33- والْزَمْنَ بيوتكن لا تخرجن إلا لحاجة شرع الله الخروج لقضائها ، ولا تُظْهرن محاسنكن وزينتكن للرجال إذا خرجتن . كما كانت تفعل أهل الجهالة الأولى ، وأدين الصلاة كاملة ، وأعطين الزكاة ، وامتثلن أمر الله ورسوله . إنما يريد الله - بكل ما يأمركن به وينهاكن عنه - الشرف والكرامة . ليذهب عنكم الإثم والمعصية - يا أهل بيت النبي - ويطهركم تطهيرا لا يخالطه شبهة .
{ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } أي : اقررن فيها ، لأنه أسلم وأحفظ لَكُنَّ ، { وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } أي : لا تكثرن الخروج متجملات أو متطيبات ، كعادة أهل الجاهلية الأولى ، الذين لا علم عندهم ولا دين ، فكل هذا دفع للشر وأسبابه .
ولما أمرهن بالتقوى عمومًا ، وبجزئيات من التقوى ، نص عليها [ لحاجة ]{[704]} النساء إليها ، كذلك أمرهن بالطاعة ، خصوصًا الصلاة والزكاة ، اللتان يحتاجهما ، ويضطر إليهما كل أحد ، وهما أكبر العبادات ، وأجل الطاعات ، وفي الصلاة ، الإخلاص للمعبود ، وفي الزكاة ، الإحسان إلى العبيد .
ثم أمرهن بالطاعة عمومًا ، فقال : { وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } يدخل في طاعة اللّه ورسوله ، كل أمر ، أمرَا به أمر إيجاب ، أو استحباب .
{ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ } بأمركن بما أَمَرَكُنَّ به ، ونهيكن بما{[705]} نهاكُنَّ عنه ، { لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ } أي : الأذى ، والشر ، والخبث ، يا { أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } حتى تكونوا طاهرين مطهرين .
أي : فاحمدوا ربكم ، واشكروه على هذه الأوامر والنواهي ، التي أخبركم بمصلحتها ، وأنها محض مصلحتكم ، لم يرد اللّه أن يجعل عليكم بذلك حرجًا ولا مشقة ، بل لتتزكى نفوسكم ، ولتتطهر أخلاقكم ، وتحسن أعمالكم ، ويعظم بذلك أجركم .
ثم أمرهن - سبحانه - بعد ذلك بالاستقرار فى بيوتهن ، وعدم الخروج منها إلا لحاجة شرعية فقال { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } .
قال القرطبى ما ملخصه : قوله { وَقَرْنَ } قرأه الجمهور - بكسر القاف - من القرار تقول : قَرَرْتُ بالمكان - بفتح الراء أقِر - بكسر القاف - إذا نزلت فيه - والأصل - اقررن - بكسر الراء - فحذفت الراء الأولى تخفيفا . . ونقلوا حركتها إلى القاف ، واستغنى عن ألف الوصل لتحرك القاف . . فصارت الكلمة { قِرن } - بكسر القاف - .
وقرأ عاصم ونافع { وقَرْن } - بفتح القاف - من قررت فى المكان - بكسرر الراء - إذا أقمت فيه . . والأصل اقْرَرْن بفتح الراء - فحذفت الراء الأولى لثقل التضعيف ، وألقيت حركتها على القاف . . فتقول : { قَرن } - بالفتح - للقاف - .
والمعنى : الْزَمْنَ يا نساء النبى صلى الله عليه وسلم بيوتكن ، ولا تخرجن منها إلا لحاجة مشروعة ، ومثلهن فى ذلك جميع النساء المسلمات ، لأن الخطاب لهن فى مثل هذه الأمور ، هو خطاب لغيرهن من النساء المؤمنات من باب أولى ، وإنما خاطب - سبحانه - أمهات المؤمنين على سبيل التشريف ، واقتداء غيرهن بهن .
قال بعض العلماء : والحكمة فى هذا الأمر : أن ينصرفن إلى رعاية شئون بيوتهن ، وتوفير وسائل الحياة المنزلية التى هى من خصائصهن ، ولا يحسنها الرجال ، وإلى تربية الأولاد فى عهد الطفولة وهى من شأنهن . وقد جرت السنة الإِلهية بأن أمر الزوجين قسمة بينهما ، فللرجل أعمال من خصائصهم لا يحسنها النساء ، وللنساء أعمال خصائصهن لا يحسنها الرجال ، فإذا تعدى أحد الفريقين عمله ، اختل النظام فى البيت والمعيشة .
وقال صاحب الظلال ما ملخصه : والبيت هو مثابة المرأة التى تجد فيها نفسها على حقيقتها كما أرادها الله - تعالى - ولكى يهيئ الإِسلام للبيت جوه السليم ، ويهيئ للفراخ الناشئة فيه رعايتها ، أوجب على الرجل النفقة ، وجعلها فريضة ، كى يتاح للأم من الجهد ومن الوقت ومن هدوء البال ، ما تشرف به على هذه الفراخ الزغب ، وما تهيئ به للمثابة نظامها وعطرها وبشاشتها .
فالأم المكدودة بالعمل وبمقتضياته وبمواعيده . . لا يمكن أن تهيئ للبيت جوه وعطره ، ولا يمكن أن تهيئ للطفولة النابتة فيه حقها ورعايتها .
إن خروج المرأة للعمل كارثة على البيت قد تبيحها الضرورة ، أما أن يتطوع بها الناس وهم قادرون على اجتنابها ، فتلك هى اللعنة التى تصيب الأرواح والضمائر والعقول ، فى عصور الانتكاس والشرور والضلال .
وهذه الجملة الكريمة ليس المقصود بها ملازمة البيوت فلا يبرحنها بإطلاق وإنما المقصود بها أن يكون البيت هو الأصل فى حياتهن ، ولا يخرجن إلا لحاجة مشروعة ، كأداء الصلاة فى المسجد ، وكأداء فريضة الحج وكزيارة الوالدين والآقارب ، وكقضاء مصالحهن التى لا تقضى إلا بهن .
. بشرط أن يكون خروجهن مصوحبا بالتستر والاحتشام وعدم التبذل .
ولذا قال - سبحانه - بعد هذا الأمر ، { وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى } .
وقوله : { تَبَرَّجْنَ } مأخوذ من البَرَج - بفتح الباء والراء - وهو سعة العين وحسنها ، ومنه قولهم : سفينة برجاء ، أى : متسعة ولا غطاء عليها .
والمراد به هنا : إظهار ما ينبغى ستره من جسد المرأة ، مع التكلف والتصنع فى ذلك .
والجاهلية الأولى ، بمعنى المتقدمة ، إذ يقال لكل متقدم ومتقدمة : أول وأولى .
أو المراد بها : الجاهلية الجهلاء التى كانت ترتكب فيها الفواحش بدون تحرج .
وقد فسروها بتفسيرات متعددة ، منها : قول مجاهد : كانت المرأة تخرج فتمشى بين يدي الرجال ، فذلك تبرج الجاهلية .
ومنها قول قتادة : كانت المرأة فى الجاهلية تمشى مشية فيها تكسر .
ومنها قول مقاتل : والتبرج : أنها تلقي الخمار على رأسها ، ولا تشده فيوارى قلائدها وعنقها .
ويبدو لنا أن التبرج المنهي عنه فى الآية الكريمة ، يشمل كل ذلك ، كما يشمل كل فعل تفعله المرأة ، ويكون هذا الفعل متنافيا مع آداب الإِسلام وتشريعاته .
والمعنى : الزمن يا نساء النبى بيوتكن ، فلا تخرجن إلا لحاجة مشروعة ، وإذا خرجتن فاخرجن فى لباس الحشمة والوقار ، ولا تبدي إحداكن شيئا أمرها الله - تعالى - بسرته وإخفائه ، واحذرن التشبيه بنساء أهل الجاهلية الأولى ، حيث كن يفعلن ما يثير شهوة الرجال ، ويلفت أنظارهم اليهن .
