وهذا الصراط المستقيم هو : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين . { غَيْرِ } صراط { الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } الذين عرفوا الحق وتركوه كاليهود ونحوهم . وغير صراط { الضَّالِّينَ } الذين تركوا الحق على جهل وضلال ، كالنصارى ونحوهم .
فهذه السورة على إيجازها ، قد احتوت على ما لم تحتو عليه سورة من سور القرآن ، فتضمنت أنواع التوحيد الثلاثة : توحيد الربوبية يؤخذ من قوله : { رَبِّ الْعَالَمِينَ }
وتوحيد الألوهية وهو إفراد الله بالعبادة ، يؤخذ من لفظ : { اللَّهِ } ومن قوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } وتوحيد الأسماء والصفات ، وهو إثبات صفات الكمال لله تعالى ، التي أثبتها لنفسه ، وأثبتها له رسوله من غير تعطيل ولا تمثيل ولا تشبيه ، وقد دل على ذلك لفظ { الْحَمْدُ } كما تقدم . وتضمنت إثبات النبوة في قوله : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } لأن ذلك ممتنع بدون الرسالة .
وإثبات الجزاء على الأعمال في قوله : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } وأن الجزاء يكون بالعدل ، لأن الدين معناه الجزاء بالعدل .
وتضمنت إثبات القدر ، وأن العبد فاعل حقيقة ، خلافا للقدرية والجبرية . بل تضمنت الرد على جميع أهل البدع [ والضلال ] في قوله : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } لأنه معرفة الحق والعمل به . وكل مبتدع [ وضال ] فهو مخالف لذلك .
وتضمنت إخلاص الدين لله تعالى ، عبادة واستعانة في قوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فالحمد لله رب العالمين .
{ صِرَاطَ الّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ الضّآلّينَ }
وقوله : صِرَاطَ الذينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ إبانة عن الصراط المستقيم أيّ الصراط هو ، إذ كان كل طريق من طرق الحقّ صراطا مستقيما ، فقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد : اهدنا يا ربنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم ، بطاعتك وعبادتك من ملائكتك ، وأنبيائك ، والصديقين ، والشهداء ، والصالحين . وذلك نظير ما قال ربنا جل ثناؤه في تنزيله : ( وَلَوْ أَنّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكان خَيْرا لَهُمْ وأشَدّ تَثْْبِيتا وإذا لاَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنّا أجْرا عَظِيما ولَهَدَيْناهُمْ صِرَاطا مُسْتَقِيما وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ وَالرّسُولَ فَاولَئِكَ مَعَ الذّينَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ والشهَدَاءِ وَالصالِحِينَ وحسن أولئك رفيقا ) .
قال أبو جعفر : فالذي أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأمته أن يسألوه ربهم من الهداية للطريق المستقيم ، هي الهداية للطريق الذي وصف الله جل ثناؤه صفته . وذلك الطريق هو طريق الذي وصفهم الله بما وصفهم به في تنزيله ، ووعد من سَلَكه فاستقام فيه طائعا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، أن يورده مواردهم ، والله لا يخلف الميعاد . وبنحو ما قلنا في ذلك رُوي الخبر عن ابن عباس وغيره .
حدثنا محمد بن العلاء ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمار ، قال : حدثنا أبو روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : ( صِرَاطَ الّذِينَ أَنْعَمَتَ عَلَيْهِم )ْ يقول : طريق من أنعمت عليم بطاعتك وعبادتك من الملائكة والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، الذين أطاعوك وعبدوك .
وحدثني أحمد بن حازم الغفاري ، قال : أخبرنا عبيد الله بن موسى ، عن أبي جعفر عن ربيع : ( صِرَاطَ الّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) قال : النبيون .
وحدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : ( أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) قال : المؤمنين .
وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : قال وكيع ( أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) : المسلمين .
وحدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال عبد الرحمن بن زيد في قول الله : ( صِرَاطَ الذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) قال : النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه .
قال أبو جعفر : وفي هذه الآية دليل واضح على أن طاعة الله جل ثناؤه لا ينالها المطيعون إلا بإنعام الله بها عليهم وتوفيقه إياهم لها . أوَ لا يسمعونه يقول : ( صِرَاطَ الّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) فأضاف كل ما كان منهم من اهتداء وطاعة وعبادة إلى أنه إنعام منه عليهم ؟
فإن قال قائل : وأين تمام هذا الخبر ، وقد علمت أن قول القائل لاَخر : أنعمت عليك ، مقتض الخبر عما أنعم به عليه ، فأين ذلك الخبر في قوله : ( صِرَاطَ الّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) وما تلك النعمة التي أنعمها عليهم ؟ قيل له : قد قدمنا البيان فيما مضى من كتابنا هذا عن اجتزاء العرب في منطقها ببعض من بعض إذا كان البعض الظاهر دالاّ على البعض الباطن وكافيا منه ، فقوله : ( صِرَاطَ الّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) من ذلك لأن أمر الله جل ثناؤه عباده بمسألته المعونة وطلبهم منه الهداية للصراط المستقيم لما كان متقدما قوله : ( صِرَاطَ الّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) الذي هو إبانة عن الصراط المستقيم ، وإبدالٌ منه ، كان معلوما أن النعمة التي أنعم الله بها على من أمرنا بمسألته الهداية لطريقهم هو المنهاج القويم والصراط المستقيم الذي قد قدمنا البيان عن تأويله آنفا ، فكان ظاهر ما ظهر من ذلك مع قرب تجاور الكلمتين مغنيا عن تكراره كما قال نابغة بني ذبيان :
كأنكَ منْ جِمالِ بَني أُقَيْشٍ *** يُقْعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيْهِ بِشَنّ
يريد كأنك من جمال بني أقيش جمل يقعقع خلف رجليه بشنّ ، فاكتفى بما ظهر من ذكر الجمال الدال على المحذوف من إظهار ما حذف . وكما قال الفرزدق بن غالب :
تَرَى أرْباقَهُمْ مُتَقَلّدِيها *** *** إذَا صَدِىءَ الحَديدُ على الكُماةِ
يريد : متقلديها هم ، فحذف «هم » إذ كان الظاهر من قوله : «أرباقهم » دالاّ عليها .
والشواهد على ذلك من شعر العرب وكلامها أكثر من أن تحصى ، فكذلك ذلك في قوله : ( صِرَاطَ الّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِم )ْ .
القول في تأويل قوله تعالى : غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ .
قال أبو جعفر : والقراء مجمعة على قراءة «غير » بجرّ الراء منها . والخفض يأتيها من وجهين : أحدهما أن يكون غير صفة للذين ونعتا لهم فتخفضها ، إذ كان «الذين » خفضا وهي لهم نعت وصفة وإنما جاز أن يكون «غير » نعتا ل«الذين » ، و«الذين » معرفة وغير نكرة لأن «الذين » بصلتها ليست بالمعرفة المؤقتة كالأسماء التي هي أمارات بين الناس ، مثل : زيد وعمرو ، وما أشبه ذلك وإنما هي كالنكرات المجهولات ، مثل : الرجل والبعير ، وما أشبه ذلك فما كان «الذين » كذلك صفتها ، وكانت غير مضافة إلى مجهول من الأسماء نظير «الذين » في أنه معرفة غير مؤقتة كما «الذين » معرفة غير مؤقتة ، جاز من أجل ذلك أن يكون : غير المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ نعتا ل ( الذين أنعمت عليهم ) كما يقال : لا أجلس إلا إلى العالم غير الجاهل ، يراد : لا أجلس إلا إلى من يعلم ، لا إلى من يجهل . ولو كان الذين أنعمت عليهم معرفة مؤقتة كان غير جائز أن يكون غيرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ لها نعتا ، وذلك أنه خطأ في كلام العرب إذا وصفت معرفة مؤقتة بنكرة أن تلزم نعتها النكرة إعراب المعرفة المنعوت بها ، إلا على نية تكرير ما أعرب المنعوت بها . خطأٌ في كلامهم أن يقال : مررت بعبد الله غير العالم ، فتخفض «غير » إلا على نية تكرير الباء التي أعربت عبد الله ، فكان معنى ذلك لو قيل كذلك : مررت بعبد الله ، مررت بغير العالم . فهذا أحد وجهي الخفض في : ( غيرَ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) .
والوجه الاَخر من وجهي الخفض فيها أن يكون «الذين » بمعنى المعرفة المؤقتة . وإذا وجه إلى ذلك ، كانت غير مخفوضة بنية تكرير الصراط الذي خفض الذين عليها ، فكأنك قلت : صراط الذين أنعمت عليهم صراط غير المغضوب عليهم .
