33- والْزَمْنَ بيوتكن لا تخرجن إلا لحاجة شرع الله الخروج لقضائها ، ولا تُظْهرن محاسنكن وزينتكن للرجال إذا خرجتن . كما كانت تفعل أهل الجهالة الأولى ، وأدين الصلاة كاملة ، وأعطين الزكاة ، وامتثلن أمر الله ورسوله . إنما يريد الله - بكل ما يأمركن به وينهاكن عنه - الشرف والكرامة . ليذهب عنكم الإثم والمعصية - يا أهل بيت النبي - ويطهركم تطهيرا لا يخالطه شبهة .
{ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } أي : اقررن فيها ، لأنه أسلم وأحفظ لَكُنَّ ، { وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } أي : لا تكثرن الخروج متجملات أو متطيبات ، كعادة أهل الجاهلية الأولى ، الذين لا علم عندهم ولا دين ، فكل هذا دفع للشر وأسبابه .
ولما أمرهن بالتقوى عمومًا ، وبجزئيات من التقوى ، نص عليها [ لحاجة ]{[704]} النساء إليها ، كذلك أمرهن بالطاعة ، خصوصًا الصلاة والزكاة ، اللتان يحتاجهما ، ويضطر إليهما كل أحد ، وهما أكبر العبادات ، وأجل الطاعات ، وفي الصلاة ، الإخلاص للمعبود ، وفي الزكاة ، الإحسان إلى العبيد .
ثم أمرهن بالطاعة عمومًا ، فقال : { وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } يدخل في طاعة اللّه ورسوله ، كل أمر ، أمرَا به أمر إيجاب ، أو استحباب .
{ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ } بأمركن بما أَمَرَكُنَّ به ، ونهيكن بما{[705]} نهاكُنَّ عنه ، { لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ } أي : الأذى ، والشر ، والخبث ، يا { أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } حتى تكونوا طاهرين مطهرين .
أي : فاحمدوا ربكم ، واشكروه على هذه الأوامر والنواهي ، التي أخبركم بمصلحتها ، وأنها محض مصلحتكم ، لم يرد اللّه أن يجعل عليكم بذلك حرجًا ولا مشقة ، بل لتتزكى نفوسكم ، ولتتطهر أخلاقكم ، وتحسن أعمالكم ، ويعظم بذلك أجركم .
ثم أمرهن - سبحانه - بعد ذلك بالاستقرار فى بيوتهن ، وعدم الخروج منها إلا لحاجة شرعية فقال { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } .
قال القرطبى ما ملخصه : قوله { وَقَرْنَ } قرأه الجمهور - بكسر القاف - من القرار تقول : قَرَرْتُ بالمكان - بفتح الراء أقِر - بكسر القاف - إذا نزلت فيه - والأصل - اقررن - بكسر الراء - فحذفت الراء الأولى تخفيفا . . ونقلوا حركتها إلى القاف ، واستغنى عن ألف الوصل لتحرك القاف . . فصارت الكلمة { قِرن } - بكسر القاف - .
وقرأ عاصم ونافع { وقَرْن } - بفتح القاف - من قررت فى المكان - بكسرر الراء - إذا أقمت فيه . . والأصل اقْرَرْن بفتح الراء - فحذفت الراء الأولى لثقل التضعيف ، وألقيت حركتها على القاف . . فتقول : { قَرن } - بالفتح - للقاف - .
والمعنى : الْزَمْنَ يا نساء النبى صلى الله عليه وسلم بيوتكن ، ولا تخرجن منها إلا لحاجة مشروعة ، ومثلهن فى ذلك جميع النساء المسلمات ، لأن الخطاب لهن فى مثل هذه الأمور ، هو خطاب لغيرهن من النساء المؤمنات من باب أولى ، وإنما خاطب - سبحانه - أمهات المؤمنين على سبيل التشريف ، واقتداء غيرهن بهن .