ثم أتبع - سبحانه - هذا المنهى بما يجعلهن على صلة طيبة بخالقهن - عز وجل - فقال : { وَأَقِمْنَ الصلاة } أى : داومن على إقامتها فى أوقاتها بخشوع وإخلاص . { وَآتِينَ الزكاة } التى فرضها الله - تعالى - عليكن . وخص - سبحانه - هاتين الفريضيتين بالذكر من بين سائر الفرائض ، لأنهما أساس العبادات البدنية والمالية .
{ وَأَطِعْنَ الله وَرَسُولَهُ } أى : فى كل ما تأتين وتتركن ، لا سيما فيما أمرتن به ، ونهيتين عنه .
وقوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } تعليل لما أمرن به من طاعات ، ولما نهين عنه من سيئات .
والرجس فى الأصل : يطلق على كل شئ مستقذر . وأريد به هنا : الذنوب والآثام وما يشبه ذلك من النقائص والأدناس .
وقوله { أَهْلَ البيت } منصوب على النداء ، أو على المدح . ويدخل فى أهل البيت هنا دخولا أوليا : نساؤه صلى الله عليه وسلم بقرينة سياق الآيات .
أى : إنما يريده الله - تعالى - بتلك الأوامر التى أمركن بها ، و بتلك النواهى التى نهاكن عنها ، أن يذهب عنكن الآثام والذنوب والنقائص ، وأن يطهركن من كل ذلك تطهيرا تاما كاملا .
قال الإِمام ابن كثير ما ملخصه : قوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت . . . } هذا نص فى دخول أزواج النبى صلى الله عليه وسلم فى أهل البيت ها هنا ، لأنهن سبب نزول هذه الآية .
وقدوردت أحاديث تدل على أن المراد أعم من ذلك ، فقد روى الإِمام أحمد بسنده - عن أنس بن مالك قال :
" إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمر بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر ، يقول : الصلاة يا أهل البيت : ثم يتلو هذه الآية . . " .
وقال بعض العلماء : والتحقيق - إن شاء الله - أنهن داخلات فى الآية ، بدليل السياق ، وإن كانت الآية تتناول غيرهن من أهل البيت .
ونظير ذلك من دخول الزوجات فى اسم أهل البيت ، قوله - تعالى - فى زوجة إبراهيم : { قالوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله رَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البيت } وأما الدليل على دخول غيرهن فى الآية ، فهو أحاديث جاءت " عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال فى على وفاطمة والحسن والحسين - رضى الله عنهم - : " إنهم أهل البيت " ودعا الله أن يذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيرا " .
وبما ذكرنا تعلم أن الصواب شمول الآية الكريمة لأزواج النبى صلى الله عليه وسلم ولعلى وفاطمة والحسن والحسين .
فإن قيل : الضمير فى قوله : { لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس } وفى قوله : { وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } ضمير الذكور ، فلو كان المراد أزواج النبى صلى الله عليه وسلم لقيل ليذهب عنكن ويطهركن ؟
فالجواب : ما ذكرناه من أن الآية تشملهن وتشمل فاطمة وعلى والحسن والحسين ، وقد أجمع أهل اللسان العربى على تغليب الذكور على الإِناث فى الجموع ونحوها . .
ومن أساليب اللغة العربية التى نزل بها القرآن ، أن زوجة الرجل يطلق عليها أهل ، وباعتبار لفظ الأهل تخاطب مخاطبة الجمع المذكر ، ومنه قوله - تعالى - فى موسى { فَقَالَ لأَهْلِهِ امكثوا } وقوله { سَآتِيكُمْ } والمخاطب امرأته كما قال غير واحد . .
وقال بعض أهل العلم : إن أهل البيت فى الآية هم من تحرم عليهم الصدقة .
من وقر . يقر . أي ثقل واستقر . وليس معنى هذا الأمر ملازمة البيوت فلا يبرحنها إطلاقا . إنما هي إيماءة لطيفة إلى أن يكون البيت هو الأصل في حياتهن ، وهو المقر وما عداه استثناء طارئا لا يثقلن فيه ولا يستقررن . إنما هي الحاجة تقضى ، وبقدرها .
والبيت هو مثابة المرأة التي تجد فيها نفسها على حقيقتها كما أرادها الله تعالى . غير مشوهة ولا منحرفة ولا ملوثة ، ولا مكدودة في غير وظيفتها التي هيأها الله لها بالفطرة .
" ولكي يهيئ الإسلام للبيت جوه ويهيىء للفراخ الناشئة فيه رعايتها ، أوجب على الرجل النفقة ، وجعلهافريضة ، كي يتاح للأم من الجهد ، ومن الوقت ، ومن هدوء البال ، ما تشرف به على هذه الفراخ الزغب ، وما تهيئ به للمثابة نظامها وعطرها وبشاشتها . فالأم المكدودة بالعمل للكسب ، المرهقة بمقتضيات العمل ، المقيدة بمواعيده ، المستغرقة الطاقة فيه . . لا يمكن أن تهب للبيت جوه وعطره ، ولا يمكن أن تمنح الطفولة النابتة فيه حقها ورعايتها . وبيوت الموظفات والعاملات ما تزيد على جو الفنادق والخانات ؛ وما يشيع فيها ذلك الأرج الذي يشيع في البيت . فحقيقة البيت لا توجد إلا أن تخلقها امرأة ، وأرج البيت لا يفوح إلا أن تطلقه زوجة ، وحنان البيت لا يشيع إلا أن تتولاه أم . والمرأة أو الزوجة أو الأم التي تقضي وقتها وجهدها وطاقتها الروحية في العمل لن تطلق في جو البيت إلا الإرهاق والكلال والملال .
" وإن خروج المرأة لتعمل كارثة على البيت قد تبيحها الضرورة . أما أن يتطوع بها الناس وهم قادرون على اجتنابها ، فتلك هي اللعنة التي تصيب الأرواح والضمائر والعقول ، في عصور الانتكاس والشرور والضلال " .
فأما خروج المرأة لغير العمل . خروجها للاختلاط ومزاولة الملاهي . والتسكع في النوادي والمجتمعات . . . فذلك هو الارتكاس في الحمأة الذي يرد البشر إلى مراتع الحيوان !
ولقد كان النساء على عهد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يخرجن للصلاة غير ممنوعات شرعا من هذا . ولكنه كان زمان فيه عفة ، وفيه تقوى ، وكانت المرأة تخرج إلى الصلاة متلفعة لا يعرفها أحد ، ولا يبرز من مفاتنها شيء . ومع هذا فقد كرهت عائشة لهن أن يخرجن بعد وفاة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] !
في الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت : كان نساء المؤمنين يشهدن الفجر مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ثم يرجعن متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس .
وفي الصحيحين أيضا أنها قالت : لو أدرك رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ما أحدث النساء لمنعهن من المساجد ، كما منعت نساء بني إسرائيل !
فماذا أحدث النساء في حياة عائشة - رضي الله عنها - ? وماذا كان يمكن أن يحدثن حتى ترى أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كان مانعهن من الصلاة ? ! ماذا بالقياس إلى ما نراه في هذه الأيام ? !
( ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ) . .
ذلك حين الاضطرار إلى الخروج ، بعد الأمر بالقرار في البيوت . ولقد كانت المرأة في الجاهلية تتبرج . ولكن جميع الصور التي تروى عن تبرج الجاهلية الأولى تبدو ساذجة أو محتشمة حين تقاس إلى تبرج أيامنا هذه في جاهليتنا الحاضرة !
قال مجاهد : كانت المرأة تخرج تمشي بين الرجال . فذلك تبرج الجاهلية !
وقال قتادة : وكانت لهن مشية تكسر وتغنج . فنهى الله تعالى عن ذلك !
وقال مقاتل بن حيان : والتبرج أنها تلقي الخمار على رأسها ولا تشده فيداري قلائدها وقرطها وعنقها ، ويبدو ذلك كله منها . وذلك التبرج !
وقال ابن كثير في التفسير : كانت المرأة منهن تمر بين الرجال مسفحة بصدرها لا يواريه شيء ؛ وربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها وأقرطة آذانها . فأمر الله المؤمنات أن يستترن في هيئاتهن وأحوالهن .
