وَجَبَتْ لَكَفَرْتُمْ؟ ألا إنّهُ إنّمَا أهْلَكَ الّذِينَ قبْلَكُمْ أئِمّةُ الحَرَجِ، وَاللّهُ لَوْ أنّي أحْلَلْتُ لَكُمْ جَمِيعَ ما فِي الأرْضِ وَحَرّمْتُ عَلَيْكُمْ مِنْها مَوْضِعَ خُفّ لَوَقَعْتُمْ فِيهِ» قال: فأنزل الله تعالى عند ذلك "يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أشْياءَ..." إلى آخر الآية...
نهاهم أن يسألوا عن مثل الذي سألت النصارى من المائدة، فأصبحوا بها كافرين فنهى الله تعالى عن ذلك، وقال: لا تسألوا عن أشياء إن نزل القرآن فيها بتغليظ ساءكم ذلك، ولكن انتظروا فإذا نزل القرآن فإنّكُمْ لا تسألون عن شيء إلا وجدتم تبيانه.
عن ابن عباس "لا تَسْأَلُوا عَنْ أشْياءَ" قال: هي البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، ألا ترى أنه يقول بعد ذلك: ما جعل الله من كذا ولا كذا؟ قال: وأما عكرمة فإنه قال: إنهم كانوا يسألونه عن الآيات فنهوا عن ذلك. ثم قال: "قَدْ سَأَلها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمّ أصْبَحُوا بها كَافِرينَ"...
وأولى الأقوال بالصواب في ذلك قول من قال: نزلت هذه الآية من أجل إكثار السائلين رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل، كمسألة ابن حذافة إياه من أبوه، ومسألة سائله إذ قال: «إنّ اللّهَ فَرَضَ عَلَيْكُمْ الحَجّ»: أفي كلّ عام؟ وما أشبه ذلك من المسائل، لتظاهر الأخبار بذلك عن الصحابة والتابعين وعامة أهل التأويل، وأما القول الذي رواه مجاهد عن ابن عباس، فقول غير بعيد من الصواب، ولكن الأخبار المتظاهرة عن الصحابة والتابعين بخلافه، وكرهنا القول به من أجل ذلك. على أنه غير مستنكر أن تكون المسألة عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحام كانت فيما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عنه من المسائل التي كره الله لهم السؤال عنها، كما كره الله لهم المسألة عن الحجّ، أكلّ عام هو أم عاما واحدا؟ وكما كره لعبد الله بن حذافة مسألته عن أبيه، فنزلت الآية بالنهي عن المسائل لها، فأخبر كلّ مخبر منهم ببعض ما نزلت الآية من أجله وأجل غيره. وهذا القول أولى الأقوال في ذلك عندي بالصحة، لأن مخارج الأخبار بجميع المعاني التي ذُكرت صحاح، فتوجيهها إلى الصواب من وجوهها أوْلى.
" وَإنْ تَسْأَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزّلُ القُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ": يقول تعالى ذكره للذين نهاهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن مسألة رسول الله صلى الله عليه وسلم، عما نهاهم عن مسألتهم إياه عنه، من فرائض لم يفرضها الله عليهم، وتحليل أمور لهم يحللها لهم، وتحريم أشياء لم يحرّمها عليهم قبل نزول القرآن بذلك: أيها المؤمنون السائلون عما سألوا عنه رسولي مما لم أنزل به كتابا ولا وحيا، لا تسألوا عنه، فإنكم إن أظهر ذلك لكم تبيان بوحي وتنزيل ساءكم لأن التنزيل بذلك إذا جاءكم يجيئكم بما فيه امتحانكم واختباركم، إما بإيجاب عمل عليكم، ولزوم فرض لكم، وفي ذلك عليكم مشقة ولزوم مؤنة وكلفة، وإما بتحريم ما لو لم يأتكم بتحريمه وحي كنتم من التقدّم عليه في فسحة وسعة، وإما بتحليل ما تعتقدون تحريمه، وفي ذلك لكم مساءة لنقلكم عما كنتم ترونه حقا إلى ما كنتم ترونه باطلاً، ولكنكم إن سألتم عنها بعد نزول القرآن بها وبعد ابتدائكم شأن أمرها في كتابي إلى رسولي إليكم، بين لكم ما أنزلته إليه من إتيان كتابي وتأويل تنزيلي ووحيي، وذلك نظير الخبر الذي رُويَ عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي:
حدثنا به هناد بن السريّ، قال: حدثنا أبو معاوية، عن داود بن أبي هند، عن مكحول، عن أبي ثعلبة الخشني، قال: «إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها، وحدّ حدودا فلا تعتدوها، وعفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها».
وأما قوله: "عَفا اللّهُ عَنْها" فإنه يعني به: عفا الله لكم عن مسألتكم عن الأشياء التي سألتم عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كره الله لكم مسألتكم إياه عنها، أن يؤاخذكم بها، أو يعاقبكم عليها، إن عرف منها توبتكم وإنابتكم. "وَاللّهُ غَفُورٌ": والله ساتر ذنوب من تاب منها، فتارك أن يصفحه في الاخرة، حَلِيمٌ أن يعاقبه بها، لتغمده التائب منها برحمته وعفوه، عن عقوبته عليها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} يحتمل أن يكون النهي عن السؤال عن أشياء، عن أسئلة كانت منهم لم تكن لهم حاجة إليها، فنهوا عن ذلك إلى أن تقع لهم الحاجة. فعند ذلك يسألون. كأنهم سألوه عن البيان والإيضاح قبل أن يحتاجوا إليه. ألا ترى أنه قال صلى الله عليه وسلم {وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} الآية؟ ويحتمل أن يكون خرج النهي عن السؤال ابتداء على غير تقدم سؤال كان منهم. ولكن نهوا عن السؤال عنها. ثم يحتمل بعد هذا إن كان على ابتداء السؤال كان من أهل النفاق،؛ يسألون سؤال تعنت لا سؤال استرشاد؛ يسألون عن آيات بعد ما ظهرت لهم، وثبتت عندهم الحجج، وعرفوا أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان النهي للمؤمنين فهو ما ذكرنا من سؤال البيان قبل وقوع الحاجة إليه...
{إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} معناه: إن تظهرْ لكم، وهذا يدلّ على أن مُرَادَه فيمن سأل مثل سؤال عبدالله بن حذافة والرجل الذي قال أين أنا، لأن إظهار أحكام الحوادث لا يسوء السائلين، لأنهم إنما يسألون عنها ليعلموا أحكام الله تعالى فيها...
63- قال القرطبي: (قال ابن عون: سألت نافعا عن قوله تعالى: {لاَ تَسْئَلُواْ عَنَ اَشْيَاءَ ان تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} فقال: لم تزل المسائل منذ قط تُكره. روى مسلم عن المغيرة بن شُعبة 829عن رسول صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم قال: (إن الله حرم عليكم عُقوق الأمهات ووأد البنات ومَنعا وهات وكرِه لكم ثلاثا: قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال«. قال كثير من العلماء: المراد بقوله "وكثرة السؤال "التكثير من السؤال في المسائل الفقهية تنطّعا وتكلفا فيما لم ينزل، والأغلوطات وتشقيق المولدات. وقد كان السلف يكرهون ذلك ويرونه من التكليف، ويقولون: إذا نزلت النازلة وفِّقَ المسؤول لها. قال مالك: أدركت أهل هذا البلد وما عندهم علم غير الكتاب والسنة، فإذا نزلت نازلة جمع الأمير لها من حضر من العلماء فما اتفقوا عليه أنفذه، وأنتم تكثرون المسائل وقد كرهها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل المراد: بكثرة المسائل كثرة سؤال الناس الأموال والحوائج إلحاحا واستكثارا؛ وقاله أيضا مالك. وقيل: المراد بكثرة المسائل السؤال عما لا يَعني من أحوال الناس بحيث يؤدي ذلك إلى كشف عوراتهم والاطلاع على مساوئهم...
أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :
قوله تعالى: {يَا أَيِهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عنْ أَشْيَاءَ إنْ تُبْدَ لَكُم تَسُؤْكُم}: استدل به قوم على تحريم السؤال عن أحكام الحوادث قبل وقوعها، وهذا منه غلط، فإنه تفقه في الدين، وإنما الآية تنهى عن السؤال عن أشياء تتعلق بأسرار إذا كشف لهم عنها ساءهم ذلك، وربما أداهم إلى الكفر به دفعاً للخجل،...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
الجملة الشرطية والمعطوفة عليها أعني قوله: {إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} صفة للأشياء. والمعنى: لا تكثروا مسألة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تسألوه عن تكاليف شاقة عليكم، إن أفتاكم بها وكلفكم إياها تغمكم وتشق عليكم وتندموا على السؤال عنها...
{وَإِن تَسْألُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القرءان}، وإن تسألوا عن هذه التكاليف الصعبة في زمان الوحي وهو ما دام الرسول بين أظهركم يوحى إليه، تبد لكم. تلك التكاليف الصعبة التي تسؤكم، وتؤمروا بتحملها، فتعرّضون أنفسكم لغضب الله بالتفريط فيها {عَفَا الله عَنْهَا} عفا الله عما سلف، من مسألتكم، فلا تعودوا إلى مثلها {والله غَفُورٌ حَلِيمٌ} لا يعاجلكم فيما يفرط منكم بعقوبته.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وروي أنه لما بين الله تعالى في هذه الآيات أمر الكعبة والهدي والقلائد، وأعلم أن حرمتها هو الذي جعلها إذ هي أمور نافعة قديمة من لدن عهد إبراهيم عليه السلام، ذهب ناس من العرب إلى السؤال عن سائر أحكام الجاهلية ليروا هل تلحق بتلك أم لا، إذ كانوا قد اعتقدوا الجميع سنة لا يفرقون بين ما هو من عند الله وما هو من تلقاء الشيطان والمغيرين لدين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام كعمرو بن لحي وغيره، وفي عمرو بن لحي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيته يجر قصبه في النار وكان أول من سيب السوائب.
قال القاضي أبو محمد: والظاهر من الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألحت عليه الأعراب والجهال بأنواع من السؤالات حسبما ذكرناه، فزجر الله تعالى عن ذلك بهذه الآية... يحتمل قوله تعالى: {وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم} أن يكون في معنى الوعيد، كأنه قال لا تسألوا، وإن سألتم لقيتم عبء ذلك وصعوبته لأنكم تكلفون وتستعجلون علم ما يسوءكم كالذي قيل له إنه في النار.
{عفا الله عنها}: تركها ولم يعرف بها، وهذه اللفظة التي هي {عفا}، تؤيد أن الأشياء التي هي في تكليفات الشرع،وينظر إلى ذلك قول النبي عليه السلام (إن الله قد عفا لكم عن صدقة الخيل)...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}: هَذَا الْمَسَاقُ يُعَضِّدُ من هَذِهِ الْأَسْبَابِ رِوَايَة مَنْ رَوَى أَنَّ سَبَبَهَا سُؤَالُ ذَلِكَ الرَّجُلِ: مَنْ أَبِي؟ لِأَنَّهُ لَوْ كَشَفَ لَهُ عَنْ سِرِّ أُمِّهِ رُبَّمَا كَانَتْ قَدْ بَغَتْ عَلَيْهِ فَيَلْحَقُ الْعَارُ بِهِمْ. وَلِذَلِكَ رُوِيَ أَنَّ أُمَّ السَّائِلِ قَالَتْ لَهُ: يَا بُنَيَّ؛ أَرَأَيْت أُمَّك لَوْ قَارَفْت بَعْضَ مَا كَانَ يُقَارِفُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، أَكُنْت تَفْضَحُهَا؟ فَكَانَ السَّتْرُ أَفْضَلَ.
وَيُعَضِّدُهُ أَيْضًا رِوَايَةُ مَنْ رَوَى عَنْ تَفْسِيرِ فَرْضِ الْحَجِّ؛ فَإِنَّ تَكْرَارَهُ مُسْتَثْنًى لِعَظِيمِ الْمَشَقَّةِ فِيهِ، وَعَظِيمِ الِاسْتِطَاعَةِ عَلَيْهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: (إنَّ اللَّهَ أَمَرَكُمْ بِأَشْيَاءَ فَامْتَثِلُوهَا، وَنَهَاكُمْ عَنْ أَشْيَاءَ فَاجْتَنِبُوهَا، وَسَكَتَ لَكُمْ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً مِنْهُ، فَلَا تَسْأَلُوا عَنْهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ}: وَهَذَا يَشْهَدُ لِكَوْنِهَا من بَابِ التَّكْلِيفِ الَّذِي لَا يُبَيِّنُهُ إلَّا نُزُولُ الْقُرْآنِ، وَجَعَلَ نُزُولَ الْقُرْآنِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْجَوَابِ؛ إذْ لَا شَرْعَ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُحَقِّقُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا}؛ أَيْ أَسْقَطَهَا، وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَاَلَّذِي يَسْقُطُ لِعَدَمِ بَيَانِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِيهِ وَسُكُوتِهِ عَنْهُ هُوَ بَابُ التَّكْلِيفِ فَإِنَّهُ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ فِيهِ، فَيُحَرِّمُ عَالِمٌ، وَيُحِلُّ آخَرُ، وَيُوجِبُ مُجْتَهِدٌ. وَيُسْقِطُ آخَرُ؛ وَاخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ رَحْمَةٌ لِلْخَلْقِ، وَفُسْحَةٌ فِي الْحَقِّ، وَطَرِيقٌ مَهْيَعٌ إلَى الرِّفْقِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اعْتَقَدَ قَوْمٌ من الْغَافِلِينَ تَحْرِيمَ أَسْئِلَةِ النَّوَازِلِ حَتَّى تَقَعَ تَعَلُّقًا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ جَهْلٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قَدْ صَرَّحَتْ بِأَنَّ السُّؤَالَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ إنَّمَا كَانَ فِيمَا تَقَعُ الْمَسَاءَةُ فِي جَوَابِهِ، وَلَا مَسَاءَةَ فِي جَوَابِ نَوَازِلِ الْوَقْتِ، وَقَدْ كَانَ مَنْ سَلَفَ من السَّلَفِ الصَّالِحِ يَكْرَهُهَا أَيْضًا، وَيَقُولُ فِيمَا يَسْأَلُ عَنْهُ من ذَلِكَ: دَعُوهُ دَعُوهُ حَتَّى يَقَعَ، يُرِيدُ: فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حِينَئِذٍ يُعِينُ عَلَى جَوَابِهِ، وَيَفْتَحُ إلَى الصَّوَابِ مَا اسْتَبْهَمَ من بَابِهِ؛ وَتَعَاطِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ غُلُوٌّ فِي الْقَصْدِ، وَسَرَفٌ من الْمُجْتَهِدِ؛ وَقَدْ وَقَفَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى رَبِيعَةِ الرَّأْيِ وَهُوَ يُفَرِّعُ الْمَسَائِلَ، فَقَالَ: مَا الْعِيُّ عِنْدَنَا إلَّا مَا هَذَا فِيهِ مُنْذُ الْيَوْمِ. وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْتَنِيَ بِبَسْطِ الْأَدِلَّةِ، وَإِيضَاحِ سُبُلِ النَّظَرِ، وَتَحْصِيلِ مُقَدَّمَاتِ الِاجْتِهَادِ، وَإِعْدَادِ الْآلَةِ الْمُعِينَةِ عَلَى الِاسْتِمْدَادِ؛ فَإِذَا عَرَضَتْ النَّازِلَةُ أَتَيْت من بَابِهَا، وَنُشِدَتْ فِي مَظَانِّهَا، وَاَللَّهُ يَفْتَحُ فِي صَوَابِهَا.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: وَهِمْ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي ثَلَاثَةِ فُصُولٍ:
الْأَوَّلُ: قَالَ: إنَّ قَوْلَهُ: {لَا تَسْأَلُوا...} إلَى قَوْلِهِ: {تَسُؤْكُمْ} سُؤَالٌ عَمَّا لَا يَعْنِي، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ هُوَ سُؤَالٌ عَمَّا يَضُرُّ وَيَسُوءُ، فَفَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَنْ شَيْءٍ يَضُرُّ. وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَمَّا لَا يَعْنِي. وَهَذَا بَيِّنٌ.
