{ 11 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }
هذا تأديب{[1016]} من الله لعباده المؤمنين ، إذا اجتمعوا في مجلس من مجالس مجتمعاتهم ، واحتاج بعضهم أو بعض القادمين عليهم للتفسح له في المجلس ، فإن من الأدب أن يفسحوا له تحصيلا لهذا المقصود .
وليس ذلك بضار للجالس{[1017]} شيئا ، فيحصل مقصود أخيه من غير ضرر يلحقه هو ، والجزاء من جنس العمل ، فإن من فسح فسح الله له ، ومن وسع لأخيه ، وسع الله عليه .
{ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا } أي : ارتفعوا وتنحوا عن مجالسكم لحاجة تعرض ، { فَانْشُزُوا } أي : فبادروا للقيام لتحصيل تلك المصلحة ، فإن القيام بمثل هذه الأمور من العلم والإيمان ، والله تعالى يرفع أهل العلم والإيمان درجات بحسب ما خصهم الله به ، من العلم والإيمان .
{ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } فيجازي كل عامل بعمله ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر .
وفي هذه الآية فضيلة العلم ، وأن زينته وثمرته التأدب بآدابه والعمل بمقتضاه .
ثم لفت - سبحانه - أنظار المؤمنين إلى أدب رفيع فقال : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي المجالس فافسحوا يَفْسَحِ الله لَكُمْ } .
وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآية روايات منها ما روي عن قتادة أنه قال : نزلت هذه الآية فى مجالس الذكر ، وذلك أنهم كانوا إذا رأوا أحدهم مقبلا ، ضنوا بمجالسهم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض .
وقال مقاتل بن حيان : " أنزلت هذه الآية يوم الجمعة ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ فى الصفة ، وفى المكان ضيق ، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فجاء ناس من أهل بدر وقد سُبِقوا فى المجالس فقاموا حيال رسول الله - صلى الله عليه وسلم فقالوا السلام عليكم أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، فرد النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم سلموا على القوم بعد ذلك ، فردوا عليهم السلام ، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم .
فعرف النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يحملهم على القيام فلم يُفْسَح لهم ، فشق ذلك عليه ، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر : قم يا فلان ، قم يا فلان .
فشق ذلك على من أقيم من مجلسه وعرف - صلى الله عليه وسلم - الكراهة فى وجوههم .
فقال المنافقون : ألستم تزعمون أن صاحبكم هذا يعدل بين الناس ؟ والله ما رأيناه قد عدل على هؤلاء . . . فبلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " رحم الله رجلا يفسح لأخيه " فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعا " ، ونزلت هذه الآية .
وقوله { تَفَسَّحُواْ } من التفسح ، وهو تفعل بمعنى التوسع ، يقال : فسح فلان لفلان فى المجلس - من باب نفع - إذا أوجد له فسحة فى المكان ليجلس فيه .
والمعنى : يا من آمنتم بالله حق الإيمان ، إذا قيل لكم توسعوا فى مجالسكم لتسع أكبر قدر من إخوانكم فامتثلوا واستجيبوا . لأن فعلكم هذا يؤدي إلى أن يفسح الله - تعالى - لكم فى رحمته ، وفى منازلكم فى الجنة ، وفى كل شىء تحبونه .
وحذف - سبحانه - متعلق { يَفْسَحِ الله لَكُمْ } ليشمل كل ما يرجو الناس أن يفسح الله لهم فيه من رزق ، ورحمة ، وخير دنيوي وأخروي .
والمراد بالمجالس : مجالس الخير ، كمجالس الذكر ، والجهاد ، والصلاة ، وطلب العلم ، وغير ذلك من المجالس التي يحبها الله - تعالى- .
وقراءة الجمهور : " إذا قيل لكم تفسحوا فى المجلس " ، بالإفراد على إرادة الجنس . . أي : قيل لم تفسحوا في أي مجلس خير فافسحوا . . . لأن هذا التوسع يؤدي إلى ازدياد المحبة والمودة بينكم ، وقرأ عاصم بصيغة الجمع .