هذه هي صور التبرج في الجاهلية التي عالجها القرآن الكريم . ليطهر المجتمع الإسلامي من آثارها ويبعد عنه عوامل الفتنة ، ودواعي الغواية ؛ ويرفع آدابه وتصوراته ومشاعره وذوقه كذلك !
ونقول : ذوقه . . فالذوق الإنساني الذي يعجب بمفاتن الجسد العاري ذوق بدائي غليظ . وهو من غير شك أحط من الذوق الذي يعجب بجمال الحشمة الهادئ ، وما يشي به من جمال الروح ، وجمال العفة ، وجمال المشاعر .
وهذا المقياس لا يخطئ في معرفة ارتفاع المستوى الإنساني وتقدمه . فالحشمة جميلة جمالا حقيقيا رفيعا . ولكن هذا الجمال الراقي لا يدركه أصحاب الذوق الجاهلي الغليظ ، الذي لا يرى إلا جمال اللحم العاري ، ولا يسمع إلا هتاف اللحم الجاهر !
ويشير النص القرآني إلى تبرج الجاهلية ، فيوحي بأن هذا التبرج من مخلفات الجاهلية . التي يرتفع عنها من تجاوز عصر الجاهلية ، وارتفعت تصوراته ومثله ومشاعره عن تصورات الجاهلية ومثلها ومشاعرها .
والجاهلية ليست فترة معينة من الزمان . إنما هي حالة اجتماعية معينة ، ذات تصورات معينة للحياة . ويمكن أن توجد هذه الحالة ، وأن يوجد هذا التصور في أي زمان وفي أي مكان ، فيكون دليلا على الجاهلية حيث كان !
وبهذا المقياس نجد أننا نعيش الآن في فترة جاهلية عمياء ، غليظة الحس ، حيوانية التصور ، هابطة في درك البشرية إلى حضيض مهين . وندرك أنه لا طهارة ولا زكاة ولا بركة في مجتمع يحيا هذه الحياة ؛ ولا يأخذ بوسائل التطهر والنظافة التي جعلها الله سبيل البشرية إلى التطهر من الرجس ، والتخلص من الجاهلية الأولى ؛ وأخذ بها ، أول من أخذ ، أهل بيت النبي [ صلى الله عليه وسلم ] على طهارته ووضاءته ونظافته .
والقرآن الكريم يوجه نساء النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إلى تلك الوسائل ؛ ثم يربط قلوبهن بالله ، ويرفع أبصارهن إلى الأفق الوضيء الذي يستمددن منه النور ، والعون على التدرج في مراقي ذلك الأفق الوضيء :
( وأقمن الصلاة ، وآتين الزكاة ، وأطعن الله ورسوله ) . .
وعبادة الله ليست بمعزل عن السلوك الاجتماعي أو الأخلاقي في الحياة ؛ إنما هي الطريق للإرتفاع إلى ذلك المستوى ؛ والزاد الذي يقطع به السالك الطريق . فلا بد من صلة بالله يأتي منها المدد والزاد . ولا بد من صلة بالله تطهر القلب وتزكيه . ولا بد من صلة بالله يرتفع بها الفرد على عرف الناس وتقاليد المجتمع وضغط البيئة ؛ ويشعر أنه أهدى وأعلى من الناس والمجتمع والبيئة . وأنه حري أن يقود الآخرين إلى النور الذي يراه ؛ لا أن يقوده الآخرون إلى الظلمات وإلى الجاهلية التي تغرق فيها الحياة ، كلما انحرفت عن طريق الله .
والإسلام وحدة تجمع الشعائر والآداب والأخلاق والتشريعات والنظم . . كلها في نطاق العقيدة . ولكل منها دور تؤديه في تحقيق هذه العقيدة ؛ وتتناسق كلها في اتجاه واحد ؛ ومن هذا التجمع والتناسق يقوم الكيان العام لهذا الدين . وبدونهما لا يقوم هذا الكيان .
ومن ثم كان الأمر بإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وطاعة الله ورسوله ، هو خاتمة التوجيهات الشعورية والأخلاقية والسلوكية لأهل البيت الكريم . لأنه لا يقوم شيء من تلك التوجيهات بغير العبادة والطاعة . . وكل ذلك لحكمة وقصد وهدف :
( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) . .
وفي التعبير إيحاءات كثيرة ، كلها رفاف ، رفيق ، حنون . .
فهو يسميهم ( أهل البيت )بدون وصف للبيت ولا إضافة . كأنما هذا البيت هو( البيت )الواحد في هذا العالم ، المستحق لهذه الصفة . فإذا قيل( البيت )فقد عرف وحدد ووصف . ومثل هذا قيل عن الكعبة . بيت الله . فسميت البيت . والبيت الحرام . فالتعبير عن بيت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كذلك تكريم وتشريف واختصاص عظيم .
وهو يقول : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس - أهل البيت - ويطهركم تطهيرا ) . . وفي العبارة تلطف ببيان علة التكليف وغايته . تلطف يشي بأن الله سبحانه - يشعرهم بأنه بذاته العلية - يتولى تطهيرهم وإذهاب الرجس عنهم . وهي رعاية علوية مباشرة بأهل هذا البيت . وحين نتصور من هو القائل - سبحانه وتعالى - رب هذا الكون . الذي قال للكون : كن . فكان . الله ذو الجلال والإكرام . المهيمن العزيز الجبار المتكبر . . حين نتصور من هو القائل - جل وعلا - ندرك مدى هذا التكريم العظيم .
وهو - سبحانه - يقول هذا في كتابه الذي يتلى في الملأ الأعلى ، ويتلى في هذه الأرض ، في كل بقعة وفي كل أوان ؛ وتتعبد به ملايين القلوب ، وتتحرك به ملايين الشفاه .
وأخيرا فإنه يجعل تلك الأوامر والتوجيهات وسيلة لإذهاب الرجس وتطهير البيت . فالتطهير من التطهر ، وإذهاب الرجس يتم بوسائل يأخذ الناس بها أنفسهم ، ويحققونها في واقع الحياة العملي . وهذا هو طريق الإسلام . . شعور وتقوى في الضمير . وسلوك وعمل في الحياة . يتم بهما معا تمام الإسلام ، وتتحقق بهما أهدافه واتجاهاته في الحياة .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنّ ، فقرأته عامة قرّاء المدينة وبعض الكوفيين : وَقَرْنَ بفتح القاف ، بمعنى : واقررن في بيوتكنّ ، وكأن من قرأ ذلك كذلك حذف الراء الأولى من اقررن ، وهي مفتوحة ، ثم نقلها إلى القاف ، كما قيل : فَظَلْتُمْ تَفَكّهُونَ ، وهو يريد فظللتم ، فأسقطت اللام الأولى ، وهي مكسورة ، ثم نُقلت كسرتها إلى الظاء . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة والبصرة «وَقِرْنَ » بكسر القاف ، بمعنى : كنّ أهل وقار وسكينة فِي بُيُوتِكُنّ .
وهذه القراءة ، وهي الكسر في القاف أَولى عندنا بالصواب ، لأن ذلك إن كان من الوقار على ما اخترنا ، فلا شكّ أن القراءة بكسر القاف ، لأنه يقال : وقر فلان في منزله فهو يقر وقورا ، فتكسر القاف في تفعل فإذا أمر منه قيل : قرّ ، كما يقال من وزن : يزن زن ، ومن وَعد : يعِد عِد . وإن كان من القرار ، فإن الوجه أن يقال : اقررن ، لأن من قال من العرب : ظلت أفعل كذا ، وأحست بكذا ، فأسقط عين الفعل ، وحوّل حركتها إلى فائه في فعل وفعلنا وفعلتم ، لم يفعل ذلك في الأمر والنهِي ، فلا يقول : ظلّ قائما ، ولا تظلّ قائما ، فليس الذي اعتلّ به من اعتلّ لصحة القراءة بفتح القاف في ذلك يقول العرب في ظللت وأحسست ظلت ، وأحست بعلة توجب صحته لما وصفت من العلة . وقد حكى بعضهم عن بعض الأعراب سماعا منه : ينحطن من الجبل ، وهو يريد : ينحططن . فإن يكن ذلك صحيحا ، فهو أقرب إلى أن يكون حجة لأهل هذه القراءة من الحجة الأخرى .
