33- والْزَمْنَ بيوتكن لا تخرجن إلا لحاجة شرع الله الخروج لقضائها ، ولا تُظْهرن محاسنكن وزينتكن للرجال إذا خرجتن . كما كانت تفعل أهل الجهالة الأولى ، وأدين الصلاة كاملة ، وأعطين الزكاة ، وامتثلن أمر الله ورسوله . إنما يريد الله - بكل ما يأمركن به وينهاكن عنه - الشرف والكرامة . ليذهب عنكم الإثم والمعصية - يا أهل بيت النبي - ويطهركم تطهيرا لا يخالطه شبهة .
{ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } أي : اقررن فيها ، لأنه أسلم وأحفظ لَكُنَّ ، { وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } أي : لا تكثرن الخروج متجملات أو متطيبات ، كعادة أهل الجاهلية الأولى ، الذين لا علم عندهم ولا دين ، فكل هذا دفع للشر وأسبابه .
ولما أمرهن بالتقوى عمومًا ، وبجزئيات من التقوى ، نص عليها [ لحاجة ]{[704]} النساء إليها ، كذلك أمرهن بالطاعة ، خصوصًا الصلاة والزكاة ، اللتان يحتاجهما ، ويضطر إليهما كل أحد ، وهما أكبر العبادات ، وأجل الطاعات ، وفي الصلاة ، الإخلاص للمعبود ، وفي الزكاة ، الإحسان إلى العبيد .
ثم أمرهن بالطاعة عمومًا ، فقال : { وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } يدخل في طاعة اللّه ورسوله ، كل أمر ، أمرَا به أمر إيجاب ، أو استحباب .
{ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ } بأمركن بما أَمَرَكُنَّ به ، ونهيكن بما{[705]} نهاكُنَّ عنه ، { لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ } أي : الأذى ، والشر ، والخبث ، يا { أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } حتى تكونوا طاهرين مطهرين .
أي : فاحمدوا ربكم ، واشكروه على هذه الأوامر والنواهي ، التي أخبركم بمصلحتها ، وأنها محض مصلحتكم ، لم يرد اللّه أن يجعل عليكم بذلك حرجًا ولا مشقة ، بل لتتزكى نفوسكم ، ولتتطهر أخلاقكم ، وتحسن أعمالكم ، ويعظم بذلك أجركم .
من وقر . يقر . أي ثقل واستقر . وليس معنى هذا الأمر ملازمة البيوت فلا يبرحنها إطلاقا . إنما هي إيماءة لطيفة إلى أن يكون البيت هو الأصل في حياتهن ، وهو المقر وما عداه استثناء طارئا لا يثقلن فيه ولا يستقررن . إنما هي الحاجة تقضى ، وبقدرها .
والبيت هو مثابة المرأة التي تجد فيها نفسها على حقيقتها كما أرادها الله تعالى . غير مشوهة ولا منحرفة ولا ملوثة ، ولا مكدودة في غير وظيفتها التي هيأها الله لها بالفطرة .
" ولكي يهيئ الإسلام للبيت جوه ويهيىء للفراخ الناشئة فيه رعايتها ، أوجب على الرجل النفقة ، وجعلهافريضة ، كي يتاح للأم من الجهد ، ومن الوقت ، ومن هدوء البال ، ما تشرف به على هذه الفراخ الزغب ، وما تهيئ به للمثابة نظامها وعطرها وبشاشتها . فالأم المكدودة بالعمل للكسب ، المرهقة بمقتضيات العمل ، المقيدة بمواعيده ، المستغرقة الطاقة فيه . . لا يمكن أن تهب للبيت جوه وعطره ، ولا يمكن أن تمنح الطفولة النابتة فيه حقها ورعايتها . وبيوت الموظفات والعاملات ما تزيد على جو الفنادق والخانات ؛ وما يشيع فيها ذلك الأرج الذي يشيع في البيت . فحقيقة البيت لا توجد إلا أن تخلقها امرأة ، وأرج البيت لا يفوح إلا أن تطلقه زوجة ، وحنان البيت لا يشيع إلا أن تتولاه أم . والمرأة أو الزوجة أو الأم التي تقضي وقتها وجهدها وطاقتها الروحية في العمل لن تطلق في جو البيت إلا الإرهاق والكلال والملال .