وهذان التأويلان في غير المغضوب عليهم ، وإن اختلفا باختلاف معربيهما ، فإنهما يتقارب معناهما من أجل أن من أنعم الله عليه فهداه لدينه الحق فقد سلم من غضب ربه ونجا من الضلال في دينه ، فسواءٌ إذ كان سامع قوله : ( اهْدِنَا الصّرَاطَ المُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) غير جائز أن يرتاب مع سماعه ذلك من تاليه في أن الذين أنعم الله عليهم بالهداية للصراط ، غير غاضب ربهم عليهم مع النعمة التي قد عظمت منته بها عليهم في دينهم ، ولا أن يكونوا ضلالاً وقد هداهم للحق ربهم ، إذْ كان مستحيلاً في فطرهم اجتماع الرضا من الله جل ثناؤه عن شخص والغضب عليه في حال واحدة واجتماع الهدى والضلال له في وقت واحد أَوُصِف القوم مع وصف الله إياهم بما وصفهم به من توفيقه إياهم وهدايته لهم وإنعامه عليهم بما أنعم الله به عليهم في دينهم بأنهم غير مغضوب عليهم ولا هم ضالون ، أم لم يوصفوا بذلك لأن الصفة الظاهرة التي وصفوا بها قد أنبأت عنهم أنهم كذلك وإن لم يصرّح وصفهم به . هذا إذا وجهنا «غير » إلى أنها مخفوضة على نية تكرير الصراط الخافض الذين ، ولم نجعل غير المغضوب عليهم ولا الضالين من صفة الذين أنعمت عليهم بل إذا جعلناهم غيرهم وإن كان الفريقان لا شك مُنْعَما عليهما في أديانهم . فأما إذا وجهنا : ( غيرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضّالّينَ ) إلى أنها من نعت ( الذين أنعمت عليهم ) فلا حاجة بسامعه إلى الاستدلال ، إذْ كان الصريح من معناه قد أغنى عن الدليل ، وقد يجوز نصب «غير » في غير المغضوب عليهم وإن كنت للقراءة بها كارها لشذوذها عن قراءة القراء . وإن ما شذّ من القراءات عما جاءت به الأمة نقلاً ظاهرا مستفيضا ، فرأي للحق مخالف وعن سبيل الله وسبيل رسوله صلى الله عليه وسلم وسبيل المسلمين متجانف ، وإن كان له لو كانت القراءة جائزة به في الصواب مخرج .
وتأويل وجه صوابه إذا نصبتَ : أن يوجه إلى أن يكون صفة للهاء والميم اللتين في «عليهم » العائدة على «الذين » ، لأنها وإن كانت مخفوضة ب«على » ، فهي في محل نصب بقوله : «أنعمت » . فكأن تأويل الكلام إذا نصبت «غير » التي مع «المغضوب عليهم » : صراط الذين هديتهم إنعاما منك عليهم غير مغضوب عليهم ، أي لا مغضوبا عليهم ولا ضالين . فيكون النصب في ذلك حينئذٍ كالنصب في «غير » في قولك : مررت بعبد الله غير الكريم ولا الرشيد ، فتقطع غير الكريم من عبد الله ، إذ كان عبد الله معرفة مؤقتة وغير الكريم نكرة مجهولة .
وقد كان بعض نحويي البصريين يزعم أن قراءة من نصب «غير » في غير المغضوب عليهم على وجه استثناء غير المغضوب عليهم من معاني صفة الذين أنعمت عليهم ، كأنه كان يرى أن معنى الذين قرءوا ذلك نصبا : اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم إلا المغضوب عليهم الذين لم تنعم عليهم في أديانهم ولم تهدهم للحق ، فلا تجعلنا منهم كما قال نابغة بني ذبيان :
وَقَفْتُ فيها أَُصَِْيلالا أُسائلُها *** أعْيَتْ جَوَابا وَما بالرّبْع منْ أحَدِ
إِلاّ أَوَارِيّ لأيا مَا أُبَيّنُها *** *** والنّؤْي كالحَوْضِ بالمَظْلُومَةِ الجَلَدِ
وأَلاواري معلوم أنها ليست من عداد أحد في شيء . فكذلك عنده استثنى ( غير المغضوب عليهم ) من ( الذين أنعمت عليهم ) ، وإن لم يكونوا من معانيهم في الدين في شيء .
وأما نحويو الكوفيين فأنكروا هذا التأويل واستخطئوه ، وزعموا أن ذلك لو كان كما قاله الزاعم من أهل البصرة لكان خطأ أن يقال : ولا الضالين لأن «لا » نفي وجحد ، ولا يعطف بجحد إلا على جحد وقالوا : لم نجد في شيء من كلام العرب استثناء يعطف عليه بجحد ، وإنما وجدناهم يعطفون على الاستثناء بالاستثناء ، وبالجحد على الجحد فيقولون في الاسثتناء : قام القوم إلا أخاك وإلا أباك وفي الجحد : ما قام أخوك ، ولا أبوك وأما قام القوم إلا أباك ولا أخاك ، فلم نجده في كلام العرب قالوا : فلما كان ذلك معدوما في كلام العرب وكان القرآن بأفصح لسان العرب نزوله ، علمنا إذ كان قوله : ( ولا الضالين ) معطوفا على قوله : ( غير المغضوب عليهم ) أن «غير » بمعنى الجحد لا بمعنى الاستثناء ، وأن تأويل من وجهها إلى الاستثناء خطأ . فهذه أوجه تأويل ( غير المغضوب عليهم ) . باختلاف أوجه إعراب ذلك .
وإنما اعترضنا بما اعترضْنا في ذلك من بيان وجوه إعرابه ، وإن كان قصدنا في هذا الكتاب الكشف عن تأويل آي القرآن ، لما في اختلاف وجوه إعراب ذلك من اختلاف وجوه تأويله ، فاضطرّتنا الحاجة إلى كشف وجوه إعرابه ، لتنكشف لطالب تأويله وجوه تأويله على قدر اختلاف المختلفة في تأويله وقراءته .
والصواب من القول في تأويله وقراءته عندنا القول الأول ، وهو قراءة : ( غيرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) بخفض الراء من «غير » بتأويل أنها صفة للذين أنعمت عليهم ونعت لهم لما قد قدمنا من البيان إن شئت ، وإن شئت فبتأويل تكرار «صراط » كل ذلك صواب حسن .
فإن قال لنا قائل : فمن هؤلاء المغضوب عليهم الذين أمرنا الله جل ثناؤه بمسألته أن لا يجعلنا منهم ؟ قيل : هم الذين وصفهم الله جل ثناؤه في تنزيله فقال : ( قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مِنْ ذلكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللّهِ مَنْ لَعنَهُ اللّهُ وغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمْ القِرَدَةَ والخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرّ مَكانا وأضَلّ عَنْ سَوَاءِ السّبِيلِ ) فأعلمنا جل ذكره بمنه ما أحلّ بهم من عقوبته بمعصيتهم إياه ، ثم علمنا ، مِنّةً منه علينا ، وجه السبيل إلى النجاة ، من أن يحل بنا مثل الذي حلّ بهم من المَثُلات ، ورأفة منه بنا .
فإن قيل : وما الدليل على أنهم أولاء الذين وصفهم الله وذكر نبأهم في تنزيله على ما وصفت قيل :
حدثني أحمد بن الوليد الرملي ، قال : حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ، عن عديّ بن حاتم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «المَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ : اليَهُودُ » .
وحدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة عن سماك بن حرب ، قال : سمعت عباد بن حبيش يحدّث عن عديّ بن حاتم قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ المَغْضُوبَ عَلَيْهِمْ : اليَهُودُ » .
وحدثني عليّ بن الحسن ، قال : حدثنا مسلم بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا محمد بن مصعب ، عن حماد بن سلمة ، عن سماك بن حرب ، عن مُرّي بن قَطَري ، عن عدي بن حاتم قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله جل وعز : ( غيرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) قال : «هُمُ اليَهُودُ » .
وحدثنا حميد بن مسعدة الشامي ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا الجريري عن عبد الله بن شقيق : أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محاصرٌ وادي القرى فقال : من هؤلاء الذين تحاصر يا رسول الله ؟ قال : «هَولاءِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ : اليَهُودُ » .
وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن سعيد الجريري ، عن عروة ، عن عبد الله بن شقيق ، أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه .
وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أنبأنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن بديل العقيلي ، قال : أخبرني عبد الله بن شقيق أنه أخبره من سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى وهو على فرسه وسأله رجل من بني القين ، فقال : يا رسول الله من هؤلاء ؟ قال : «المَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ » وأشار إلى اليهود .
وحدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا خالد الواسطي ، عن خالد الحذاء ، عن عبد الله بن شقيق ، أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحوه .
وحدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمار ، قال : حدثنا أبو روق عن الضحاك ، عن ابن عباس : ( غيرِ المَغُضُوبِ عَلَيْهِمْ ) يعني اليهود الذين غضب الله عليهم .
وحدثني موسى بن هارون الهمداني ، قال : حدثنا عمرو بن طلحة ، قال : حدثنا أسباط بن نصر ، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم : ( غيرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) هم اليهود .
وحدثنا ابن حميد الرازي ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن مجاهد ، قال : ( غيرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) قال : هم اليهود .
حدثنا أحمد بن حازم الغفاري ، قال : حدثنا عبد الله ، عن أبي جعفر ، عن ربيع : ( غيرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) قال : اليهود .
وحدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : ( غيرٍ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) قال : اليهود .
وحدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب . قال : قال ابن زيد : ( غير المَغْضُوبِ ) عَلَيْهِمْ اليهود .
وحدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثني ابن زيد ، عن أبيه ، قال : ( المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) اليهود .