وقوله : وَلا تَبَرّجْنَ تُبرّجَ الجاهِلِيّةِ الأُولى قيل : إن التبرّج في هذا الموضع التبخْتُر والتكسّر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَلا تَبرّجْنَ تَبرّجَ الجاهِلِيّةِ الأُولى : أي إذا خرجتن من بيوتكنّ قال : كانت لهن مشية وتكسّر وتغنّج ، يعني بذلك الجاهلية الأولى فنهاهنّ الله عن ذلك .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : سمعت ابن أبي نجيح ، يقول في قوله : وَلا تَبَرّجْنَ تَبرّجَ الجاهِلِيّةِ الأُولى قال : التبختر . وقيل : إن التبرّج هو إظهار الزينة ، وإبراز المرأة محاسنها للرجال .
وأما قوله : تَبرّجَ الجاهِلِيّةِ الأُولى فإن أهل التأويل اختلفوا في الجاهلية الأولى ، فقال بعضهم : ذلك ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن زكريا ، عن عامر وَلا تَبرّجْنَ تَبرّجَ الجاهِلِيّةِ الأُولى قال : الجاهلية الأولى : ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام .
وقال آخرون : ذلك ما بين آدم ونوح . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن أبيه ، عن الحكم وَلا تَبرّجْنَ تَبرّجَ الجاهِلِيّةِ الأُولى قال : وكان بين آدم ونوح ثمان مائة سنة ، فكان نساؤهم من أقبح ما يكون من النساء ، ورجالهم حسان ، فكانت المرأة تريد الرجل على نفسه ، فأنزلت هذه الاَية : وَلا تَبرّجْنَ تَبرّجَ الجاهِلِيّةِ الأُولى .
وقال آخرون : بل ذلك بين نوح وإدريس . ذكر من قال ذلك :
حدثني ابن زهير ، قال : حدثنا موسى بن إسماعيل ، قال : حدثنا داود ، يعني ابن أبي الفرات ، قال : حدثنا علباء بن أحمر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : تلا هذه الاَية : وَلا تَبرّجْنَ تَبرّجَ الجاهِلِيّةِ الأُولى قال : كان فيما بين نوح وإدريس ، وكانت ألف سنة ، وإن بطنين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل ، والاَخر يسكن الجبل ، وكان رجال الجبل صباحا ، وفي النساء دمامة ، وكان نساء السهل صباحا ، وفي الرجال دمامة ، وإن إبليس أتى رجلاً من أهل السهل في صورة غلام ، فأجر نفسه منه ، وكان يخدمه ، واتخذ إبليس شيئا مثل ذلك الذي يزمر فيه الرّعاء ، فجاء فيه بصوت لم يسمع مثله ، فبلغ ذلك من حولهم ، فانتابوهم يسمعون إليه ، واتخذوا عيدا يجتمعون إليه في السنة ، فتتبرّج الرجال للنساء . قال : ويتزين النساء للرجال ، وإن رجلاً من أهل الجبل هجم عليهم وهم في عيدهم ذلك ، فرأى النساء ، فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك ، فتحوّلوا إليهنّ ، فنزلوا معهنّ ، فظهرت الفاحشة فيهنّ ، فهو قول الله : وَلا تَبرّجْنَ تَبرّجَ الجاهِلِيّةِ الأُولى .
وأَولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره نهى نساء النبيّ أن يتبرّجن تبرّج الجاهلية الأولى ، وجائز أن يكون ذلك ما بين آدم وعيسى ، فيكون معنى ذلك : ولا تبرّجن تبرّج الجاهلية الأولى التي قبل الإسلام .
فإن قال قائل : أَوَ في الإسلام جاهلية حتى يقال : عنى بقوله الجاهِلِيّةِ الأولى التي قبل الإسلام ؟ قيل : فيه أخلاقٌ من أخلاق الجاهلية . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلا تَبرّجْنَ تَبرّجَ الجاهِلِيّةِ الأُولى قال : يقول : التي كانت قبل الإسلام ، قال : وفي الإسلام جاهلية ؟ قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي الدرداء ، وقال للرجل وهو ينازعه : يا ابْن فلانة ، لأُمّ كان يعيره بها في الجاهلية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا أبا الدّرْدَاءِ إنّ فِيكَ جاهِلِيّةً » ، قال : أجاهلية كفر أو إسلام ؟ قال : «بل جاهِلِيّةُ كُفْرٍ » ، قال : فتمنيت أن لو كنت ابتدأت إسلامي يومئذ . قال : وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «ثَلاثٌ مِنْ عَمَلِ أهْلِ الجاهِلِيّةِ لا يَدَعُهُنّ النّاسُ : الطّعْنُ بالأنْساب ، والإسْتِمْطارُ بالكَوَاكِبِ ، والنّياحَةُ » .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، قال : أخبرني سليمان بن بلال ، عن ثور ، عن عبد الله بن عباس ، أن عمر بن الخطاب ، قال له : أرأيت قول الله لأزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم : وَلا تَبرّجْنَ تَبرّجَ الجاهِلِيّةِ الأُولى هل كانت إلا واحدة ، فقال ابن عباس : وهل كانت من أُولى إلا ولها آخرة ؟ فقال عمر : لله درك يابن عباس ، كيف قلت ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، هل كانت من أُولى إلا ولها آخرة ؟ قال : فأت بتصديق ما تقول من كتاب الله ، قال : نعم وَجاهِدُوا فِي اللّهِ حَقّ جِهادِهِ : كمَا جاهَدْتُمْ أوّلَ مَرّةٍ . قال عمر : فمن أُمر بالجهاد ؟ قال : قبيلتان من قريش : مخزوم ، وبنو عبد شمس ، فقال عمر : صدقت .
وجائز أن يكون ذلك ما بين آدم ونوح . وجائز أن يكون ما بين إدريس ونوح ، فتكون الجاهلية الاَخرة ، ما بين عيسى ومحمد ، وإذا كان ذلك مما يحتمله ظاهر التنزيل . فالصواب أن يقال في ذلك ، كما قال الله : إنه نهى عن تبرّج الجاهلية الأولى .
وقوله : وأقِمْنَ الصّلاةَ وآتِينَ الزّكاةَ يقول : وأقمن الصلاة المفروضة ، وآتين الزكاة الواجبة عليكنّ في أموالكنّ ، وَأطِعْنَ اللّهَ وَرَسُولهُ فيما أمراكنّ ونهياكنّ . إنّمَا يُريدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أهْلَ البَيْتِ يقول : إنما يريد الله ليذهب عنكم السوء والفحشاء يا أهل بيت محمد ، ويطهركم من الدنس الذي يكون في أهل معاصي الله تطهيرا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّمَا يَرِيدُ اللّهُ ليُذْهبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهّركُمْ تَطْهيرا . فهم أهل بيت طهرهم الله من السوء ، وخصهم برحمة منه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنّمَا يُرِيدُ اللّهُ ليُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهيرا ، قال : الرجس ههنا : الشيطان ، وسوى ذلك من الرجس : الشرك .
اختلف أهل التأويل في الذين عنوا بقوله أهْلَ البَيْتِ فقال بعضهم : عني به رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليّ وفاطمة والحسن والحسين رضوان الله عليهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا بكر بن يحيى بن زبان العنزي ، قال : حدثنا مندل ، عن الأعمش ، عن عطية ، عن أبي سعيد الخدريّ ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «نَزَلَتْ هَذِهِ الاَيَةُ فِي خَمْسَةٍ : فِيّ ، وفِي عليّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ ، وَحَسَنٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ ، وَحُسَيْنٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ ، وَفاطِمَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْها » إنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيرا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن بشر ، عن زكريا ، عن مصعب بن شيبة ، عن صفية بنت شيبة قالت : قالت عائشة : خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم ذات غداة ، وعليه مِرْطٌ مُرَجّلٌ من شعر أسود ، فجاء الحسن ، فأدخله معه ، ثم قال : إنّمَا يُريدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيرا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، عن حماد بن سلمة ، عن عليّ بن زيد ، عن أنس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يمرّ ببيت فاطمة ستة أشهر ، كلما خرج إلى الصلاة فيقول : «الصّلاةَ أهْلَ البَيْتِ » إنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهيرَا .
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : حدثنا يحيى بن إبراهيم بن سويد النخعي ، عن هلال ، يعني ابن مقلاص ، عن زبيد ، عن شهر بن حوشب ، عن أمّ سلمة ، قالت : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم عندي ، وعليّ وفاطمة والحسن والحسين ، فجعلت لهم خزيرة ، فأكلوا وناموا ، وغطى عليهم عباءة أو قطيفة ، ثم قال : «اللّهُمّ هَؤُلاءِ أهْلُ بَيْتِي ، أذْهِبْ عَنْهُمُ الرّجْسَ وَطَهّرْهُمْ تَطْهِيرا » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا يونس بن أبي إسحاق ، قال : أخبرني أبو داود ، عن أبي الحمراء ، قال : رابطت المدينة سبعة أشهر على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا طلع الفجر ، جاء إلى باب عليّ وفاطمة فقال : «الصّلاةَ الصّلاةَ » إنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيرا .
حدثني عبد الأعلى بن واصل ، قال : حدثنا الفضل بن دكين ، قال : حدثنا يونس بن أبي إسحاق ، بإسناده عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، مثله .
حدثني عبد الأعلى بن واصل ، قال : حدثنا الفضل بن دكين ، قال : حدثنا عبد السلام بن حرب ، عن كلثوم المحاربي ، عن أبي عمار ، قال : إني لجالس عند واثلة بن الأسقع إذ ذكروا عليا رضي الله عنه ، فشتموه فلما قاموا ، قال : اجلس حتى أخبرك عن هذا الذي شتموا ، إني عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ جاءه عليّ وفاطمة وحسن وحسين ، فألقى عليهم كساء له ، ثم قال : «اللّهُمّ هَؤُلاءِ أهْلُ بَيْتِي ، اللّهُمّ أذْهِبْ عَنْهُمُ الرّجْسَ وَطَهّرْهُمْ تَطْهيرا » . قلت : يا رسول الله وأنا ؟ قال : «وأنْتَ » قال : فوالله إنها لأوثق عملي عندي .
حدثني عبد الكريم بن أبي عمير ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : حدثنا أبو عمرو ، قال : ثني شدّاد أبو عمار قال : سمعت واثلة بن الأسقع يحدّث ، قال : سألت عن عليّ بن أبي طالب في منزله ، فقالت فاطمة : قد ذهب يأتي برسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ جاء ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلت ، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على الفراش وأجلس فاطمة عن يمينه ، وعليا عن يساره وحسنا وحسينا بين يديه ، فلفع عليهم بثوبه وقال : «إنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيرا . اللّهُمّ هَؤلاءِ أهْلي ، اللّهُمّ أهْلي أحَقّ » . قال واثلة : فقلت من ناحية البيت : وأنا يا رسول الله من أهلك ؟ قال : «وأنت من أهلي » ، قال واثلة : إنها لمن أَرْجَى ما أرتجي .
حدثني أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن عبد الحميد بن بهرام ، عن شهر بن حوشب ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية ، عن أبي سعيد الخدري ، عن أمّ سلمة ، قالت : لما نزلت هذه الاَية : إنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيرا ، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا ، فجلل عليهم كساء خَيبريا ، فقال : «اللّهُمّ هَؤُلاءِ أهْلُ بَيْتِي ، اللّهُمّ أذْهِبْ عَنْهُمُ الرّجْسَ وَطَهّرْهُمْ تَطْهِيرا » قالت أمّ سلمة : ألستُ منهم ؟ قال : أنت إلى خَيْرٍ .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا مصعب بن المقدام ، قال : حدثنا سعيد بن زربي ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة ، عن أمّ سلمة ، قالت : جاءت فاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بُبْرَمة لها قد صنعت فيها عصيدة تحلها على طبق ، فوضعته بين يديه ، فقال : «أين ابن عمك وابناك ؟ » فقالت : في البيت ، فقال : «ادعيهم » ، فجاءت إلى عليّ ، فقالت : أجب النبيّ صلى الله عليه وسلم أنت وابناك . قالت أمّ سلمة : فلما رآهم مقبلين مدّ يده إلى كساء كان على المنامة فمدّه وبسطه وأجلسهم عليه ، ثم أخذ بأطراف الكساء الأربعة بشماله ، فضمه فوق رؤوسهم وأومأ بيده اليمنى إلى ربه ، فقال : «هَؤُلاءِ أهْلُ البَيْتِ ، فأذْهِبْ عَنْهُمُ الرّجْسَ وَطَهّرْهُمْ تَطْهِيرا » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا حسن بن عطية ، قال : حدثنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية ، عن أبي سعيد عن أمّ سلمة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم أن هذه الاَية نزلت في بيتها { إنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيرا } قالت : وأنا جالسة على باب البيت ، فقلت : أنا يا رسول الله ألست من أهل البيت ؟ قال : «إنّكِ إلى خَيْرٍ ، أنْتِ مِنْ أزْوَاجِ النّبِيّ صلى اللّهُ عليهِ وسلّمَ » قالت : وفي البيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليّ وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا خالد بن مخلد ، قال : حدثنا موسى بن يعقوب ، قال : ثني هاشم بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، عن عبد الله بن وهب بن زمعة ، قال : أخبرتني أمّ سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع عليا والحَسنين ، ثم أدخلهم تحت ثوبه ، ثم جأر إلى الله ، ثم قال : «هؤلاء أهل بيتي » ، فقالت أمّ سلمة : يا رسول الله أدخلني معهم ، قال : «إنّكِ مِنْ أهْلِي » .
حدثني أحمد بن محمد الطوسي ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن صالح ، قال : حدثنا محمد بن سليمان الأصبهاني ، عن يحيى بن عبيد المكي ، عن عطاء ، عن عمر بن أبي سلمة ، قال : نزلت هذه الاَية على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو في بيت أمّ سلمة إنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيرا فدعا حسنا وحُسينا وفاطمة ، فأجلسهم بين يديه ، ودعا عليا فأجلسه خلفه ، فتجلّل هو وهم بالكساء ثم قال : «هَؤُلاءِ أهْلُ بَيْتِي ، فَأذْهِبْ عَنْهُمُ الرّجْسَ وَطَهّرْهُمْ تَطْهِيرا » قالت أم سلمة : أنا معهم . قال : مكانك وأنْتِ على خَيْرٍ .
حدثني محمد بن عمارة ، قال : حدثنا إسماعيل بن أبان ، قال : حدثنا الصباح بن يحيى المرّيّ ، عن السديّ ، عن أبي الديلم ، قال : قال عليّ بن الحسين لرجل من أهل الشام : أما قرأت في الأحزاب : إنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيرا قال : ولأنتم هم ؟ قال : نعم .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، قال : حدثنا بكير بن مسمار ، قال : سمعت عامر بن سعد ، قال : قال سعد : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزل عليه الوحي ، فأخذ عليا وابنيه وفاطمة ، وأدخلهم تحت ثوبه ، ثم قال : «رَبّ هَؤُلاءِ أهْلِي وأهْلُ بَيْتِي » .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا عبد الله بن عبد القدوس ، عن الأعمش ، عن حكيم بن سعد ، قال : ذكرنا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه عند أمّ سلمة قالت : فيه نزلت : إنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيرا . قالت أمّ سلمة : جاء النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى بيتي ، فقال : «لا تَأْذَنِي لأَحَدٍ » ، فجاءت فاطمة ، فلم أستطع أن أحجبها عن أبيها ، ثم جاء الحسن ، فلم أستطع أن أمنعه أن يدخل على جدّه وأمه ، وجاء الحسين ، فلم أستطع أن أحجبه ، فاجتمعوا حول النبيّ صلى الله عليه وسلم على بساط ، فجللهم نبيّ الله بكساء كان عليه ، ثم قال : «هَؤُلاءِ أهْلُ بَيْتِي ، فَأذْهِبْ عَنْهُمُ الرّجْسَ وَطَهّرْهُمْ تَطْهِيرا » ، فنزلت هذه الاَية حين اجتمعوا على البساط . قالت : فقلت : يا رسول الله : وأنا ، قالت : فوالله ما أنعم . وقال : «إنّكِ إلى خَيْرٍ » .
