سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه ، فأمر في هذه السورة بالإجابة بأنه الجامع لصفات الكمال ، الواحد الأحد ، المقصود على الدوام في الحوائج ، الغني عن كل ما سواه ، المتنزه عن المجانسة والمماثلة ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له من خلقه نظير ولا مشاكل .
1- قل - يا محمد - لمن قالوا مستهزئين : صف لنا ربك : هو الله أحد لا سواه ، ولا شريك له .
1- سورة " الإخلاص " من السور ذات الأسماء المتعددة ، وقد ذكر لها الجمل في حاشيته عشرين اسما ، منها أنها تسمى سورة التفريد ، والتجريد ، والتوحيد ، والنجاة ، والولاية ، والمعرفة ، والصمد ، والأساس ، والمانعة ، والبراءة . . ( {[1]} ) .
2- وقد ورد في فضلها أحاديث متعددة ، منها ما أخرجه البخاري عن أبي سعيد الخدري ، أن رجلا سمع رجلا يقرأ هذه السورة ، ويرددها ، فلما أصبح ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : " والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن " ( {[2]} ) .
قال بعض العلماء : ومعنى هذا الحديث : أن القرآن أنزل على ثلاثة أقسام : ثلث منها الأحكام ، وثلث منها وعد ووعيد ، وثلث منها الأسماء والصفات ، وهذه السورة جمعت الأسماء والصفات .
3- وقد ذكروا في سبب نزولها روايات منها : أن المشركين قالوا : يا محمد ، انسب لنا ربك ، فأنزل الله –تعالى- هذه السورة الكريمة . . ( {[3]} ) .
وجمهور العلماء على أنها السورة الثانية والعشرون في ترتيب النزول . ويرى بعضهم أنها مدنية ، والأول أرجح ؛ لأنها جمعت أصل التوحيد ، وهذا المعنى غالب في السور المكية .
وعدد آياتها خمس آيات في المصحف الحجازي والشامي ، وأربع آيات في الكوفي والبصري .
قد افتتحت بفعل الأمر " قل " لإِظهار العناية بما بعد هذا الأمر من توجيهات حكيمة ، ولتلقينه صلى الله عليه وسلم الرد على المشركين الذين سألوه أن ينسب لهم ربه .
و { هو } ضمير الشأن مبتدأ ، والجملة التى بعده خبر عنه .
والأحد : هو الواحد فى ذاته وفي صفاته وفي أفعاله ، وفي كل شأن من شئونه ، فهو منزه عن التركيب من جواهر متعددة ، أو من مادة معينة ، كما أنه - عز وجل - منزه عن الجسمية والتحيز ، ومشابهة غيره .
وفى الإِتيان بضمير الشأن هنا : إشارة إلى فخامة مضمون الجملة ، مع ما في ذلك من زيادة التحقيق والتقرير ؛ لأن الضمير يشير إلى شيء مبهم تترقبه النفس ، فإذا جاء الكلام من بعده زال الإِبهام ، وتمكن الكلام من النفس فضل تمكن .
وجيء بالخبر نكرة وهو لفظ " أحد " ؛ لأن المقصود الإِخبار عن الله - تعالى - بأنه واحد ، ولو قيل : الله الأحد ، لأفاد أنه لا واحد سواه ، وليس هذا المعنى مقصودا هنا ، وإنما المقصود إثبات أنه واحد فى ذاته وصفاته وأفعاله . . ونفي ما زعمه المشركون وغيرهم ، من أنه - تعالى - مركب من أصول مادية أو غير مادية ، أو من أنه له شريك فى ملكه .
سورة الإخلاص مكية وآياتها أربع
هذه السورة الصغيرة تعدل ثلث القرآن كما جاء في الروايات الصحيحة . قال البخاري : حدثنا إسماعيل : حدثني مالك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة ، عن أبيه ، عن أبي سعد ، أن رجلا سمع رجلا يقرأ : ( قل هو الله أحد )يرددها . فلما أصبح جاء إلى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فذكر ذلك له - وكأن الرجل يتقالها - فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : " والذي نفسي بيده ، إنها لتعدل ثلث القرآن " . .
وليس في هذا من غرابة . فإن الأحدية التي أمر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أن يعلنها : ( قل هو الله أحد ) . . هذه الأحدية عقيدة للضمير ، وتفسير للوجود ، ومنهج للحياة . . وقد تضمنت السورة - من ثم - أعرض الخطوط الرئيسية في حقيقة الإسلام الكبيرة . .
( قل هو الله أحد ) . . وهو لفظ أدق من لفظ " واحد " . . لأنه يضيف إلى معنى " واحد " أن لا شيء غيره معه . وأن ليس كمثله شيء .
إنها أحدية الوجود . . فليس هناك حقيقة إلا حقيقته . وليس هناك وجود حقيقي إلا وجوده . وكل موجود آخر فإنما يستمد وجوده من ذلك الوجود الحقيقي ، ويستمد حقيقته من تلك الحقيقة الذاتية .
وهي - من ثم - أحدية الفاعلية . فليس سواه فاعلا لشيء ، أو فاعلا في شيء ، في هذا الوجود أصلا . وهذه عقيدة في الضمير وتفسير للوجود أيضا . .
فإذا استقر هذا التفسير ، ووضح هذا التصور ، خلص القلب من كل غاشية ومن كل شائبة ، ومن كل تعلق بغير هذه الذات الواحدة المتفردة بحقيقة الوجود وحقيقة الفاعلية .
خلص من التعلق بشيء من أشياء هذا الوجود - إن لم يخلص من الشعور بوجود شيء من الأشياء أصلا ! - فلا حقيقة لوجود إلا ذلك الوجود الإلهي . ولا حقيقة لفاعلية إلا فاعلية الإرادة الإلهية . فعلام يتعلق القلب بما لا حقيقة لوجوده ولا لفاعليته !
وحين يخلص القلب من الشعور بغير الحقيقة الواحدة ، ومن التعلق بغير هذه الحقيقة . . فعندئذ يتحرر من جميع القيود ، وينطلق من كل الأوهاق . يتحرر من الرغبة وهي أصل قيود كثيرة ، ويتحرر من الرهبة وهي أصل قيود كثيرة . وفيم يرغب وهو لا يفقد شيئا متى وجد الله ? ومن ذا يرهب ولا وجود لفاعلية إلا لله ?
ومتى استقر هذا التصور الذي لا يرى في الوجود إلا حقيقة الله ، فستصحبه رؤية هذه الحقيقة في كل وجود آخر انبثق عنها - وهذه درجة يرى فيها القلب يد الله في كل شيء يراه . وورائها الدرجة التي لا يرى فيها شيئا في الكون إلا الله . لأنه لا حقيقة هناك يراها إلا حقيقة الله .
كذلك سيصحبه نفي فاعلية الأسباب . ورد كل شيء وكل حدث وكل حركة إلى السبب الأول الذي منه صدرت ، وبه تأثرت . . وهذه هي الحقيقة التي عني القرآن عناية كبيرة بتقريرها في التصور الإيماني . ومن ثم كان ينحي الأسباب الظاهرة دائما ويصل الأمور مباشرة بمشيئة الله : ( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) . . ( وما النصر إلا من عند الله ) . . ( وما تشاءون إلا أن يشاء الله ) . . وغيرها كثير . .
وبتنحية الأسباب الظاهرة كلها ، ورد الأمر إلى مشيئة الله وحدها ، تنسكب في القلب الطمأنينة ، ويعرف المتجه الوحيد الذي يطلب عنده ما يرغب ، ويتقي عنده ما يرهب ، ويسكن تجاه الفواعل والمؤثرات والأسباب الظاهرة التي لا حقيقة لها ولا وجود !
وهذه هي مدارج الطريق التي حاولها المتصوفة ، فجذبتهم إلى بعيد ! ذلك أن الإسلام يريد من الناس أن يسلكوا الطريق إلى هذه الحقيقة وهم يكابدون الحياة الواقعية بكل خصائصها ، ويزاولون الحياة البشرية ، والخلافة الأرضية بكل مقوماتها ، شاعرين مع هذا أن لا حقيقة إلا الله . وأن لا وجود إلا وجوده . وأن لا فاعلية إلا فاعليته . . ولا يريد طريقا غير هذا الطريق !
من هنا ينبثق منهج كامل للحياة ، قائم على ذلك التفسير وما يشيعه في النفس من تصورات ومشاعر واتجاهات : منهج لعبادة الله وحده . الذي لا حقيقة لوجود إلا وجوده ، ولا حقيقة لفاعلية إلا فاعليته ، ولا أثر لإرادة إلا إرادته .
ومنهج للاتجاه إلى الله وحده في الرغبة والرهبة . في السراء والضراء . في النعماء والبأساء . وإلا فما جدوى التوجه إلى غير موجود وجودا حقيقيا ، وإلى غير فاعل في الوجود أصلا ? !
ومنهج للتلقي عن الله وحده . تلقي العقيدة والتصور والقيم والموازين ، والشرائع والقوانين والأوضاع والنظم ، والآداب والتقاليد . فالتلقي لا يكون إلا عن الوجود الواحد والحقيقة المفردة في الواقع وفي الضمير .
ومنهج للتحرك والعمل لله وحده . . ابتغاء القرب من الحقيقة ، وتطلعا إلى الخلاص من الحواجز المعوقة والشوائب المضللة . سواء في قرارة النفس أو فيما حولها من الأشياء والنفوس . ومن بينها حاجز الذات ، وقيد الرغبة والرهبة لشيء من أشياء هذا الوجود !
ومنهج يربط - مع هذا - بين القلب البشري وبين كل موجود برباط الحب والأنس والتعاطف والتجاوب . فليس معنى الخلاص من قيودها هو كراهيتها والنفور منها والهروب من مزاولتها . . فكلها خارجة من يد الله ؛ وكلها تستمد وجودها من وجوده ، وكلها تفيض عليها أنوار هذه الحقيقة . فكلها إذن حبيب ، إذ كلها هدية من الحبيب !