قال بعض العلماء : والحكمة فى هذا الأمر : أن ينصرفن إلى رعاية شئون بيوتهن ، وتوفير وسائل الحياة المنزلية التى هى من خصائصهن ، ولا يحسنها الرجال ، وإلى تربية الأولاد فى عهد الطفولة وهى من شأنهن . وقد جرت السنة الإِلهية بأن أمر الزوجين قسمة بينهما ، فللرجل أعمال من خصائصهم لا يحسنها النساء ، وللنساء أعمال خصائصهن لا يحسنها الرجال ، فإذا تعدى أحد الفريقين عمله ، اختل النظام فى البيت والمعيشة .
وقال صاحب الظلال ما ملخصه : والبيت هو مثابة المرأة التى تجد فيها نفسها على حقيقتها كما أرادها الله - تعالى - ولكى يهيئ الإِسلام للبيت جوه السليم ، ويهيئ للفراخ الناشئة فيه رعايتها ، أوجب على الرجل النفقة ، وجعلها فريضة ، كى يتاح للأم من الجهد ومن الوقت ومن هدوء البال ، ما تشرف به على هذه الفراخ الزغب ، وما تهيئ به للمثابة نظامها وعطرها وبشاشتها .
فالأم المكدودة بالعمل وبمقتضياته وبمواعيده . . لا يمكن أن تهيئ للبيت جوه وعطره ، ولا يمكن أن تهيئ للطفولة النابتة فيه حقها ورعايتها .
إن خروج المرأة للعمل كارثة على البيت قد تبيحها الضرورة ، أما أن يتطوع بها الناس وهم قادرون على اجتنابها ، فتلك هى اللعنة التى تصيب الأرواح والضمائر والعقول ، فى عصور الانتكاس والشرور والضلال .
وهذه الجملة الكريمة ليس المقصود بها ملازمة البيوت فلا يبرحنها بإطلاق وإنما المقصود بها أن يكون البيت هو الأصل فى حياتهن ، ولا يخرجن إلا لحاجة مشروعة ، كأداء الصلاة فى المسجد ، وكأداء فريضة الحج وكزيارة الوالدين والآقارب ، وكقضاء مصالحهن التى لا تقضى إلا بهن .
. بشرط أن يكون خروجهن مصوحبا بالتستر والاحتشام وعدم التبذل .
ولذا قال - سبحانه - بعد هذا الأمر ، { وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى } .
وقوله : { تَبَرَّجْنَ } مأخوذ من البَرَج - بفتح الباء والراء - وهو سعة العين وحسنها ، ومنه قولهم : سفينة برجاء ، أى : متسعة ولا غطاء عليها .
والمراد به هنا : إظهار ما ينبغى ستره من جسد المرأة ، مع التكلف والتصنع فى ذلك .
والجاهلية الأولى ، بمعنى المتقدمة ، إذ يقال لكل متقدم ومتقدمة : أول وأولى .
أو المراد بها : الجاهلية الجهلاء التى كانت ترتكب فيها الفواحش بدون تحرج .
وقد فسروها بتفسيرات متعددة ، منها : قول مجاهد : كانت المرأة تخرج فتمشى بين يدي الرجال ، فذلك تبرج الجاهلية .
ومنها قول قتادة : كانت المرأة فى الجاهلية تمشى مشية فيها تكسر .
ومنها قول مقاتل : والتبرج : أنها تلقي الخمار على رأسها ، ولا تشده فيوارى قلائدها وعنقها .
ويبدو لنا أن التبرج المنهي عنه فى الآية الكريمة ، يشمل كل ذلك ، كما يشمل كل فعل تفعله المرأة ، ويكون هذا الفعل متنافيا مع آداب الإِسلام وتشريعاته .
والمعنى : الزمن يا نساء النبى بيوتكن ، فلا تخرجن إلا لحاجة مشروعة ، وإذا خرجتن فاخرجن فى لباس الحشمة والوقار ، ولا تبدي إحداكن شيئا أمرها الله - تعالى - بسرته وإخفائه ، واحذرن التشبيه بنساء أهل الجاهلية الأولى ، حيث كن يفعلن ما يثير شهوة الرجال ، ويلفت أنظارهم اليهن .