وقال آخرون : بل عنى بذلك أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الأصبغ ، عن علقمة ، قال : كان عكرمة ينادي في السوق : إنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيرا . قال : نزلت في نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة .
{ وقرن في بيوتكن } من وقر يقر وقارا أو من قر يقر حذفت الأولى من راءي أقررن ونقلت كسرتها إلى القاف ، فاستغني عن همزة الوصل ، ويؤيده قراءة نافع وعاصم بالفتح من قررت أقر وهو لغة فيه ، ويحتمل أن يكون من قار يقار إذا اجتمع . { ولا تبرجن } ولا تتبخترن في مشيكن . { تبرج الجاهلية الأولى } تبرجا مثل تبرج النساء في أيام الجاهلية القديمة ، وقيل هي ما بين آدم ونوح ، وقيل الزمان الذي ولد فيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، كانت المرأة تلبس درعا من اللؤلؤ فتمشي وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال . والجاهلية الأخرى ما بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، وقيل الجاهلية الأولى جاهلية الكفر قبل الإسلام ، والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق في الإسلام ، ويعضده قوله عليه الصلاة والسلام لأبي الدرداء رضي الله عنه " إن فيك جاهلية ، قال جاهلية كفر أو إسلام قال بل جاهلية كفر " . { وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله } في سائر ما أمركن به ونهاكن عنه . { إنما يريد ليذهب عنكم الرجس } الذنب المدنس لعرضكم ، وهو تعليل لأمرهن ونهيهن على الاستئناف ؛ولذلك عمم الحكم . { أهل البيت } نصب على النداء أو المدح . { ويطهركم } عن المعاصي . { تطهيرا } واستعارة الرجس للمعصية والترشيح بالتطهير للتنفير عنها ، وتخصيص الشيعة أهل البيت بفاطمة وعلي وابنيهما رضي الله عنهم لما روي " أنه عليه الصلاة والسلام خرج ذات غدوة وعليه مرط مرجل من شعر أسود فجلس فأتت فاطمة رضي الله عنها فأدخلها فيه ثم جاء علي فأدخله فيه ثم جاء الحسن والحسين رضي الله عنهما فأدخلهما فيه ثم قال : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت } ، والاحتجاج بذلك على عصمتهم وكون إجماعهم حجة ضعيف ؛لأن التخصيص بهم لا يناسب ما قبل الآية وما بعدها ، والحديث يقتضي أنهم من أهل البيت لا أنه ليس غيرهم .
{ وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ } .
هذا أمر خُصِّصْنَ به وهو وجوب ملازمتهن بيوتهن توقيراً لهن ، وتقوية في حرمتهن ، فقرارهن في بيوتهن عبادة ، وأن نزول الوحي فيها وتردد النبي صلى الله عليه وسلم في خلالها يكسبها حرمة . وقد كان المسلمون لما ضاق عليهم المسجد النبوي يصلُّون الجمعة في بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث « الموطأ » . وهذا الحكم وجوب على أمهات المؤمنين وهو كمال لسائر النساء .
وقرأ نافع وعاصم وأبو جعفر بفتح القاف . ووجهها أبو عبيدة عن الكسائي والفراء والزجاج بأنها لغة أهل الحجاز في قَرّ بمعنى : أقام واستقرّ ، يقولون : قَرِرت في المكان بكسر الراء من باب عَلم فيجيء مضارعه بفتح الراء فأصل قَرْن اقْرَرْن فحذفت الراء الأولى للتخفيف من التضعيف وألقيت حركتها على القاف نظير قولهم : أحَسْنَ بمعنى أَحْسَسْنَ في قول أبي زُبيد :
سوى أن الجياد من المطايا *** أحَسْن به فهُن إليه شُوس
وأنكر المازني وأبو حاتم أن تكون هذه لغة ، وزعم أن قرِرت بكسر الراء في الماضي لا يرد إلا في معنى قُرّة العين ، والقراءة حجة عليهما . والتزم النحاس قولهما وزعم أن تفسير الآية على هذه القراءة أنها من قرّة العين وأن المعنى : واقررن عيوناً في بيوتكن ، أي لَكُنّ في بيوتكن قُرّة عين فلا تتطلعن إلى ما جاوز ذلك ، أي فيكون كناية عن ملازمة بيوتهن .
وقرأ بقية العشرة { وقرن } بكسر القاف . قال المبرد : هو من القرار ، أصله : اقرِرن بكسر الراء الأولى فحذفت تخفيفاً ، وألقيت حركتها على القاف كما قالوا : ظَلْت ومَسْت . وقال ابن عطية : يصح أن يكون قِرْن ، أي بكسر القاف أمراً من الوقار ، يقال : وَقر فلان يقِر ، والأمر منه قِر للواحد ، وللنساء قِرن مثل عِدن ، أي فيكون كناية عن ملازمة بيوتهن مع الإِيماء إلى علة ذلك بأنه وقار لهن .
وقرأ الجمهور { بيوتكن } بكسر الباء . وقرأه ورش عن نافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم وأبو جعفر بضم الباء .
وإضافة البيوت إليهن لأنهن ساكنات بها أسكَنهُنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت بيوت النبي صلى الله عليه وسلم يميَّز بعضها عن بعض بالإِضافة إلى ساكنة البيت ، يقولون : حُجرة عائشة ، وبيت حفصة ، فهذه الإِضافة كالإِضافة إلى ضمير المطلقات في قوله تعالى : { لا تخرجوهن من بيوتهن } [ الطلاق : 1 ] . وذلك أن زوج الرجل هي ربة بيته ، والعرب تدعو الزوجة البيت ولا يقتضي ذلك أنها ملك لهُنّ لأن البيوت بناها النبي صلى الله عليه وسلم تباعاً تبعاً لبناء المسجد ، ولذلك لما تُوفِّيت الأزواج كلهن أدخلت ساحة بيوتهن إلى المسجد في التوسعة التي وسعها الخليفة الوليد بن عبد الملك في إمارة عمر بن عبد العزيز على المدينة ولم يُعطِ عوضاً لورثتهن .
وهذه الآية تقتضي وجوب مكث أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في بيوتهن وأن لا يخرجن إلا لضرورة ، وجاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله أَذِنَ لكُنَّ أن تخرجن لحوائجكن " يريد حاجات الإِنسان . ومحمل هذا الأمر على ملازمة بيوتهن فيما عدا ما يضطر فيه الخروج مثل موت الأبوين . وقد خرجت عائشة إلى بيت أبيها أبي بكر في مرضه الذي مات فيه كما دل عليه حديثه معها في عطيته التي كان أعطاها من ثمرة نخلة وقوله لها : " وإنما هو اليومَ مالُ وارث " رواه في « الموطأ » . وكُنّ يخرُجْن للحج وفي بعض الغزوات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن مقر النبي صلى الله عليه وسلم في أسفاره قائم مقام بيوته في الحَضَر ، وأبت سودة أن تخرج إلى الحجّ والعمرة بعد ذلك . وكل ذلك مما يفيد إطلاق الأمر في قوله : { وقرن في بيوتكن } .
ولذلك لما مات سعد بن أبي وقاص أمرت عائشة أن يُمَرّ عليها بجنازته في المسجد لتدعو له ، أي لتصلي عليه . رواه في « الموطأ » .