الثَّانِي: قَالَ: قَوْلُهُ: {وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} يَعْنِي: وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّهُ نَهَاهُمْ فَكَيْفَ يَنْهَاهُمْ وَيَقُولُ: إنَّهُ يُبَيِّنُ لَهُمْ إنْ سَأَلُوهُ عَنْهَا. وَهَذَا اسْتِبْعَادٌ مَحْضٌ عَارٍ عَنْ الْبُرْهَانِ؛ وَأَيُّ فَرْقٍ أَوْ أَيُّ اسْتِحَالَةٍ فِي أَنْ يُقَالَ: لَا تَسْأَلْ، فَإِنَّك إنْ سَأَلْت يُبَيِّنُ لَك مَا يَسُوءُك، فَالسُّكُوتُ عَنْهُ أَوْلَى بِك، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ عَفَا عَنْهَا لَك.
الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ من قَبْلِكُمْ}:
قَالَ: فَهَذَا السُّؤَالُ لِغَيْرِ الشَّيْءِ، وَالْأَوَّلُ وَالثَّانِي هُوَ سُؤَالٌ عَنْ غَيْرِ الشَّيْءِ، وَهَذَا كَلَامٌ فَاتِرٌ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ضِدُّهُ حِينَ قَالَ: إنَّ السُّؤَالَ الثَّانِيَ هُوَ سُؤَالٌ عَنْ الشَّيْءِ، وَفِيمَا قَدَّمْنَاهُ بَلَاغٌ فِي الْآيَةِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ، وَبِهِ التَّوْفِيقُ.
{يأيها الذين ءامنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} في الآية مسائل: المسألة الأولى: في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه: الأول: أنه تعالى لما قال: {ما على الرسول إلا البلاغ} صار التقدير كأنه قال، ما بلغه الرسول إليكم فخذوه، وكونوا منقادين له، وما لم يبلغه الرسول إليك فلا تسألوا عنه، ولا تخوضوا فيه، فإنكم إن خضتم فيما لا تكليف فيه عليكم فربما جاءكم بسبب ذلك الخوض الفاسد من التكاليف ما يثقل عليكم ويشق عليكم.
الثاني: أنه تعالى لما قال: {ما على الرسول إلا البلاغ} وهذا ادعاء منه للرسالة، ثم إن الكفار كانوا يطالبونه بعد ظهور المعجزات، بمعجزات أخر على سبيل التعنت كما قال تعالى حاكيا عنهم {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا} إلى قوله {قل سبحان ربى هل كنت إلا بشرا رسولا} والمعنى إني رسول أمرت بتبليغ الرسالة والشرائع والأحكام إليكم، والله تعالى قد أقام الدلالة على صحة دعواي في الرسالة بإظهار أنواع كثيرة من المعجزات، فبعد ذلك طلب الزيادة من باب التحكم وذلك ليس في وسعي ولعل إظهارها يوجب ما يسوءكم مثل أنها لو ظهرت فكل من خالف بعد ذلك استوجب العقاب في الدنيا، ثم إن المسلمين لما سمعوا الكفار يطالبون الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه المعجزات، وقع في قلوبهم ميل إلى ظهورها فعرفوا في هذه الآية أنهم لا ينبغي أن يطلبوا ذلك فربما كان ظهورها يوجب ما يسوءهم.
الوجه الثالث: أن هذا متصل بقوله: {والله يعلم ما تبدون وما تكتمون} فاتركوا الأمور على ظواهرها ولا تسألوا عن أحوال مخفية إن تبد لكم تسؤكم... واعلم أن السؤال عن الأشياء ربما يؤدي إلى ظهور أحوال مكتومة يكره ظهورها، وربما ترتبت عليه تكاليف شاقة صعبة فالأولى بالعاقل أن يسكت عما لا تكليف عليه فيه...
ثم قال تعالى: {عفا الله عنها} وفيه وجوه: الأول: عفا الله عما سلف من مسائلكم وإغضابكم للرسول بسببها، فلا تعودوا إلى مثلها. الثاني: أنه تعالى ذكر أن تلك الأشياء التي سألوا عنها إن أبديت لهم ساءتهم، فقال {عفا الله عنها} يعني عما ظهر عند تلك السؤالات مما يسؤكم ويثقل ويشق في التكليف عليكم. الثالث: في الآية تقديم وتأخير، والتقدير: لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها في الآية {إن تبد لكم تسؤكم} وهذا ضعيف لأن الكلام إذا استقام من غير تغيير النظم لم يجز المصير إلى التقديم والتأخير، وعلى هذا الوجه فقوله {عفا الله عنها} أي أمسك عنها وكف عن ذكرها ولم يكلف فيها بشيء، وهذا كقوله عليه الصلاة والسلام: «عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق» أي خففت عنكم بإسقاطها. ثم قال تعالى: {والله غفور حليم} وهذه الآية تدل على أن المراد من قوله عفا الله عنها ما ذكرناه في الوجه الأول.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
الرابعة: قال ابن عبد البر: السؤال اليوم لا يخاف منه أن ينزل تحريم ولا تحليل من أجله، فمن سأل مستفهما راغبا في العلم ونفي الجهل عن نفسه، باحثا عن معنى يجب الوقوف في الديانة عليه، فلا بأس به فشفاء العي 835 السؤال، ومن سأل متعنتا غير متفقه ولا متعلم فهو الذي لا يحل قليل سؤاله ولا كثيره...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
إن مناسبة هاتين الآيتين لآية تبليغ الرسول للرسالة مناسبة خاصة قريبة، ولهما موقع من مجموع السورة ينبغي تذكره والتأمل فيه. ذلك أن هذه السورة آخر ما نزل من السور، وقد صرح الله تعالى في أوائلها بإكمال الدين، وإتمام النعمة به على العالمين، فناسب أن يصرح في أواخرها بأن الرسول قد أدى ما عليه من وظيفة البلاغ، وأنه ينبغي للمؤمنين أن لا يكثروا عليه من السؤال، لئلا يكون ذلك سببا لكثرة التكاليف التي يشق على الأمة احتمالها، فتكون العاقبة أن يسرع إليها الفسوق عن أمر ربها. وهو معصوم من كتمان شيء مما أمره الله بتبليغه.