وهو منهج رفيق طليق . . الأرض فيه صغيرة ، والحياة الدنيا قصيرة ، ومتاع الحياة الدنيا زهيد ، والانطلاق من هذه الحواجز والشوائب غاية وأمنية . . ولكن الانطلاق عند الإسلام ليس معناه الاعتزال ولا الإهمال ، ولا الكراهية ولا الهروب . . إنما معناه المحاولة المستمرة ، والكفاح الدائم لترقية البشرية كلها ، وإطلاق الحياة البشرية جميعها . . ومن ثم فهي الخلافة والقيادة بكل أعبائهما ، مع التحرر والانطلاق بكل مقوماتهما . كما أسلفنا .
إن الخلاص عن طريق الصومعة سهل يسير . ولكن الإسلام لا يريده . لأن الخلافة في الأرض والقيادة للبشر طرف من المنهج الإلهي للخلاص . إنه طريق أشق ، ولكنه هو الذي يحقق إنسانية الإنسان . أي يحقق انتصار النفخة العلوية في كيانه . . وهذا هو الانطلاق . انطلاق الروح إلى مصدرها الإلهي ، وتحقيق حقيقتها العلوية . وهي تعمل في الميدان الذي اختاره لها خالقها الحكيم . .
من أجل هذا كله كانت الدعوة الأولى قاصرة على تقرير حقيقة التوحيد بصورتها هذه في القلوب . لأن التوحيد في هذه الصورة عقيدة للضمير ، وتفسير للوجود ، ومنهج للحياة . وليس كلمة تقال باللسان أو حتى صورة تستقر في الضمير . إنما هو الأمر كله ، والدين كله ؛ وما بعده من تفصيلات وتفريعات لا يعدو أن يكون الثمرة الطبيعية لاستقرار هذه الحقيقة بهذه الصورة في القلوب .
والانحرافات التي أصابت أهل الكتاب من قبل ، والتي أفسدت عقائدهم وتصوراتهم وحياتهم ، نشأت أول ما نشأت عن انطماس صورة التوحيد الخالص . ثم تبع هذا الانطماس ما تبعه من سائر الانحرافات .
على أن الذي تمتاز به صورة التوحيد في العقيدة الإسلامية هو تعمقها للحياة كلها ، وقيام الحياة على أساسها ، واتخاذها قاعدة للمنهج العملي الواقعي في الحياة ، تبدو آثاره في التشريع كما تبدو في الاعتقاد سواء . وأول هذه الآثار أن تكون شريعة الله وحدها هي التي تحكم الحياة . فإذا تخلفت هذه الآثار فإن عقيدة التوحيد لا تكون قائمة ، فإنها لا تقوم إلا ومعها آثارها محققة في كل ركن من أركان الحياة . .
ذكر سبب نزولها وفضيلتها{[1]}
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو سعد محمد بن مُيَسّر الصاغاني ، حدثنا أبو جعفر الرازي ، حدثنا الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبيّ بن كعب : أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : يا محمد ، انسب لنا ربك ، فأنزل الله : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُو لَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ }{[2]} .
وكذا رواه الترمذي ، وابن جرير ، عن أحمد بن منيع - زاد ابن جرير : ومحمود بن خِدَاش - عن أبي سعد محمد بن مُيَسّر به{[3]} - زاد ابن جرير والترمذي - قال : { الصَّمَدُ } : الذي لم يلد ولم يولد ؛ لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت ، وليس شيء يموت إلا سيورث ، وإن الله جل جلاله لا يموت ولا يورث ، { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } ولم يكن له شبه{[4]} ولا عدل ، وليس كمثله شيء .
ورواه ابن أبي حاتم ، من حديث أبي سعد{[5]} محمد بن مُيَسّر ، به . ثم رواه الترمذي عن عبد بن حميد ، عن عبيد الله بن موسى ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، فذكره مرسلا ولم يذكر " أخبرنا " . ثم قال الترمذي : هذا أصح من حديث أبي سعد{[6]} .
حديث آخر في معناه : قال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا سُرَيج{[7]} بن يونس ، حدثنا إسماعيل بن مجالد ، عن مجالد ، عن الشعبي ، عن جابر : أن أعرابيًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : انسب لنا ربك . فأنزل الله ، عز وجل : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } إلى آخرها . إسناده مقارب{[8]} .
وقد رواه ابن جرير عن محمد بن عوف ، عن سُرَيج{[9]} فذكره{[10]} . وقد أرسله غير واحد من السلف .
وروى عُبيد بن إسحاق العطار ، عن قيس بن الربيع ، عن عاصم ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعود قال : قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم : انسب لنا ربك ، فنزلت هذه السورة : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } .
قال الطبراني : رواه الفريابي وغيره ، عن قيس ، عن أبي عاصم ، عن أبي وائل ، مرسلا{[11]} .
ثم رَوَى الطبراني من حديث عبد الرحمن بن عثمان الطائفي ، عن الوازع بن نافع ، عن أبي سلمة ، عن أبي هُرَيرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لكل شيء نسبة ، ونسبة الله : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ } ، والصمد ليس بأجوف ] " {[12]} {[13]} .
حديث آخر في فضلها : قال البخاري : حدثنا محمد - هو الذُهليّ - حدثنا أحمد بن صالح ، حدثنا ابن وهب ، أخبرنا عمرو ، عن ابن أبي هلال : أن أبا الرجال مُحمد بن عبد الرحمن حَدثه ، عن أمه عَمْرَةَ بنت عبد الرحمن - وكانت في حِجْر عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم - عن عائشة : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلا على سَريَّة ، وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم ، فيختم ب { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " سلوه : لأيّ شيء يصنع ذلك ؟ " . فسألوه ، فقال : لأنها صفة الرحمن ، وأنا أحب أن أقرأ بها . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أخبروه أن الله تعالى يحبه " .
هكذا رواه في كتاب " التوحيد " {[14]} . ومنهم من يسقط ذكر " محمد الذّهلي " . ويجعله من روايته عن أحمد بن صالح . وقد رواه مسلم والنسائي أيضًا من حديث عبد الله بن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، عن سعيد بن أبي هلال ، به{[15]} .
حديث آخر : قال البخاري في كتاب الصلاة : " وقال عُبَيد الله{[16]} عن ثابت ، عن أنس قال : كان رجل من الأنصار يَؤمَهم في مسجد قُبَاء ، فكان كلما افتتح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به افتتح ب { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } حتى يَفرُغ منها ، ثم يقرأ سورة أخرى معها ، وكان يصنع ذلك في كل ركعة . فكلَّمه أصحابه فقالوا : إنك تفتتح بهذه السورة ثم لا ترى أنها تُجزئُك حتى تقرأ بالأخرى ، فإما أن تقرأ بها ، وإما أن تدعها وتَقرأ بأخرى . فقال : ما أنا بتاركها ، إن أحببتم أن أؤمكم بذلك فعلت ، وإن كرهتم تركتكم . وكانوا يَرَونَ أنه من أفضلهم ، وكرهوا أن يَؤمهم غيره . فلما أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه الخبر ، فقال : " يا فلان ، ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك ؟ وما حملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة ؟ " . قال : إني أحبها . قال : " حُبك إياها أدخلك الجنة " {[17]} .
هكذا رواه البخاري تعليقًا مجزومًا به . وقد رواه أبو عيسى الترمذي في جامعه ، عن البخاري ، عن إسماعيل بن أبي أويس ، عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي ، عن عُبَيد الله بن عمر ، فذكر بإسناده مثله سواء {[18]} . ثم قال الترمذي : غريب من حديث عبيد الله ، عن ثابت . قال : وروى مُبَارك بن فَضالة ، عن ثابت ، عن أنس ، أن رجلا قال : يا رسول الله ، إني أحب هذه السورة : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } قال : " إن حُبَّك إياها أدخلك الجنة " .
وهذا الذي علقه الترمذي قد رواه الإمام أحمد في مسنده متصلا فقال : حدثنا أبو النضر ، حدثنا مبارك بن فضالة ، عن ثابت ، عن أنس قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني أحب هذه السورة : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حبك{[19]} إياها أدخلك الجنة " {[20]} .
حديث في كونها تعدل ثلث القرآن : قال البخاري : حدثنا إسماعيل ، حدثني مالك ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صَعْصَعَة ، عن أبيه ، عن أبي سعيد . أن رجلا سمع رَجُلا يقرأ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } يرددها ، فلما أصبح جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر ذلك له ، وكأن الرجل يتقالّها ، فقال النبي{[21]} صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده ، إنها لتعدل ثلث القرآن " . زاد إسماعيل بن جعفر ، عن مالك ، عن عبد الرحمن بن عبد الله ، عن أبيه ، عن أبي سعيد قال : أخبرني أخي قتادة بن النعمان ، عن النبي صلى الله عليه وسلم{[22]} .
وقد رواه البخاري أيضا عن عبد الله بن يوسف ، والقَعْنَبِيّ . ورواه أبو داود عن القعنبي ، والنسائي عن قتيبة ، كلهم عن مالك ، به{[23]} . وحديث قتادة بن النعمان أسنده النسائي من طريقين ، عن إسماعيل بن جعفر ، عن مالك ، به{[24]} .
حديث آخر : قال البخاري : حدثنا عُمَر بن حفص ، حدثنا أبي ، حدثنا الأعمش ، حدثنا إبراهيم والضحاك المَشْرِقيّ ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : " أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة ؟ " . فشق ذلك عليهم وقالوا : أينا يُطيق ذلك يا رسول الله ؟ فقال : " الله الواحد الصمد ثلث القرآن " {[25]} .
تفرد بإخراجه البخاري من حديث إبراهيم بن يزيد النَّخعي والضحاك بن شُرَحبيل الهمداني المشرقي ، كلاهما عن أبي سعيد ، قال القَرَبرِيّ : سمعت أبا جعفر محمد بن أبي حاتم وراقُ أبي عبد الله قال : قال أبو عبد الله البخاري : عن إبراهيم مرسل ، وعن الضحاك مسند{[26]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن إسحاق ، حدثنا ابن لَهِيعَة ، عن الحارث بن يزيد ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري قال : بات قتادة بن النعمان يقرأ الليل كله ب{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " والذي نفسي بيده ، لَتَعدلُ نصف القرآن ، أو ثلثه " {[27]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا حُييّ بن عبد الله ، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي ، عن عبد الله بن عمرو : أن أبا أيوب الأنصاري كان في مجلس وهو يقول : ألا يستطيع أحدكم أن يقوم بثلث القرآن كل ليلة ؟ فقالوا : وهل يستطيع ذلك أحد ؟ قال : فإن { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ثلث القرآن . قال : فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسمع أبا أيوب ، فقال : " صدق أبو أيوب " {[28]} .