ثم أرشدهم - سبحانه - إلى نوع آخر من الأدب السامي فقال : { وَإِذَا قِيلَ انشزوا فَانشُزُواْ } .
والنشوز الارتفاع عن الأرض ، يقال : نشَز ينشُز وينشِز - من بابى نصر وضرب - إذا ارتفع من مكانه .
أي : وإذا قيل لكم - أيها المؤمنون - أنهضوا من أماكنكم ، للتوسعة على المقبلين عليكم ، فانهضوا ولا تتكاسلوا .
وقوله : { يَرْفَعِ الله الذين آمَنُواْ مِنكُمْ والذين أُوتُواْ العلم دَرَجَاتٍ } جواب الأمر فى قوله : { فَانشُزُواْ } .
وعطف " الذين أوتوا العلم " على " الذين آمنوا " من باب عطف الخاص على العام ، على سبيل التعظيم والتنويه بقدر العلماء .
أي : وإذا قيل لكم ارتفعوا عن مواضعكم في المجالس فارتفعوا ، فإنكم إن تفعلوا ذلك ، يرفع الله - تعالى - المؤمنين الصادقين منكم درجات عظيمة فى الآخرة ، ويرفع العلماء منكم درجات أعظم وأكبر .
ويرى بعضهم أن المراد بالموصولين واحد ، والعطف فى الآية لتنزيل التغاير في الصفات ، منزلة التغاير فى الذات .
والمعنى : يرفع الله الذين آمنوا العالمين درجات عظيمة لا يعلم مقدارها إلا الله - تعالى - .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بما يدل على شمول علمه فقال : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .
أي : والله - تعالى - مطلع اطلاعا تاما على نواياكم ، وعلى ظواهركم وبواطنكم ، فاحذروا مخالفة أمره ، واتبعوا ما أرشدكم إليه من أدب وسلوك .
هذا : ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة : أن إفساح المؤمن لأخيه المؤمن فى المجلس ، من الآداب الإسلامية التي ينبغي التحلي بها ، لأن هذا الفعل بجانب رفعه للدرجات فإنه سبب للتواد والتعاطف والتراحم .
قال القرطبي ما ملخصه : والصحيح فى الآية أنها عامة في كل مجلس اجتمع المسلمون فيه للخير والأجر ، سواء أكان مجلس حرب ، أم ذكر ، أم مجلس يوم الجمعة . . . ولكن بدون أذى ، فقد أخرج الشيخان عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه " .
وعن ابن عمر - " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يقام الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه آخر ، " ولكن تفسحوا وتوسعوا " " .
وعلى أية حال فإن الآية الكريمة ترشد المؤمنين فى كل زمان ومكان ، إلى لون من مكارم الأخلاق ، ألا وهو التوسعة فى المجالس ، وتقديم أهل العلم والفضل ، وإنزالهم منازلهم التى تليق بهم فى المجالس .
كذلك أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة أنه يجوز القيام للقادم ، قال الإمام ابن كثير : وقد اختلف الفقهاء فى جواز القيام للوارد إذا جاء - على أقوال : فمنهم من رخص فى ذلك محتجا بحديث : " قوموا إلى سيدكم " .
ومنهم من منع من ذلك ، محتجا بحديث : " قوموا إلى سيدكم " .
ومنهم من منع من ذلك ، محتجا بحديث : " من أحب أن يتمثل له الرجال قياما ، فليتبوأ مقعده من النار " .
ومنهم من فصل فقال : يجوز القيام للقادم من سفر ، وللحاكم في محل ولايته ، كما دل عليه قصة سعد بن معاذ ، فإنه لما استقبله البني - صلى الله عليه وسلم - حاكما في بني قريظة ، فرآه مقبلا قال للمسلمين : " قوموا إلى سيدكم " ، وما ذاك إلا ليكون أنفذ لحكمه - والله أعلم - .