ثم أتبع - سبحانه - هذا المنهى بما يجعلهن على صلة طيبة بخالقهن - عز وجل - فقال : { وَأَقِمْنَ الصلاة } أى : داومن على إقامتها فى أوقاتها بخشوع وإخلاص . { وَآتِينَ الزكاة } التى فرضها الله - تعالى - عليكن . وخص - سبحانه - هاتين الفريضيتين بالذكر من بين سائر الفرائض ، لأنهما أساس العبادات البدنية والمالية .
{ وَأَطِعْنَ الله وَرَسُولَهُ } أى : فى كل ما تأتين وتتركن ، لا سيما فيما أمرتن به ، ونهيتين عنه .
وقوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } تعليل لما أمرن به من طاعات ، ولما نهين عنه من سيئات .
والرجس فى الأصل : يطلق على كل شئ مستقذر . وأريد به هنا : الذنوب والآثام وما يشبه ذلك من النقائص والأدناس .
وقوله { أَهْلَ البيت } منصوب على النداء ، أو على المدح . ويدخل فى أهل البيت هنا دخولا أوليا : نساؤه صلى الله عليه وسلم بقرينة سياق الآيات .
أى : إنما يريده الله - تعالى - بتلك الأوامر التى أمركن بها ، و بتلك النواهى التى نهاكن عنها ، أن يذهب عنكن الآثام والذنوب والنقائص ، وأن يطهركن من كل ذلك تطهيرا تاما كاملا .
قال الإِمام ابن كثير ما ملخصه : قوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت . . . } هذا نص فى دخول أزواج النبى صلى الله عليه وسلم فى أهل البيت ها هنا ، لأنهن سبب نزول هذه الآية .
وقدوردت أحاديث تدل على أن المراد أعم من ذلك ، فقد روى الإِمام أحمد بسنده - عن أنس بن مالك قال :
" إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمر بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر ، يقول : الصلاة يا أهل البيت : ثم يتلو هذه الآية . . " .
وقال بعض العلماء : والتحقيق - إن شاء الله - أنهن داخلات فى الآية ، بدليل السياق ، وإن كانت الآية تتناول غيرهن من أهل البيت .
ونظير ذلك من دخول الزوجات فى اسم أهل البيت ، قوله - تعالى - فى زوجة إبراهيم : { قالوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله رَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البيت } وأما الدليل على دخول غيرهن فى الآية ، فهو أحاديث جاءت " عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال فى على وفاطمة والحسن والحسين - رضى الله عنهم - : " إنهم أهل البيت " ودعا الله أن يذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيرا " .
وبما ذكرنا تعلم أن الصواب شمول الآية الكريمة لأزواج النبى صلى الله عليه وسلم ولعلى وفاطمة والحسن والحسين .
فإن قيل : الضمير فى قوله : { لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس } وفى قوله : { وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } ضمير الذكور ، فلو كان المراد أزواج النبى صلى الله عليه وسلم لقيل ليذهب عنكن ويطهركن ؟
فالجواب : ما ذكرناه من أن الآية تشملهن وتشمل فاطمة وعلى والحسن والحسين ، وقد أجمع أهل اللسان العربى على تغليب الذكور على الإِناث فى الجموع ونحوها . .
ومن أساليب اللغة العربية التى نزل بها القرآن ، أن زوجة الرجل يطلق عليها أهل ، وباعتبار لفظ الأهل تخاطب مخاطبة الجمع المذكر ، ومنه قوله - تعالى - فى موسى { فَقَالَ لأَهْلِهِ امكثوا } وقوله { سَآتِيكُمْ } والمخاطب امرأته كما قال غير واحد . .
وقال بعض أهل العلم : إن أهل البيت فى الآية هم من تحرم عليهم الصدقة .
{ وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ } .
هذا أمر خُصِّصْنَ به وهو وجوب ملازمتهن بيوتهن توقيراً لهن ، وتقوية في حرمتهن ، فقرارهن في بيوتهن عبادة ، وأن نزول الوحي فيها وتردد النبي صلى الله عليه وسلم في خلالها يكسبها حرمة . وقد كان المسلمون لما ضاق عليهم المسجد النبوي يصلُّون الجمعة في بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث « الموطأ » . وهذا الحكم وجوب على أمهات المؤمنين وهو كمال لسائر النساء .