" وإن خروج المرأة لتعمل كارثة على البيت قد تبيحها الضرورة . أما أن يتطوع بها الناس وهم قادرون على اجتنابها ، فتلك هي اللعنة التي تصيب الأرواح والضمائر والعقول ، في عصور الانتكاس والشرور والضلال " .
فأما خروج المرأة لغير العمل . خروجها للاختلاط ومزاولة الملاهي . والتسكع في النوادي والمجتمعات . . . فذلك هو الارتكاس في الحمأة الذي يرد البشر إلى مراتع الحيوان !
ولقد كان النساء على عهد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يخرجن للصلاة غير ممنوعات شرعا من هذا . ولكنه كان زمان فيه عفة ، وفيه تقوى ، وكانت المرأة تخرج إلى الصلاة متلفعة لا يعرفها أحد ، ولا يبرز من مفاتنها شيء . ومع هذا فقد كرهت عائشة لهن أن يخرجن بعد وفاة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] !
في الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت : كان نساء المؤمنين يشهدن الفجر مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ثم يرجعن متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس .
وفي الصحيحين أيضا أنها قالت : لو أدرك رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ما أحدث النساء لمنعهن من المساجد ، كما منعت نساء بني إسرائيل !
فماذا أحدث النساء في حياة عائشة - رضي الله عنها - ? وماذا كان يمكن أن يحدثن حتى ترى أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كان مانعهن من الصلاة ? ! ماذا بالقياس إلى ما نراه في هذه الأيام ? !
( ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ) . .
ذلك حين الاضطرار إلى الخروج ، بعد الأمر بالقرار في البيوت . ولقد كانت المرأة في الجاهلية تتبرج . ولكن جميع الصور التي تروى عن تبرج الجاهلية الأولى تبدو ساذجة أو محتشمة حين تقاس إلى تبرج أيامنا هذه في جاهليتنا الحاضرة !
قال مجاهد : كانت المرأة تخرج تمشي بين الرجال . فذلك تبرج الجاهلية !
وقال قتادة : وكانت لهن مشية تكسر وتغنج . فنهى الله تعالى عن ذلك !
وقال مقاتل بن حيان : والتبرج أنها تلقي الخمار على رأسها ولا تشده فيداري قلائدها وقرطها وعنقها ، ويبدو ذلك كله منها . وذلك التبرج !
وقال ابن كثير في التفسير : كانت المرأة منهن تمر بين الرجال مسفحة بصدرها لا يواريه شيء ؛ وربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها وأقرطة آذانها . فأمر الله المؤمنات أن يستترن في هيئاتهن وأحوالهن .
هذه هي صور التبرج في الجاهلية التي عالجها القرآن الكريم . ليطهر المجتمع الإسلامي من آثارها ويبعد عنه عوامل الفتنة ، ودواعي الغواية ؛ ويرفع آدابه وتصوراته ومشاعره وذوقه كذلك !
ونقول : ذوقه . . فالذوق الإنساني الذي يعجب بمفاتن الجسد العاري ذوق بدائي غليظ . وهو من غير شك أحط من الذوق الذي يعجب بجمال الحشمة الهادئ ، وما يشي به من جمال الروح ، وجمال العفة ، وجمال المشاعر .
وهذا المقياس لا يخطئ في معرفة ارتفاع المستوى الإنساني وتقدمه . فالحشمة جميلة جمالا حقيقيا رفيعا . ولكن هذا الجمال الراقي لا يدركه أصحاب الذوق الجاهلي الغليظ ، الذي لا يرى إلا جمال اللحم العاري ، ولا يسمع إلا هتاف اللحم الجاهر !
ويشير النص القرآني إلى تبرج الجاهلية ، فيوحي بأن هذا التبرج من مخلفات الجاهلية . التي يرتفع عنها من تجاوز عصر الجاهلية ، وارتفعت تصوراته ومثله ومشاعره عن تصورات الجاهلية ومثلها ومشاعرها .
والجاهلية ليست فترة معينة من الزمان . إنما هي حالة اجتماعية معينة ، ذات تصورات معينة للحياة . ويمكن أن توجد هذه الحالة ، وأن يوجد هذا التصور في أي زمان وفي أي مكان ، فيكون دليلا على الجاهلية حيث كان !