قال أبو جعفر : واختلف في صفة الغضب من الله جل ذكره فقال بعضهم : غضب الله على من غضب عليه من خلقه إحلالُ عقوبته بمن غضب عليه ، إما في دنياه ، وإما في آخرته ، كما وصف به نفسه جل ذكره في كتابه فقال : { فَلَمّا آسَفُونا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأغْرَقْنَاهُمْ أجمَعينَ } وكما قال : ( قُلْ هَلْ أُنَبئُكُمْ بشَرّ منْ ذلكَ مَثُوبَةً عنْدَ اللّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللّهُ وغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ منهُمُ القِرَدَةَ والخَنازِير )َ . وقال بعضهم : غضب الله على من غضب عليه من عباده ذمّ منه لهم ولأفعالهم ، وشتم منه لهم بالقول . وقال بعضهم : الغضب منه معنى مفهوم ، كالذي يعرف من معاني الغضب . غير أنه وإن كان كذلك من جهة الإثبات ، فمخالف معناه منه معنى ما يكون من غضب الاَدميين الذين يزعجهم ويحركهم ويشقّ عليهم ويؤذيهم لأن الله جل ثناؤه لا تحل ذاته الاَفات ، ولكنه له صفة كما العلم له صفة ، والقدرة له صفة على ما يعقل من جهة الإثبات ، وإن خالفت معاني ذلك معاني علوم العباد التي هي معارف القلوب وقواهم التي توجد مع وجود الأفعال وتُعدم مع عدمها .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلا الضّالِينَ .
قال أبو جعفر : كان بعض أهل البصرة يزعم أن «لا » مع «الضالين » أدخلت تتميما للكلام والمعنى إلغاؤها ، ويستشهد على قيله ذلك ببيت العجاج :
*** *** في بِئْرٍ لا حُورً سَرَى وَما شَعَرْ
ويتأوله بمعنى : في بئر حُورٍ سَرَى ، أي في بئر هلكة ، وأنّ «لا » بمعنى الإلغاء والصلة . ويعتل أيضا لذلك بقول أبي النجم :
فَمَا ألُوم البِيضَ أنْ لا تَسْخَرَا *** لَمّا رأيْنَ الشّمَطَ القَفَنْدَرَا
وهو يريد : فما ألوم البيض أن تسخر . وبقول الأحوص :
ويَلْحَيْنَنِي في اللّهْوِ أنْ لا أحِبّهُ *** ولَلّهْوِ داعٍ دائِبٌ غَيْرُ غَافِلِ
يريد : ويلحينَني في اللهو أن أحبه . وبقوله تعالى : ( ما مَنَعَكَ ألا تَسْجُدَ ) يريد أن تسجد . وحكي عن قائل هذه المقالة أنه كان يتأول «غير » التي «مع المغضوب عليهم » أنها بمعنى «سوى » ، فكأن معنى الكلام كان عنده : اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم الذين هم سوى المغضوب عليهم والضالين .
وكان بعض نحويي الكوفة يستنكر ذلك من قوله ، ويزعم أن «غير » التي «مع المغضوب عليهم » لو كانت بمعنى «سوى » لكان خطأ أن يعطف عليها ب«لا » ، إذ كانت «لا » لا يعطف بها إلا على جحد قد تقدمها ، كما كان خطأ قول القائل : عندي سوى أخيك ، ولا أبيك لأن «سوى » ليست من حروف النفي والجحود ويقول : لما كان ذلك خطأ في كلام العرب ، وكان القرآن بأفصح اللغات من لغات العرب ، كان معلوما أن الذي زعمه القائل أن «غير مع المغضوب » عليهم بمعنى : «سوى المغضوب عليهم » خطأ ، إذ كان قد كرّ عليه الكلام ب«لا » . وكان يزعم أن «غير » هنالك إنما هي بمعنى الجحد ، إذ كان صحيحا في كلام العرب وفاشيا ظاهرا في منطقها توجيه «غير » إلى معنى النفي ومستعملاً فيهم : أخوك غير محسن ولا مجمل ، يراد بذلك أخوك لا محسن ، ولا مجمل ، ويستنكر أن تأتي «لا » بمعنى الحذف في الكلام مبتدأً ولمّا يتقدمها جحد ، ويقول : لو جاز مجيئها بمعنى الحذف مبتدأ قبل دلالة تدل على ذلك من جحد سابق ، لصح قول قائل قال : أردت أن لا أكرم أخاك ، بمعنى : أردت أن أكرم أخاك . وكان يقول : ففي شهادة أهل المعرفة بلسان العرب على تخطئة قائل ذلك دلالة واضحة على أن «لا » لا تأتي مبتدأة بمعنى الحذف ، ولمّا يتقدمها جحد . وكان يتأول في «لا » التي في بيت العجاج الذي ذكرنا أن البصري استشهد به بقوله إنها جحد صحيح ، وأن معنى البيت : سرى في بئر لا تُحِيرُ عليه خيرا ، ولا يتبين له فيها أثرُ عمل ، وهو لا يشعر بذلك ولا يدري به . من قولهم : طحنت الطاحنة فما أحارت شيئا أي لم يتبين لها أثر عمل . ويقول في سائر الأبيات الأخر ، أعني مثل بيت أبي النجم :
*** *** *** فَمَا ألُومُ البِيضَ أنْ لا تَسْخَرَا
إنما جاز أن تكون «لا » بمعنى الحذف ، لأن الجحد قد تقدمها في أول الكلام ، فكان الكلام الاَخر مواصلاً للأول ، كما قال الشاعر :
ما كانَ يَرْضَى رَسُولُ اللّهِ فِعْلَهُم *** وَالطّيّبان أبُو بَكْرٍ وَلا عُمَرُ
فجاز ذلك ، إذ كان قد تقدم الجحد في أول الكلام .
قال أبو جعفر : وهذا القول الاَخر أولى بالصواب من الأول ، إذ كان غير موجود في كلام العرب ابتداء الكلام من غير جحد تقدمه ب«لا » التي معناها الحذف ، ولا جائز العطف بها على «سوى » ، ولا على حرف الاستثناء . وإنما ل«غير » في كلام العرب معان ثلاثة : أحدها الاستثناء ، والاَخر الجحد ، والثالث سوى ، فإذا ثبت خطأ «لا » أن يكون بمعنى الإلغاء مبتدأ وفسد أن يكون عطفا على «غير » التي مع «المغضوب عليهم » ، لو كانت بمعنى «إلا » التي هي استثناء ، ولم يجز أيضا أن يكون عطفا عليها لو كانت بمعنى «سوى » ، وكانت «لا » موجودة عطفا بالواو التي هي عاطفة لها على ما قبلها ، صحّ وثبت أن لا وجه ل«غير » التي مع «المغضوب عليهم » يجوز توجيهها إليه على صحة إلا بمعنى الجحد والنفي ، وأن لا وجه لقوله : «ولا الضالين » ، إلا العطف على «غير المغضوب عليهم » . فتأويل الكلام إذا إذ كان صحيحا ما قلنا بالذي عليه استشهدنا : اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم لا المغضوب عليهم ولا الضالين .
فإن قال لنا قائل : ومن هؤلاء الضالون الذين أمرنا الله بالاستعاذة بالله أن يسلك بنا سبيلهم ، أو نضل ضلالهم ؟ قيل : هم الذين وصفهم الله في تنزيله ، فقال : ( يا أهْلَ الكِتابِ لا تَغْلُوا في دِينِكُمْ غيرَ الحَقّ ولا تَتّبِعُوا أهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلّوا منْ قَبْلُ وأضَلّوا كَثيرا وضَلّوا عَنْ سَوَاء السّبِيلِ ) فإن قال : وما برهانك على أنهم أولاء ؟ قيل :
حدثنا أحد بن الوليد الرملي ، قال : حدثنا عبد الله بن جعفر ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ، عن عديّ بن أبي حاتم ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ولا الضّالّينَ قال : «النّصارى » .
حدثنا محمد بن المثنى ، أنبأنا محمد بن جعفر ، أنبأنا شعبة عن سماك ، قال : سمعت عباد بن حبيش يحدث عن عديّ بن حاتم ، قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ الضّالّينَ : النّصَارَى » .
وحدثني عليّ بن الحسن ، قال : حدثنا مسلم وعبد الرحمن ، قال : حدثنا محمد بن مصعب ، عن حماد بن سلمة ، عن سماك بن حرب ، عن مري بن قطري ، عن عديّ بن حاتم ، قال : سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم عن قول الله ( وَلا الضّالّينَ ) قال : «النّصَارَى هُمُ الضّالونَ » .
وحدثنا حميد بن مسعدة الشامي ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا الجريري ، عن عبد الله بن شقيق : أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محاصر وادي القرى قال : قلت : من هؤلاء ؟ قال : «هَؤُلاءِ الضّالونَ : النّصَارَى » .
وحدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن سعيد الجريري ، عن عروة ، يعني ابن عبد الله بن قيس ، عن عبد الله بن شقيق ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر عن بديل العقيلي ، قال : أخبرني عبد الله بن شقيق ، أنه أخبره من سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى وهو على فرسه وسأله رجل من بني القين فقال : يا رسول الله من هؤلاء ؟ قال : «هَؤلاءِ الضّالّونَ » ، يَعْنِي النّصَارَى .
وحدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا خالد الواسطي ، عن خالد الحذاء ، عن عبد الله بن شقيق ، أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو محاصر وادي القرى وهو على فرس من هؤلاء ؟ قال : «الضّالونَ » يَعْنِي النّصَارَى .
وحدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن مجاهد : ولا الضالين قال : النصارى .
وحدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عمار ، قال : حدثنا أبو روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : ولا الضالين قال : وغير طريق النصارى الذين أضلهم الله بِفِرْيتهم عليه . قال : يقول : فألهمنا دينك الحقّ ، وهو لا إلَه إلاّ الله وحده لا شريك له ، حتى لا تغضبَ علينا كما غضبت على اليهود ولا تضلّنا كما أضللت النصارى فتعذّبنا بما تعذبهم به . يقول : امنعنا من ذلك برفقك ورحمتك وقدرتك .
وحدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس الضالين : النصارى .
وحدثني موسى بن هارون الهمداني ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط بن نصر ، عن إسماعيل السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم : ولا الضالين : هم النصارى .
وحدثني أحمد بن حازم الغفاري ، قال : أخبرنا عبيد الله بن موسى ، عن أبي جعفر ، عن ربيع : ولا الضالين : النصارى .
وحدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال عبد الرحمن بن زيد : ولا الضالين النصارى .
وحدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن زيد ، عن أبيه . قال : ولا الضالين النصارى .
قال أبو جعفر : وكل حائد عن قصد السبيل وسالك غير المنهج القويم فضالّ عند العرب لإضلاله وجه الطريق ، فلذلك سَمّى الله جل ذكره النصارى ضُلاّلاً لخطئهم في الحق منهج السبيل ، وأخذهم من الدين في غير الطريق المستقيم .
فإن قال قائل : أو ليس ذلك أيضا من صفة اليهود ؟ قيل : بلى . فإن قال : كيف خصّ النصارى بهذه الصفة ، وخص اليهود بما وصفهم به من أنهم مغضوب عليهم ؟ قيل : إن كلا الفريقين ضُلاّل مغضوب عليهم ، غير أن الله جل ثناؤه وَسَم كل فريق منهم من صفته لعباده بما يعرفونه به إذا ذكره لهم ، أو أخبرهم عنه ، ولم يَسِمْ واحدا من الفريقين إلا بما هو له صفة على حقيقته ، وإن كان له من صفات الذم زيادات عليه . وقد ظن بعض أهل الغباء من القدرية أن في وصف الله جل ثناؤه النصارى بالضلال بقوله : ( وَلا الضالّين ) وإضافته الضلال إليهم دون إضافة إضلالهم إلى نفسه ، وتركه وصفهم بأنهم المضللون كالذي وصف به اليهود أنهم المغضوب عليهم ، دلالةً على صحة ما قاله إخوانه من جَهَلَةِ القدرية جهلاً منه بسعة كلام العرب وتصاريف وجوهه . ولو كان الأمر على ما ظنه الغبيّ الذي وصفنا شأنه لوجب أن يكون شأن كل موصوف بصفة أو مضاف إليه فعل لا يجوز أن يكون فيه سبب لغيره ، وأن يكون كل ما كان فيه من ذلك لغيره سبب فالحق فيه أن يكون مضافا إلى مسببه ، ولو وجب ذلك لوجب أن يكون خطأ قول القائل : «تحركت الشجرةُ » إذا حركتها الرياح ، و«اضطربت الأرضُ » إذا حركتها الزلزلة ، وما أشبه ذلك من الكلام الذي يطول بإحصائه الكتاب .
وفي قول الله جل ثناؤه : ( حتّى إذا كنْتُمْ في الفُلْكِ وجَرَيْنَ بِهمْ ) بإضافته الجري إلى الفلك ، وإن كان جَرْيُها بإجراء غيرها إياها ، ما يدل على خطأ التأويل الذي تأوله من وصفنا قوله في قوله : ( وَلا الضّالينَ ) ، وادعائه أن في نسبة الله جل ثناؤه الضلالةَ إلى من نسبها إليه من النصارى تصحيحا لما ادعى المنكرون أن يكون لله جل ثناؤه في أفعال خلقه سببٌ من أجله وُجدت أفعالهم ، مع إبانة الله عز ذكره نصّا في آي كثيرة من تنزيله أنه المضلّ الهادي فمن ذلك قوله جل ثناؤه : ( أفَرأيْتَ مَنِ اتّخَذَ إلهَهُ هَوَاهُ وأضَلّهُ اللّهُ على عِلْمٍ وخَتَمَ على سَمْعِهِ وقَلْبِهِ وجَعَلَ على بَصَرِهِ غَشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مَنْ بَعْدِ اللّهِ أفَلا تَذَكرُونَ ) فأنبأ جل ذكره أنه المضلّ الهادي دون غيره .
ولكن القرآن نزل بلسان العرب ، على ما قد قدمنا البيان عنه في أول الكتاب . ومن شأن العرب إضافة الفعل إلى من وُجد منه ، وإن كان مسببه غير الذي وجد منه أحيانا ، وأحيانا إلى مسببه ، وإن كان الذي وجد منه الفعل غيرُه . فكيف بالفعل الذي يكتسبه العبد كسبا ويوجده الله جل ثناؤه عينا مُنْشأةً ؟ بل ذلك أحرى أن يضاف إلى مكتسبه كسبا له بالقوة منه عليه والاختيار منه له ، وإلى الله جل ثناؤه بإيجاد عينه وإنشائها تدبيرا .
مسألة يسأل عنها أَهل الإلحاد الطاعنون في القرآن
إن سألنا منهم سائل فقال : إنك قد قدمت في أول كتابك هذا في وصف البيان بأن أعلاه درجة وأشرفه مرتبة ، أبلغه في الإبانة عن حاجة المبين به عن نفسه وأبْينُه عن مراد قائله وأقربه من فهم سامعه ، وقلت مع ذلك إن أولى البيان بأن يكون كذلك كلام الله جل ثناؤه بفضله على سائر الكلام وبارتفاع درجته على أعلى درجات البيان . فما الوجه إذ كان الأمر على ما وصفتَ في إطالة الكلام بمثل سورة أمّ القرآن بسبع آيات ؟ وقد حوت معاني جميعها منها آيتان ، وذلك قوله : ( مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ إيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ ) إذ كان لا شك أن من عرف : مَلِكِ يَوْمِ الدّينِ فقد عرفه بأسمائه الحسنى وصفاته المثلى . وأنّ من كان لله مطيعا ، فلا شك أنه لسبيل من أنعم الله عليه في دينه متبع ، وعن سبيل من غضب عليه وضل منعدل ، فما في زيادة الاَيات الخمس الباقية من الحكمة التي لم تحوها الاَيتان اللتان ذكرنا ؟
قيل له : إن الله تعالى ذكره جمع لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولأمته بما أنزل إليه من كتابه معاني لم يجمعهن بكتاب أنزله إلى نبي قبله ولا لأمة من الأمم قبلهم . وذلك أن كل كتاب أنزله جل ذكره على نبي من أنبيائه قبله ، فإنما أنزل ببعض المعاني التي يحوي جميعها كتابه الذي أنزله إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، كالتوراة التي هي مواعظ وتفصيل ، والزّبُور الذي هو تحميد وتمجيد ، والإنجيل الذي هو مواعظ وتذكير لا معجزة في واحد منها تشهد لمن أنزل إليه بالتصديق . والكتابُ الذي أنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يحوي معاني ذلك كله ، ويزيد عليه كثيرا من المعاني التي سائر الكتب غيره منها خالٍ ، وقد قدمنا ذكرها فيما مضى من هذا الكتاب . ومن أشرف تلك المعاني التي فضل بها كتابنا سائر الكتب قبله : نظمه العجيب ، ورصفه الغريب ، وتأليفه البديع ، الذي عجزت عن نظم مثل أصغر سورة منه الخطباء ، وكلّتْ عن وصف شكل بعضه البلغاء ، وتحيرت في تأليفه الشعراء ، وتبلّدت قصورا عن أن تأتي بمثله لديه أفهام الفهماء . فلم يجدوا له إلا التسليم ، والإقرار بأنه من عند الواحد القهار ، مع ما يحوي مع ذلك من المعاني التي هي ترغيب ، وترهيب . وأمر ، وزجر ، وقصص ، وجدل ، ومثل ، وما أشبه ذلك من المعاني التي لم تجتمع في كتاب أنزل إلى الأرض من السماء .