وقرأ نافع وعاصم وأبو جعفر بفتح القاف . ووجهها أبو عبيدة عن الكسائي والفراء والزجاج بأنها لغة أهل الحجاز في قَرّ بمعنى : أقام واستقرّ ، يقولون : قَرِرت في المكان بكسر الراء من باب عَلم فيجيء مضارعه بفتح الراء فأصل قَرْن اقْرَرْن فحذفت الراء الأولى للتخفيف من التضعيف وألقيت حركتها على القاف نظير قولهم : أحَسْنَ بمعنى أَحْسَسْنَ في قول أبي زُبيد :
سوى أن الجياد من المطايا *** أحَسْن به فهُن إليه شُوس
وأنكر المازني وأبو حاتم أن تكون هذه لغة ، وزعم أن قرِرت بكسر الراء في الماضي لا يرد إلا في معنى قُرّة العين ، والقراءة حجة عليهما . والتزم النحاس قولهما وزعم أن تفسير الآية على هذه القراءة أنها من قرّة العين وأن المعنى : واقررن عيوناً في بيوتكن ، أي لَكُنّ في بيوتكن قُرّة عين فلا تتطلعن إلى ما جاوز ذلك ، أي فيكون كناية عن ملازمة بيوتهن .
وقرأ بقية العشرة { وقرن } بكسر القاف . قال المبرد : هو من القرار ، أصله : اقرِرن بكسر الراء الأولى فحذفت تخفيفاً ، وألقيت حركتها على القاف كما قالوا : ظَلْت ومَسْت . وقال ابن عطية : يصح أن يكون قِرْن ، أي بكسر القاف أمراً من الوقار ، يقال : وَقر فلان يقِر ، والأمر منه قِر للواحد ، وللنساء قِرن مثل عِدن ، أي فيكون كناية عن ملازمة بيوتهن مع الإِيماء إلى علة ذلك بأنه وقار لهن .
وقرأ الجمهور { بيوتكن } بكسر الباء . وقرأه ورش عن نافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم وأبو جعفر بضم الباء .
وإضافة البيوت إليهن لأنهن ساكنات بها أسكَنهُنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت بيوت النبي صلى الله عليه وسلم يميَّز بعضها عن بعض بالإِضافة إلى ساكنة البيت ، يقولون : حُجرة عائشة ، وبيت حفصة ، فهذه الإِضافة كالإِضافة إلى ضمير المطلقات في قوله تعالى : { لا تخرجوهن من بيوتهن } [ الطلاق : 1 ] . وذلك أن زوج الرجل هي ربة بيته ، والعرب تدعو الزوجة البيت ولا يقتضي ذلك أنها ملك لهُنّ لأن البيوت بناها النبي صلى الله عليه وسلم تباعاً تبعاً لبناء المسجد ، ولذلك لما تُوفِّيت الأزواج كلهن أدخلت ساحة بيوتهن إلى المسجد في التوسعة التي وسعها الخليفة الوليد بن عبد الملك في إمارة عمر بن عبد العزيز على المدينة ولم يُعطِ عوضاً لورثتهن .
وهذه الآية تقتضي وجوب مكث أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في بيوتهن وأن لا يخرجن إلا لضرورة ، وجاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله أَذِنَ لكُنَّ أن تخرجن لحوائجكن " يريد حاجات الإِنسان . ومحمل هذا الأمر على ملازمة بيوتهن فيما عدا ما يضطر فيه الخروج مثل موت الأبوين . وقد خرجت عائشة إلى بيت أبيها أبي بكر في مرضه الذي مات فيه كما دل عليه حديثه معها في عطيته التي كان أعطاها من ثمرة نخلة وقوله لها : " وإنما هو اليومَ مالُ وارث " رواه في « الموطأ » . وكُنّ يخرُجْن للحج وفي بعض الغزوات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن مقر النبي صلى الله عليه وسلم في أسفاره قائم مقام بيوته في الحَضَر ، وأبت سودة أن تخرج إلى الحجّ والعمرة بعد ذلك . وكل ذلك مما يفيد إطلاق الأمر في قوله : { وقرن في بيوتكن } .
