11- ومن الناس صنف ثالث لم يتمكن الإيمان من قلبه ، بل هو مزعزع العقيدة ، تتحكم مصالحه في إيمانه ، إن أصابه خير فرح به واطمأن ، وإن أصابته شدة في نفسه أو ماله أو ولده ارتد إلى الكفر ، فخسر في الدنيا راحة الاطمئنان إلى قضاء الله ونصره ، كما خسر في الآخرة النعيم الذي وعده الله للمؤمنين الثابتين الصابرين ، ذلك الخسران المزدوج هو الخسران الحقيقي الواضح .
ثم بين - سبحانه - نوعاً آخر من الناس ، لا يقل جرماً عن سابقه فقال - تعالى - : { وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطمأن بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقلب على وَجْهِهِ . . } .
قال صاحب الكشاف : " على حرف " أى : على طرف من الدين لا فى وسطه وقلبه . وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب فى دينهم : لا على سكون وطمأنينة ، كالذى يكون على طرف من العسكر ، فإن أحس بظفر وغنيمة قر واطمأن ، وإلا فر وطار على وجهه . . " .
وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآية روايات منها : ما أخرجه البخارى عن ابن عباس قال : كان الرجل يقدم المدينة ، فإذا ولدت أمرأته غلاماً ، ونتجت خيله . قال : هذا دين صالح ، وإن لم تلد امرأته ، ولم تنتج خيله قال : هذا دين سوء . . . " .
والمتأمل فى هذه الآية الكريمة يراها قد صورت المذبذبين فى عقيدتهم أكمل تصوير ، فهم يقيسون العقيدة بميزان الصفقات التجارية ، إن ربحوا من ورائها فرحوا ، وإن خسروا فيها أصابهم الغم والحزن .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - فى شأن المنافقين : { وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } والتعبير بقوله - سبحانه - { على حَرْفٍ } يصور هذا النوع من الناس ، وكأنه يتأرجح فى عبادته كما يتأرجح من يكون على طرف الشىء . فهو معرض للسقوط فى أية لحظة .
والمراد من الخير فى قوله - تعالى - { فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطمأن بِهِ } الخير الدنيوى من صحة وغنى ومنافع دنيوية .
أى : فإن نزل بهذا المذبذب فى عبادته خير دنيوى { اطمأن بِهِ } أى : ثبت على ما هو عليه من عبادة ثباتاً ظاهرياً ، وليس ثباتاً قلبياً حقيقياً كما هو شأن المؤمنين الصادقين الذين لا يزحزحهم عن إيمانهم وعد أو وعيد .
{ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ } أى : مصيبة أو شر { انقلب على وَجْهِهِ } أى : ارتد ورجع عن عبادته ودينه إلى الكفر والمعاصى .
وقوله - تعالى - : { خَسِرَ الدنيا والآخرة ذلك هُوَ الخسران المبين } بيان لسوء عاقبة صنيعه .
أى : هذا الذى يعبد الله على حرف ، جمع على نفسه خسارتين ، خسارة الدنيا بسبب عدم حصوله على ما يريده منها ، وخسارة الآخرة بسبب ارتداده إلى الكفر وغشيان السيئات ، وذلك الذى جمعه على نفسه هو الخسران الواضح ، الذى لا ينازع فى شأنه عاقلان ، إذ لا خسران أشد وأظهر ، من الخسران الذى ضيع دنياه وآخرته .
قال مجاهد ، وقتادة ، وغيرهما : { عَلَى حَرْفٍ } : على شك{[20042]} .
وقال غيرهم : على طرف . ومنه حرف الجبل ، أي : طرفه ، أي : دخل في الدين على طرف ، فإن وجد ما يحبه استقر ، وإلا انشمر .