فإن قيل: إذا كان الأمر كذلك فلم طال الفصل بين هذا النهي وبين الخبر بإكمال الدين، ولم يتصل به في النظم الكريم؟ قلت: تلك سنة القرآن في تفريق مسائل الموضوع الواحد من أخبار وأحكام وغيرهما لما بيناه مرارا من حكمة ذلك، وهاك أقوى ما ورد في أسباب نزول الآيتين:
روى أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وغيرهم عن أنس بن مالك قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط وقال فيها «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتكم كثيرا» قال فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم لهم خنين 296 فقال رجل: من أبي؟ قال: «فلان» فنزلت هذه الآية: {لا تسألوا عن أشياء} 297 قال الحافظ ابن كثير وقال ابن جرير: حدثنا بشر حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة في قوله {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسوءكم}، قال فحدثنا أنس بن مالك حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه حتى أحفوه بالمسألة فخرج عليهم ذات يوم فصعد المنبر فقال: «لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته لكم» فأشفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون بين يدي أمر قد حضر، فجعلت لا ألتفت لا يمينا ولا شمالا إلا وجدت كل رجل لافا رأسه في ثوبه يبكي، فأنشأ رجل كان يلاحى فيدعى إلى غير أبيه فقال: يا نبي الله من أبي؟ قال: «أبوك حذافة» قال ثم قام عمر – أو قال فأنشأ عمر – فقال رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا عائذا بالله – أو قال أعوذ بالله – من شر الفتن. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم أر في الخير والشر كاليوم قط صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط» أخرجاه (أي الشيخان) من طريق سعيد، ورواه معمر عن الزهري عن أنس بنحو ذلك أو قريبا منه. قال الزهري فقالت أم عبد الله بن حذافة: ما رأيت ولدا أعق منك قالت: أكنت تأمن أن أمك قد قارفت ما قارف أهل الجاهلية فتفضحها على رؤوس الناس؟ فقال والله لو ألحقني بعبد أسود للحقته.
«وقال ابن جرير أيضا: حدثنا الحرث حدثنا عبد العزيز حدثنا قيس عن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان محمار وجهه حتى جلس على المنبر فقام إليه رجل فقال: أين أبي؟ قال: «في النار – فقام آخر فقال: من أبي؟ قال – أبوك حذافة» فقام عمر بن الخطاب فقال: رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا وبالقرآن إماما، إنا رسول الله حديثو عهد بجاهلية وشرك والله أعلم من آباؤنا. قال فسكن غضبه ونزلت هذه الآية {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم}. إسناده جيد. «وقد ذكر هذه القصة مرسلة غير واحد من السلف منهم أسباط عن السدي – فذكر ابن كثير عنه مثل حديث أبي هريرة في جملته وزاد في آخر كلام عمر – فاعف عنا عفا الله عنك، فلم يزل به حتى رضي. فيومئذ قال: «الولد للفراش وللعاهر الحجر» ثم قال: قال البخاري: حدثنا الفضل بن سهل حدثنا أبو النضر حدثنا أبو خيثمة حدثنا أبو الجويرية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء فيقول الرجل: من أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته: أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} حتى فرغ من الآية كلها. تفرد به البخاري.
«وقال الإمام أحمد: حدثنا منصور بن وردان الأسدي حدثنا علي بن عبد الأعلى عن أبيه عن أبي البختري وهو سعيد بن فيروز عن علي قال لما نزلت هذه الآية {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} [أل عمران: 97] قالوا: يا رسول الله! أفي كل عام؟ فسكت. فقالوا: أفي كل عام؟ فسكت. قال ثم قالوا: أفي كل عام؟ فقال: «لا ولو قلت نعم لوجبت – ولو وجبت لما استطعتم» فأنزل الله {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم}. وكذا رواه الترمذي وابن ماجه من طريق منصور بن وردان به. وقال الترمذي: غريب من هذا الوجه، وسمعت البخاري يقول أبو البختري لم يدرك عليا اه».
أقول منصور بن وردان ثقة كما قال ابن حبان وغيره. وأبو البختري هو سعيد ابن فيروز التابعي ثقة فيه تشيع روى عنه الجماعة كلهم، ولكن مراسيله ضعيفة.
وقد عزا السيوطي في الدر المنثور حديث علي هذا إلى أحمد والترمذي «وحسنه» وابن ماجه وابن أبي حاتم والحاكم وذكر نحوه عن ابن عباس عازيا إياه إلى عبد بن حميد وابن المنذر والحاكم – قال: «وصححه» – والبيهقي في سننه. وفيه أن السائل الأقرع بن حابس. وذكر مثله أيضا عن الحسن من تخريج عبد بن حميد وفيه «ذروني ما وذرتكم» الخ وهذه الزيادة من أحاديث الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة ولفظ البخاري «دعوني ما تركتكم» – ولفظ مسلم: دعوني ما تركتكم – فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم.
قال القسطلاني في شرحه له تبعا للحافظ ابن حجر: وسبب هذا الحديث على ما ذكره مسلم [أقول وكذا النسائي] من رواية محمد بن زياد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا» فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم»- ثم قال – «ذروني ما تركتكم» الحديث وأخرجه الدارقطني مختصرا وزاد فيه فنزلت {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء أن تبد لكم تسؤكم} اه وأقول: محمد بن زياد هذا ثقة روى عنه الجماعة كلهم.
ونص سنن النسائي: عن أبي هريرة قال خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال: «إن الله عز وجل قد فرض عليكم الحج» فقال رجل: في كل عام؟ فسكت عنه حتى أعاده ثلاثا فقال: «لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت ما قمتم بها. ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم؛ فإذا أمرتكم بالشيء (وفي نسخة بشيء) فخذوا به ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» وروي عن ابن عباس مسألة وجوب الحج وأن الأقرع بن حابس قال: كل عام يا رسول الله؟ فسكت فقال: «لو قلت نعم لوجبت ثم إذا لا تسمعون ولا تطيعون ولكنه حجة واحدة» وفي فتح الباري أن ابن عبد البر نقل عن رواية مسلم أن السؤال عن الحج كان يوم خطب صلى الله عليه وسلم وقال: «لا يسألني أحد عن شيء إلا أخبرته».
وقال ابن جرير: حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، قال حدثنا عتاب بن بشير عن خصيف عن مجاهد عن ابن عباس (لا تسألوا عن أشياء) قال هي البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي، ألا ترى أنه يقول بعد ذلك: ما جعل الله من كذا ولا كذا. قال وأما عكرمة فإنه قال إنهم كانوا يسألونه عن الآيات فنهوا عن ذلك ثم قال (قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين) قال فقلت قد حدثني مجاهد بخلاف هذا عن ابن عباس فما لك تقول هذا؟ فقال: هيه.
ثم روى ابن جرير مثل قول مجاهد عن سعيد بن جبير. ثم قال: وأولي الأقوال بالصواب في ذلك قول من قال: نزلت هذه الآية من أجل إكثار السائلين رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل، كمسألة ابن حذافة إياه من أبوه، ومسألة سائله إذ قال «إن الله فرض عليكم الحج» أفي كل عام؟ وما أشبه ذلك من المسائل، لتظاهر الأخبار بذلك عن الصحابة والتابعين وعامة أهل التأويل. وأما القول الذي رواه مجاهد عن ابن عباس فغير بعيد عن الصواب. ولكن الأخبار المتظاهرة عن الصحابة والتابعين بخلافه. ذكر هنا القول به من أجل ذلك. على أنه غير مستنكر أن تكون المسألة عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي كانت فيما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عنه من المسائل التي كره الله لهم السؤال عنها الخ ما قاله، وفيه أن تلك الأخبار صحاح فوجب ترجيحها. يشير إلى ضعف سند رواية مجاهد لأن خصيف بن عبد الرحمن راويها عنه قد ضعفه الإمام أحمد وقال مرة: ليس بقوي. وقال أبو حاتم: تكلم في سوء حفظه. ولكن قال ابن معين فيه مرة صالح ومرة ثقة.
