{ 101 - 102 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ }
ينهى عباده المؤمنين عن سؤال الأشياء التي إذا بينت لهم ساءتهم وأحزنتهم ، وذلك كسؤال بعض المسلمين لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن آبائهم ، وعن حالهم في الجنة أو النار ، فهذا ربما أنه لو بين للسائل لم يكن له فيه خير ، وكسؤالهم للأمور غير الواقعة .
وكالسؤال الذي يترتب عليه تشديدات في الشرع ربما أحرجت الأمة ، وكالسؤال عما لا يعني ، فهذه الأسئلة ، وما أشبهها هي المنهي عنها ، وأما السؤال الذي لا يترتب عليه شيء من ذلك فهذا{[280]} مأمور به ، كما قال تعالى : { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }
{ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ } أي : وإذا وافق سؤالكم محله فسألتم عنها حين ينزل عليكم القرآن ، فتسألون عن آية أشكلت ، أو حكم خفي وجهه عليكم ، في وقت يمكن فيه نزول الوحي من السماء ، تبد لكم ، أي : تبين لكم وتظهر ، وإلا فاسكتوا عمّا سكت الله عنه .
{ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا } أي : سكت معافيا لعباده منها ، فكل ما سكت الله عنه فهو مما أباحه وعفا عنه . { وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } أي : لم يزل بالمغفرة موصوفا ، وبالحلم والإحسان معروفا ، فتعرضوا لمغفرته وإحسانه ، واطلبوه من رحمته ورضوانه .
ثم قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } هذا تأديب من الله [ تعالى ]{[10428]} لعباده المؤمنين ، ونهي لهم عن أن يسألوا { عَنْ أَشْيَاءَ } مما لا فائدة لهم في السؤال والتنقيب عنها ؛ لأنها إن أظهرت لهم تلك الأمور ربما ساءتهم وشق عليهم سماعها ، كما جاء في الحديث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يُبْلغني أحد عن أحد شيئًا ، إني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر " . {[10429]}
وقال البخاري : حدثنا مُنْذِر بن الوليد بن عبد الرحمن الجارودي ، حدثنا أبي ، حدثنا شعبة ، عن موسى بن أنس ، عن أنس بن مالك قال : خطب النبي صلى الله عليه وسلم خُطبة ما سمعت مثلها قط ، قال " لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرًا " قال : فغطّى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم لهم حنين . فقال رجل : من أبي ؟ قال : " فلان " ، فنزلت هذه الآية : { لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ }
رواه النَّضْر وروح بن عبادة ، عن شعبة{[10430]} وقد رواه البخاري في غير هذا الموضع ، ومسلم ، وأحمد ، والترمذي ، والنسائي من طرق عن شعبة بن الحجاج ، به . {[10431]}
وقال ابن جرير : حدثنا بِشْر ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } الآية ، قال : فحدثنا أن أنس بن مالك حدثه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه حتى أحفوه بالمسألة ، فخرج عليهم ذات يوم فصعد المنبر ، فقال : " لا تسألوا اليوم عن شيء إلا بينته لكم " . فأشفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون بين يدي أمر قد حَضَر ، فجعلت لا ألتفت يمينًا ولا شمالا إلا وجدت كلا لافا رأسه في ثوبه يبكي ، فأنشأ رجل كان يُلاحي فيدعى إلى غير أبيه ، فقال : يا نبي الله ، من أبي ؟ قال : " أبوك حذافة " . قال : ثم قام عمر - أو قال : فأنشأ عمر - فقال : رضينا بالله ربًا ، وبالإسلام دينًا ، وبمحمد رسولا عائذًا بالله - أو قال : أعوذ بالله - من شر الفتن قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لم أر في الخير والشر كاليوم قط ، صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط " . أخرجاه من طريق سعيد . {[10432]}