ولذلك لما مات سعد بن أبي وقاص أمرت عائشة أن يُمَرّ عليها بجنازته في المسجد لتدعو له ، أي لتصلي عليه . رواه في « الموطأ » .
وقد أشكل على الناس خروج عائشة إلى البصرة في الفتنة التي تدعى : وقْعةَ الجَمَل ، فلم يغير عليها ذلك كثير من جِلّة الصحابة منهم طلحة والزبير . وأنكر ذلك عليها بعضهم مثل : عَمار بن ياسر ، وعلي بن أبي طالب ، ولكلَ نظَر في الاجتهاد . والذي عليه المحققون مثل أبي بكر بن العربي أن ذلك كان منها عن اجتهاد فإنها رأت أن في خروجها إلى البصرة مصلحة للمسلمين لتسعى بين فريقي الفتنة بالصلح فإن الناس تعلّقوا بها وشكَوْا إليها ما صاروا إليه من عظيم الفتنة ورجَوْا بركتها أن تخرج فتصلح بين الفريقين ، وظنّوا أن الناس يستحيون منها فتأولت لخروجها مصلحة تفيد إطلاق القَرار المأمور به في قوله تعالى : { وقرن في بيوتكن } يكافىء الخروج للحج . وأخذت بقوله تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } [ الحجرات : 9 ] ورأت أن الأمر بالإصلاح يشملها وأمثالها ممن يرجون سماع الكلمة ، فكان ذلك منها عن اجتهاد . وقد أشار عليها جمع من الصحابة بذلك وخرجوا معها مثل طلحة والزبير وناهيك بهما . وهذا من مواقع اجتهاد الصحابة التي يجب علينا حملها على أحسن المخارج ونظن بها أحسن المذاهب ، كقولنا في تقاتلهم في صِفِّين وكاد أن يصلح الأمر ولكن أفسده دعاة الفتنة ولم تشعر عائشة إلا والمقاتَلة قد جرت بين فريقين من الصحابة يوم الجمل . ولا ينبغي تقلد كلام المؤرخين على علاّته فإن فيهم من أهل الأهواء ومن تلقّفوا الغثّ والسمين . وما يذكر عنها رضي الله عنها : أنها كانت إذا قَرأت هذه الآية تبكي حتى يبتلّ خمارها ، فلا ثقة بصحة سنده ، ولو صحّ لكان محمله أنها أسفت لتلك الحوادث التي ألجأتها إلى الاجتهاد في تأويل الآية .
{ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى } .
التبرج : إظهار المرأة محاسن ذاتها وثيابها وحليها بمرأى الرجال . وتقدم في قوله تعالى : { غير متبرجات بزينة } في سورة النور ( 60 ) .
وانتصب { تبرج الجاهلية الأولى } على المفعول المطلق ، وهو في معنى الوصف الكاشف أريد به التنفير من التبرّج . والمقصود من النهي الدوام على الانكفاف عن التبرج وأنهن منهياتٌ عنه . وفيه تعريض بنهي غيرهن من المسلمات عن التبرج ، فإن المدينة أيامئذٍ قد بقي فيها نساء المنافقين وربما كُنَّ على بقية من سيرتهن في الجاهلية فأريد النداء على إبطال ذلك في سيرة المسلمات ، ويظهر أن أمهات المؤمنين منهيات عن التبرج مطلقاً حتى في الأحوال التي رُخّص للنساء التبرج فيها في سورة النور في بيوتهن لأن ترك التبرج كمال وتنزه عن الاشتغال بالسفاسف .
فنسب إلى أهل الجاهلية إذ كان قد تقرر بين المسلمين تحقير ما كان عليه أمر الجاهلية إلا مَا أقرّه الإسلام .
و { الجاهلية } : المدة التي كانت عليها العرب قبل الإسلام ، وتأنيثها لتأويلها بالمُدة . والجاهلية نسبة إلى الجاهل لأن الناس الذين عاشوا فيها كانوا جاهلين بالله وبالشرائع ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { يظنون بالله غير الحق ظنّ الجاهلية } في سورة آل عمران ( 154 ) .