فأما اتخاذه - أي القيام - دينا ، فإنه من شعار الأعاجم . . . وفى الحديث المروي فى السنن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يجلس حيث انتهى به المجلس - ولكن حيث يجلس يكون صدر ذلك المجلس ، وكان الصحابة يجلسون منه على مراتبهم ، فالصديق عن يمينه ، وعمر عن يساره ، وبين يديه غالبا عثمان وعلى لأنهما كانا ممن يكتب الوحى ، وكان يأمرهما بذلك . .
كذلك أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة ، فضل العلماء وسمو منزلتهم ، قال صاحب الكشاف : عن عبد الله بن مسعود أنه كان إذا قرأ هذه الآية قال : يأيها الناس افهموا هذه الآية ، ولترغبكم فى العلم . وفى الحديث الشريف : " بين العالم والعابد مائة درجة " وفى حديث آخر : " فضل العالم عل العابد ، كفضل القمر ليلة البدر على سائر النجوم " .
وعن بعض الحكماء أنه قال : ليت شعري أي شىء أدرك من فاته العلم ، وأي شيء فات من أدرك العلم .
ثم يأخذ الذين آمنوا بأدب آخر من آداب الجماعة :
( يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم : تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم . وإذا قيل : انشزوا فانشزوا ، يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات . والله بما تعملون خبير ) . .
ويظهر من بعض الروايات التي حكت سبب نزول الآية أن لها علاقة واقعية بالمنافقين ، مما يجعل بينها وبين الآيات قبلها أكثر من ارتباط واحد في السياق .
قال قتادة : نزلت هذه الآية في مجالس الذكر ، وذلك أنهم كانوا إذا رأوا أحدهم مقبلا ضنوا بمجالسهم عند رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فأمرهم الله تعالى أن يفسح بعضهم لبعض .
وقال مقاتل بن حيان : أنزلت هذه الآية يوم الجمعة . وكان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يومئذ في الصفة ، وفي المكان ضيق . وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار . فجاء ناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجالس فقاموا حيال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقالوا : السلام عليكم أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، فرد النبي [ صلى الله عليه وسلم ] عليهم . ثم سلموا على القوم بعد ذلك فردوا عليهم فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم . فعرف النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ما يحملهم على القيام ، فلم يفسح لهم . فشق ذلك على النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر : قم يا فلان . وأنت يا فلان . فلم يزل يقيمهم بعدة النفر الذين هم قيام بين يديه من المهاجرين والأنصار أهل بدر . فشق ذلك على من أقيم من مجلسه ، وعرف النبي [ صلى الله عليه وسلم ] الكراهة في وجوههم . فقال المنافقون : ألستم تزعمون أن صاحبكم هذا يعدل بين الناس ? والله ما رأيناه قد عدل على هؤلاء ! إن قوما أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب من نبيهم ، فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه . . فبلغنا أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قال : " رحم الله رجلا يفسح لأخيه " . . فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعا ، فيفسح القوم لإخوانهم . ونزلت هذه الآية يوم الجمعة .
وإذا صحت هذه الرواية فإنها لا تتنافى مع الأحاديث الأخرى التي تنهى عن أن يقيم الرجل الرجل من مكانه ليجلس فيه . كما جاء في الصحيحين : " لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه فيجلس فيه ، ولكن تفسحوا وتوسعوا " . . وما ورد كذلك من ضرورة استقرار القادم حيث انتهى به المجلس . فلا يتخطى رقاب الناس ليأخذ مكانا في الصدر !
فالآية تحض على الإفساح للقادم ليجلس ، كما تحض على إطاعة الأمر إذا قيل لجالس أن يرفع فيرفع . وهذا الأمر يجيء من القائد المسئول عن تنظيم الجماعة . لا من القادم .