ورواه مَعْمَر ، عن الزهري ، عن أنس بنحو ذلك - أو قريبًا منه - قال الزهري : فقالت أم عبد الله بن حذافة : ما رأيت ولدًا أعق منك قط ، أكنت تأمن أن تكون أمك قد قارفَتْ ما قارفَ أهلُ الجاهلية فتفضحها على رؤوس الناس ، فقال : والله لو ألحقني بعبد أسود للحقتُه . {[10433]}
وقال ابن جرير أيضًا : حدثنا الحارث ، حدثنا عبد العزيز ، حدثنا قَيْس ، عن أبي حَصِين ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان محمارّ وجهه حتى جلس على المنبر ، فقام إليه رجل فقال : أين أبي{[10434]} ؟ فقال : " في النار " فقام آخر فقال : من أبي ؟ فقال : " أبوك حذافة " ، فقام عمر بن الخطاب فقال : رضينا بالله ربًّا ، وبالإسلام دينًا ، وبمحمد نبيا ، وبالقرآن إمامًا ، إنا يا رسول الله حَدِيثو عهد بجاهلية وشرْك ، والله أعلم من آباؤنا . قال : فسكن غضبه ، ونزلت هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ }{[10435]} إسناده جيد . {[10436]}
وقد ذكر هذه القصة{[10437]} مرسلة غير واحد من السلف ، منهم أسباط عن السُّدِّي أنه قال في قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } قال : غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا من الأيام ، فقام خطيبًا فقال : " سلوني ، فإنكم لا تسألوني عن شيء إلا أنبأتكم به " . فقام إليه رجل من قريش ، من بني سهم ، يقال له : عبد الله بن حُذَافة ، وكان يُطْعَن فيه ، فقال : يا رسول الله ، من أبي ؟ فقال : " أبوك فلان " ، فدعاه لأبيه ، فقام إليه عمر بن الخطاب فقبل رجله ، وقال : يا رسول الله ، رضينا بالله ربًّا ، وبك نبيًا ، وبالإسلام دينًا ، وبالقرآن إمامًا ، فاعف عنا عفا الله عنك ، فلم يزل به حتى رضي ، فيومئذ قال : " الولد للفِرَاش وللعاهرِ الحَجَر " .
ثم قال البخاري : حدثنا الفَضْل بن سَهْل ، حدثنا أبو النَّضْر ، حدثنا أبو خَيْثَمَة ، حدثنا أبو الجُويرية ، عن ابن عباس قال : كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء ، فيقول الرجل : من أبي ؟ ويقول الرجل تَضل ناقتُه : أين ناقتي ؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } حتى فرغ من الآية كلها . تفرد{[10438]} به البخاري . {[10439]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا منصور بن وَرْدَان الأسدي ، حدثنا عليّ بن عبد الأعلى ، عن أبيه ، عن أبي البَخْتَريّ - وهو سعيد بن فيروز - عن{[10440]} علي قال : لما نزلت هذه الآية : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا } [ آل عمران : 97 ] قالوا : يا رسول الله ، {[10441]} كل عام ؟ فسكت . فقالوا : أفي كل عام ؟ فسكت ، قال : ثم قالوا : أفي كل عام ؟ فقال : " لا ولو قلت : نعم لوجبت " ، فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } إلى آخر الآية .
وكذا رواه الترمذي وابن ماجه ، من طريق منصور بن وردان ، به{[10442]} وقال الترمذي : غريب من هذا الوجه ، وسمعت البخاري يقول : أبو البختري لم يدرك عليًّا .
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان ، عن إبراهيم بن مسلم الهَجَرِيّ ، عن أبي عياض ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله كتب عليكم الحج " فقال رجل : أفي كل عام يا رسول الله ؟ فأعرض عنه ، حتى عاد مرتين أو ثلاثًا ، فقال : " من السائل ؟ " فقال : فلان . فقال : " والذي نفسي بيده ، لو قلت : نعم لوَجَبَتْ ، ولو وجبت عليكم ما أطقتموه ، ولو تركتموه لكفرتم " ، فأنزل الله ، عز وجل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } حتى ختم الآية .