وبهذا المقياس نجد أننا نعيش الآن في فترة جاهلية عمياء ، غليظة الحس ، حيوانية التصور ، هابطة في درك البشرية إلى حضيض مهين . وندرك أنه لا طهارة ولا زكاة ولا بركة في مجتمع يحيا هذه الحياة ؛ ولا يأخذ بوسائل التطهر والنظافة التي جعلها الله سبيل البشرية إلى التطهر من الرجس ، والتخلص من الجاهلية الأولى ؛ وأخذ بها ، أول من أخذ ، أهل بيت النبي [ صلى الله عليه وسلم ] على طهارته ووضاءته ونظافته .
والقرآن الكريم يوجه نساء النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إلى تلك الوسائل ؛ ثم يربط قلوبهن بالله ، ويرفع أبصارهن إلى الأفق الوضيء الذي يستمددن منه النور ، والعون على التدرج في مراقي ذلك الأفق الوضيء :
( وأقمن الصلاة ، وآتين الزكاة ، وأطعن الله ورسوله ) . .
وعبادة الله ليست بمعزل عن السلوك الاجتماعي أو الأخلاقي في الحياة ؛ إنما هي الطريق للإرتفاع إلى ذلك المستوى ؛ والزاد الذي يقطع به السالك الطريق . فلا بد من صلة بالله يأتي منها المدد والزاد . ولا بد من صلة بالله تطهر القلب وتزكيه . ولا بد من صلة بالله يرتفع بها الفرد على عرف الناس وتقاليد المجتمع وضغط البيئة ؛ ويشعر أنه أهدى وأعلى من الناس والمجتمع والبيئة . وأنه حري أن يقود الآخرين إلى النور الذي يراه ؛ لا أن يقوده الآخرون إلى الظلمات وإلى الجاهلية التي تغرق فيها الحياة ، كلما انحرفت عن طريق الله .
والإسلام وحدة تجمع الشعائر والآداب والأخلاق والتشريعات والنظم . . كلها في نطاق العقيدة . ولكل منها دور تؤديه في تحقيق هذه العقيدة ؛ وتتناسق كلها في اتجاه واحد ؛ ومن هذا التجمع والتناسق يقوم الكيان العام لهذا الدين . وبدونهما لا يقوم هذا الكيان .
ومن ثم كان الأمر بإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وطاعة الله ورسوله ، هو خاتمة التوجيهات الشعورية والأخلاقية والسلوكية لأهل البيت الكريم . لأنه لا يقوم شيء من تلك التوجيهات بغير العبادة والطاعة . . وكل ذلك لحكمة وقصد وهدف :
( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) . .
وفي التعبير إيحاءات كثيرة ، كلها رفاف ، رفيق ، حنون . .
فهو يسميهم ( أهل البيت )بدون وصف للبيت ولا إضافة . كأنما هذا البيت هو( البيت )الواحد في هذا العالم ، المستحق لهذه الصفة . فإذا قيل( البيت )فقد عرف وحدد ووصف . ومثل هذا قيل عن الكعبة . بيت الله . فسميت البيت . والبيت الحرام . فالتعبير عن بيت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كذلك تكريم وتشريف واختصاص عظيم .
وهو يقول : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس - أهل البيت - ويطهركم تطهيرا ) . . وفي العبارة تلطف ببيان علة التكليف وغايته . تلطف يشي بأن الله سبحانه - يشعرهم بأنه بذاته العلية - يتولى تطهيرهم وإذهاب الرجس عنهم . وهي رعاية علوية مباشرة بأهل هذا البيت . وحين نتصور من هو القائل - سبحانه وتعالى - رب هذا الكون . الذي قال للكون : كن . فكان . الله ذو الجلال والإكرام . المهيمن العزيز الجبار المتكبر . . حين نتصور من هو القائل - جل وعلا - ندرك مدى هذا التكريم العظيم .
وهو - سبحانه - يقول هذا في كتابه الذي يتلى في الملأ الأعلى ، ويتلى في هذه الأرض ، في كل بقعة وفي كل أوان ؛ وتتعبد به ملايين القلوب ، وتتحرك به ملايين الشفاه .
وأخيرا فإنه يجعل تلك الأوامر والتوجيهات وسيلة لإذهاب الرجس وتطهير البيت . فالتطهير من التطهر ، وإذهاب الرجس يتم بوسائل يأخذ الناس بها أنفسهم ، ويحققونها في واقع الحياة العملي . وهذا هو طريق الإسلام . . شعور وتقوى في الضمير . وسلوك وعمل في الحياة . يتم بهما معا تمام الإسلام ، وتتحقق بهما أهدافه واتجاهاته في الحياة .