والغرض هو إيجاد الفسحة في النفس قبل إيجاد الفسحة في المكان . ومتى رحب القلب اتسع وتسامح ، واستقبل الجالس إخوانه بالحب والسماحة ، فأفسح لهم في المكان عن رضى وارتياح . فأما إذا رأى القائد أن هناك اعتبارا من الاعتبارات يقتضي إخلاء المكان فالطاعة يجب أن ترعى عن طواعية نفس ورضى خاطر وطمأنينة بال . مع بقاء القواعد الكلية مرعية كذلك ، من عدم تخطي الرقاب أو إقامة الرجل للرجل ليأخذ مكانه . وإنما هي السماحة والنظام يقررهما الإسلام . والأدب الواجب في كل حال .
وعلى طريقة القرآن في استجاشة الشعور عند كل تكليف ، فإنه يعد المفسحين في المجالس بفسحة من الله لهم وسعة : ( فافسحوا يفسح الله لكم ) . . ويعد الناشزين الذين يرفعون من المكان ويخلونه عن طاعة لأمر الرسول برفعة في المقام : ( وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ) . . وذلك جزاء تواضعهم وقيامهم عند تلقي الأمر بالقيام .
وقد كانت المناسبة مناسبة قرب من الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] لتلقي العلم في مجلسه . فالآية تعلمهم : أن الإيمان الذي يدفع إلى فسحة الصدر وطاعة الأمر ، والعلم الذي يهذب القلب فيتسع ويطيع ؛ يؤديان إلى الرفعة عند الله درجات . وفي هذا مقابل لرفعة المكان الذي تطوعوا بتركه ورفعوا عنه لاعتبار رآه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ( والله بما تعملون خبير ) . . فهو يجزي به عن علم ومعرفة بحقيقة ما تعملون ، وبما وراءه من شعور مكنون .
وهكذا يتولى القرآن تربية النفوس وتهذيبها ، وتعليمها الفسحة والسماحة والطاعة بأسلوب التشويق والاستجاشة . فالدين ليس بالتكاليف الحرفية ، ولكنه تحول في الشعور ، وحساسية في الضمير . .
عن مالك قال: إن الآية في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ومجالسنا هذه، وإن الآية عامة في كل مجلس. قوله تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات}... عن مالك: إن قوله: {يرفع الله الذين آمنوا} الصحابة، {والذين أوتوا العلم درجات}، يرفع الله بها العالم والطالب للحق...
قال الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن عبيد الله ابن عمر ابن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يقيمن أحدكم الرجل من مجلسه ثم يخلفه فيه، ولكن تفسحوا وتوسعوا». قال الشافعي: وأكره الرجل من كان إماما أو غير إمام أن يقيم رجلا من مجلسه ثم يجلس فيه، ولكن نأمرهم أن يتفسحوا. (الأم: 1/204.)...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله" إذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسّحُوا فِي المَجالِسِ "يعني بقوله "تفسّحُوا": توسعوا، من قولهم: مكان فسيح إذا كان واسعا.
واختلف أهل التأويل في المجلس الذي أمر الله المؤمنين بالتفسح فيه؛ فقال بعضهم: ذلك كان مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة...
عن قتادة، في قوله "تَفَسّحُوا فِي المَجْلِسِ" قال: كان الناس يتنافسون في مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم فقيل لهم: {إذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسّحُوا فِي المَجْلِس فافْسَحُوا}...
وقال آخرون: بل عُنِي بذلك في مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب...
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أمر المؤمنين أن يتفسحوا في المجلس، ولم يخصص بذلك مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم دون مجلس القتال، وكلا الموضعين يقال له مجلس، فذلك على جميع المجالس من مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومجالس القتال...
وقوله: {فافْسَحُوا} يقول: فوسعوا "يَفْسَحِ اللّهُ لَكُمْ" يقول: يوسع الله منازلكم في الجنة.