فمهما يكن فيه من إطالة على نحو ما في أم القرآن ، فلما وصفت قبلُ من أن الله جل ذكره أراد أن يجمع برصفه العجيب ، ونظمه الغريب ، المنعدل عن أوزان الأشعار ، وسجع الكهان ، وخطب الخطباء ، ورسائل البلغاء ، العاجز عن وصف مثله جميع الأنام ، وعن نظم نظيره كل العباد ، الدلالة على نبوّة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وبما فيه من تحميد وتمجيد وثناء عليه ، تنبيه للعباد على عظمته وسلطانه وقدرته وعظم مملكته ، ليذكروه بآلائه ويحمدوه على نعمائه ، فيستحقوا به منه المزيد ويستوجبوا عليه الثوابَ الجزيل . وبما فيه من نعت من أنعم عليه بمعرفته ، وتفضل عليه بتوفيقه لطاعته ، تعريف عباده أن كل ما بهم من نعمة في دينهم ودنياهم فمنه ، ليصرفوا رغبتهم إليه ، ويبتغوا حاجاتهم من عنده دون ما سواه من الاَلهة والأنداد ، وبما فيه من ذكره ما أحل بمن عصاه من مثلاته ، وأنزل بمن خالف أمره من عقوباته ترهيب عباده عن ركوب معاصيه ، والتعرّض لما لا قبل لهم به من سخطه ، فيسلك بهم في النكال والنقمات سبيل من ركب ذلك من الهلاك . فذلك وجه إطالة البيان في سورة أم القرآن ، وفيما كان نظيرا لها من سائر سور الفرقان ، وذلك هو الحكمة البالغة والحجة الكاملة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا المحاربي ، عن محمد بن إسحاق ، قال : حدثني العلاء بن عبد الرّحمن بن يعقوب ، عن أبي السائب مولى زهرة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذَا قالَ العَبْدُ : الحَمْدُ لِلّهِ َرّب العالَمِينَ ، قالَ اللّهُ : حَمَدَنِي عَبْدِي ، وَإذَا قالَ : الرحْمَنُ الرّحِيمِ ، قال : أثنى عَليّ عَبْدِي ، وَإذَا قالَ : مالِكِ يَوْمِ الدّينِ ، قالَ : مَجّدَنِي عَبْدِي ، فَهَذَا لي . وَإذَا قالَ : إياكَ نَعْبُدُ وَإياكَ نَسْتَعِينُ إلى أنْ يَخْتِمَ السورَةَ قالَ : فَذَاكَ لَهُ » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبدة ، عن ابن إسحاق ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبي السائب ، عن أبي هريرة ، قال : إذا قال العبد : الحمد لله ، فذكر نحوه ، ولم يرفعه .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو أسامة ، قال : حدثنا الوليد بن كثير ، قال : حدثني العلاء بن عبد الرحمن مولى الحرقة ، عن أبي السائب ، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله .
حدثني صالح بن مسمار المروزي ، قال : حدثنا زيد بن الحباب ، قال : حدثنا عنبسة بن سعيد ، عن مطرف بن طريف ، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قال الله عَزّ وَجَلّ : قَسَمْتُ الصّلاةَ بَيْني وبينَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلَهُ ما سألَ ، فإذَا قالَ العَبْدُ : الحَمْدُ لِلّهِ رَبّ العالَمِينَ ، قالَ الله : حَمِدَنِي عَبْدِي ، وَإذَا قالَ الرّحْمَنِ الرّحيمِ ، قالَ : أثْنى عَليّ عَبْدِي ، وَإذَا قالَ : مالكِ يَوْم الدّين ، قالَ : مَجّدَنِي عَبْدِي ، قالَ : هَذَا لي وَلَهُ ما بَقيَ » .
{ صراط الذين أنعمت عليهم } بدل من الأول بدل الكل ، وهو في حكم تكرير العامل من حيث إنه المقصود بالنسبة ، وفائدته التوكيد والتنصيص على أن طريق المسلمين هو المشهود عليه بالاستقامة على آكد وجه وأبلغه لأنه جعل كالتفسير والبيان له فكأنه من البين الذي لا خفاء فيه أن الطريق المستقيم ما يكون طريق المؤمنين . وقيل : { الذين أنعمت } { عليهم } الأنبياء ، وقيل : النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقيل : أصحاب موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام قبل التحريف والنسخ . وقرئ { صراط الذين أنعمت عليهم } والإنعام : إيصال النعمة ، وهي في الأصل الحالة التي يستلذها الإنسان فأطلقت لما يستلذه من النعمة وهي اللين ، ونعم الله وإن كانت لا تحصى كما قال : { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } تنحصر في جنسين : دنيوي وأخروي .
والأول : قسمان وهبي وكسبي والوهبي قسمان : روحاني كنفخ الروح فيه وإشراقه بالعقل وما يتبعه من القوى كالفهم والفكر والنطق ، وجسماني كتخليق البدن والقوى الحالة فيه والهيئات العارضة له من الصحة وكمال الأعضاء ، والكسبي تزكية النفس عن الرذائل وتحليتها بالأخلاق السنية والملكات الفاضلة ، وتزيين البدن بالهيئات المطبوعة والحلى المستحسنة وحصول الجاه والمال .
والثاني أن يغفر له ما فرط منه ويرضى عنه ويبوئه في أعلى عليين مع الملائكة المقربين أبد الآبدين . والمراد هو القسم الأخير وما يكون وصلة إلى نيله من الآخرة فإن ما عدا ذلك يشترك فيه المؤمن والكافر .
{ غير المغضوب عليهم ولا الضالين } بدل من { الذين } على معنى أن المنعم عليهم هم الذين سلموا من الغضب والضلال . أو صفة له مبينة أو مقيدة على معنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة ، وهي نعمة الإيمان ، وبين السلامة من الغضب والضلال وذلك إنما يصح بأحد تأويلين ، إجراء الموصول مجرى النكرة إذ لم يقصد به معهود كالمحلى في قوله :
ولقد أمر على اللئيم يسبني *** . . .
وقولهم : إني لأمر على الرجل مثلك فيكرمني . أو جعل غير معرفة بالإضافة لأنه أضيف إلى ما له ضد واحد وهو المنعم عليهم ، فيتعين تعين الحركة من غير السكون .
وعن ابن كثير نصبه على الحال من الضمير المجرور والعامل أنعمت . أو بإضمار أعني . أو بالاستثناء إن فسر النعم بما يعم القبيلين ، والغضب : ثوران النفس إرادة الانتقام ، فإذا أسند إلى الله تعالى أريد به المنتهى والغاية على ما مر ، وعليهم في محل الرفع لأنه نائب مناب الفاعل بخلاف الأول ، ولا مزيدة لتأكيد ما في غير من معنى النفي ، فكأنه قال لا المغضوب عليهم ولا الضالين ، ولذلك جاز أنا زيدا غير ضارب ، كما جاز أنا زيدا لا ضارب ، وإن امتنع أنا زيدا مثل ضارب ، وقرئ { وغير الضالين } والضلال : العدول عن الطريق السوي عمدا أو خطأ ، وله عرض عريض والتفاوت ما بين أدناه وأقصاه كثير .
قيل : { المغضوب عليهم } اليهود لقوله تعالى فيهم : { من لعنه الله وغضب عليه } و{ الضالين } النصارى لقوله تعالى : { قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا } وقد روي مرفوعا ، ويتجه أن يقال : المغضوب عليهم العصاة والضالين الجاهلون بالله ، لأن المنعم عليه من وفق للجمع بين معرفة الحق لذاته والخير للعمل به ، وكان المقابل له من اختل إحدى قوتيه العاقلة والعاملة . والمخل بالعمل فاسق مغضوب عليه لقوله تعالى في القاتل عمدا { وغضب الله عليه } . والمخل بالعقل جاهل ضال لقوله : { فماذا بعد الحق إلا الضلال } . وقرئ ولا " الضالين " بالهمزة على لغة من جد في الهرب من التقاء الساكنين .
-آمين- اسم الفعل الذي هو استجب . وعن ابن عباس قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معناه : " فقال افعل بني على الفتح كأين لالتقاء الساكنين " ، وجاء مد ألفه وقصرها قال :
ويرحم الله عبدا قال آمينا *** . . .
أمين فزاد الله ما بيننا بعدا *** . . .
وليس من القرآن وفاقا ، لكن يسن ختم السورة به لقوله عليه الصلاة والسلام " علمني جبريل آمين عند فراغي من قراءة الفاتحة وقال إنه كالختم على الكتاب " . وفي معناه قول علي رضي الله عنه : آمين خاتم رب العالمين ، ختم به دعاء عبده . يقوله الإمام ويجهر به في الجهرية لما روي عن وائل بن حجر " أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا قرأ ولا الضالين قال آمين ورفع بها صوته " .
وعن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه لا يقوله ، والمشهور عنه أنه يخفيه كما رواه عبد الله بن مغفل وأنس ، والمأموم يؤمن معه لقوله عليه الصلاة والسلام : " إذا قال الإمام { ولا الضالين } فقولوا آمين فإن الملائكة تقول آمين فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه " وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي " ألا أخبرك بسورة لم ينزل في التوراة والإنجيل والقرآن مثلها " قال : قلت بلى يا رسول الله . قال " فاتحة الكتاب إنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته " .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ أتاه ملك فقال أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب ، وخواتيم سورة البقرة ، لن تقرأ حرفا منهما إلا أعطيته " .
وعن حذيفة بن اليمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتما مقضيا فيقرأ صبي من صبيانهم في الكتاب : { الحمد لله رب العالمين } فيسمعه الله تعالى فيرفع عنهم بذلك العذاب أربعين سنة " .
{ صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } .
بدل أو عطف بيان من { الصراط المستقيم } ، وإنما جاء نظم الآية بأسلوب الإبدال أو البيان دون أن يقال : اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم المستقيم ، لفائدتين : الأولى : أن المقصود من الطلب ابتداء هو كون المهدى إليه وسيلة للنجاة واضحة سمحة سهلة ، وأما كونها سبيل الذين أنعم الله عليهم فأمر زائد لبيان فضله . الفائدة الثانية : ما في أسلوب الإبدال من الإجمال المعقب بالتفصيل ليتمكن معنى الصراط للمطلوب فضل تمكن في نفوس المؤمنين الذين لقنوا هذا الدعاء فيكون له من الفائدة مثل ما للتوكيد المعنوي ، وأيضاً لما في هذا الأسلوب من تقرير حقيقة هذا الصراط وتحقيق مفهومه في نفوسهم فيحصل مفهومه مرتين فيحصل له من الفائدة ما يحصل بالتوكيد اللفظي واعتبار البدلية مساوٍ لاعتباره عطف بيان لا مزية لأحدهما على الآخر خلافاً لمن حاول التفاضل بينهما ، إذ التحقيق عندي أن عطف البيان اسم لنوع من البدل وهو البدل المطابق وهو الذي لم يفصح أحد من النحاة على تفرقة معنوية بينهما ولا شاهداً يعين المصير إلى أحدهما دون الآخر .