حديث آخر : قال أبو عيسى الترمذي : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا يزيد بن كيسَان ، أخبرني أبو حَازم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " احشُدوا ، فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن " . فحشد من حشد ، ثم خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم فقرأ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ثم دخل فقال بعضنا لبعض : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن " . إني لأرى هذا خبرًا جاء من السماء ، ثم خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال : " إني قلت : سأقرأ عليكم ثلث القرآن ، ألا وإنها تعدل ثلث القرآن " .
وهكذا رواه مسلم في صحيحه ، عن محمد بن بشار ، به{[29]} وقال الترمذي : حسن صحيح غريب ، واسم أبي حازم سلمان .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن زائدة بن قُدَامة ، عن منصور ، عن هلال بن يَساف ، عن الربيع بن خُثَيم{[30]} عن عمرو بن ميمون ، عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى ، عن امرأة من الأنصار ، عن أبي أيوب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة ؟ فإنه من قرأ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ } في ليلة ، فقد قرأ ليلتئذ ثلث القرآن " .
هذا حديث تُسَاعيّ الإسناد للإمام أحمد . ورواه الترمذي والنسائي ، كلاهما عن محمد بن بشار {[31]} بندار -زاد الترمذي وقتيبة-كلاهما عن عبد الرحمن بن مهدي ، به{[32]} . فصار لهما عُشَاريا . وفي رواية الترمذي : " عن امرأة أبى أيوب ، عن أبي أيوب " ، به [ وحسنه ]{[33]} . ثم قال : وفي الباب عن أبي الدرداء ، وأبي سعيد ، وقتادة بن النعمان ، وأبي هريرة ، وأنس ، وابن عمر ، وأبي مسعود . وهذا حديث حسن ، ولا نعلم أحدًا رَوَى هذا الحديث أحسن من رواية " زائدة " . وتابعه على روايته إسرائيل ، والفضيل بن عياض . وقد رَوَى شُعبةُ وغيرُ واحد من الثقات هذا الحديث عن منصور واضطربوا فيه .
حديث آخر : قال أحمد : حدثنا هُشَيْم ، عن حُصَين ، عن هلال بن يَسَاف ، عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى ، عن أبيّ بن كعب -أو : رجل من الأنصار-قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قرأ ب{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }فكأنما قرأ بثلث القرآن " {[34]} .
ورواه النسائي في " اليوم والليلة " ، من حديث هُشَيم ، عن حُصَين ، عن ابن أبي ليلى ، به{[35]} . ولم يقع في روايته : هلال بن يساف .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا وَكيع ، عن سفيان ، عن أبي قيس{[36]} عن عمرو بن ميمون ، عن أبي مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " { ُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تعدُل ثلث القرآن " {[37]} .
وهكذا رواه ابن ماجة ، عن علي بن محمد الطَّنافسي ، عن وَكيع ، به {[38]} . ورواه النسائي في " اليوم والليلة " من طرق أخر ، عن عمرو بن ميمون ، مرفوعًا وموقوفًا{[39]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا بَهْز ، حدثنا بُكَير بن أبي السَّميط{[40]} حدثنا قتادة ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن مَعْدَان بن أبي طلحة ، عن أبي الدّرداء ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أيعجزُ أحدُكم أن يَقرأ كلّ يوم ثلث القرآن ؟ " . قالوا : نعم يا رسول الله ، نحن أضعفُ من ذلك وأعجز . قال : " فإن الله جَزأ القرآن ثلاثة أجزاء ، ف { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ثلث القرآن " .
ورواه مسلم والنسائي ، من حديث قتادة ، به{[41]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا أمية بن خالد ، حدثنا محمد بن عبد الله بن مسلم -ابن أخي ابن شهاب -عن عمه الزهري ، عن حُمَيد بن عبد الرحمن -هو ابن عوف-عن أمه -وهي : أم كلثوم بنت عقبة{[42]} بن أبي مُعَيط -قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تَعدلُ ثُلُثَ القرآن " .
وكذا رواه النسائي في " اليوم والليلة " ، عن عمرو بن علي ، عن أمية بن خالد ، به {[43]} . ثم رواه من طريق مالك ، عن الزهري ، عن حُمَيد بن عبد الرحمن ، قوله {[44]} . ورواه النسائي أيضا في " اليوم والليلة " من حديث محمد بن إسحاق ، عن الحارث بن الفُضَيل الأنصاري ، عن الزهري ، عن حُمَيد بن عبد الرحمن : أن نَفَرًا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حَدثوه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تَعدلُ ثُلُثَ القرآن لمن صلى بها " {[45]} .
حديث آخر في كون قراءتها توجب الجنة : قال الإمام مالك بن أنس ، عن عبيد الله بن عبد الرحمن ، عن عُبيد بن حُنَين قال : سمعت أبا هريرة يقول : أقبلت مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فسمع رجلا يقرأ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وَجَبَتْ " . قلت : وما وَجَبت ؟ قال : " الجنة " .
ورواه الترمذي والنسائي ، من حديث مالك {[46]} . وقال الترمذي : حسن صحيح غريب ، لا نعرفه إلا من حديث مالك .
وتقدم حديث : " حُبّك إياها أدخلك الجنة " .
قال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا قَطن بن نُسير ، حدثنا عيسى ابن ميمون القرشي ، حدثنا يزيد الرقاشي ، عن أنس قال : سمعت رسول الله{[47]} صلى الله عليه وسلم يقول : " أما يستطيع أحدكم أن يقرأ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ثلاث مرات في ليلة {[48]}فإنها تعدلُ ثلث القرآن ؟ " {[49]}
هذا إسناد ضعيف ، وأجود منه حديث آخر ، قال عبد الله بن الإمام أحمد :
حدثنا محمد بن أبي بكر المُقَدمي ، حدثنا الضحاك بن مخلد ، حدثنا ابن أبي ذئب ، عن أسيدُ ابن أبي أسيد ، عن معاذ بن عبد الله بن خُبيب ، عن أبيه قال : أصابنا طَش وظلمة ، فانتظرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا ، فخرج فأخذ بيدي ، فقال : " قل " . فسكت . قال : " قل " . قلت : ما أقول ؟ قال : " { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاثًا ، تكفك كل يوم مرتين " .
ورواه أبو داود والترمذي والنسائي ، من حديث ابن أبي ذئب ، به{[50]} . وقال الترمذي : حسن صحيح غريب من هذا الوجه . وقد رواه النسائي من طريق أخرى ، عن معاذ بن عبد الله بن خبيب ، عن أبيه ، عن عقبة بن عامر ، فذكره [ ولفظه : " يكفك كل شيء " ] {[51]}{[52]} .
حديث آخر في ذلك : قال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن عيسى ، حدثنا ليث بن سعد ، حدثني الخليل بن مرة ، عن الأزهر بن عبد الله ، عن تميم الداري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قال : لا إله إلا الله واحدًا أحدًا صمدًا ، لم يتخذ صاحبةً ولا ولدًا ، ولم يكن له كفوا أحدا ، عشر مرات ، كُتِب له أربعون ألف ألف حسنة " .
تفرد به أحمد{[53]} والخليل بن مُرّة : ضعفه البخاري وغيره بمُرّة .
حديث آخر : قال أحمد أيضا : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا ابن لَهِيعَة ، حدثنا زَبَّان بن فائد ، عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني ، عن أبيه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من قرأ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } حتى يختمها ، عشر مرات ، بنى الله له قصرًا في الجنة " . فقال عمر : إذن نستكثر يا رسول الله . فقال صلى الله عليه وسلم : " الله أكثر وأطيب " . تفرد به أحمد {[54]} .
ورواه أبو محمد الدارمي في مسنده فقال : حدثنا عبد الله بن يزيد ، حدثنا حيوة ، حدثنا أبو عقيل زهرة بن معبد-قال الدارمي : وكان من الأبدال -أنه سمع سعيد بن المسيب يقول : إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : " من قرأ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } عشر مرات ، بنى الله له قصرًا في الجنة ، ومن قرأها عشرين مرة بنى الله له قصرين في الجنة ، ومن قرأها ثلاثين مرة بنى الله له ثلاثة قصور في الجنة " . فقال عمر بن الخطاب : إذا لتكثر قصورنا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الله أوسع من ذلك " {[55]} . وهذا مرسل جيد .
حديث آخر : قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا نصر بن علي ، حدثني نوح بن قيس ، أخبرني محمد العطار ، أخبرتني أم كثير الأنصارية ، عن أنس بن مالك ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من قرأ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } خمسين مرة غُفرت له{[56]} ذنوب خمسين سنة " {[57]} إسناده ضعيف .
حديث آخر : قال أبو يعلى : حدثنا أبو الربيع ، حدثنا حاتم بن ميمون ، حدثنا ثابت ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قرأ في يوم : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } مائتي مرة ، كتب الله له ألفًا وخمسمائة حسنة إلا أن يكون عليه دين " {[58]} . إسناده ضعيف ، حاتم بن ميمون : ضعفه البخاري وغيره . ورواه الترمذي ، عن محمد بن مرزوق البصري ، عن حاتم بن ميمون ، به . ولفظه : " من قرأ كل يوم ، مائتي مرة : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } محي عنه ذنوب خمسين سنة ، إلا أن يكون عليه دَين " .
قال الترمذي : وبهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أراد أن ينام على فراشه ، فنام على يمينه ، ثم قرأ :{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } مائة مرة ، فإذا كان يوم القيامة يقول له الرب ، عز وجل : يا عبدي ، ادخُل على يمينك الجنة " {[59]} . ثم قال : غريب من حديث ثابت ، وقد رُوي من غير هذا الوجه ، عنه .
وقال أبو بكر البزار : حدثنا سهل بن بحر ، حدثنا حَبّان بن أغلب ، حدثنا أبي ، حدثنا ثابت ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قرأ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } مائتي مرة ، حط الله عنه ذنوب مائتي سنة " {[60]} . ثم قال : لا نعلم رواه عن ثابت إلا الحسن بن أبي جعفر ، والأغلب بن تميم وهما متقاربان في سوء الحفظ .