{وإذَا قِيلَ انْشُزُوا فانْشُزُوا} يقول تعالى ذكره: وإذا قيل ارتفعوا، وإنما يُراد بذلك: وإذا قيل لكم قوموا إلى قتال عدوّ، أو صلاة، أو عمل خير، أو تفرّقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقوموا...
وقوله: {يَرْفَعِ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالّذِينَ أُوتُوا العِلْم دَرَجاتٍ} يقول تعالى ذكره: يرفع الله المؤمنين منكم أيها القوم بطاعتهم ربهم فما أمرهم به من التفسح في المجلس إذا قيل لهم تفسحوا، أو بنشوزهم إلى الخيرات إذا قيل لهم انشزوا إليها، ويرفع الله الذين أوتوا العلم من أهل الإيمان على المؤمنين الذين لم يؤتوا العلم بفضل علمهم درجات، إذا عملوا بما أمروا به..
وقوله: {واللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} يقول تعالى ذكره: والله بأعمالكم أيها الناس ذو خبرة، لا يخفى عليه المطيع منكم ربه من العاصي، وهو مجاز جميعكم بعمله المحسن بإحسانه، والمسيئ بالذي هو أهله، أو يعفو.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم} الآية: يخرج على وجهين:
أحدهما: {إذا قيل لكم تفسحوا} أي إذا قيل لكم: تأخروا في المجالس فتأخروا، {وإذا قيل انشزوا فانشزوا} أي ارتفعوا، وتقدموا، فيكون قوله: {تفسحوا} إذا كان الحضور أولا هم الذين همهم السماع والعمل به دون أخذه والتفقه فيه، قيل لهم: تأخروا حتى يقرب من يصير إماما للناس وفقيها لهم. وإذا كان الحضور هم الذين، همهم التفقه، وهم الأئمة، ثم جاء بعد ذلك من كان همهم السماع والعمل به، قيل للذين تقدموا أولا: ارتفعوا، أو تقدموا، حتى يسمع من حضر بعدكم قول النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.
والثاني: أنه إذا كان في المجلس أدنى سعة أو فسحة ما يمكن غيره من التحريك والتفسح دون القيام يقال لهم: تفسحوا، وإذا لم يمكن ذلك إلا بالقيام قيل لهم: قوموا وارتفعوا، وتقدموا.
وقوله تعالى: {يفسح الله لكم} يحتمل وجوها؛
أحدها: {يفسح الله لكم} في القبر.
{والثالث}: {يفسح الله لكم} في المجلس، وهو فسحة للقلب وتوسعة للعلم والحكم، والله أعلم...
{يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} أخبر أنه يرفع الله الذين أوتوا العلم من المؤمنين على الذين لم يؤتوا العلم درجات لفضل العلم على سائر العبادات...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
السبب مجلس النبي عليه السلام، والحكم في سائر المجالس التي هي للطاعات...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
فِي تَفْسِيرِ الْمَجْلِسِ: فِيهِ أَرْبَعَة أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَجْلِسُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ...وَكَانَ قَوْمٌ إذَا أَخَذُوا فِيهِ مَقَاعِدَهُمْ شَحُّوا عَلَى الدَّاخِلِ أَنْ يَفْسَحُوا لَهُ...
[عَنْ أَنَسٍ] قَالَ: «بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فِي الْمَسْجِدِ، وَقَدْ أَطَافَ بِهِ أَصْحَابُهُ إذْ أَقْبَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَوَقَفَ وَسَلَّمَ، ثُمَّ نَظَرَ مَجْلِسًا يُشْبِهُهُ؛ فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ أَيُّهُمْ يُوَسِّعُ لَهُ؛ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ جَالِسًا عَلَى يَمِينِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فَتَزَحْزَحَ لَهُ عَنْ مَجْلِسِهِ، وَقَالَ: هَا هُنَا يَا أَبَا الْحَسَنِ، فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وَبَيْنَ أَبِي بَكْرٍ. قَالَ: فَرَأَيْنَا السُّرُورَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ؛ إنَّمَا يَعْرِفُ الْفَضْلَ لِأَهْلِ الْفَضْلِ ذَوُو الْفَضْلِ»...