وقال البخاري : حدثنا إبراهيم بن الحارث ، حدثنا يحيى بن أبي بُكَيْر{[20043]} . حدثنا إسرائيل ، عن أبي حَصِين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ } قال : كان الرجل يَقدم المدينة ، فإن ولدت امرأته غلاما ، ونُتِجَت خيلُه ، قال : هذا دين صالح . وإن لم تلد امرأته ، ولم تُنتَج{[20044]} خيله قال : هذا دين سوء{[20045]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن أشعث بن إسحاق القُمِّي ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قال : كان ناس من الأعراب يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيُسْلِمون ، فإذا رجعوا إلى بلادهم ، فإن وجدوا عام غَيث وعام خصب وعام ولاد حسن ، قالوا : " إن ديننا هذا لصالح ، فتمَسَّكُوا به " . وإن وجدوا عام جُدوبة وعام ولاد سَوء وعام قحط ، قالوا : " ما في ديننا هذا خير " . فأنزل الله على نبيه : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ } .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : كان أحدهم إذا قَدم المدينة ، وهي أرض وبيئة{[20046]} ، فإن صح بها جسمه ، ونُتِجت فرسه مهرًا حسنا ، وولدت امرأته غلامًا ، رضي به واطمأن إليه ، وقال : " ما أصبت منذ كنتُ على ديني هذا إلا خيرا " . وإن أصابته فتنة - والفتنة : البلاء - أي : وإن أصابه وجع المدينة ،
وولدت امرأته جارية ، وتأخرت عنه الصدقة ، أتاه الشيطان فقال : والله ما أصبت منذ كنت على دينك هذا إلا شرًا . وذلك الفتنة .
وهكذا ذكر قتادة ، والضحاك ، وابن جُريج ، وغير واحد من السلف ، في تفسير هذه الآية .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هو المنافق ، إن صلحت له دنياه أقام على العبادة ، وإن فسدت عليه دنياه وتغيرت ، انقلب فلا يقيم على العبادة إلا لِمَا صلح من دنياه ، فإن{[20047]} أصابته فتنة أو شدة أو اختبار أو ضيق ، ترك دينه ورجع إلى الكفر .
وقال مجاهد في قوله : { انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ } أي : ارتد كافرًا .
وقوله : { خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ } أي : فلا هو حَصَل من الدنيا على شيء ، وأما الآخرة فقد كفر بالله العظيم ، فهو فيها في غاية الشقاء والإهانة ؛ ولهذا قال : { ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } أي : هذه هي الخسارة العظيمة ، والصفقة الخاسرة .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنَ النّاسِ مَن يَعْبُدُ اللّهَ عَلَىَ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَىَ وَجْهِهِ خَسِرَ الدّنْيَا وَالاَُخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } .
يعني جلّ ذكره بقوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَعْبُد اللّهَ عَلى حَرْفٍ أعرابا كانوا يقدمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مهاجرين من باديتهم ، فإن نالوا رخاء من عيش بعد الهجرة والدخول في الإسلام أقاموا على الإسلام ، وإلا ارتدّوا على أعقابهم فقال الله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّهَ على شكّ ، فإنْ أصابهُ اطمأنّ بهِ وهو السعة من العيش وما يشبهه من أسباب الدنيا اطْمَأَنَ بِهِ يقول : استقرّ بالإسلام وثبت عليه . وَإنْ أصَابَتْهُ فِتْنَةٌ وهو الضيق بالعيش وما يشبهه من أسباب الدنيا انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ يقول : ارتدّ فانقلب على وجهه الذي كان عليه من الكفر بالله .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّهَ عَلى حَرْفٍ . . . إلى قوله : انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ قال : الفتنة البلاء ، كان أحدهم إذا قدم المدينة وهي أرض وبيئة ، فإن صحّ بها جسمه ونُتِجت فرسه مُهرا حسنا وولدت امرأته غلاما رضي به واطمأنّ إليه وقال : ما أصبت منذ كنت علي ديني هذا إلا خيرا وإن أصابه وجع المدينة وولدت امرأته جارية وتأخرت عنه الصدقة ، أتاه الشيطان فقال : والله ما أصبت منذ كنت على دينك هذا إلا شرّا وذلك الفتنة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، قال : حدثنا عنبسة ، عن أبي بكر ، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن القاسم بن أبي بَزّة ، عن مجاهد في قول الله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّهَ عَلى حَرْفٍ قال : على شكّ .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : عَلى حَرْفٍ قال : على شكّ . فإنْ أصابهُ خيرٌ رَخاء وعافية اطمأنّ بهِ : استقرّ . وإن أصَابَتْه فِتْنَةٌ عذاب ومصيبة انْقَلَبَ ارتدّ عَلى وَجْهِهِ كافرا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، بنحوه .