حديث آخر في الدعاء بما تضمنته من الأسماء : قال النسائي عند تفسيرها : حدثنا عبد الرحمن بن خالد ، حدثنا زيد بن الحباب ، حدثني مالك بن مِغْول ، حدثنا عبد الله بن بُرَيدة ، عن أبيه : أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد فإذا رجل يصلي ، يدعو يقول : اللهم ، إني أسألك بأني أشهد أن لا إله إلا أنت ، الأحد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد . قال : " والذي نفسي بيده ، لقد سأله باسمه الأعظم ، الذي إذا سئل به أعطى ، وإذا دعي به أجاب " {[61]} .
وقد أخرجه بَقِيَّة أصحاب السنن من طُرُق ، عن مالك بن مِغْول ، عن عبد الله بن بُرَيدة ، عن أبيه ، به {[62]} . وقال الترمذي : حسن غريب .
حديث آخر في قراءتها عشر مرات بعد المكتوبة : قال الحافظ أبو يعلى [ الموصلي ] {[63]} : حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا بشر بن منصور ، عن عمر بن نبهان{[64]} عن أبي شداد ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاث من جاء بِهِنّ مع الإيمان دَخَل من أيّ أبواب الجنة شاء ، وزُوّج من الحور العين حيث شاء : من عفا عن قاتله ، وأدى دينا خفيا ، وقرأ في دبر كل صلاة مكتوبة عشر مرات : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } . قال : فقال أبو بكر : أو إحداهن يا رسول الله ؟ قال : " أو إحداهن " {[65]}
حديث في قراءتها عند دخول المنزل : قال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا محمد بن عبد الله بن بكر السراج العسكري ، حدثنا محمد بن الفرج ، حدثنا محمد بن الزبرقان ، عن مروان بن سالم ، عن أبي زُرْعَة بن{[66]} عمرو بن جرير ، عن جرير بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قرأ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } حين يدخل منزله ، نفت الفقر عن أهل ذلك المنزل والجيران " {[67]} . إسناده ضعيف .
حديث في الإكثار من قراءتها في سائر الأحوال : قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي ، حدثنا يزيد بن هارون ، عن العلاء بن {[68]} محمد الثقفي قال : سمعت أنس بن مالك يقول : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك ، فطلعت الشمس بضياء وشعاع ونور لم نرها طلعت فيما مضى بمثله ، فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال {[69]} : يا جبريل ، ما لي أرى الشمس طلعت اليوم{[70]} بضياء ونور وشعاع لم أرها طلعت بمثله فيما مضى ؟ " . قال : إن ذلك معاوية بن معاوية الليثي ، مات بالمدينة اليوم ، فبعث الله إليه سبعين ألف ملك يصلون عليه . قال : " وفيم ذلك ؟ " قال : كان يكثر قراءة : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } في الليل وفي النهار ، وفي ممشاه ، وقيامه وقعوده ، فهل لك يا رسول الله أن أقبض لك الأرض فتصلي عليه ؟ قال : " نعم " . فصلى عليه .
وكذا رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في [ كتاب ] {[71]} دلائل النبوة " من طريق يزيد بن هارون ، عن العلاء أبي{[72]} محمد {[73]} -وهو متهم بالوضع -فالله أعلم .
طريق أخرى : قال أبو يعلى : حدثنا محمد بن إبراهيم الشامي أبو عبد الله ، حدثنا عثمان بن الهيثم -مؤذن مسجد الجامع بالبصرة عندي-عن محمود أبي عبد الله ، {[74]}عن عطاء بن أبي ميمونة ، عن أنس قال : نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : مات معاوية بن معاوية الليثي ، فتحب أن تصلي عليه ؟ قال : " نعم " . فضرب بجناحه الأرض ، فلم تبق شجرة ولا أكمة إلا تضعضعت ، فرفع سريره فنظر إليه ، فكبر عليه وخلفه صفان من الملائكة ، في كل صف سبعون ألف ملك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " يا جبريل ، بم نال هذه المنزلة من الله تعالى ؟ " . قال بحبه{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ، وقراءته إياها ذاهبًا وجائيًا ، قائمًا{[75]} وقاعدًا ، وعلى كل حال{[76]} .
ورواه البيهقي ، من رواية عثمان بن الهيثم المؤذن ، عن محبوب بن هلال ، عن عطاء بن أبي ميمونة ، عن أنس ، فذكره . وهذا هو الصواب {[77]} ، ومحبوب بن هلال قال أبو حاتم الرازي : " ليس بالمشهور " {[78]} . وقد روي هذا من طرق أخر ، تركناها {[79]} اختصارًا ، وكلها ضعيفة .
حديث آخر في فضلها مع المعوذتين : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا معاذ بن رفاعة ، حدثني علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ، عن عقبة بن عامر قال : لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فابتدأته فأخذتُ بيده ، فقلت : يا رسول الله ، بم نجاة المؤمن ؟ قال : " يا عقبة ، احْرُسْ لسانك وليسعك بيتُك ، وابْكِ على خطيئتك " . قال : ثم لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فابتدأني فأخذ بيدي ، فقال : " يا عقبة بن عامر ، ألا أعلمك خير ثلاث سُوَر أنزلت في التوراة ، والإنجيل ، والزبور ، والقرآن العظيم ؟ " . قال : قلت : بلى ، جعلني الله فداك . قال : فأقرأني : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } و { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } و { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } ثم قال : " يا عقبة ، لا تَنْسَهُن ، ولا تُبتْ ليلة حتى تقرأهن " . قال : فما نسيتهن منذ قال : " لا تنسهن " ، وما بت ليلة قط حتى أقرأهن . قال عقبة ، ثم لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فابتدأته ، فأخذت بيده ، فقلت : يا رسول الله ، أخبرني بفواضل الأعمال . فقال : " يا عقبة ، صِلْ من قطعك ، وأعْطِ من حَرَمَك ، وأعرض {[80]}عمن ظلمك " {[81]}
روى الترمذي بعضه في " الزهد " ، من حديث عُبيد الله بن زحر ، عن علي بن يزيد وقال : هذا حديث حسن{[82]} . وقد رواه أحمد من طريق آخر :
حدثنا حسين بن محمد ، حدثنا ابن عياش ، عن أسيد بن عبد الرحمن الخَثْعَمي ، عن فرْوَة بن مجاهد اللخمي ، عن عقبة بن عامر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر مثله سواء . تفرد به أحمد {[83]} .
حديث آخر في الاستشفاء بهن : قال البخاري : حدثنا قتيبة ، حدثنا المفضل ، عن عُقَيل ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كُل ليلة جمع {[84]} كفيه ، ثم نفث فيهما فقرأ فيهما : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } و { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } و { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده ، يبدأ بهما على رأسه ووجهه ، وما أقبل من جسده ، يفعل ذلك ثلاث مرات .
وهكذا رواه أهل السنن ، من حديث عُقَيل ، به{[85]} .
قد تقدم ذكر سبب نزولها . وقال عكرمة : لما قالت اليهود : نحن نعبد عُزيرَ ابن الله . وقالت النصارى : نحن نعبد المسيح ابن الله ، وقالت المجوس : نحن نعبد الشمس والقمر ، وقالت المشركون : نحن نعبد الأوثان ، أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }
يعني : هو الواحد الأحد ، الذي لا نظير له ، ولا وزير ، ولا نديد ، ولا شبيه ، ولا عديل ، ولا يُطلَق هذا اللفظ على أحد في الإثبات إلا على الله ، عز وجل ؛ لأنه الكامل في جميع صفاته وأفعاله .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ * اللّهُ الصّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لّهُ كُفُواً أَحَدٌ } .
ذُكر أن المشركين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسب ربّ العزة ، فأنزل الله هذا السورة جوابا لهم . وقال بعضهم : بل نزلت من أجل أن اليهود سألوه ، فقالوا له : هذا الله خلق الخلق ، فمن خلق الله ؟ فأُنزلت جوابا لهم .
ذكر من قال : أُنزلت جوابا للمشركين الذين سألوه أن ينسُب لهم الربّ تبارك وتعالى :
حدثنا أحمد بن منيع المَرْوزيّ ومحمود بن خِداش الطالَقَاني ، قالا : حدثنا أبو سعيد الصنعاني ، قال : حدثنا أبو جعفر الرازيّ ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أُبيّ بن كعب ، قال : قال المشركون للنبيّ صلى الله عليه وسلم : انسُبْ لنا ربك ، فأنزل الله : { قُلْ هُوَ اللّهُ أحَدٌ اللّهُ الصّمَدُ } .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين ، عن يزيد ، عن عكرِمة ، قال : إن المشركين قالوا : يا رسول الله أخبرنا عن ربك ، صف لنا ربك ما هو ؟ ومن أيّ شيء هو ؟ فأنزل الله : { قُلْ هُوَ اللّهُ أحَدٌ } إلى آخر السورة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية { قُلْ هُوَ اللّهُ أحَدٌ اللّهُ الصّمَدُ } قال : قال ذلك قادة الأحزاب : انسُب لنا ربك ، فأتاه جبريل بهذه .
حدثني محمد بن عوف ، قال : حدثنا شريح ، قال : حدثنا إسماعيل بن مجالد ، عن مجالد ، عن الشعبيّ ، عن جابر قال : قال المشركون : انسُب لنا ربك ، فأنزل الله { قُلْ هُوَ اللّهُ أحَدٌ } .
ذكر من قال : نزل ذلك من أجل مسألة اليهود :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، عن محمد ، عن سعيد ، قال : أتى رهط من اليهود النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا محمد ، هذا الله خلق الخلق ، فمن خلقه ؟ فغضب النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى انتُقِعَ لونه ثم ساوَرَهم غضبا لربه ، فجاءه جبريل عليه السلام فسكنّه ، وقال : اخفض عليك جناحك يا محمد ، وجاءه من الله جواب ما سألوه عنه . قال : يقول الله : { قُلْ هُوَ اللّهُ أحَدٌ اللّهُ الصّمَدُ لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوا أحَدٌ } فلما تلا عليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قالوا : صف لنا ربك كيف خَلْقُه ، وكيف عضُدُه ، وكيف ذراعُه ، فغضب النبيّ صلى الله عليه وسلم أشدّ من غضبه الأوّل ، وساوَرَهم غضبا ، فأتاه جبريل فقال له مثل مقالته ، وأتاه بجواب ما سألوه عنه : { وَما قَدَرُوا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ والأرْضُ جَمِيعا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ والسّمَوَاتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ } .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مِهران ، عن سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قتادة ، قال : جاء ناس من اليهود إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : انسب لنا ربك ، فنزلت : { قُلْ هُوَ اللّهُ أحَدٌ } حتى ختم السورة .