قال في « الكشاف » : « فإن قلت ما فائدة البدل ؟ قلت فائدته التوكيد لما فيه من التثنية والتكرير » ا هـ فأفهم كلامه أن فائدة الإبدال أمران يرجعان إلى التوكيد وهما ما فيه من التثنية أي تكرار لفظ البدل ولفظ المبدل منه وعنى بالتكرير ما يفيده البدل عند النحاة من تكرير العامل وهو الذي مهد له في صدر كلامه بقوله : « وهو في حكم تكرير العامل كأنه قيل : اهدنا الصراط المستقيم اهدنا صراط الذين ، وسماه تكريراً لأنه إعادة للفظ بعينه ، بخلاف إعادة لفظ المبدل منه فإنه إعادة له بما يتحد مع ما صدقه فلذلك عبر بالتكرير وبالتثنية ، ومراده أن مثل هذا البدل وهو الذي فيه إعادة لفظ المبدل منه يفيد فائدة البدل وفائدة التوكيد اللفظي ، وقد علمت أن الجمع بين الأمرين لا يتأتى على وجه معتبر عند البلغاء إلا بهذا الصوغ البديع .
وإن إعادة الاسم في البدل أو البيان لِيُبنى عليه ما يُراد تعلقه بالاسم الأول أسلوبٌ بهيج من الكلام البليغ لإشعار إعادة اللفظ بأن مدلولَه بمحلِّ العناية وأنه حبيب إلى النفس ، ومثله تكرير الفعل كقوله تعالى : { وإذا مروا باللغو مروا كراماً } [ الفرقان : 72 ] وقوله : { ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا } [ القصص : 63 ] فإن إعادة فعل { مروا } وفعل { أغويناهم } وتعليق المتعلِّق بالفعل المعاد دون الفعل الأول تَجِدُ له من الروعة والبهجة ما لا تجده لتعليقه بالفعل الأول دون إعادة ، وليست الإعادة في مثله لمجرد التأكيد لأنه قد زيد عليه ما تعلق به . قال ابن جني في « شرح مشكل الحماسة » عند قول الأحوص :
فإذَا تزولُ تزول عن مُتَخَمِّطٍ *** تُخْشَى بَوَادِرُه على الأَقرانِ
محالٌ أن تقول إذا قُمتَ قُمتَ وإذا أقْعُدُ أقعد لأنه ليس في الثاني غير ما في الأول وإنما جاز أن يقول فإذَا تزولُ تزول لِما اتصل بالفعل الثاني من حَرْف الجر المفادة منه الفائدةُ ، ومثله قول الله تعالى : { هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا } وقد كان أبو علي ( يعني الفارسي ) امتنع في هذه الآية مما أخذناه ا هـ .
قلت ولم يتضح توجيه امتناع أبي علي فلعله امتنع من اعتبار { أغويناهم } بدلاً من { أغوينا } وجعله استئنافاً وإن كان المآل واحداً . وفي استحضار المنعم عليهم بطريق الموصول ، وإسناد فعل الإنعام عليهم إلى ضمير الجلالة ، تنويه بشأنهم خلافاً لغيرهم من المغضوب عليهم والضالين .
ثم إن في اختيار وصف الصراط المستقيم بأنه صراط الذين أنعمتَ عليهم دون بقية أوصافه تمهيداً لبساط الإجابة فإن الكريم إذا قلت له أعطني كما أعطيتَ فلاناً كان ذلك أَنْشَطَ لكرمه ، كما قرره الشيخ الجد قدس الله سره في قوله صلى الله عليه وسلم « كما صليتَ على إبراهيم » ، فيقول السائلون : إهدنا الصراط المستقيم الصراط الذين هديت إليه عبيد نعمك مع ما في ذلك من التعريض بطلب أن يكونوا لاحقين في مرتبة الهدى بأولئك المنعم عليهم ، وتهمماً بالاقتداء بهم في الأخذ بالأسباب التي ارتقوا بها إلى تلك الدرجات ، قال تعالى : { لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة } [ الممتحنة : 6 ] ، وتوطئةً لما سيأتي بعد من التبرىء من أحوال المغضوب عليهم والضالين فتضمن ذلك تفاؤلاً وتعوذاً .
والنعمة بالكسر وبالفتح مشتقة من النعيم وهو راحة العيش ومُلائم الإنسان والترفه ، والفعل كسمع ونصر وضرب . والنعمة الحالة الحسنة لأن بناء الفعلة بالكسر للهيئات ومتعلق النعمة اللذاتُ الحسية ثم استعملت في اللذات المعنوية العائدة بالنفع ولو لم يحس بها صاحبها . فالمراد من النعمة في قوله : { الذين أنعمت عليهم } النعمةُ التي لم يَشُبْها ما يكدرها ولا تكون عاقبتها سُوأَى ، فهي شاملة لخيرات الدنيا الخالصة من العواقب السيئة ولخيرات الآخرة ، وهي الأهم ، فيشمل النعم الدنيوية الموهوبيَّ منها والكسبيَّ ، والرُّوحانيَّ والجثماني ، ويشمل النعم الأخروية . والنعمة بهذا المعنى يرجع معظمها إلى الهداية ، فإن الهداية إلى الكسبي من الدنيويّ وإلى الأخرويّ كلِّه ظاهرة فيها حقيقة الهداية ، ولأن الموهوب في الدنيا وإن كان حاصلاً بلا كسب إلا أن الهداية تتعلق بحسن استعماله فيما وُهب لأجله .
فالمراد من المنعم عليهم الذين أفيضت عليهم النعم الكاملة ولا تخفى تمام المناسبة بين المنعم عليهم وبين المهديين حينئذٍ فيكون في إبدال { صراط الذين } من { الصراط المستقيم } معنى بديع وهو أن الهداية نعمة وأن المنعَم عليهم بالنعمة الكاملة قد هُدوا إلى الصراط المستقيم . والذين أنعم الله عليهم هم خيار الأمم السابقة من الرسل والأنبياء الذين حصلت لهم النعمة الكاملة . وإنما يلتئم كون المسؤول طريق المنعم عليهم فيما مضى وكونه هو دينَ الإسلام الذي جاء من بعدُ باعتبار أن الصراط المستقيم جار على سَنن الشرائع الحقة في أصول الديانة وفروع الهداية والتقوى ، فسألوا ديناً قويماً يكون في استقامته كصراط المنعم عليهم فأجيبوا بدين الإسلام ، وقد جمع استقامة الأديان الماضية وزاد عليها ، أو المراد من المنعم عليهم الأنبياءُ والرسل فإنهم كانوا على حالة أكمل مما كان عليه أممهم ، ولذلك وصف الله كثيراً من الرسل الماضين بوصف الإسلام وقد قال يعقوب لأبنائه :
{ فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } [ البقرة : 132 ] ذلك أن الله تعالى رفق بالأمم فلم يبلغ بهم غاية المراد من الناس لعدم تأهلهم للاضطلاع بذلك ولكنه أمر المرسلين بأكمل الحالات وهي مراده تعالى من الخلق في الغاية ، ولْنمثل لذلك بشرب الخمر فقد كان القدرُ غيرُ المسكر منه مباحاً وإنما يحرم السُّكر أوْ لا يحرم أصلاً غير أن الأنبياء لم يكونوا يتعاطون القليل من المسكرات وهو المقدار الذي هدى الله إليه هذه الأمة كلها ، فسواء فسرنا المنعم عليهم بالأنبياء أو بأفضل أَتْبَاعهم أو المسلمين السابقين فالمقصد الهداية إلى صراط كامل ويكون هذا الدعاء محمولاً في كل زمان على ما يناسب طرق الهداية التي سبقت زمانَه والتي لم يبلغ إلى نهايتها .
والقول في المطلوب من { اهدنا } على هذه التقادير كلها كالقول فيما تقدم من كون { اهدنا } لطلب الحصول أو الزيادة أو الدوام .
والدعاء مبني على عدم الاعتداد بالنعمة غير الخالصة ، فإن نعم الله على عباده كلهم كثيرة والكافر منعم عليه بما لا يمترَى في ذلك ولكنها نعم تحفها آلام الفكرة في سوء العاقبة ويعقبها عذاب الآخرة ، فالخلاف المفروض بين بعض العلماء في أن الكافر هل هو منعم عليه خلاف لا طائل تحته فلا فائدة في التطويل بظواهر أدلة الفريقين .
{ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ وَلاَ الضآلين } .