ووصفُها { بالأولى } وصف كاشف لأنها أولى قبل الإسلام ، وجاء الإِسلام بعدها فهو كقوله تعالى : { وأنه أهلك عاداً الأولى } [ النجم : 50 ] ، وكقولهم : العشاء الآخرة ، وليس ثمة جاهليتان أولى وثانية . ومن المفسرين من جعلوه وصفاً مقيِّداً وجعلوا الجاهلية جاهليتين ، فمنهم من قال : الأولى هي ما قبل الإسلام وستكون جاهلية أخرى بعد الإسلام يعني حين ترتفع أحكام الإسلام والعياذ بالله . ومنهم من قال : الجاهلية الأولى هي القديمة من عهد ما قبل إبراهيم ولم يكن للنساء وازع ولا للرجال ، ووضعوا حكايات في ذلك مختلفة أو مبالغاً فيها أو في عمومها ، وكل ذلك تكلف دعاهم إليه حمل الوصف على قصد التقييد .
{ وَأَقِمْنَ الصلاة وَءَاتِينَ الزكواة وَأَطِعْنَ اللهَ ورَسُوله } .
أريد بهذه الأوامر الدوام عليها لأنهن متلبسات بمضمونها من قبل ، وليعلم الناس أن المقربين والصالحين لا ترتفع درجاتهم عند الله تعالى عن حق توجه التكليف عليهم . وفي هذا مقمع لبعض المتصوفين الزاعمين أن الأولياء إذا بلغوا المراتب العليا من الولاية سقطت عنهم التكاليف الشرعية .
وخصّ الصلاة والزكاة بالأمر ثم جاء الأمر عاماً بالطاعة لأن هاتين الطاعتين البدنية والمالية هما أصل سائر الطاعات فمن اعتنى بهما حق العناية جرّتاه إلى ما وراءهما ، قال تعالى : { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } وقد بيناه في سورة العنكبوت ( 45 ) .
{ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّركم تَطْهِيراً } .
متصل بما قبله إذ هو تعليل لما تضمنته الآيات السابقة من أمر ونهي ابتداء من قوله تعالى : { يا نساء النبي من يأت منكن } [ الأحزاب : 30 ] الآية . فإن موقع { إنما } يفيد ربط ما بعدها بما قبلها لأن حرف ( إنَّ ) جزء من { إنما } وحرف ( إن ) من شأنه أن يغني غناء فاء التسبب كما بينه الشيخ عبد القاهر ، فالمعنى أمَركن الله بما أمر ونَهاكُنّ عما نهى لأنه أراد لكُنّ تخلية عن النقائص والتحْلية بالكمالات .
وهذا التعليل وقع معترضاً بين الأوامر والنواهي المتعاطفة .
والتعريف في { البيت } تعريف العهد وهو بيت النبي صلى الله عليه وسلم وبيوت النبي عليه الصلاة والسلام كثيرة فالمراد بالبيت هنا بيت كل واحدة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وكل بيت من تلك البيوت أهله النبي صلى الله عليه وسلم وزوجه صاحبة ذلك ، ولذلك جاء بعده قوله : { واذكرن ما يتلى في بيوتكن } [ الأحزاب : 34 ] ، وضميرَا الخطاب موجهان إلى نساء النبي صلى الله عليه وسلم على سَنن الضمائر التي تقدمت . وإنما جيء بالضميرين بصيغة جمع المذكر على طريقة التغليب لاعتبار النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الخطاب لأنه رب كل بيت من بيوتهن وهو حاضر هذا الخطاب إذ هو مبلغه . وفي هذا التغليب إيماء إلى أن هذا التطهير لهنّ لأجل مقام النبي صلى الله عليه وسلم لتكون قريناته مشابهات له في الزكاء والكمال ، كما قال الله تعالى : { والطيبات للطيبين } [ النور : 26 ] يعني أزواج النبي للنبيء صلى الله عليه وسلم وهو نظير قوله في قصة إبراهيم : { رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت } [ هود : 73 ] والمخاطب زوج إبراهيم وهو معها .