فتأويل الكلام إذا كان الأمر على ما وصفنا : قل يا محمد لهؤلاء السائليك عن نسب ربك وصفته ، ومن خلقه : الربّ الذي سألتموني عنه ، هو الله الذي له عبادة كل شيء ، لا تنبغي العبادة إلاّ له ، ولا تصلح لشيء سواه .
واختلف أهل العربية في الرافع { أحَدٌ } فقال بعضهم : الرافع له «الله » ، و «هو » عمادا ، بمنزلة الهاء في قوله : { إنّهُ أنا اللّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } . وقال آخر منهم : بل «هو » مرفوع ، وإن كان نكرة بالاستئناف ، كقوله : { هذا بعلي شيخ } ، وقال : هو الله جواب لكلام قوم قالوا له : ما الذي تعبد ؟ فقال : هو الله ، ثم قيل له : فما هو ؟ قال : هو أحد .
وقال آخرون { أحَدٌ } بمعنى : واحد ، وأنكر أن يكون العماد مستأنفا به ، حتى يكون قبله حرف من حروف الشكّ ، كظنّ وأخواتها ، وكان وذواتها ، أو إنّ وما أشبهها ، وهذا القول الثاني هو أشبه بمذاهب العربية .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار { أحَدٌ اللّهُ الصّمَدُ } بتنوين «أحدٌ » ، سوى نصر بن عاصم ، وعبد الله بن أبي إسحاق ، فإنه رُوي عنهما ترك التنوين : «أحَدُ اللّهُ » ، وكأن من قرأ ذلك كذلك ، قال : نون الإعراب إذا استقبلتها الألف واللام أو ساكن من الحروف حُذفت أحيانا ، كما قال الشاعر :
كَيْفَ نَوْمي على الفرَاشِ ولمَا *** تَشْمَلِ الشّامَ غارَةٌ شَعْوَاءُ
تُذْهِلُ الشّيْخَ عَن بَنِيهِ وتُبْدِي *** عَنْ خِدَامِ العَقِيلَةُ العَذْراءُ
والصواب في ذلك عندنا : التنوين ، لمعنيين : أحدهما أفصح اللغتين ، وأشهر الكلامين ، وأجودهما عند العرب . والثاني : إجماع الحجة من قرّاء الأمصار على اختيار التنوين فيه ، ففي ذلك مُكْتفًى عن الاستشهاد على صحته بغيره . وقد بيّنا معنى قوله «أحد » فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
بسم الله الرحمن الرحيم { قل هو الله أحد } الضمير للشأن ، كقولك : هو زيد منطلق ، وارتفاعه بالابتداء ، وخبره الجملة ، ولا حاجة إلى العائد ؛ لأنها هي هو ، أو لما سئل عنه صلى الله عليه وسلم ، أي الذي سألتموني عنه هو الله ؛ إذ روي أن قريشا قالوا : يا محمد ، صف لنا ربك الذي تدعونا إليه . فنزلت .
وأحد بدل ، أو خبر ثان ، يدل على مجامع صفات الجلال ، كما دل الله على جميع صفات الكمال ؛ إذ الواحد الحقيقي ما يكون منزه الذات عن أنحاء التركيب والتعدد ، وما يستلزم أحدهما كالجسمية والتحيز والمشاركة في الحقيقة وخواصها كوجوب الوجود والقدرة الذاتية والحكمة التامة المقتضية للألوهية .
وقرئ ( هو الله ) بلا قل ، مع الاتفاق على أنه لا بد منه في { قل يا أيها الكافرون } ، ولا يجوز في { تبت } ، ولعل ذاك لأن سورة الكافرون مشاقة الرسول ، أو موادعته لهم ، وتبت معاتبة عمه ، فلا يناسب أن تكون منه ، وأما هذا فتوحيد يقول به تارة ، ويؤمر بأن يدعو إليه أخرى .
سورة الإخلاص مكية ، وآياتها أربع .
هذه السورة مكية قاله مجاهد -بخلاف عنه- وعطاء وقتادة ، وقال ابن عباس ، والقرطبي ، وأبو العالية : هي مدنية .
قرأ عمر بن الخطاب وابن مسعود والربيع بن خيثم : «قل هو الله أحد الواحد الصمد » ، وروى أبي بن كعب أن المشركين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسب ربه- تعالى عما يقول الجاهلون- فنزلت هذه السورة{[12024]} .
وروى ابن عباس أن اليهود دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد ، صف لنا ربك ، وانسبه فإنه وصف نفسه في التوراة ونسبها ، فارتعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خر مغشياً عليه ، ونزل عليه جبريل بهذه السورة{[12025]} .
وقال أبو العالية قال قادة الأحزاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم : انسب لنا ربك ، فأتاه الوحي بهذه السورة{[12026]} .
و { أحد } معناه : فرد من جميع جهات الوحدانية ، ليست كمثله شيء ، وهو ابتداء ، و { الله } ابتداء ثان ، و { أحد } خبره ، والجملة خبر الأول ، وقيل : { هو } ابتداء ، و { الله } خبره ، و { أحد } بدل منه ، وحذف أبو عمرو التنوين من { أحد } لالتقاء الساكنين «أحدُ الله » وأثبتها الباقون مكسورة للالتقاء ، وأما وفقهم كلهم فبسكون الدال ، وقد روي عن أبي عمرو : الوصل بسكون الدال ، وروي عنه أيضاً تنوينها .
المشهور في تسميتها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفيما جرى من لفظه وفي أكثر ما روي عن الصحابة تسميتها { سورة قل هو الله أحد } .
روى الترمذي عن أبي هريرة ، وروى أحمد عن أبي مسعود الأنصاري وعن أم كلثوم بنت عقبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن وهو ظاهر في أن أراد تسميتها بتلك الجملة لأجل تأنيث الضمير من قوله تعدل فإنه على تأويلها بمعنى السورة .
وقد روي عن جمع من الصحابة ما فيه تسميتها بذلك ، فذلك هو الاسم الوارد في السنة .
ويؤخذ من حديث البخاري عن إبراهيم عن أبي سعيد الخدري ما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " الله الواحد الصمد " ثلث القرآن فذكر ألفاظا تخالف ما تقرأ به ، ومحمله على إرادة التسمية . وذكر القرطبي أن رجلا لم يسمه قرأ كذلك والناس يستمعون وادعى أن ما قرأ به هو الصواب وقد ذمه القرطبي وسبه .
وسميت في أكثر المصاحف وفي معظم التفاسير وفي جامع الترمذي { سورة الإخلاص } واشتهر هذا الاسم لاختصاره وجمعه معاني هذه السورة لأن فيها تعليم الناس إخلاص العبادة لله تعالى ، أي سلامة الاعتقاد من الإشراك بالله غيره في الإلهية .
وسميت في بعض المصاحف التونسية سورة التوحيد لأنها تشتمل على إثبات أنه تعالى واحد .
وفي الإتقان أنها تسمى سورة الأساس لاشتمالها على توحيد الله وهو أساس الإسلام . وفي « الكشاف » روي عن أبي وأنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أُسَّت السماوات السبع والأرضون السبع على { قل هو الله أحد }{[1]} . يعني ما خلقت إلا لتكون دلائل على توحيد الله ومعرفة صفاته .
وذكر في الكشاف : أنها وسورة الكافرون تسميان المقشقشتين ، أي المبرئتين من الشرك ومن النفاق .
وسماها البقاعي في نظم الدرر ( سورة الصمد ) ، وهو من الأسماء التي جمعها الفخر . وقد عقد الفخر في التفسير الكبير فصلا لأسماء هذه السورة فذكر لها عشرين اسما بإضافة عنوان سورة إلى كل اسم منها ولم يذكر أسانيدها فعليك بتتبعها على تفاوت فيها وهي : التفريد ، والتجريد ( لأنه لم يذكر فيها سوى صفاته السلبية التي هي صفات الجلال ) ، والتوحيد ( كذلك ) ، والإخلاص ( لما ذكرناه آنفا ) ، والنجاة ( لأنها تنجي من الكفر في الدنيا ومن النار في الآخرة ) ، والولاية ( لأن من عرف الله بوحدانيته فهو من أوليائه المؤمنين الذين لا يتولون غير الله ) والنسبة ( لما روي أنها نزلت لما قال المشركون : أنسب لنا ربك ، كما سيأتي ) ، والمعرفة ( لأنها أحاطت بالصفات التي لا تتم معرفة الله إلا بمعرفتها ) والجمال لأنها جمعت أصول صفات الله وهي أجمل الصفات وأكملها ، ولما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله جميل يحب الجمال " فسألوه عن ذلك فقال : " أحد صمد لم يلد ولم يولد " ، والمقشقشة يقال : ( قشقش الدواء الجرب إذا أبرأه لأنها تقشقش من الشرك ، وقد تقدم آنفا أنه اسم لسورة الكافرون أيضا ) ، والمعوذة ( لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان بن مضعون وهو مريض فعوذه بها وبالسورتين اللتين بعدها وقال له : تعوذ بها . والصمد ( لأن هذا اللفظ خص بها ) ، والأساس ( لأنها أساس العقيدة الأسلامية ) والمانعة ( لما روي : أنها تمنع عذاب القبر ولفحات النار ) والمحضر ( لأن الملائكة تحضر لاستماعها إذا قرئت ) . والمنفرة ( لأن الشيطان ينفر عند قراءتها ) والبراءة ( لأنها تبرئ من الشرك ) ، والمذكرة ( لأنها تذكر خالص التوحيد الذي هو مودع في الفطرة ) ، والنور ( لما روي : أن نور القرآن قل هو الله أحد ) ، والأمان ( لأن من اعتقد ما فيها أمن من العذاب ) .
وبضميمة اسمها المشهور { قل هو الله أحد } تبلغ أسماؤها اثنين وعشرين ، وقال الفيروز آبادي في بصائر التمييز أنها تسمى الشافية فتبلغ واحدا وعشرين اسما .