والطريقة المتبعة في الجمع بين أمثال هذه الأحاديث: أن يقال إن النهي في الآية يشمل كل ما ورد في سبب نزولها وكل ما هو في معناه، وليس كل ما روي في أسباب النزول كان سببا حقيقيا، بل كانوا يقولون في كل ما يدخل في معنى الآية ويشمله عمومها: إنها نزلت فيه، وكثيرا ما ينقلون كلام الرواة بمعناه فيجيء منطوقه متعارضا، وقد بينا هذه المسألة مرارا. وأبعد ما قيل في أسباب نزول هذه الآية أن بعضهم كان يسأل النبي عن الشيء امتحانا أو استهزاء، وهذا لا يصدر إلا من كافر صريح أو منافق، والخطاب في الآية للمؤمنين فلا يمكن أن يكون نهيا لهم عن سؤال الامتحان أو الاستهزاء، وإنما يجوز أن يكون في الآية تعريض بالكافرين والمنافقين.
وفي بعض روايات حديث أنس بن مالك: إن الناس سألوا نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة الخ الحديث المتقدم. وفي حديث لأبي موسى الأشعري في الصحيحين بمعناه «فلما أكثروا عليه المسألة غضب وقال: سلوني» فبعض العلماء يرى أن النهي عن السؤال في الآية لهذا الإحفاء والإغضاب الذي آذوا به الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن ما شرط في النهي وما علل به ينافي ذلك.
والقول الجامع للروايات والمتبادر من اللغة في معنى الآية ما يأتي.
{يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} (أشياء) اسم جمع أو جمع لكلمة (شيء) وهي أعم الألفاظ مطلقا أو الألفاظ الدالة على الموجود، فتشمل السؤال عن الأحكام الشرعية، والعقائد والأسرار الخفية، والآيات الكونية إذا تحقق فيما ذكر معنى الجملتين الشرطيتين، والمقصود أولا وبالذات النهي عن سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم عن أشياء من أمور الدين ودقائق التكاليف، ويليه السؤال عن الأمور الغيبية أو الأسرار الخفية المتعلقة بالأعراض وغير ذلك من الأشياء التي يحتمل أن يكون إظهارها سببا للمساءة، إما بشدة التكاليف وكثرتها، وإما بظهور حقائق تفضح أهلها. ولكن حذف مفعول «تسألوا» يدل على العموم، أي ولا تسألوا غير الرسول عن أشياء يحتمل أن يكون إبداؤها سببا لمساءتكم، فهي تتضمن النهي عن الفضول وما لا يعني المؤمن.
ومن المقرر في قوانين العربية أن شرط «إن» مما لا يقطع بوقوعه. والجزاء تابع للشرط في الوقوع وعدمه، فكان التعبير بقوله «إن تبد لكم تسؤكم» دون «إذا أبديت لكم تسؤكم» دالا على أن احتمال إبدائها وكونه يسوء كاف في وجوب الانتهاء عن السؤال عنها.
وبهذا يسقط قول من يقول إن أمثلة المسائل المنهي عنها الواردة في أسباب النزول مما لا يمكن العلم بكون إبدائها يسوء السائلين عنها، بل يحتمل عندهم أن يكون مما يسر، وقد كان جواب من سأل عن أبيه سارا له. وكذلك من سأل عن الحج، إذ كان جوابه التخفيف عنه وعن الأمة ببيان كون الحج يجب على كل مستطيع مرة واحدة لا في كل عام. ويمكن أن يقال مثل هذا في كل سائل عن أمثال هذه المسائل فلا يظهر تعليل النهي بهذا الشرط. كل هذا يسقط بما ذكرنا من دلالة الجملة الشرطية المصدرة بإن على احتمال وقوع شرطها لا على القطع بوقوعه.
ويدل على هذا الذي قررناه قول النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي سأله عن الحج «ويحك ماذا يؤمنك أن أقول نعم؟ ولو قلت نعم لوجبت» الخ ما تقدم، وفي رواية لابن جرير «ولو وجبت لكفرتم، ألا إنه إنما أهلك الذين قبلكم أئمة الحرج» فهو صريح في كون احتمال قوله «نعم» كان كافيا في وجوب ترك ذلك السؤال. ويدل عليه أيضا في سؤال عبد الله بن حذافة عن أبيه قول أمه له: ما رأيت ولدا أعق منك، أتأمن أن تكون أمك قارفت ما قارف أهل الجاهلية فتفضحها على رؤوس الناس؟ وسيأتي رأينا في جوابه صلى الله عليه وسلم لابن حذافة.
{وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم} أي وإن تسألوا عن جنس تلك الأشياء التي من شأنها أن يكون إبداؤها مما يسوءكم حين ينزل القرآن في شأنها أو حكمها لأجل فهم ما نزل إليكم فإن الله يبديه لكم على لسان رسوله...
أقول: أما حديث «ذروني ما تركتكم» وفي رواية بلفظ «دعوني» فهو في الصحيحين. وسببه السؤال عن الحج كما تقدم. وأما حديث أبي ثعلبة فقد عزاه الحافظ ابن كثير إلى الصحيح أيضا ولم يسنده ولا أشار إلى من خرجه. وهو في سنن الدارقطني. وأورده صاحب مشكاة المصابيح عنه في الفصل الثاني من كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة قال: وعن أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم حرمات فلا تنتهكوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها». ورويناه في الأربعين النووية عنه بلفظ «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها» قال النووي: حديث حسن رواه الدارقطني وغيره.
وثم وجه ثان في معنى الجملة وهو أنه يقول: إن تسألوا عن تلك الأشياء في زمن نزول القرآن وعهد التشريع يظهرها الله لكم – إن كانت اعتقادية ببيان ما يجب أن يعلم فيها، وإن كانت عملية ببيان حكمها، لأن لكل شيء حكما يليق به علم الله وحكمته، والله تعالى يبين لعباده بنص الخطاب ما لا بد لهم منه لصلاح أمري معادهم ومعاشهم – وبفحوى الخطاب أو الإشارة ما يفتح لهم باب الاجتهاد في كل ما له علاقة بأمور مصالحهم، فيعمل كل فرد أو هيئة حاكمة منهم بما ظهر أنه الحق والمصلحة، وينتهي عما يظهر له أنه الباطل والمفسدة، فيكون الوازع للفرد في المسائل الشخصية من نفسه بحسب درجته في العلم والفضيلة، وللمجموع في الأحكام والسياسة من أنفسهم أيضا، لأنه يتقرر بتشاور أولي الأمر منهم، وفي ذلك منتهى السعة واليسر، وإذا كان الأمر كذلك فالواجب أن يترك أمر التشريع إليه تعالى لأنه أعلم بمصالح العباد من أنفسهم، فلا تسألوا عن أشياء إن أبديت لكم أحكامها تسوؤكم وتحرجكم، ومتى سألتم عنها في عهد التشريع لا بد أن تجابوا وتبين لكم، ولكن هذا البيان قد يسد في وجوهكم باب الاجتهاد الذي فوضه الله إليكم، ويقيدكم بقيود أنتم في غنى عنها [وسيأتي تفصيل هذا المبحث قريبا عقب تفسير الآيات].