كلمة غير مجرورة باتفاق القراء العشرة ، وهي صفة للذين أنعمت عليهم ، أو بدل منه والوصف والبدلية سواء في المقصود ، وإنما قدم في « الكشاف » بيان وجه البدلية لاختصار الكلام عليها ليفضي إلى الكلام على الوصفية ، فيورد عليها كيفية صحة توصيف المعرفة بكلمة ( غير ) التي لا تتعرف ، وإلا فإن جعل { غير المغضوب } صفة للذين هو الوجه وكذلك أعربه سيبويه فيما نقل عنه أبو حيان ووجهه بأن البدل بالوصف ضعيف إذ الشأن أن البدل هو عين المبدل منه أي اسم ذات له ، يريد أن معنى التوصيف في { غير } أغلب من معنى ذات أخرى ليست السابقة ، وهو وقوف عند حدود العبارات الاصطلاحية حتى احتاج صاحب « الكشاف » إلى تأويل { غير المغضوب } بالذين سلموا من الغضب ، وأنا لا أظن الزمخشري أراد تأويل غير بل أراد بيان المعنى . وإنما صح وقوع ( غير ) صفة للمعرفة مع قولهم إن غير لتوغلها في الإبهام لا تفيدها الإضافة تعريفاً أي فلا يكون في الوصف بها فائدة التمييز فلا توصف بها المعرفة لأن الصفة يلزم أن تكون أشهر من الموصوف ، فغير وإن كانت مضافة للمعرفة إلا أنها لما تضمنه معناها من الإبهام انعدمت معها فائدة التعريف ، إذ كل شيء سوى المضاف إليه هو غير ، فماذا يستفاد من الوصف في قولك مررت بزيد غير عمرو ، فالتوصيف هنا إما باعتبار كون { الذين أنعمت عليهم } ليس مراداً به فريق معين فكان وزان تعريفه بالصلة وزان المعرف بأل الجنسية المسماة عند علماء المعاني بلام العهد الذهني ، فكان في المعنى كالنكرة وإن كان لفظه لفظ المعرفة فلذلك عرف بمثله لفظاً ومعنى ، وهو { غير المغضوب } الذي هو في صورة المعرفة لإضافته لمعرفة وهو في المعنى كالنكرة لعدم إرادة شيء معين ، وإما باعتبار تعريف غير في مثل هذا لأن غير إذا أريد بها نفي ضد الموصوف أي مساوي نقيضه صارت معرفة ، لأن الشيء يتعرف بنفي ضده نحو عليك بالحركة غير السكون ، فلما كان من أُنعم عليه لا يعاقب كان المعاقب هو المغضوب عليه ، هكذا نقل ابن هشام عن ابن السراج والسيرافي وهو الذي اختاره ابن الحاجب في أماليه على قوله تعالى :
{ غير أولي الضرر } [ النساء : 95 ] ونقل عن سيبوبه أن غيراً إنما لم تتعرف لأنها بمعنى المغاير فهي كاسم الفاعل وألْحَقَ بها مِثْلاً وسِوى وحَسب وقال : إنها تتعرف إذا قصد بإضافتها الثبوت . وكأن مآل المذهبين واحد لأن غيراً إذا أضيفت إلى ضد موصوفها وهو ضد واحد أي إلى مساوي نقيضه تعينت له الغيرية فصارت صفة ثابتة له غير منتقلة ، إذ غيرية الشيء لنقيضه ثابتة له أبداً فقولك عليك بالحركة غيرِ السكون هو غير قولك مررت بزيد غيرِ عمرو وقوله : { غير المغضوب عليهم } من النوع الأول .
ومن غرض وصف { الذين أنعمتَ عليهم } بأنهم { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } التعوذُ مما عرض لأمم أنعم الله عليهم بالهداية إلى صراط الخير بحسب زمانهم بدعوة الرسل إلى الحق فتقلدوها ثم طرأ عليهم سوء الفهم فيها فغيروها وما رعَوْها حق رعايتها ، والتبرُّؤ من أن يكونُوا مثلهم في بَطَر النعمة وسوء الامتثال وفساد التأويل وتغليب الشهوات الدنيوية على إقامة الدين حتى حق عليهم غضب الله تعالى ، وكذا التبرؤ من حال الذين هُدوا إلى صراط مستقيم فما صرفوا عنايتهم للحفاظ على السير فيه باستقامة ، فأصبحوا من الضالين بعد الهداية إذْ أساءوا صفة العلم بالنعمة فانقلبت هدايتهم ضلالاً .
والظاهر أنهم لم يحق عليهم غضب الله قبل الإسلام لأنهم ضلوا عن غير تعمد فلم يسبق غضب الله عليهم قديماً واليهود من جملة الفريق الأول ، والنصارى من جملة الفريق الثاني كما يعلم من الاطلاع على تاريخ ظهور الدينين فيهم . وليس يلزم اختصاص أول الوصفين باليهود والثاني بالنصارى فإن في الأمم أمثالَهم وهذا الوجه في التفسير هو الذي يستقيم معه مقام الدعاء بالهداية إلى الصراط المستقيم ولو كان المراد دين اليهودية ودين النصرانية لكان الدعاء تحصيلاً للحاصل فإن الإسلام جاء ناسخاً لهما .
ويشمل المغضوب عليهم والضالون فِرَق الكفر والفسوق والعصيان ، فالمغضوب عليهم جنس للفرق التي تعمدت ذلك واستخفت بالديانة عن عمد أو عن تأويل بعيد جداً ، والضالون جنس للفِرَق التي أخطأت الدين عن سوء فهم وقلة إصغاء ؛ وكلا الفريقين مذموم لأننا مأمورون باتباع سبيل الحق وصرف الجهد إلى إصابته ، واليهود من الفريق الأول والنصارى من الفريق الثاني . وما ورد في الأثر مما ظاهره تفسير المغضوب عليهم باليهود والضالين بالنصارى فهو إشارة إلى أن في الآية تعريضاً بهذين الفريقين اللذين حق عليهما هذان الوصفان لأن كلاً منهما صار عَلَماً فيما أريد التعريض به فيه . وقد تبين لك من هذا أن عطف { ولا الضالين } على { غير المغضوب عليهم } ارتقاء في التعوذ من شر سوء العاقبة لأن التعوذ من الضلال الذي جلب لأصحابه غَضَبَ اللَّهِ لا يغني عن التعوذ من الضلال الذي لم يبلغ بأصحابه تلك الدركات وذلك وجه تقديم { المغضوب عليهم } على { ولا الضالين } ، لأن الدعاء كان بسؤال النفي ، فالتدرج فيه يحصل بنفي الأضعف بعد نفي الأقوى ، مع رعاية الفواصل .
والغضب المتعلق بالمغضوب عليهم هو غضبُ اللَّهِ . وحقيقة الغضب المعروفِ في الناس أنه كيفية تعرض للنفس يتبعها حركة الروح إلى الخارج وثورانها فتطلب الانتقام ، فالكيفيةُ سبب لطلب الانتقام وطلب الانتقام سبب لحصول الانتقام . والذي يظهر لي أن إرادة الانتقام ليست من لوازم ماهية الغضب بحيث لا تنفك عنه ولكنها قد تكون من آثاره ، وأن الغضب هو كيفية للنفس تعرض من حصول ما لا يلائمها فتترتب عليه كراهية الفعل المغضوب منه وكراهية فاعله ، ويلازمه الإعراض عن المغضوب عليه ومعاملتُه بالعُنف وبقطع الإحسان وبالأذى وقد يفضى ذلك إلى طلب الانتقام منه فيختلف الحد الذي يثور عند الغضب في النفس باختلاف مراتب احتمال النفوس للمنافرات واختلاف العادات في اعتبار أسبابه ، فلعل الذين جعلوا إرادة الانتقام لازمة للغضب بنَوا على القوانين العربية .
وإذْ كانت حقيقة الغضب يستحيل اتصاف الله تعالى بها وإسنادُها إليه على الحقيقة للأدلة القطعية الدالة على تنزيه الله تعالى عن التغيرات الذاتية والعرضية ، فقد وجب على المؤمن صَرف إسناد الغضب إلى الله عن معناه الحقيقي ، وطريقةُ أهل العلم والنظر في هذا الصرف أن يصرف اللفظ إلى المجاز بعلاقة اللزوم أو إلى الكناية باللفظ عن لازم معناه فالذي يكون صفة لله من معنى الغضب هو لازمه ، أعني العقاب والإهانة يوم الجزاء واللعنة أي الإبعاد عن أهل الدين والصلاح في الدنيا أو هو من قبيل التمثيلية .
وكان السلف في القرن الأول ومنتصفِ القرن الثاني يمسكون عن تأويل هذه المتشابهات لما رأوا في ذلك الإمساك من مصلحة الاشتغال بإقامة الأعمال التي هي مراد الشرع من الناس فلما نشأ النظر في العلم وطَلَبُ معرفة حقائق الأشياء وحدَث قول الناس في معاني الدين بما لا يلائم الحق ، لم يجد أهل العلم بداً من توسيع أساليب التأويل الصحيح لإفهام المسلم وكبت الملحد ، فقام الدين بصنيعهم على قواعِده ، وتميز المخلص له عن ماكِره وجاحده .
وكلٌّ فيما صنعوا على هُدى . وبعد البيانِ لا يُرْجَع إلى الإجمال أبداً . وما تأوَّلوه إلا بما هو معروف في لسان العرب مفهوم لأهله .