وهي مكية في قول الجمهور ، وقال قتادة والضحاك والسدي وأبو العالية والقرضي : هي مدنية ونسب كلا القولين إلى ابن عباس .
ومنشأ هذا الخلاف الاختلاف في سبب نزولها فروى الترمذي عن أبي بن كعب ، وروى عبيد العطار عن ابن مسعود ، وأبو يعلى عن جابر بن عبد الله أن قريشا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم انسب لنا ربك فنزلت قل هو الله أحد إلى آخرها فتكون مكية .
وروى أبو صالح عن ابن عباس أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعو ( أخا لبيد ) أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقال عامر : إلام تدعونا? قال : إلى الله ، قال : صفه لنا أمن ذهب هو ، أم من فضة ، أم من حديد ، أم من خشب? ( يحسب لجهله أن الإله صنم كأصنامهم من معدن أو خشب أو حجارة ) فنزلت هذه السورة ، لإتكون مدنية لأنهما ما أتياه إلا بعد الهجرة .
وقال الواحدي « أن أحبار اليهود منهم حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم صف لنا ربك لعلنا نؤمن بك ، فنزلت » .
والصحيح أنه مكية فإنها جمعت أصل التوحيد وهو الأكثر فيما نزل من القرآن بمكة ، ولعل تأويل من قال : إنها نزلت حينما سأل عامر بن الطفيل وأربد ، أو حينما سأل أحبار اليهود : أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم هذه السورة ، فظنها الراوي من الأنصار نزلت ساعتئذ أو لم يضبط الرواة عنهم عبارتهم تمام الضبط .
قال في الإتقان : وجمع بعضهم بين الروايتين بتكرر نزولها ثم ظهر لي ترجيح أنها مدنية كما بينته في أسباب النزول اه .
وعلى الأصح من أنها مكية عدت السورة الثانية والعشرون في عداد نزول السور نزلت بعد سورة الناس وقبل سورة النجم .
وآياتها عند أهل العدد بالمدينة والكوفة والبصرة أربع ، وعند أهل مكة والشام خمس باعتبار { لم يلد } آية { ولم يولد } آية .
وأنه لا يقصد في الحوائج غيره وتنزيهه عن سمات المحدثات وإبطال أن يكون له ابن .
وإبطال ان يكون المولود إلها مثل عيسى عليه السلام .
والأحاديث في فضائلها كثيرة وقد صح أنها تعدل ثلث القرآن . وتأويل هذا الحديث مذكور في شرح الموطأ والصحيحين .
افتتاح هذه السورة بالأمر بالقول لإِظهار العناية بما بعد فعل القول كما علمت ذلك عند قوله تعالى : { قل يا أيها الكافرون } [ الكافرون : 1 ]
ولذلك الأمر في هذه السورة فائدة أخرى ، وهي أنها نزلت على سبب قول المشركين : انْسُبْ لنا ربك ، فكانت جواباً عن سؤالهم فلذلك قيل له : { قل } كما قال تعالى : { قل الروح من أمر ربي } [ الإسراء : 85 ] فكان للأمر بفعل { قل } فائدتان .
وضمير { هو } ضمير الشأن لإِفادة الاهتمام بالجملة التي بعده ، وإذا سمعه الذين سألوا تطلعوا إلى ما بعده .
ويجوز أن يكون { هو } أيضاً عائداً إلى الرب في سؤال المشركين حين قالوا : انسب لنا ربك .
ومن العلماء من عَدّ ضمير { هو } في هذه السورة اسماً من أسماء الله تعالى وهي طريقة صوفية درج عليها فخر الدين الرازي في « شرح الأسماء الحسنى » نقله ابن عرفة عنه في « تفسيره » وذكر الفخر ذلك في « مفاتيح الغيب » ولا بد من المزج بين كلاميه .
وحاصلهما قوله : { قل هو الله أحد } فيه ثلاثة أسماء لله تعالى تنبيهاً على ثلاثة مقامات .
الأول : مقام السابقين المقربين الناظرين إلى حقائق الأشياء من حيث هِيَ هِيَ ، فلا جرم ما رأوا موجوداً سوى الله لأنه هو الذي لأجله يجب وجوده فما سوى الله عندهم معدوم ، فقوله : { هو } إشارة مطلقة . ولما كان المشار إليه معيناً انصرف ذلك المطلق إلى ذلك المعين فكان قوله : { هو } إشارة من هؤلاء المقربين إلى الله فلم يفتقروا في تلك الإِشارة إلى مميز فكانت لفظة { هو } كافية في حصول العرفان التام لهؤلاء .
المقام الثاني : مقام أصحاب اليمين المقتصدين فهم شاهَدُوا الحق موجوداً وشاهدوا الممكنات موجودة فحصلت كثرة في الموجودات فلم تكن لفظة { هو } تامة الإِفادة في حقهم فافتقروا معها إلى مميز فقيل لأجلهم { هو اللَّه } .
والمقام الثالث : مقام أصحاب الشمال وهم الذين يجوزون تعدد الإله فقُرن لفظ { أحد } بقوله : { هو اللَّه } إبطالاً لمقالتهم اه .
فاسمه تعالى العلَم ابتدىء به قبل إجراء الأخبار عليه ليكون ذلك طريق استحضار صفاته كلّها عند التخاطب بين المسلمين وعند المحاجَّة بينهم وبين المشركين ، فإن هذا الاسم معروف عند جميع العرب فمسماه لا نزاع في وجوده ولكنهم كانوا يصفونه بصفات تَنَزَّه عنها .
أما { أحد } فاسم بمعنى ( وَاحِد ) . وأصل همزته الواو ، فيقال : وحَد كما يقال : أحد ، قلبت الواو همزة على غير قياس لأنها مفتوحة ( بخلاف قلب واو وُجوه ) ومعناه منفرد ، قال النابغة :
كأنَّ رحلي وقد زال النهارُ بنا *** بذي الجليلِ على مستأنِسٍ وَحَدِ
أي كأني وضعتُ الرجل على ثورِ وحْشٍ أحَسَّ بأنسيّ وهو منفردٌ عن قطيعه .
وهو صفة مشبهة مثل حَسَن ، يقال : وَحُد مثل كرُم ، ووَحِدَ مثل فرِح .
وصيغة الصفة المشبهة تفيد تمكن الوصف في موصوفها بأنه ذاتيٌّ له ، فلذلك أوثر { أحد } هنا على ( واحد ) لأن ( واحد ) اسم فاعل لا يفيد التمكن .
ف ( واحد ) و { أحد } وصفان مصوغان بالتصريف لمادة متحدة وهي مادة الوحدة يعني التفرد .
هذا هو أصل إطلاقه وتفرعت عنه إطلاقات صارت حقائق للفظ ( أحد ) ، أشهرها أنه يستعمل اسماً بمعنى إنسان في خصوص النفي نحو قوله تعالى : { لا نفرق بين أحد من رسله } في البقرة ( 285 ) ، وقوله : { ولا أشرك بربي أحداً } في الكهف ( 38 ) وكذلك إطلاقه على العدد في الحساب نحو : أحد عشر ، وأحد وعشرين ، ومؤنثه إحدى ، ومن العلماء من خلط بين ( واحد ) وبين { أحد } فوقع في ارتباك .
فوصف الله بأنه { أحد } معناه : أنه منفرد بالحقيقة التي لوحظت في اسمه العلَم وهي الإلهية المعروفة ، فإذا قيل : { اللَّه أحد } فالمراد أنه منفرد بالإلهية ، وإذا قيل : الله واحد ، فالمراد أنه واحد لا متعدد فمَن دونه ليس بإله . ومآل الوصفين إلى معنى نفي الشريك له تعالى في إلهيته .
فلما أريد في صدر البعثة إثبات الوحدة الكاملة لله تعليماً للناس كلهم ، وإبطالاً لعقيدة الشرك وُصف الله في هذه السورة ب { أحد } ولم يوصف ب ( واحد ) لأن الصفة المشبهة نهايةُ ما يُمكن به تقريب معنى وحدة الله تعالى إلى عقول أهل اللسان العربي المبين .
وقال ابن سينا في تفسير له لهذه السورة : إن { أحد } دالّ على أنه تعالى واحد من جميع الوجوه وأنه لا كثرة هناك أصلاً لا كثرةً معنوية وهي كثرة المقومات والأجناس والفصول ، ولا كثرة حسيّة وهي كثرة الأجزاء الخارجية المتمايزة عقلاً كما في المادة والصورة . والكثرة الحسية بالقوة أو بالفعل كما في الجسم ، وذلك متضمن لكونه سبحانه منزهاً عن الجنس والفصل ، والمادة والصورة ، والأعراض والأبعَاض ، والأعضاء ، والأشكال ، والألوان ، وسائر ما يُثلم الوحدة الكاملة والبَساطة الحَقَّة اللائقة بكرم وجهه عز وجل عن أن يشبهه شيء أو يساويه سبحانه شيء . وتبيينُه : أما الواحد فمقول على ما تحته بالتشكيك ، والذي لا ينقسم بوجه أصلاً أولى بالوحدانيَّة مما ينقسم من بعض الوجوه ، والذي لا ينقسم انقساماً عقليّاً أوْلَى بالوحدانية من الذي ينقسم انقساماً بالحسّ بالقوة ثم بالفعل ، ف { أحد } جامع للدلالة على الوحدانية من جميع الوجوه وأنه لا كثرة في موصوفه اه .
قلت : قد فهم المسلمون هذا فقد روي أن بلالاً كان إذا عذب على الإِسلام يقول : أحَد أحد ، وكان شعار المسلمين يوم بدر : أحَد أحَد .
والذي درج عليه أكثر الباحثين في أسماء الله تعالى أن { أحد } ليس ملحقاً بالأسماء الحسنى لأنه لم يرد ذكره في حديث أبي هريرة عند الترمذي قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنَّ لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة " . وعدّها ولم يذكر فيها وصف أحد ، وذكر وصف واحد وعلى ذلك درج إمام الحرمين في كتاب « الإِرشاد » وكتابِ « اللمع » والغزالي في « شرح الأسماء الحسنى » .