فحاصل هذا الوجه أن السؤال عن تلك الأشياء في زمن نزول القرآن يقتضي إبداءها لكم، وإبداؤها يقتضي مساءتكم، فيجب ترك السؤال عنها البتة.
وحاصل الوجه الأول تحريم السؤال عن الأشياء التي من شأن إبدائها أن يسوء السائلين إلا في حالة واحدة وهي أن يكون قد نزل في شأنها شيء من القرآن فيه إجمال وأردتم السؤال عن بيانه ليظهر لكم ظهورا لا مراء فيه كما وقع في مسألة تحريم الخمر بعد نزول آية البقرة (تقدم بيانه بالتفصيل) فعلى هذا تكون الجملة الشرطية الثانية من قبيل الاستثناء من عموم النهي. وإنما يدل هذا على جواز السؤال عن تلك الأشياء بشرطه لا على وجوبه، فالسؤال عما ذكر غير مطلوب بإطلاق.
وكل من هذين الوجهين ظاهر في السؤال عن الأشياء التي تقتضي أجوبتها تشريعا جديدا وأحكاما تزيد في مشقة التكاليف. ولا يظهر البتة في سؤال الآيات الكونية لما يعارض ذلك من النصوص الدالة على عدم إجابة مقترحي الآيات لعنادهم ومشاغبتهم وكون الإجابة تقتضي هلاكهم إذا لم يؤمنوا بها، كما هي سنة الله فيمن قبلهم (فإن قيل) إنما هذا الوعد للمؤمنين، وإنما كانت تلك الاقتراحات من الكافرين (قلنا) لو أن المؤمنين فهموا من الآية أنهم يجابون إلى ما يقترحون من الآيات لوجد كثير منهم يقترح ذلك لما للنفوس من الشوق إلى رؤية الآيات. وأما السؤال عن الأمور الواقعة التي تقتضي أجوبتها أخبارا عن أسرار خفية وأمور غيبية، فلا يظهر فيه كل من الجوابين مثل ظهوره في طلب الأحكام، ولا سيما الأشياء الشخصية كسؤال بعضهم عن أبيه، فإذا صح أنه مراد من الآية فوجهه – والله أعلم – أن زمن نزول القرآن هو زمن بيان المغيبات، وإظهارها للرسول عند الحاجة إلى معرفتها، ومنه وقت السؤال عنها، فإنه إن سئل عنها يخبره الله بها مزيدا في إثبات نبوته ورسالته، كما أخبره بالجواب عن الروح وعن أصحاب الكهف وذي القرنين حين سأله اليهود عنها. وعندي أن جوابه صلى الله عليه وآله وسلم لمن سأله عن أبيه جواب شرعي لا غيبي، بدليل قوله بتلك المناسبة «الولد للفراش» فكأنه قال له: أبوك الشرعي من ولدت على فراشه وهو حذافة بن قيس. وهذا من أسلوب الحكيم المتضمن لتعليمهم ما ينفعهم من السؤال، فهو من قبيل ما ورد في تفسير {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} [البقرة: 189] وقد تقدم في تفسير سورة البقرة (ج2).
وهذه الآية تدل على عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة أو على أنه لا يقع – وقد غفل جمهور الأصوليين عن الاستدلال بها – وبيان ذلك أن ما يسأل عنه إما أن يكون مما يطلب العلم به كالعقائد والأخبار، وإما يكون مما يطلب العمل به وهو الأحكام. وتأخير البيان – دع تركه وعدمه – يقتضي الإقرار على الاعتقاد الباطل، أو العمل بغير الوجه المراد للشارع. ولا يدخل في هذا ولا ذاك السؤال عن الأمور الشخصية كسؤال من سأل عن ناقته، ولذلك جعلنا هذا النوع من السؤال غاية في خفاء دخوله في عموم (وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم) فإن كان داخلا فيها فحكمته – والله أعلم – أن عدم إبداء الجواب للسائل المؤمن ربما كان مشككا في رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم. وذهب أبو السعود مذهبا غريبا في الآية وتعليل إبداء الأشياء المسؤول عنها بما يوجب المساءة في كل من نوعيها فقال: والمراد بها ما يشق عليهم ويغمهم من التكاليف الصعبة التي لا يطيقونها، والأسرار الخفية التي يفتضحون بظهورها، ونحو ذلك مما لا خير فيه، فكما أن السؤال عن الأمور الواقعة مستتبع لإبدائها، كذلك السؤال عن التكاليف مستتبع لإيجابها عليهم بطريق التشديد لإساءتهم الأدب، واجترائهم على المسألة والمراجعة، وتجاوزهم عما يليق بشأنهم من الاستسلام لأمر الله عز وجل، من غير بحث فيه ولا تعرض لكيفيته وكميته. اه.
ثم أورد على ما قرره – بعد أن استشهد عليه بما ورد في سبب نزول الآية – ثلاثة إيرادات وأجاب عنها فقال:
(إن قلت) تلك الأشياء غير موجبة للمساءة البتة، بل هي محتملة لإيجاب المسرة أيضا، لأن إيجابها للأولى إن كان من حيث وجودها فهي من حيث عدمها موجبة للأخرى قطعا، وليست إحدى الحيثيتين محققة عند السائل، وإنما غرضه من السؤال ظهورها كيف كانت، بل ظهورها بحيثية إيجابها للمساءة؟
(قلت) لتحقيق المنهي عنه كما ستعرفه مع ما فيه من تأكيد النهي وتشديده، لأن تلك الحيثية هي الموجبة للانتهاء والانزجار لا حيثية إيجابها للمسرة، ولا حيثية ترددها بين الإيجابيين.
(إن قيل) الشرطية الثانية ناطقة بأن السؤال عن تلك الأشياء الموجبة للمساءة مستلزم لإبدائها البتة كما مر، فلم تخلف الإبداء عن السؤال في مسألة الحج حيث لم يفرض في كل عام؟
(قلنا) لوقوع السؤال قبل ورود النهي، وما ذكر في الشرطية إنما هو السؤال الواقع بعد وروده، إذ هو الموجب للتغليظ والتشديد، ولا تخلف فيه.
(إن قيل) ما ذكرته إنما يتمشى فيما إذا كان السؤال عن الأمور المترددة بين الوقوع وعدمه كما ذكر من التكاليف الشاقة. وأما إذا كان عن الأمور الواقعة قبله فلا يكاد يتمشى، لأن ما يتعلق به الإبداء هو الذي وقع في نفس الأمر ولا مرد له، سواء كان السؤال قبل النهي أو بعده، وقد يكون الواقع ما يوجب المسرة كما في مسألة عبد الله بن حذافة، فيكون هو الذي يتعلق به الإبداء لا غيره، فيتعين التخلف حتما.
(قلنا) لا احتمال للتخلف فضلا عن التعين، فإن المنهي عنه في الحقيقة إنما هو السؤال عن الأشياء الموجبة للمساءة الواقعة في نفس الأمر قبل السؤال، كسؤال من قال: أين أبي؟ لا عما يعمها وغيرها مما ليس بواقع لكنه محتمل للوقوع عند المكلفين حتى يلزم التخلف في صورة عدم الوقوع. اه.