قال ابن جُرَيج : كان ناس من قبائل العرب وممن حولهم من أهل القرى يقولون : نأتي محمدا صلى الله عليه وسلم ، فإن صادفنا خيرا من معيشة الرزق ثبتنا معه ، وإلا لحقنا بأهلنا .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : مَنْ يَعْبُدُ اللّهَ عَلى حَرْفٍ قال : شك . فإنْ أصابَهُ خَيْرٌ يقول : أكثر ماله وكثرت ما شيته اطمأنّ قال : لم يصبني في ديني هذا منذ دخلته إلا خير وَإنْ أصَابَتْهُ فِتْنَةٌ يقول : وإن ذهب ماله ، وذهبت ما شيته انْقَلَبَ على وَجْهِهِ خَسِرَ الدّنيْا والاَخِرَةَ .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، نحوه .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّهَ عَلى حَرْفٍ الاَية ، كان ناس من قبائل العرب وممن حول المدينة من القرى كانوا يقولون : نأتي محمدا صلى الله عليه وسلم فننظر في شأنه ، فإن صادفنا خيرا ثبتنا معه ، وإلا لحقنا بمنازلنا وأهلينا . وكانوا يأتونه فيقولون : نحن على دينك فإن أصابوا معيشة ونَتَجُوا خيلهم وولدت نساؤهم الغلمان ، اطمأنوا وقالوا : هذا دين صدق وإن تأخر عنهم الرزق وأزلقت خيولهم وولدت نساؤهم البنات ، قالوا : هذا دين سَوْء فانقلبوا على وجوههم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّهَ عَلى حَرْفٍ فإنْ أصَابَهُ خَيْرٌ اطْمأَنّ بِهِ وَإنْ أصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدّنيْا والاَخِرَةَ قال : هذا المنافق ، إن صلحت له دنياه أقام على العبادة ، وإن فسدت عليه دنياه وتغيرت انقلب ، ولا يقيم على العبادة إلا لما صَلَح من دنياه . وإذا أصابته شدّة أو فتنة أو اختبار أو ضيق ، ترك دينه ورجع إلى الكفر .
وقوله : خَسِرَ الدّنيا والاَخِرَةَ يقول : غَبِن هذا الذي وصف جلّ ثناؤه صفته دنياه لأنه لم يظفر بحاجته منها بما كان من عبادته الله على الشك ، ووضع في تجارته فلم يربح والاَخِرَةَ يقول : وخسر الاَخرة ، فإنه معذّب فيها بنار الله الموقدة . وقوله : ذلكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ يقول : وخسارته الدنيا والاَخرة هي الخسران ، يعني الهلاك . المُبِينُ يقول : يبين لمن فكّر فيه وتدبره أنه قد خسر الدنيا والاَخرة .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته قرّاء الأمصار جميعا غير حميد الأعرج : خَسِرَ الدنيا والاَخِرَةَ على وجه المضيّ . وقرأه حميد الأعرج : «خاسِرا » نصبا على الحال على مثال فاعل .
{ ومن الناس من يعبد اله على حرف } على طرف من الدين لا ثبات له فيه كالذي يكون على طرف الجيش ، فإن أحس بظفر قر وإلا فر . { فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه } روي أنها نزلت في أعاريب قدموا المدينة ، فكان أحدهم إذا صح بدنه ونتجت فرسه مهرا سريا وولدت امرأته غلاما سويا وكثر ماله وماشيته قال : ما أصبت منذ دخلت في ديني هذا إلا خيرا واطمأن ، وإن كان الأمر بخلافه قال ما أصبت إلا شرا وانقلب وعن أبي سعيد أن يهوديا أسلم فأصابته مصائب فتشاءم بالإسلام ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أقلني فقال " إن الإسلام لا يقال " فنزلت . { خسر الدنيا والآخرة } بذهاب عصمته وحبوط عمله بالارتداد ، وقرئ " خاسرا " بالنصب على الحال والرفع على الفاعلية ووضع الظاهر موضع الضمير تنصيصا على خسرانه أو على أنه خبر محذوف . { ذلك هو الخسران المبين } إذ لا خسران مثله .