و { الرجس } في الأصل : القذر الذي يلوّث الأبدان ، واستعير هنا للذنوب والنقائص الدينية لأنها تجعل عِرض الإنسان في الدنيا والآخرة مرذولاً مكروهاً كالجسم الملوّث بالقذر . وقد تقدم في قوله تعالى : { رجس من عمل الشيطان } في سورة العقود ( 90 ) . واستعير التطهير لضد ذلك وهو تجنيب الذنوب والنقائص كما يكون الجسم أو الثوب طاهراً .
واستعير الإِذهاب للإِنجاء والإِبعاد .
وفي التعبير بالفعل المضارع دلالة على تجدد الإرادة واستمرارها ، وإذا أراد الله أمراً قدّره إذ لا رادّ لإِرادته .
والمعنى : ما يريد الله لكُنّ مما أمركن ونهاكن إلا عصمتَكُنّ من النقائص وتحليتكن بالكمالات ودوامَ ذلك ، أي لا يريد من ذلك مقتاً لكنّ ولا نكاية . فالقصر قصر قلب كما قال تعالى : { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم } [ المائدة : 6 ] . وهذا وجه مجيء صيغة القصر ب { إنما } . والآية تقتضي أن الله عصم أزواج نبيئه صلى الله عليه وسلم من ارتكاب الكبائر وزكى نفوسهن .
و { أهل البيت } : أزواج النبي صلى الله عليه وسلم والخطاب موجه إليهن وكذلك ما قبله وما بعده لا يخالط أحداً شك في ذلك ، ولم يفهم منها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعون إلا أن أزواج النبي عليه الصلاة والسلام هن المراد بذلك وأن النزول في شأنهنّ .
وأما ما رواه الترمذي عن عطاء بن أبي رباح عن عُمر بن أبي سلمة قال : لما نزلت على النبي : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً } في بيت أم سلمة دعا فاطمةَ وحسناً وحسيناً فجَلَّلهم بكساء وعليٌّ خلْف ظهره ثم قال : " اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهِب عنهم الرجس وطهِّرهم تطهيراً " . وقال : هو حديث غريب من حديث عطاء عن عمر بن أبي سلمة ولم يَسِمْه الترمذي بصحة ولا حُسن ، ووسمه بالغرابَة . وفي « صحيح مسلم » عن عائشة : خرج رسول الله غداةً وعليه مرط مرحَّل فجاء الحسن فأدخله ، ثم جاء الحسين فأدخله ، ثم جاءت فاطمة فأدخلها ، ثم جاء علي فأدخله ، ثم قال : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً } . وهذا أصرح من حديث الترمذي .
فمَحمله أن النبي صلى الله عليه وسلم ألحق أهل الكساء بحكم هذه الآية وجعلهم أهلَ بيته كما ألحق المدينةَ بمكة في حكم الحَرَمية بقوله : " إن إبراهيم حرّم مكة وإني أحرّم ما بينَ لابتيها " . وتَأوُّل البيت على معنييه الحقيقي والمجازي يصدق ببيت النسب كما يقولون : فيهم البيتُ والعَدد ، ويكون هذا من حَمل القرآن على جميع محامله غير المتعارضة كما أشرنا إليه في المقدمة التاسعة . وكأنَّ حكمة تجليلهم معه بالكساء تقويةُ استعارة البيت بالنسبة إليهم تقريباً لصورة البيت بقدر الإمكان في ذلك الوقت ليكون الكساء بمنزلة البيت ووجود النبي صلى الله عليه وسلم معهم في الكساء كما هو في حديث مسلم تحقيق لكون ذلك الكساء منسوباً إليه ، وبهذا يتضح أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم هن آل بيته بصريح الآية ، وأن فاطمة وابنيْها وزوجها مجعولون أهل بيته بدعائه أو بتأويل الآية على محاملها . ولذلك هُمْ أهل بيته بدليل السنة ، وكل أولئك قد أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، بعضه بالجعل الإلهي ، وبعضه بالجعل النبوي ، ومثله قول النبي صلى الله عليه وسلم " سَلْمان منّا أهلَ البيت " . وقد استوعب ابن كثير روايات كثيرة من هذا الخبر مقتضية أن أهل البيت يشمل فاطمة وعليّاً وحسناً وحسيناً . وليس فيها أن هذه الآية نزلت فيهم إلا حديثاً واحداً نسبه ابن كثير إلى الطبري ولم يوجد في تفسيره عن أم سلمة أنها ذكر عندها علي بن أبي طالب فقالت : فيه نزلت : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً } وذكرتْ خبر تجليله مع فاطمة وابنيه بكساء ( وذكر مصحّح طبعة « تفسير ابن كثير » أن في متن ذلك الحديث اختلافاً في جميع النسخ ولم يفصله المصحّح ) .