الثَّانِي: أَنَّهُ الْمَسْجِدُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَجْلِسُ الذِّكْرِ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ مَوْقِفُ الصَّفِّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي الْقِتَالِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْجَمِيعَ مُرَادٌ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ مُحْتَمِلٌ لَهُ، وَالتَّفَسُّحُ وَاجِبٌ فِيهِ...
المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {اُنْشُزُوا فَانْشُزُوا}: فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا جَلَسُوا مَعَ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فِي مَجْلِسِهِ أَطَالُوا، يَرْغَبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ آخِرَ عَهْدِهِ بِالنَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فَأَمَرَهُمْ اللَّهُ أَنْ يَرْتَفِعُوا.
الثَّانِي: أَنَّهُ الْأَمْرُ بِالِارْتِفَاعِ إلَى الْقِتَالِ...
الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَوْضِعُ الصَّلَاةِ...الرَّابِعُ: أَنَّهُ الْخَيْرُ كُلُّهُ...وَهُوَ الصَّحِيحُ، كَمَا بَيَّنَّاهُ.
المسألة الثَّالِثَةُ: الْفُسْحَةُ كُلُّ فَرَاغٍ بَيْنَ مَلَأَيْنِ...
وَالنَّشْزُ: مَا ارْتَفَعَ من الْأَرْضِ. ذَكَرَ الْأَوَّلَ بِلَفْظِهِ وَحَقِيقَتِهِ، وَضَرَبَ الْمَثَلَ لِلثَّانِي فِي الِارْتِفَاعِ؛ فَصَارَ مَجَازًا فِي اللَّفْظِ حَقِيقَةً فِي الْمَعْنَى.
المسألة الرَّابِعَةُ: كَيْفِيَّةُ التَّفَسُّحِ فِي الْمَجَالِسِ مُشْكِلَةٌ، وَتَفَاصِيلُهَا كَثِيرَةٌ:
الْأَوَّلُ مَجْلِسُ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -يُفْسَحُ فِيهِ بِالْهِجْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالسِّنِّ. الثَّانِي مَجْلِسُ الْجُمُعَاتِ يتَقَدَّمُ فِيهِ بِالْبُكُورِ إلَّا مَا يَلِي الْإِمَامَ، فَإِنَّهُ لِذَوِي الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى.
الثَّالِثُ: مَجْلِسُ الذِّكْرِ يَجْلِسُ فِيهِ كُلُّ أَحَدٍ حَيْثُ انْتَهَى بِهِ الْمَجْلِسُ...
الرَّابِعُ مَجْلِسُ الْحَرْبِ يَتَقَدَّمُ فِيهِ ذَوُو النَّجْدَةِ وَالْمِرَاسِ من النَّاسِ. الْخَامِسُ مَجْلِسُ الرَّأْيِ وَالْمُشَاوَرَةِ يَتَقَدَّمُ فِيهِ مَنْ لَهُ بَصَرٌ بِالشُّورَى، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي مَجْلِسِ الذِّكْرِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ يَتَضَمَّنُهُ قَوْلُهُ: {يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} فَيَرْتَفِعُ الْمَرْءُ بِإِيمَانِهِ أَوَّلًا، ثُمَّ بِعِلْمِهِ ثَانِيًا...
وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يُقَدِّمُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَلَى الصَّحَابَةِ، فَكَلَّمُوهُ فِي ذَلِكَ، فَدَعَاهُمْ وَدَعَاهُ، وَسَأَلَهُمْ عَنْ تَفْسِيرِ {إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فَسَكَتُوا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -أَعْلَمَهُ اللَّهُ إيَّاهُ، فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إلَّا مَا تَعْلَمُ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{يا أيها الذين آمنوا} حداهم بهذا الوصف على الامتثال، {إذا قيل لكم} أي من أيّ قائل كان فإن الخير يرغب فيه لذاته: {تفسحوا} أي توسعوا أي كلفوا أنفسكم في إيساع المواضع {في المجلس} أي الجلوس أو مكانه لأجل من يأتي فلا يجد مجلساً يجلس فيه {فافسحوا} أي وسعوا فيه عن سعة صدر {يفسح الله} أي الذي له الأمر كله والعظمة الكاملة {لكم} في كل ما تكرهون ضيقه من الدارين. ولما كانت التوسعة يكفي فيها التزحزح مع دوام الجلوس تارة، وأخرى تدعو الحاجة فيها إلى القيام للتحول من مكان إلى آخر قال: {وإذا قيل} أيّ من قائل كان -كما مضى- إذا كان يريد الإصلاح و الخير {انشزوا} أي ارتفعوا وانهضوا إلى الموضع الذي تؤمرون به أو يقتضيه الحال للتوسعة أو غيرها من الأوامر {يرفع الله} الذي له جميع صفات الكمال، عبر بالجلالة وأعاد إظهارها موضع الضمير ترغيباً في الامتثال لما للنفس من الشح بما يخالف المألوف {الذين آمنوا} وإن كانوا غير علماء، {منكم} أيها المأمورون بالتفسح السامعون للأوامر، المبادرون إليها في الدنيا والآخرة بالنصر وحسن الذكر بالتمكن في وصف الإيمان الموجب لعلو الشأن بطاعتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم في سعة صدورهم بتوسعتهم لإخوانهم. ولما كان المؤمن قد لا يكون من المشهورين بالعلم قال: {والذين} ولما كان العلم في نفسه كافياً في الإعلاء من غير نظر إلى مؤت معين، بنى للمفعول قوله: {أوتوا العلم} أي وهم مؤمنون {درجات}، درجة بامتثال الأمر وأخرى بالإيمان، ودرجة بفضل علمهم وسابقتهم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويظهر من بعض الروايات التي حكت سبب نزول الآية أن لها علاقة واقعية بالمنافقين، مما يجعل بينها وبين الآيات قبلها أكثر من ارتباط واحد في السياق. قال قتادة: نزلت هذه الآية في مجالس الذكر، وذلك أنهم كانوا إذا رأوا أحدهم مقبلا ضنوا بمجالسهم عند رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فأمرهم الله تعالى أن يفسح بعضهم لبعض... (فافسحوا يفسح الله لكم).. ويعد الناشزين الذين يرفعون من المكان ويخلونه عن طاعة لأمر الرسول برفعة في المقام: (وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات).. وذلك جزاء تواضعهم وقيامهم عند تلقي الأمر بالقيام. وقد كانت المناسبة مناسبة قرب من الرسول [صلى الله عليه وسلم] لتلقي العلم في مجلسه. فالآية تعلمهم: أن الإيمان الذي يدفع إلى فسحة الصدر وطاعة الأمر، والعلم الذي يهذب القلب فيتسع ويطيع؛ يؤديان إلى الرفعة عند الله درجات. وفي هذا مقابل لرفعة المكان الذي تطوعوا بتركه ورفعوا عنه لاعتبار رآه الرسول [صلى الله عليه وسلم] (والله بما تعملون خبير).. فهو يجزي به عن علم ومعرفة بحقيقة ما تعملون، وبما وراءه من شعور مكنون. وهكذا يتولى القرآن تربية النفوس وتهذيبها، وتعليمها الفسحة والسماحة والطاعة بأسلوب التشويق والاستجاشة. فالدين ليس بالتكاليف الحرفية، ولكنه تحول في الشعور، وحساسية في الضمير...