وقال الفهري في « شرحه على لُمع الأدلة » لإِمام الحرمين عند ذكر اسمه تعالى « الواحد » . وقد ورد في بعض الروايات الأحد فلم يجمع بين الاسمين في اسم .
ودرح ابن بَرَّجَان الإِشبيلي في « شرح الأسماء »{[467]} والشيخ مُحمد بن محمد الكومي ( بالميم ) التونسي ، ولُطف الله الأرضرُومي في « معارج النور » ، على عدّ ( أحد ) في عداد الأسماء الحسنى مع اسمه الوَاحد فقالا : الواحد الأحد بحيث هو كالتأكيد له كما يقتضيه عدهم الأسماء تسعة وتسعين ، وهذا بناء على أن حديث أبي هريرة لم يقتضِ حصر الأسماء الحسنى في التسعة والتسعين ، وإنما هو لبيان فضيلة تلك الأسماء المعدودة فيه .
والمعنى : أن الله منفرد بالإلهية لا يشاركه فيها شيء من الموجودات . وهذا إبطال للشرك الذي يدين به أهل الشرك ، وللتثليث الذي أحدثه النصارى المَلْكانية وللثانوية عند المجوس ، وللعَدَد الذي لا يُحصى عند البراهمة .
فقوله : { اللَّه أحد } نظير قوله في الآية الأخرى : { إنما الله إله واحد } [ النساء : 171 ] . وهذا هو المعنى الذي يدركه المخاطبون بهذه الآية السائلون عن نسبة الله ، أي حقيقته فابتدىء لهم بأنه واحد ليعلموا أن الأصنام ليست من الإلهية في شيء .
ثم إن الأحدية تقتضي الوجود لا محالة فبطل قول المعطلة والدُّهريين .
وقد اصطلح علماء الكلام من أهل السنة على استخراج الصفات السلبية الربانية من معنى الأحدية لأنه إذا كان منفرداً بالإلهية كان مستغنياً عن المخصِّص بالإِيجاد لأنه لو افتقر إلى من يُوجده لكان من يوجده إلها أوَّلَ منه فلذلك كان وجود الله قديماً غير مسبوق بعدم ولا محتاج إلى مخصص بالوجُود بدَلاً عن العدم ، وكان مستعيناً عن الإمداد بالوجود فكان باقياً ، وكان غنياً عن غيره ، وكان مخالفاً للحوادث وإلا لاحتاج مثلَها إلى المخصص فكان وصفه تعالى : ب { أحد } جامعاً للصفات السلبية . ومثلُ ذلك يُقال في مرادفه وهو وصف وَاحد .
واصطلحوا على أن أحدية الله أحدية واجبة كاملة ، فالله تعالى واحد من جميع الوجوه ، وعلى كل التقادير فليس لكُنْه الله كثرة أصلاً لا كثرة معنوية وهي تعدد المقوّمات من الأجناس والفصول التي تتقوم منها المواهي ، ولا كثرةُ الأجزاء في الخارج التي تتقوم منها الأجسام . فأفاد وصف { أحد } أنه منزه عن الجنس والفصل والمادة والصورة ، والأعراض والأبعاض ، والأعضاء والأشكال والألوان وسائر ما ينافي الوحدة الكاملة كما إشار إليه ابن سينا .
قال في « الكشاف » : « وفي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم { اللَّه أحد } بغير { قل هو } اه ، ولعله أخذه مما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من قرأ : { اللَّه أحد } كان بِعَدْل ثلثِ القرآن ، كما ذكره بأثر قراءة أبيّ بدون { قل } كما تأوله الطيبي إذ قال : وهذا استشهاد على هذه القراءة .
وعندي إن صح ما روي من القراءة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد بها التلاوة وإنما قصد الامتثال لما أمر بأن يقوله ، وهذا كما كان يُكثر أن يقول : " سبحان ربي العظيم وبحمده اللهم اغفر لي " يَتأول قوله تعالى : { فسبح بحمد ربك واستغفره } [ النصر : 3 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
سورة الإخلاص مكية في قول ابن مسعود والحسن وعطاء وعكرمة وجابر . ومدنية في أحد قولي ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي .
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
سورة الإخلاص ... وقيل : التوحيد . ...
المسألة الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : ... . : رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مَقْطُوعًا عَن النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرْسَلًا أَنَّهُ قَالَ : «أَتَى رَهْطٌ مِنْ يَهُودَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا : يَا مُحَمَّدُ ، هَذَا اللَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ . فَمَنْ خَلَقَهُ ؟ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى انْتَقَعَ لَوْنُهُ ، ثُمَّ سَاوَرَهُمْ غَضَبًا لِرَبِّهِ ، فَجَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَسَكَّنَهُ ، فَقَالَ : خَفِّضْ عَلَيْك يَا مُحَمَّدُ ، وَجَاءَهُ مِنْ اللَّهِ بِجَوَابِ مَا سَأَلُوهُ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ . . . } السُّورَةَ » . وَفِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ بَاطِلَةٌ هَذَا أَمْثَلُهَا . ...
المسألة الثَّانِيَةُ : فِي فَضْلِهَا ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ، عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ «أَنَّ رَجُلًا سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } يُرَدِّدُهَا ، فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَتَقَالُّهَا ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، إنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ » ، فَهَذَا فَضْلُهَا...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
في فضلها : قال البخاري : حدثنا محمد - هو الذُهليّ - حدثنا أحمد بن صالح ، حدثنا ابن وهب ، أخبرنا عمرو ، عن ابن أبي هلال : أن أبا الرجال مُحمد بن عبد الرحمن حَدثه ، عن أمه عَمْرَةَ بنت عبد الرحمن - وكانت في حِجْر عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم - عن عائشة : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلا على سَريَّة ، وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم ، فيختم ب { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " سلوه : لأيّ شيء يصنع ذلك ؟ " . فسألوه ، فقال : لأنها صفة الرحمن ، وأنا أحب أن أقرأ بها . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أخبروه أن الله تعالى يحبه " . ...
في الاستشفاء ... به... : قال البخاري : حدثنا قتيبة ، حدثنا المفضل ، عن عُقَيل ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كُل ليلة جمع كفيه ، ثم نفث فيهما فقرأ فيهما : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } و { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } و { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده ، يبدأ بهما على رأسه ووجهه ، وما أقبل من جسده ، يفعل ذلك ثلاث مرات . وهكذا رواه أهل السنن ، من حديث عُقَيل ، به . ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه السورة الصغيرة تعدل ثلث القرآن كما جاء في الروايات الصحيحة . قال البخاري : حدثنا إسماعيل : حدثني مالك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة ، عن أبيه ، عن أبي سعد ، أن رجلا سمع رجلا يقرأ : ( قل هو الله أحد )يرددها . فلما أصبح جاء إلى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فذكر ذلك له - وكأن الرجل يتقالها - فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : " والذي نفسي بيده ، إنها لتعدل ثلث القرآن " . .
وليس في هذا من غرابة . فإن الأحدية التي أمر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أن يعلنها : ( قل هو الله أحد ) . . هذه الأحدية عقيدة للضمير ، وتفسير للوجود ، ومنهج للحياة . . وقد تضمنت السورة - من ثم - أعرض الخطوط الرئيسية في حقيقة الإسلام الكبيرة . .
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
المشهور في تسميتها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفيما جرى من لفظه وفي أكثر ما روي عن الصحابة تسميتها سورة قل هو الله أحد .
روى الترمذي عن أبي هريرة ، وروى أحمد عن أبي مسعود الأنصاري وعن أم كلثوم بنت عقبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن وهو ظاهر في أن أراد تسميتها بتلك الجملة لأجل تأنيث الضمير من قوله تعدل فإنه على تأويلها بمعنى السورة .
وقد روي عن جمع من الصحابة ما فيه تسميتها بذلك ، فذلك هو الاسم الوارد في السنة .
ويؤخذ من حديث البخاري عن إبراهيم عن أبي سعيد الخدري ما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " الله الواحد الصمد " ثلث القرآن فذكر ألفاظا تخالف ما تقرأ به ، ومحمله على إرادة التسمية . وذكر القرطبي أن رجلا لم يسمه قرأ كذلك والناس يستمعون وادعى أن ما قرأ به هو الصواب وقد ذمه القرطبي وسبه .
وسميت في أكثر المصاحف وفي معظم التفاسير وفي جامع الترمذي سورة الإخلاص، واشتهر هذا الاسم لاختصاره وجمعه معاني هذه السورة لأن فيها تعليم الناس إخلاص العبادة لله تعالى ، أي سلامة الاعتقاد من الإشراك بالله غيره في الإلهية .
وسميت في بعض المصاحف التونسية سورة التوحيد لأنها تشتمل على إثبات أنه تعالى واحد .
وفي الإتقان أنها تسمى سورة الأساس لاشتمالها على توحيد الله وهو أساس الإسلام . وفي « الكشاف » روي عن أبي وأنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أُسَّت السماوات السبع والأرضون السبع على { قل هو الله أحد }. يعني ما خلقت إلا لتكون دلائل على توحيد الله ومعرفة صفاته .
وذكر في الكشاف : أنها وسورة الكافرون تسميان المقشقشتين ، أي المبرئتين من الشرك ومن النفاق .