وقد تلقّف الشيعة حديث الكساء فغصبوا وصف أهل البيت وقصروه على فاطمة وزوجها وابنيهما عليهم الرضوان ، وزعموا أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لسن من أهل البيت . وهذه مصادمة للقرآن بجعل هذه الآية حشواً بين ما خوطب به أزواج النبي . وليس في لفظ حديث الكساء ما يقتضي قصر هذا الوصف على أهل الكساء إذ ليس في قوله : « هؤلاء أهل بيتي » صيغة قصر وهو كقوله تعالى : { إن هؤلاء ضيفي } [ الحجر : 68 ] ليس معناه ليس لي ضيف غيرهم ، وهو يقتضي أن تكون هذه الآية مبتورة عما قبلها وما بعدها . ويظهر أن هذا التوهم من زمن عصر التابعين ، وأن منشأه قراءة هذه الآية على الألسن دون اتصال بينها وبين ما قبلها وما بعدها . ويدل لذلك ما رواه المفسرون عن عكرمة أنه قال : من شاء بأهلية أنها نزلت في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأنه قال أيضاً : ليس بالذي تذهبون إليه ، إنما هو نساء النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان يصرخ بذلك في السوق . وحديث عمر بن أبي سلمة صريح في أن الآية نزلت قبل أن يدعو النبي الدعوة لأهل الكساء وأنها نزلت في بيت أم سلمة .
وأما ما وقع من قول عُمر بن أبي سلمة : أن أم سلمة قالت : وأنا معهم يا رسول الله ؟ . . . فقال : " أنت على مكانك وأنتِ على خير " . فقد وهم فيه الشيعة فظنوا أنه منعها من أن تكون من أهل بيته ، وهذه جهالة لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد أن ما سألته من الحاصل ، لأن الآية نزلت فيها وفي ضرائرها ، فليست هي بحاجة إلى إلحاقها بهم ، فالدعاء لها بأن يذهب الله عنها الرجس ويطهرها دعاء بتحصيل أمر حصل وهو مناف بآداب الدعاء كما حرره شهاب الدين القرافي في الفرق بين الدعاء المأذون فيه والدعاء الممنوع منه ، فكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم تعليماً لها . وقد وقع في بعض الروايات أنه قال لأم سلمة : " إنككِ من أزواج النبي " . وهذا أوضح في المراد بقوله : « إنك على خير » .
ولما استجاب الله دعاءه كان النبي صلى الله عليه وسلم يطلق أهل البيت على فاطمة وعلي وابنيهما ، فقد روى الترمذي عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمر بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول : " الصلاة يا أهل البيت { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً } " قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه .
واللام في قوله : { ليذهب } لام جرّ تزاد للتأكيد غالباً بعد مادتي الإرادة والأمر ، وينتصب الفعل المضارع بعدها ب ( أنْ ) مضمرة إضماراً واجباً ، ومنه قوله تعالى : { وأمرنا لنسلم لرب العالمين } [ الأنعام : 71 ] ، وقول كثير :
أُريد لأنسَى حبها فكأنما *** تمثَّلُ لي ليلى بكل مكان
وعن النحاس أن بعض القراء سماها ( لام أَنْ ) وتقدم قوله تعالى : { يريد الله ليبين لكم } في سورة النساء ( 26 ) .
وقوله : { أهل البيت } نداء للمخاطبين من نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع حضرة النبي عليه الصلاة والسلام ، وقد شمل كلَّ من ألحق النبي صلى الله عليه وسلم بهن بأنه من أهل البيت وهم : فاطمة وابناها وزوجها وسلمان لا يعدُو هؤلاء .