فغضَبُ الله تعالى على العموم يرجع إلى معاملته الحائدين عن هديه العاصين لأوامره ويترتب عليه الانتقام وهو مراتب أَقصاها عقاب المشركين والمنافقين بالخلود في الدرك الأسفل من النار ودون الغضب الكراهية فقد ورد في الحديث : « ويَكْرَهُ لكم قيلَ وقال وكثرةَ السؤال » ، ويقابلهما الرضى والمحبة وكل ذلك غيرُ المشيئة والإرادةِ بمعنى التقدير والتكوينِ ، { ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم } [ الزمر : 7 ] { ولو شاء ربك ما فعلوه } [ الأنعام : 112 ] { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً } [ يونس : 99 ] وتفصيل هذه الجملة في علم الكلام .
واعلم أن الغضب عند حكماء الأخلاق مبدأ من مجموع الأخلاق الثلاثة الأصلية التي يعبر عن جميعها بالعدالة وهي : الحكمة والعفة والشجاعة ، فالغضب مبدأ الشجاعة إلا أن الغضب يعبر به عن مبدأ نفساني لأَخلاق كثيرة متطرفةٍ ومعتدلة فيلقِّبون بالقوة الغضبية ما في الإنسان من صفات السَّبُعِية وهي حب الغلبة ومن فوائدها دفع ما يضره ولها حد اعتدال وحد انحراف فاعتدالها الشجاعة وكِبَر الهمة ، وثباتُ القلب في المخاوف ، وانحرافُها إما بالزيادة فهي التهور وشدة الغضب من شيء قليل والكبرُ والعُجب والشراسةُ والحِقْد والحَسَد والقَساوة ، أو بالنقصان فالجبن وخور النفس وصغر الهمة فإذا أُطلق الغضب لغةً انصرف إلى بعض انحراف الغضبية ، ولذلك كان من جوامع كَلِم النبيء صلى الله عليه وسلم " أن رجلاً قال له أوصني قال : لا تغضب فكرَّرَ مِراراً فقال : لا تغضب " رواه الترمذي . وسُئل بعض ملوك الفرس بم دام ملككم ؟ فقال : لأنا نعاقب على قدر الذنب لا على قدر الغضب . فالغضب المنهى عنه هو الغضب للنَّفس لأنه يصدر عنه الظلم والعدوان ، ومن الغضب محمودٌ وهو الغضب لحماية المصالح العامة وخصوصاً الدينية وقد ورد أن النبيء كان لا يغضب لنفسه فإذا انتهكت حرمة من حرمات الله غضب لله .
وقوله : { ولا الضالين } معطوف على { المغضوب عليهم } كما هو متبادر ، قال ابن عطية ، قال مكي ابن أبي طالب إن دخول ( لا ) لدفع توهم عطف ( الضالين ) على ( الذين أَنْعَم عليهم ) ، وهو توجيه بعيد فالحق أن ( لا ) مزيدة لتأكيد النفي المستفاد من لفظ ( غير ) على طريقة العرب في المعطوف على ما في حيز النفي نحو قوله :
{ أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير } [ المائدة : 19 ] وهو أسلوب في كلام العرب . وقال السيد في « حواشي الكشاف » لئلا يتوهم أن المنفي هو المجموع فيجوِّز ثبوتَ أحدهما ، ولما كانت غير في معنى النفي أجريت إعادة النفي في المعطوف عليها ، وليست زيادة ( لا ) هنا كزيادتها في نحو : { ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك } [ الأعراف : 12 ] كما توهمه بعض المفسرين ؛ لأن تلك الزيادة لفظية ومعنوية لأن المعنى على الإثبات والتي هنا زيادة لفظية فحسب والمعنى على النفي .
والضلال سلوك غير الطريق المراد عن خطإٍ سواء علم بذلك فهو يتطلب الطريق أم لم يعلم ، ومنه ضالة الإبل ، وهو مقابل الهُدى وإطلاقُ الضال على المخطىء في الدين أو العلم استعارة كما هنا . والضلال في لسان الشرع مقابل الاهتداء والاهتداء هو الإيمان الكامل والضلال ما دون ذلك ، قالوا وله عَرض عريض أدناه ترك السنن وأقصاه الكفر . وقد فسرنا الهداية فيما تقدم أنها الدلالة بلطف ، فالضلال عدم ذلك ، ويطلق على أقصى أنواعه الختمُ والطبعُ والأَكِنَّةُ .
والمراد من المغضوب عليهم والضالين جنسَا فِرَق الكفر ، فالمغضوب عليهم جنس للفِرق التي تعمدت ذلك واستحقت بالديانة عن عمد وعن تأويل بعيد جداً تَحمِل عليه غلبة الهوى ، فهؤلاء سلكوا من الصراط الذي خط لهم مسالك غير مستقيمة فاستحقوا الغضب لأنهم أخطأوا عن غير معذرة إذ ما حملهم على الخطأ إلا إيثار حظوظ الدنيا .
والضالون جنس للفِرق الذين حرفوا الديانات الحق عن عمد وعن سوء فهم وكلا الفريقين مذموم معاقب لأن الخلق مأمورون باتباع سبيل الحق وبذل الجهد إلى إصابته والحذر من مخالفة مقاصده .
وإذ قد تقدم ذكر المغضوب عليهم وعلم أن الغضب عليهم لأنهم حادُوا عن الصراط الذي هُدوا إليه فحرموا أنفسهم من الوصول به إلى مرضاة الله تعالى ، وأن الضالين قد ضلوا الصراط ، فحصل شِبْه الاحتباك وهو أن كلا الفريقين نال حظاً من الوصفين إلا أن تعليق كل وصف على الفريق الذي علق عليه يرشد إلى أن الموصوفين بالضالين هم دون المغضوب عليهم في الضلال فالمراد المغضوب عليهم غضباً شديداً لأن ضلالهم شنيع . فاليهود مَثَلٌ للفريق الأول والنصارى من جملة الفريق الثاني كما ورد به الحديث عن النبيء صلى الله عليه وسلم في « جامع الترمذي » وحسَّنه . وما ورد في الأثر من تفسير المغضوب عليهم باليهود والضالين بالنصارى ، فهو من قبيل التمثيل بأشْهَر الفرق التي حق عليها هذان الوصفَانِ ، فقد كان العرب يعرفون اليهود في خيبر والنضير وبعض سكان المدينة وفي عرب اليمن . وكانوا يعرفون نصارى العرب مثل تغلب وكلب وبعض قضاعة ، وكل أولئك بدلوا وغيروا وتنكبوا عن الصراط المستقيم الذي أرشدهم الله إليه وتفرقوا في بنيات الطرق على تفاوت في ذلك .
فاليهود تمردوا على أنبيائهم وأحبارهم غير مرة وبدلوا الشريعة عمداً فلزمهم وصفُ المغضوب عليهم وعَلِقَ بهم في آيات كثيرة .
والنصارى ضلوا بعدَ الحواريين وأساءوا فهم معنى التقديس في عيسى عليه السلام فزعموه ابن الله على الحقيقة قال تعالى : { قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل } [ المائدة : 77 ] . وفي وصف الصراط المسؤول في قوله : { اهدنا الصراط المستقيم } بالمستقيم إيماء إلى أن الإسلام واضح الحجة قويم المحجة لا يَهْوى أهلُه إلى هُوة الضلالة كما قال تعالى : { قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً } [ الأنعام : 161 ] وقال : { وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } [ الأنعام : 153 ] ، على تفاوت في مراتب إصابة مراد الله تعالى ولذلك قال النبيء صلى الله عليه وسلم « من اجتهد وأصاب فله أجران ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد » ولم يترك بيانُ الشريعة مجاريَ اشتباه بين الخلافِ الذي تحيط به دائرة الإسلام والخلافِ الذي يَخرج بصاحبه عن محيط الإسلام قال تعالى : { إنك على الحق المبين } [ النمل : 79 ] .
واختلف القراء في حركة هاء الضمير من قوله : { أنعمت عليهم } ، وقوله : { غير المغضوب عليهم } ، وما ضاهاهما من كل ضمير جمع وتثنية مذكر ومؤنث للغائب وقع بعد ياء ساكنة ، فالجمهور قرأوها بكسر الهاء تخلصاً من الثقل لأن الهاء حاجز غير حصين فإذا ضمت بعد الياء فكأن ضمتها قد وليت الكسرة أو الياء الساكنة وذلك ثقيل وهذه لغة قيس وتميم وسعد بن بكر . وقرأ حمزة عليهم وإليهم ولديهم فقط بضم الهاء وما عداها بكسر الهاء نحو إليهما وصياصيهم وهي لغة قريش والحجازيين . وقرأ يعقوب كل ضمير من هذا القبيل مما قبل الهاء فيه ياء ساكنة بضم الهاء . وقد ذكرنا هذا هنا فلا نعيد ذكره في أمثاله وهو مما يرجع إلى قواعد علم القراءات في هاء الضمير .
واختلفوا أيضاً في حركة ميم ضمير الجمع الغائب المذكر في الوصل إذا وقعت قبل متحرك فالجمهور قرأوا : { عليهم غير المغضوب عليهم } بسكون الميم وقرأ ابن كثير وأبو جعفر وقالون في رواية عنه بضمة مشبعة : { غير المغضوب عليهم } وهي لغة بعض العرب وعليها قول لبيد : *وهمو فوارسها وهمْ حكامها * فجاء باللغتين ، وقرأ ورش بضم الميم وإشباعها إذا وقع بعد الميم همز دون نحو : { غير المغضوب عليهم } وأجمع الكل على إسكان الميم في الوقف .