وحاصل ما ذهب إليه أن المراد من الآية نهي المؤمنين عن السؤال عما يعلمون أن الجواب عنه يسوءهم من الأخبار والأحكام دون ما يعلمون أنه يسرهم أو يكون محتملا للمسرة والمساءة – وهذا النوع من السؤال قلما يقع من أحد – وأن من سأل عن شيء مما يتعلق بالأحكام في زمن نزول القرآن فإن الجواب عنه لا يكون إلا بالتشديد، عقوبةً له ولجميع الأمة على إساءة أدبه. وإن هذا المذهب بعيد عن العقل والنقل، غير منطبق على عموم الرحمة ويسر الشرع، وقد غفل قائله عفا الله عنه عند كتابته عن ذلك فلم يفكر إلا في ظواهر مدلول اللفظ. ولا نتوسع في بسط الاعتراض عليه، اكتفاء بتقرير الصواب الذي هدانا الله تعالى إليه.
أما قوله تعالى {عفا الله عنها والله غفور حليم (101)} فقد روي في تفسيره قولان أحدهما: ما رواه ابن جرير عن عبيد بن عمير وأشرنا إليه فيما نقلناه عنه، ونقلنا مثله عن ابن كثير، وهو أن هذه الأشياء التي نهيتم عن السؤال عنها هي مما عفا الله عنه بسكوته عنه في كتابه وعدم تكليفكم إياه فاسكتوا عنه أيضا. وأيدوا هذا القول بحديث أبي ثعلبة الخشني إذ قال صلى الله عليه وسلم «وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تسألوا عنها» والجملة على هذا صفة لأشياء كما قال بعضهم، أو هي استئناف بياني يتضمن تعليل النهي، وهو يناسب كون النهي عن المسائل المتعلقة بالتشريع.
ثانيهما: أن معناه عفا الله عما كان من مسألتكم قبل النهي فلا يعاقبكم عليها لسعة مغفرته وحلمه، فهو كقوله فيما يشابه هذا السياق {عفا الله عما سلف} [المائدة: 95] وقوله: {إلا ما قد سلف} ولا مانع عندنا يمنعنا من إرادة المعنيين معا. فإن كل ما تدل عليه عبارات القرآن من المعاني الحقيقية والمجازية والكنائية يجوز عندنا أن يكون مرادا منها مجتمعة تلك المعاني أو منفردة، ما لم يمنع مانع من ذلك كأن تكون تلك المعاني مما لا يمكن اجتماعها شرعا أو عقلا، فحينئذ لا يصح أن تكون كلها مرادة، بل يرجح بعضها على بعض بطرق الترجيح المعروفة من لفظية ومعنوية.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} أي: سكت معافيا لعباده منها، فكل ما سكت الله عنه فهو مما أباحه وعفا عنه. {وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} أي: لم يزل بالمغفرة موصوفا، وبالحلم والإحسان معروفا، فتعرضوا لمغفرته وإحسانه، واطلبوه من رحمته ورضوانه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
بعد ذلك يتجه السياق إلى شيء من تربية الجماعة المسلمة وتوجيهها إلى الأدب الواجب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم سؤاله عما لم يخبرها به؛ مما لو ظهر لساء السائل وأحرجه أو ترتب عليه تكاليف لا يطيقها، أو ضيق عليه في أشياء وسع الله فيها، أو تركها بلا تحديد رحمة بعباده. (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم. وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم. عفا الله عنها والله غفور حليم. لقد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين)...
. ومجموعة هذه الروايات وغيرها تعطي صورة عن نوع هذه الأسئلة التي نهى الله الذين آمنوا أن يسألوها.. لقد جاء هذا القرآن لا ليقرر عقيدة فحسب، ولا ليشرع شريعة فحسب. ولكن كذلك ليربي أمة، وينشى ء مجتمعا، وليكون الأفراد وينشئهم على منهج عقلي وخلقي من صنعه.. وهو هنا يعلمهم أدب السؤال، وحدود البحث، ومنهج المعرفة.. وما دام الله -سبحانه- هو الذي ينزل هذه الشريعة، ويخبر بالغيب، فمن الأدب أن يترك العبيد لحكمته تفصيل تلك الشريعة أو إجمالها؛ وأن يتركوا له كذلك كشف هذا الغيب أو ستره. وأن يقفوا هم في هذه الأمور عند الحدود التي أرادها العليم الخبير. لا ليشددوا على أنفسهم بتنصيص النصوص، والجري وراء الاحتمالات والفروض. كذلك لا يجرون وراء الغيب يحاولون الكشف عما لم يكشف الله منه وما هم ببالغيه. والله أعلم بطاقة البشر واحتمالهم، فهو يشرع لهم في حدود طاقتهم، ويكشف لهم من الغيب ما تدركه طبيعتهم. وهناك أمور تركها الله مجملة أو مجهلة؛ ولا ضير على الناس في تركها هكذا كما أرادها الله. ولكن السؤال -في عهد النبوة وفترة تنزل القرآن- قد يجعل الإجابة عنها متعينة فتسوء بعضهم، وتشق عليهم كلهم وعلى من يجيء بعدهم...
إن المعرفة في الإسلام إنما تطلب لمواجهة حاجة واقعة وفي حدود هذه الحاجة الواقعة.. فالغيب وما وراءه تصان الطاقة البشرية أن تنفق في استجلائه واستكناهه، لأن معرفته لا تواجه حاجة واقعية في حياة البشرية. وحسب القلب البشري أن يؤمن بهذا الغيب كما وصفه العليم به. فأما حين يتجاوز الإيمان به إلى البحث عن كنهه؛ فإنه لا يصل إلى شيء أبدا، لأنه ليس مزودا بالمقدرة على استكناهه إلا في الحدود التي كشف الله عنها. فهو جهد ضائع. فوق أنه ضرب في التيه بلا دليل، يؤدي إلى الضلال البعيد...
وأما الأحكام الشرعية فتطلب ويسأل عنها عند وقوع الأقضية التي تتطلب هذه الأحكام.. وهذا هو منهج الإسلام.. ففي طوال العهد المكي لم يتنزل حكم شرعي تنفيذي -وإن تنزلت الأوامر والنواهي عن أشياء وأعمال- ولكن الأحكام التنفيذية كالحدود والتعازير الكفارات لم تتنزل إلا بعد قيام الدولة المسلمة التي تتولى تنفيذ هذه الأحكام. ووعى الصدر الأول هذا المنهج واتجاهه؛ فلم يكونوا يفتون في مسألة إلا إذا كانت قد وقعت بالفعل؛ وفي حدود القضية المعروضة دون تفصيص للنصوص، ليكون للسؤال والفتوى جديتهما وتمشيهما كذلك مع ذلك المنهج التربوي الرباني: كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يلعن من سأل عما لم يكن.. ذكره الدارمي في مسنده...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
في الآيات السابقة بين الله تبارك وتعالى أنه لا يصح أن نحرم ما أحل وإذا حرمنا بأيمان أقسمنا بها بين سبحانه وتعالى تحلة أيماننا ثم أشار من بعد إلى ما حرمه وهو ما يكون مستقذرا في ذاته أو يكون تحريمه مؤقتا بزمان ومكان وليس تحريمه على التأبيد ولكن العرب كانوا يحرمون على أنفسهم حلالا من الطيبات بأوهام يتوهمونها من غير تنزيل جاء بتحريمها وليس في ذاتها ما يستقذر وجنسها يحللونه ولا يحرمونه ثم كان من المؤمنين من يسأل عن هذه الأمور فبين سبحانه أنه لا أمر ولا نهى إلا ما جاء به القرآن وأنه لا يجوز أن يتقدموا بأسئلتهم حتى يبينه القرآن فكل حكم يكون في وقته المعلوم لتستأنس فيه القلوب بأحكام الشرع جزءا جزءا حتى يتمه الله تعالى قبل أن يقبض رسوله إليه... (إن تبد لكم تسؤكم) ولو أنهم تركوا السؤال حتى نزل القرآن بالحكم في ميقاته الذي وقته الله تعالى ما كان في الحكم مفاجأة تسوء لأنه يكون بعد إشراب القلوب بأخلاق الإسلام ولذا قال سبحانه: (وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا) والمعنى الظاهر من هذا أن القرآن عندما ينزل بها تحريما ومنعا أو إجازة وإباحة تكون النفس المؤمنة قد استعدت لتلقيها كما تهيأ الأرض الخصبة للزراعة فيجيء البذر والماء في ابانهما فتنبت نباتا حسنا بإذن ربها، وإن نزلت في القرآن كان السؤال في وقته وفي موضعها استفساراتها، ويكون بيان النبي صلى الله عليه وسلم تفسيرا، وعبر في حرف الشرط ب (إن) للإشارة بقلة السؤال لأن البيان يكون كاملا من كلامه تعالى ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم...