وقد أشكل على الناس خروج عائشة إلى البصرة في الفتنة التي تدعى : وقْعةَ الجَمَل ، فلم يغير عليها ذلك كثير من جِلّة الصحابة منهم طلحة والزبير . وأنكر ذلك عليها بعضهم مثل : عَمار بن ياسر ، وعلي بن أبي طالب ، ولكلَ نظَر في الاجتهاد . والذي عليه المحققون مثل أبي بكر بن العربي أن ذلك كان منها عن اجتهاد فإنها رأت أن في خروجها إلى البصرة مصلحة للمسلمين لتسعى بين فريقي الفتنة بالصلح فإن الناس تعلّقوا بها وشكَوْا إليها ما صاروا إليه من عظيم الفتنة ورجَوْا بركتها أن تخرج فتصلح بين الفريقين ، وظنّوا أن الناس يستحيون منها فتأولت لخروجها مصلحة تفيد إطلاق القَرار المأمور به في قوله تعالى : { وقرن في بيوتكن } يكافىء الخروج للحج . وأخذت بقوله تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } [ الحجرات : 9 ] ورأت أن الأمر بالإصلاح يشملها وأمثالها ممن يرجون سماع الكلمة ، فكان ذلك منها عن اجتهاد . وقد أشار عليها جمع من الصحابة بذلك وخرجوا معها مثل طلحة والزبير وناهيك بهما . وهذا من مواقع اجتهاد الصحابة التي يجب علينا حملها على أحسن المخارج ونظن بها أحسن المذاهب ، كقولنا في تقاتلهم في صِفِّين وكاد أن يصلح الأمر ولكن أفسده دعاة الفتنة ولم تشعر عائشة إلا والمقاتَلة قد جرت بين فريقين من الصحابة يوم الجمل . ولا ينبغي تقلد كلام المؤرخين على علاّته فإن فيهم من أهل الأهواء ومن تلقّفوا الغثّ والسمين . وما يذكر عنها رضي الله عنها : أنها كانت إذا قَرأت هذه الآية تبكي حتى يبتلّ خمارها ، فلا ثقة بصحة سنده ، ولو صحّ لكان محمله أنها أسفت لتلك الحوادث التي ألجأتها إلى الاجتهاد في تأويل الآية .
{ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى } .
التبرج : إظهار المرأة محاسن ذاتها وثيابها وحليها بمرأى الرجال . وتقدم في قوله تعالى : { غير متبرجات بزينة } في سورة النور ( 60 ) .
وانتصب { تبرج الجاهلية الأولى } على المفعول المطلق ، وهو في معنى الوصف الكاشف أريد به التنفير من التبرّج . والمقصود من النهي الدوام على الانكفاف عن التبرج وأنهن منهياتٌ عنه . وفيه تعريض بنهي غيرهن من المسلمات عن التبرج ، فإن المدينة أيامئذٍ قد بقي فيها نساء المنافقين وربما كُنَّ على بقية من سيرتهن في الجاهلية فأريد النداء على إبطال ذلك في سيرة المسلمات ، ويظهر أن أمهات المؤمنين منهيات عن التبرج مطلقاً حتى في الأحوال التي رُخّص للنساء التبرج فيها في سورة النور في بيوتهن لأن ترك التبرج كمال وتنزه عن الاشتغال بالسفاسف .
فنسب إلى أهل الجاهلية إذ كان قد تقرر بين المسلمين تحقير ما كان عليه أمر الجاهلية إلا مَا أقرّه الإسلام .
و { الجاهلية } : المدة التي كانت عليها العرب قبل الإسلام ، وتأنيثها لتأويلها بالمُدة . والجاهلية نسبة إلى الجاهل لأن الناس الذين عاشوا فيها كانوا جاهلين بالله وبالشرائع ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { يظنون بالله غير الحق ظنّ الجاهلية } في سورة آل عمران ( 154 ) .
ووصفُها { بالأولى } وصف كاشف لأنها أولى قبل الإسلام ، وجاء الإِسلام بعدها فهو كقوله تعالى : { وأنه أهلك عاداً الأولى } [ النجم : 50 ] ، وكقولهم : العشاء الآخرة ، وليس ثمة جاهليتان أولى وثانية . ومن المفسرين من جعلوه وصفاً مقيِّداً وجعلوا الجاهلية جاهليتين ، فمنهم من قال : الأولى هي ما قبل الإسلام وستكون جاهلية أخرى بعد الإسلام يعني حين ترتفع أحكام الإسلام والعياذ بالله . ومنهم من قال : الجاهلية الأولى هي القديمة من عهد ما قبل إبراهيم ولم يكن للنساء وازع ولا للرجال ، ووضعوا حكايات في ذلك مختلفة أو مبالغاً فيها أو في عمومها ، وكل ذلك تكلف دعاهم إليه حمل الوصف على قصد التقييد .
{ وَأَقِمْنَ الصلاة وَءَاتِينَ الزكواة وَأَطِعْنَ اللهَ ورَسُوله } .
أريد بهذه الأوامر الدوام عليها لأنهن متلبسات بمضمونها من قبل ، وليعلم الناس أن المقربين والصالحين لا ترتفع درجاتهم عند الله تعالى عن حق توجه التكليف عليهم . وفي هذا مقمع لبعض المتصوفين الزاعمين أن الأولياء إذا بلغوا المراتب العليا من الولاية سقطت عنهم التكاليف الشرعية .
وخصّ الصلاة والزكاة بالأمر ثم جاء الأمر عاماً بالطاعة لأن هاتين الطاعتين البدنية والمالية هما أصل سائر الطاعات فمن اعتنى بهما حق العناية جرّتاه إلى ما وراءهما ، قال تعالى : { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } وقد بيناه في سورة العنكبوت ( 45 ) .
{ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّركم تَطْهِيراً } .
متصل بما قبله إذ هو تعليل لما تضمنته الآيات السابقة من أمر ونهي ابتداء من قوله تعالى : { يا نساء النبي من يأت منكن } [ الأحزاب : 30 ] الآية . فإن موقع { إنما } يفيد ربط ما بعدها بما قبلها لأن حرف ( إنَّ ) جزء من { إنما } وحرف ( إن ) من شأنه أن يغني غناء فاء التسبب كما بينه الشيخ عبد القاهر ، فالمعنى أمَركن الله بما أمر ونَهاكُنّ عما نهى لأنه أراد لكُنّ تخلية عن النقائص والتحْلية بالكمالات .
وهذا التعليل وقع معترضاً بين الأوامر والنواهي المتعاطفة .
والتعريف في { البيت } تعريف العهد وهو بيت النبي صلى الله عليه وسلم وبيوت النبي عليه الصلاة والسلام كثيرة فالمراد بالبيت هنا بيت كل واحدة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وكل بيت من تلك البيوت أهله النبي صلى الله عليه وسلم وزوجه صاحبة ذلك ، ولذلك جاء بعده قوله : { واذكرن ما يتلى في بيوتكن } [ الأحزاب : 34 ] ، وضميرَا الخطاب موجهان إلى نساء النبي صلى الله عليه وسلم على سَنن الضمائر التي تقدمت . وإنما جيء بالضميرين بصيغة جمع المذكر على طريقة التغليب لاعتبار النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الخطاب لأنه رب كل بيت من بيوتهن وهو حاضر هذا الخطاب إذ هو مبلغه . وفي هذا التغليب إيماء إلى أن هذا التطهير لهنّ لأجل مقام النبي صلى الله عليه وسلم لتكون قريناته مشابهات له في الزكاء والكمال ، كما قال الله تعالى : { والطيبات للطيبين } [ النور : 26 ] يعني أزواج النبي للنبيء صلى الله عليه وسلم وهو نظير قوله في قصة إبراهيم : { رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت } [ هود : 73 ] والمخاطب زوج إبراهيم وهو معها .
و { الرجس } في الأصل : القذر الذي يلوّث الأبدان ، واستعير هنا للذنوب والنقائص الدينية لأنها تجعل عِرض الإنسان في الدنيا والآخرة مرذولاً مكروهاً كالجسم الملوّث بالقذر . وقد تقدم في قوله تعالى : { رجس من عمل الشيطان } في سورة العقود ( 90 ) . واستعير التطهير لضد ذلك وهو تجنيب الذنوب والنقائص كما يكون الجسم أو الثوب طاهراً .