ثم رواه ابن جرير من طريق الحسين بن واقد ، عن محمد بن زياد ، عن أبي هريرة - وقال : فقام مِحْصَن الأسدي - وفي رواية من هذه الطريق : عُكَاشة بن محْصن - وهو أشبه . {[10443]}
وإبراهيم بن مسلم الهجري ضعيف .
وقال ابن جرير أيضًا : حدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصري قال : حدثنا أبو زيد عبد الرحمن ابن أبي الغمر ، حدثنا ابو مطيع معاوية بن يحيى ، عن صفوان بن عمرو ، حدثني سليم بن عامر قال : سمعت أبا أمامة الباهلي يقول : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فقال : " كتب عليكم الحج " . فقام رجل من الأعراب فقال : أفي كل عام ؟ قال : فَغَلقَ كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأسكت واستغضب ، ومكث طويلا ثم تكلم فقال : " من السائل ؟ " فقال الأعرابي : أنا ذا ، فقال : " ويحك ، ماذا يؤمنك أن أقول : نعم ، والله لو قلت : نعم لوجبت ، ولو وجبت لكفرتم ، ألا إنه إنما أهلك الذين من قبلكم أئمة الحَرَج ، والله لو أني أحللت لكم جميع ما في الأرض ، وحرمت عليكم منها موضع خُفٍّ ، لوقعتم فيه " قال : فأنزل الله عند ذلك : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } إلى آخر الآية . {[10444]} في إسناده ضعف .
وظاهر{[10445]} الآية النهي عن السؤال عن الأشياء التي إذا علم بها الشخص ساءته ، فالأولى الإعراض عنها وتركها . وما أحسن الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال :
حدثنا حَجَّاج قال : سمعت إسرائيل بن يونس ، عن الوليد بن أبي هشام مولى الهمداني ، عن زيد بن زائد ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : " لا يبلغني أحد عن أحد شيئًا ؛ فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر " الحديث .
وقد رواه أبو داود والترمذي ، من حديث إسرائيل{[10446]} - قال أبو داود : عن الوليد - وقال الترمذي : عن إسرائيل - عن السدي ، عن الوليد بن أبي هاشم ، به . ثم قال الترمذي : غريب من هذا الوجه .
وقوله : { وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنزلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ } أي : وإن تسألوا عن هذه الأشياء التي نهيتم عن السؤال عنها حين ينزل الوحي على الرسول تُبَيَّن لكم ، وذلك [ على الله ]{[10447]} يسير .
ثم قال{[10448]} { عَفَا اللَّهُ عَنْهَا } أي : عما كان منكم قبل ذلك ، { وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ }
وقيل : المراد بقوله : { وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنزلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ } أي : لا تسألوا عن أشياء تستأنفون السؤال عنها ، فلعلَّه قد ينزل بسبب سؤالكم تشديد أو تضييق{[10449]} وقد ورد في الحديث : " أعظم المسلمين جُرْمًا من سأل عن شيء لم يُحَرّم فحرم من أجل مسألته " {[10450]} ولكن إذا نزل القرآن بها مجملة فسألتم عن بيانها حينئذ ، تبينت لكم لاحتياجكم إليها . {[10451]}
{ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا } أي : ما لم يذكره{[10452]} في كتابه فهو مما عفا عنه ، فاسكتوا أنتم عنها كما سكت عنها . وفي الصحيح ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ذروني ما تُرِكْتُم ؛ فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم " . {[10453]}
وفي الحديث الصحيح أيضًا : " إن الله فرض فرائض فلا تُضيِّعُوها ، وحَدَّ حدودًا فلا تعتدوها ، وحَرَّم أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء رحمة بكم غَيْرَ نِسْيان فلا تسألوا عنها " . {[10454]}