وقوله تعالى: (عفا الله عنها) الضمير في عنها قال اكثر المفسرين: إنه عائد على الأسئلة التي تضمنها قوله تعالى: (لا تسألوا) ولكن ذلك التضمين ليس بواضح والأولى عندي أن نقول: إن الضمير يعود على الأشياء نفسها لأن الضمير في (عنها) يعود إلى الأشياء وبمقتضى النسق البياني لن يعود الضمير إلى شيء، ولذلك العفو عن الأشياء مغزاه الشرعي، لأن الناس قد يتساءلون عن هذه المحرمات قبل تحريمها فيتساءلون عن الخمر قبل تحريمها، ويتساءلون عن تحريم زواج المؤمنة من الكافر قبل التحريم، وعن التبني قبل التحريم، وعن زواج امرأة الأب قبل التحريم، وقد أجيب عن كل هذا، عفا الله عما سلف، فالمعنى عفا الله عن هذه الأشياء قبل التحريم، وبهذا يتحقق معنى العفو وهو رتبة المباح والمطلوب، وان الأشياء التي كان مسكوتا عنها أمدا طال أو قصر في الإسلام ثم حرمت بعد ذلك لا يمكن أن تكون مباحة لأنه لا تنطبق عليها حقيقة المباح اذ إن حقيقة المباح أنه يكون متساوي الضرر والنفع بالنسبة للمتناول ويرجح أحدهما التناول أو الحاجات الشخصية ولا يقال عن شيء حرمه الشارع تحريما قاطعا لا شبهة فيه إنه متساوي النفع والضرر وما دام لم يوجد ما يثبت طلب الكف عنه، فإنه يكون في فترة السكوت مع كونه ضارا قد عفا الله تعالى عنه...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ثم يتناول كتاب الله الحديث عن طائفة من الناس، مصابة بنوع غريب من حب الاستطلاع والهوس بلغ إلى حد الوسواس، فهي تحاول أن تحيط علما بكل شيء، وهي تحشر أنفها في جميع المقامات والمجامع، وهي مولعة بالبحث عن أسرار الناس الخاصة ودخائل أمورهم دون أي موجب شرعي ولا مبرر أخلاقي، وهي حريصة على إثارة الأسئلة الفارغة أو الملتوية، التي لا جدوى من ورائها ولا نفع في الجواب عنها، بغية إيقاع المجيب عنها في ورطة يصعب عليه الخلاص منها، وهكذا فإلى هذه الطائفة ومثيلاتها يتجه الخطاب الإلهي قائلا: {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم}...
وأشار كتاب الله في تعقيبه على هذا النوع من الناس الموسوسين وأسئلتهم الفجة، إلى أن المؤمنين لا يمنعهم أي مانع من توجيه أسئلتهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ما دام الغرض منها هو الاستفسار عن الدين والسؤال عن الشريعة، منبها إلى أن أحسن فرصة مناسبة لإلقاء هذا النوع المفيد من الأسئلة هي الوقت الذي ينزل فيه الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي تلك المناسبة يكون الرسول صلى الله عليه وسلم على أتم استعداد لإجابة المؤمنين وتفقيههم في الدين، بتوضيح ما فيه إشكال، وتفصيل ما فيه إجمال، وذلك قوله تعالى: {وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم}...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
مناسبة النزول ما هي هذه الأشياء الّتي نهى الله عنها وأوضح أنَّها إذا بدت فستكون نتيجتها الإساءة إلى السائلين؟ هل هي أشياء محددة، أو هي من الأشياء العامّة الّتي أعطاها الله هذه الصفة وترك للإنسان أمر اكتشافها في كل قضاياه ومشاكله؟ لقد ذكر المفسرون عدّة روايات في الجواب عن ذلك، في ما ذكره صاحب مجمع البيان: «فقيل: سأل النَّاس رسول الله (ص) حتَّى أحفوه بالمسألة، فقام مغضباً خطيباً فقال: سلوني، فوالله لا تسألوني عن شيء إلاَّ بيّنته لكم...
وقد نتحفظ أمام هذه الرِّواية، في طريقة رد الفعل من الرسول (ص) في كثرة سؤالهم، بما لا يتفق مع خُلقه العظيم، في كشف الأمور الشخصيّة المتعلّقة بالأموات، والانطلاق مع المسألة من موقع الانفعال، حتَّى قام عمر بن الخطاب ليبعث في نفسه الهدوء بأسلوب عاطفي. ولكن الجوّ العام الَّذي تُثيره الرِّوايات، يُعطي الفكرة من خلال النماذج المتنوعة المتعلقة بقضايا التكليف، مما يوحي بأنَّ القضيّة تتسع لذلك كلّه في ما يريده الإسلام من تربية الإنسان على أساسٍ من الانطلاق بالمعرفة في الاتجاه الَّذي ينفع النَّاس، مما يحتاج النَّاس فيه إلى السؤال من خلال غموض الفكرة وعدم وجود الأساس الَّذي يكفل لنا مهمة الوضوح. منهج التعاطي مع أحكام الله في هاتين الآيتين حديثٌ عن المنهج الذي يُريد الله أن يضعه للنَّاس في مواجهتهم لما يلقى إليهم من أحكام الله، عند نزولها في القرآن، مما لم يرد الله أن يثقل عليهم أمره بالتكليف، بل ترك الحريّة فيه للمكلفين، في ما يفعلونه أو يتركونه، بالنسبة إليه. فقد يبدو لبعضهم أن يدخلوا في تفاصيل ذلك لا من جهة غموضٍ في حدود التكليف، ليكون السؤال محاولةً للسير به في طريق الوضوح، ولا من جهة شبهةٍ في طبيعة المضمون، ليكون السؤال وسيلةً لإزالة الشبهة، بل كان ذلك لمجرّد الفضول الذاتي الَّذي يدفع الإنسان إلى السؤال من خلال عناصر الإثارة في الساحة، ليُثير الجوّ من حوله في عمليّة تساؤل ونقاش. فأراد الله لهم أن يتركوا ذلك من أجل أن يتحول السؤال عندهم، في ما يُمثِّله من قلق المعرفة، إلى سبيل من سبل إغناء الفكر العملي عنده، في ما يحتاجه في حركة العقيدة أو الحياة، بعيداً عن الأشياء الّتي لا علاقة لها بذلك، بل هي من القضايا الّتي تُمثِّل ترفاً فكرياً لا ضرورة له.