واستعير الإِذهاب للإِنجاء والإِبعاد .
وفي التعبير بالفعل المضارع دلالة على تجدد الإرادة واستمرارها ، وإذا أراد الله أمراً قدّره إذ لا رادّ لإِرادته .
والمعنى : ما يريد الله لكُنّ مما أمركن ونهاكن إلا عصمتَكُنّ من النقائص وتحليتكن بالكمالات ودوامَ ذلك ، أي لا يريد من ذلك مقتاً لكنّ ولا نكاية . فالقصر قصر قلب كما قال تعالى : { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم } [ المائدة : 6 ] . وهذا وجه مجيء صيغة القصر ب { إنما } . والآية تقتضي أن الله عصم أزواج نبيئه صلى الله عليه وسلم من ارتكاب الكبائر وزكى نفوسهن .
و { أهل البيت } : أزواج النبي صلى الله عليه وسلم والخطاب موجه إليهن وكذلك ما قبله وما بعده لا يخالط أحداً شك في ذلك ، ولم يفهم منها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعون إلا أن أزواج النبي عليه الصلاة والسلام هن المراد بذلك وأن النزول في شأنهنّ .
وأما ما رواه الترمذي عن عطاء بن أبي رباح عن عُمر بن أبي سلمة قال : لما نزلت على النبي : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً } في بيت أم سلمة دعا فاطمةَ وحسناً وحسيناً فجَلَّلهم بكساء وعليٌّ خلْف ظهره ثم قال : " اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهِب عنهم الرجس وطهِّرهم تطهيراً " . وقال : هو حديث غريب من حديث عطاء عن عمر بن أبي سلمة ولم يَسِمْه الترمذي بصحة ولا حُسن ، ووسمه بالغرابَة . وفي « صحيح مسلم » عن عائشة : خرج رسول الله غداةً وعليه مرط مرحَّل فجاء الحسن فأدخله ، ثم جاء الحسين فأدخله ، ثم جاءت فاطمة فأدخلها ، ثم جاء علي فأدخله ، ثم قال : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً } . وهذا أصرح من حديث الترمذي .
فمَحمله أن النبي صلى الله عليه وسلم ألحق أهل الكساء بحكم هذه الآية وجعلهم أهلَ بيته كما ألحق المدينةَ بمكة في حكم الحَرَمية بقوله : " إن إبراهيم حرّم مكة وإني أحرّم ما بينَ لابتيها " . وتَأوُّل البيت على معنييه الحقيقي والمجازي يصدق ببيت النسب كما يقولون : فيهم البيتُ والعَدد ، ويكون هذا من حَمل القرآن على جميع محامله غير المتعارضة كما أشرنا إليه في المقدمة التاسعة . وكأنَّ حكمة تجليلهم معه بالكساء تقويةُ استعارة البيت بالنسبة إليهم تقريباً لصورة البيت بقدر الإمكان في ذلك الوقت ليكون الكساء بمنزلة البيت ووجود النبي صلى الله عليه وسلم معهم في الكساء كما هو في حديث مسلم تحقيق لكون ذلك الكساء منسوباً إليه ، وبهذا يتضح أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم هن آل بيته بصريح الآية ، وأن فاطمة وابنيْها وزوجها مجعولون أهل بيته بدعائه أو بتأويل الآية على محاملها . ولذلك هُمْ أهل بيته بدليل السنة ، وكل أولئك قد أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، بعضه بالجعل الإلهي ، وبعضه بالجعل النبوي ، ومثله قول النبي صلى الله عليه وسلم " سَلْمان منّا أهلَ البيت " . وقد استوعب ابن كثير روايات كثيرة من هذا الخبر مقتضية أن أهل البيت يشمل فاطمة وعليّاً وحسناً وحسيناً . وليس فيها أن هذه الآية نزلت فيهم إلا حديثاً واحداً نسبه ابن كثير إلى الطبري ولم يوجد في تفسيره عن أم سلمة أنها ذكر عندها علي بن أبي طالب فقالت : فيه نزلت : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً } وذكرتْ خبر تجليله مع فاطمة وابنيه بكساء ( وذكر مصحّح طبعة « تفسير ابن كثير » أن في متن ذلك الحديث اختلافاً في جميع النسخ ولم يفصله المصحّح ) .
وقد تلقّف الشيعة حديث الكساء فغصبوا وصف أهل البيت وقصروه على فاطمة وزوجها وابنيهما عليهم الرضوان ، وزعموا أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لسن من أهل البيت . وهذه مصادمة للقرآن بجعل هذه الآية حشواً بين ما خوطب به أزواج النبي . وليس في لفظ حديث الكساء ما يقتضي قصر هذا الوصف على أهل الكساء إذ ليس في قوله : « هؤلاء أهل بيتي » صيغة قصر وهو كقوله تعالى : { إن هؤلاء ضيفي } [ الحجر : 68 ] ليس معناه ليس لي ضيف غيرهم ، وهو يقتضي أن تكون هذه الآية مبتورة عما قبلها وما بعدها . ويظهر أن هذا التوهم من زمن عصر التابعين ، وأن منشأه قراءة هذه الآية على الألسن دون اتصال بينها وبين ما قبلها وما بعدها . ويدل لذلك ما رواه المفسرون عن عكرمة أنه قال : من شاء بأهلية أنها نزلت في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأنه قال أيضاً : ليس بالذي تذهبون إليه ، إنما هو نساء النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان يصرخ بذلك في السوق . وحديث عمر بن أبي سلمة صريح في أن الآية نزلت قبل أن يدعو النبي الدعوة لأهل الكساء وأنها نزلت في بيت أم سلمة .
وأما ما وقع من قول عُمر بن أبي سلمة : أن أم سلمة قالت : وأنا معهم يا رسول الله ؟ . . . فقال : " أنت على مكانك وأنتِ على خير " . فقد وهم فيه الشيعة فظنوا أنه منعها من أن تكون من أهل بيته ، وهذه جهالة لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد أن ما سألته من الحاصل ، لأن الآية نزلت فيها وفي ضرائرها ، فليست هي بحاجة إلى إلحاقها بهم ، فالدعاء لها بأن يذهب الله عنها الرجس ويطهرها دعاء بتحصيل أمر حصل وهو مناف بآداب الدعاء كما حرره شهاب الدين القرافي في الفرق بين الدعاء المأذون فيه والدعاء الممنوع منه ، فكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم تعليماً لها . وقد وقع في بعض الروايات أنه قال لأم سلمة : " إنككِ من أزواج النبي " . وهذا أوضح في المراد بقوله : « إنك على خير » .
ولما استجاب الله دعاءه كان النبي صلى الله عليه وسلم يطلق أهل البيت على فاطمة وعلي وابنيهما ، فقد روى الترمذي عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمر بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول : " الصلاة يا أهل البيت { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً } " قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه .
واللام في قوله : { ليذهب } لام جرّ تزاد للتأكيد غالباً بعد مادتي الإرادة والأمر ، وينتصب الفعل المضارع بعدها ب ( أنْ ) مضمرة إضماراً واجباً ، ومنه قوله تعالى : { وأمرنا لنسلم لرب العالمين } [ الأنعام : 71 ] ، وقول كثير :
أُريد لأنسَى حبها فكأنما *** تمثَّلُ لي ليلى بكل مكان
وعن النحاس أن بعض القراء سماها ( لام أَنْ ) وتقدم قوله تعالى : { يريد الله ليبين لكم } في سورة النساء ( 26 ) .
وقوله : { أهل البيت } نداء للمخاطبين من نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع حضرة النبي عليه الصلاة والسلام ، وقد شمل كلَّ من ألحق النبي صلى الله عليه وسلم بهن بأنه من أهل البيت وهم : فاطمة وابناها وزوجها وسلمان لا يعدُو هؤلاء .