وسماها البقاعي في نظم الدرر سورة الصمد، وهو من الأسماء التي جمعها الفخر . وقد عقد الفخر في التفسير الكبير فصلا لأسماء هذه السورة فذكر لها عشرين اسما بإضافة عنوان سورة إلى كل اسم منها ولم يذكر أسانيدها فعليك بتتبعها على تفاوت فيها وهي : التفريد ، والتجريد ( لأنه لم يذكر فيها سوى صفاته السلبية التي هي صفات الجلال ) ، والتوحيد ( كذلك ) ، والإخلاص ( لما ذكرناه آنفا ) ، والنجاة ( لأنها تنجي من الكفر في الدنيا ومن النار في الآخرة ) ، والولاية ( لأن من عرف الله بوحدانيته فهو من أوليائه المؤمنين الذين لا يتولون غير الله ) والنسبة ( لما روي أنها نزلت لما قال المشركون : أنسب لنا ربك ، كما سيأتي ) ، والمعرفة ( لأنها أحاطت بالصفات التي لا تتم معرفة الله إلا بمعرفتها ) والجمال لأنها جمعت أصول صفات الله وهي أجمل الصفات وأكملها ، ولما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله جميل يحب الجمال " فسألوه عن ذلك فقال : " أحد صمد لم يلد ولم يولد " ، والمقشقشة يقال : ( قشقش الدواء الجرب إذا أبرأه لأنها تقشقش من الشرك ، وقد تقدم آنفا أنه اسم لسورة الكافرون أيضا ) ، والمعوذة ( لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان بن مضعون وهو مريض فعوذه بها وبالسورتين اللتين بعدها وقال له : تعوذ بها . والصمد ( لأن هذا اللفظ خص بها ) ، والأساس ( لأنها أساس العقيدة الإسلامية ) والمانعة ( لما روي : أنها تمنع عذاب القبر ولفحات النار ) والمحضر ( لأن الملائكة تحضر لاستماعها إذا قرئت ) . والمنفرة ( لأن الشيطان ينفر عند قراءتها ) والبراءة ( لأنها تبرئ من الشرك ) ، والمذكرة ( لأنها تذكر خالص التوحيد الذي هو مودع في الفطرة ) ، والنور ( لما روي : أن نور القرآن قل هو الله أحد ) ، والأمان ( لأن من اعتقد ما فيها أمن من العذاب ) .
وبضميمة اسمها المشهور قل هو الله أحد تبلغ أسماؤها اثنين وعشرين ، وقال الفيروز آبادي في بصائر التمييز أنها تسمى الشافية فتبلغ واحدا وعشرين اسما .
وهي مكية في قول الجمهور ، وقال قتادة والضحاك والسدي وأبو العالية والقرضي : هي مدنية ونسب كلا القولين إلى ابن عباس .
ومنشأ هذا الخلاف الاختلاف في سبب نزولها فروى الترمذي عن أبي بن كعب ، وروى عبيد العطار عن ابن مسعود ، وأبو يعلى عن جابر بن عبد الله أن قريشا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم انسب لنا ربك فنزلت قل هو الله أحد إلى آخرها فتكون مكية .
وروى أبو صالح عن ابن عباس أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة ( أخا لبيد ) أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقال عامر : إلام تدعونا? قال : إلى الله ، قال : صفه لنا أمن ذهب هو ، أم من فضة ، أم من حديد ، أم من خشب? ( يحسب لجهله أن الإله صنم كأصنامهم من معدن أو خشب أو حجارة ) فنزلت هذه السورة ، فتكون مدنية لأنهما ما أتياه إلا بعد الهجرة .
وقال الواحدي « أن أحبار اليهود منهم حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم صف لنا ربك لعلنا نؤمن بك ، فنزلت » .
والصحيح أنه مكية فإنها جمعت أصل التوحيد وهو الأكثر فيما نزل من القرآن بمكة ، ولعل تأويل من قال : إنها نزلت حينما سأل عامر بن الطفيل وأربد ، أو حينما سأل أحبار اليهود : أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم هذه السورة ، فظنها الراوي من الأنصار نزلت ساعتئذ أو لم يضبط الرواة عنهم عبارتهم تمام الضبط .
قال في الإتقان : وجمع بعضهم بين الروايتين بتكرر نزولها ثم ظهر لي ترجيح أنها مدنية كما بينته في أسباب النزول، اه .
وعلى الأصح من أنها مكية عدت السورة الثانية والعشرون في عداد نزول السور نزلت بعد سورة الناس وقبل سورة النجم ...
وأنه لا يقصد في الحوائج غيره وتنزيهه عن سمات المحدثات وإبطال أن يكون له ابن .
وإبطال ان يكون المولود إلها مثل عيسى عليه السلام .
والأحاديث في فضائلها كثيرة وقد صح أنها تعدل ثلث القرآن . وتأويل هذا الحديث مذكور في شرح الموطأ والصحيحين .
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
في السورة تقرير العقيدة الإسلامية بذات الله بأسلوب حاسم وقطعي ووجيز . وأسلوبها عام التوجيه والتقرير . ...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
هذه السورة ، يحتمل أنها مكية أو مدنية ، وإن كان المعروف بحسب روايات أسباب النزول أنها مكية .
وتذكر الأحاديث على أنها «تعدل ثلث القرآن » ، وقد يكون الشاهد على ذلك ، أن هذه السورة تختصر كلّ الحديث القرآني عن الله وعن علاقة الخلق به . فقد تنوّع الحديث القرآني عن توحيد الله ، وعن أحديَّته ، من خلال الحقائق الكونية التي تدلّ على وحدانيته ، ونفي الشركاء عنه ، ومن خلال الحقائق العقلية التي تفرض استحالة الشريك . وقد انطلق الحديث القرآني ليؤكد على حاجة الخلق إليه ، واستغنائه عنهم ، وعن أزليَّته التي تنفي كونه مولوداً ، كما تنفي كونه موضعاً للتغير والتحوّل لينبثق الولد منه ، وليركز الفكرة الأحديّة التي ترفض وجود المماثل له في طبيعة الوجود ، وفي القدرة والفاعلية ، وفي الصفات كلها . وذلك هو معنى السورة في آياتها القصيرة .
وقد نلاحظ في هذه السورة القصيرة بساطة العقيدة الإسلامية في تصورها لله ، فليست هناك تعقيداتٌ فلسفيةٌ ، وتحليلاتٌ فكريّةٌ معقّدة تتحرك في متاهات الاحتمالات والتأمّلات ، ؛ بل هي ، في بساطتها الصافية ، لا تبتعد عن العمق ، ولا تقترب من السذاجة ؛ لأنها تنطلق من خلال الوجدان الذي يمكن أن يحتويها بفطرته ، كما يمكن له أن ينطلق في رحابها بامتداده ، ويعيش إيحاءاتها بعمقه ، ولهذا أمكن للإنسان البسيط أن يفهمها من دون الدخول في التفاصيل المعقّدة ، كما أمكن للمفكّر أن يؤمن بها من دون أن يبتعد عن تفكيره العميق . وهذا هو السرّ في انفتاح الناس كلهم على الإسلام من خلال الفطرة الصافية التي تؤكد أنه «دين الفطرة » التي فطر الله الناس عليها .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ذُكر أن المشركين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسب ربّ العزة ، فأنزل الله هذا السورة جوابا لهم . وقال بعضهم : بل نزلت من أجل أن اليهود سألوه ، فقالوا له : هذا الله خلق الخلق ، فمن خلق الله ؟ فأُنزلت جوابا لهم ...
فتأويل الكلام إذا كان الأمر على ما وصفنا : قل يا محمد لهؤلاء السائليك عن نسب ربك وصفته ، ومن خلقه : الربّ الذي سألتموني عنه ، هو الله الذي له عبادة كل شيء ، لا تنبغي العبادة إلاّ له ، ولا تصلح لشيء سواه ...
وقال آخرون { أحَدٌ } بمعنى : واحد ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{ هُوَ } ضمير الشأن ، و { الله أَحَدٌ } هو الشأن ... كأنه قيل : الشأن هذا ، وهو أن الله واحد لا ثاني له .
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
أي الواحد الوتر ، الذي لا شبيه له ، ولا نظير ولا صاحبة ، ولا ولد ولا شريك . ...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يعني : هو الواحد الأحد ، الذي لا نظير له ، ولا وزير ، ولا نديد ، ولا شبيه ، ولا عديل ، ولا يُطلَق هذا اللفظ على أحد في الإثبات إلا على الله ، عز وجل ؛ لأنه الكامل في جميع صفاته وأفعاله .
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ قل } أي يا أكرم الخلائق ومن لا يفهم عن مرسله حق الفهم سواه.... { هو } فابتدأ بهذا الاسم الشريف الذي هو أبطن الأسماء إشارة إلى أنه غيب الغيب بالنظر إلى ذاته كالألف ، وإلى أنه واجب الوجود لذاته ، وأن هويته ليست مستفادة من شيء سواها ، ولا موقوفة على شيء سواها....{ الله } أي الموجود الذي لا موجود في الحقيقة سواه ! هو المسمى بهذا الاسم ، واختير هذا الاسم للإخبار عنه لدلالته على جميع صفات الكمال : الجلال والجمال ، ولأنه اسم جامع لجميع معاني الأسماء الحسنى...{ أحد } وهو لأجل كونه خاصة في الإثبات حال الانفراد به تعالى معرفة غني عن " أل " المعرفة ، وهو أعرق في الدلالة على صفات الجلال ، كما أن الجلالة أعرق في الدلالة على صفات الكمال ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
( قل هو الله أحد ) . . وهو لفظ أدق من لفظ " واحد " . . لأنه يضيف إلى معنى " واحد " أن لا شيء غيره معه . وأن ليس كمثله شيء .
إنها أحدية الوجود . . فليس هناك حقيقة إلا حقيقته . وليس هناك وجود حقيقي إلا وجوده . وكل موجود آخر فإنما يستمد وجوده من ذلك الوجود الحقيقي ، ويستمد حقيقته من تلك الحقيقة الذاتية .
وهي - من ثم - أحدية الفاعلية . فليس سواه فاعلا لشيء ، أو فاعلا في شيء ، في هذا الوجود أصلا . وهذه عقيدة في الضمير وتفسير للوجود أيضا . .
فإذا استقر هذا التفسير ، ووضح هذا التصور ، خلص القلب من كل غاشية ومن كل شائبة ، ومن كل تعلق بغير هذه الذات الواحدة المتفردة بحقيقة الوجود وحقيقة الفاعلية .
خلص من التعلق بشيء من أشياء هذا الوجود - إن لم يخلص من الشعور بوجود شيء من الأشياء أصلا ! - فلا حقيقة لوجود إلا ذلك الوجود الإلهي . ولا حقيقة لفاعلية إلا فاعلية الإرادة الإلهية . فعلام يتعلق القلب بما لا حقيقة لوجوده ولا لفاعليته !
وحين يخلص القلب من الشعور بغير الحقيقة الواحدة ، ومن التعلق بغير هذه الحقيقة . . فعندئذ يتحرر من جميع القيود ، وينطلق من كل الأوهاق . يتحرر من الرغبة وهي أصل قيود كثيرة ، ويتحرر من الرهبة وهي أصل قيود كثيرة . وفيم يرغب وهو لا يفقد شيئا متى وجد الله ? ومن ذا يرهب ولا وجود لفاعلية إلا لله ?
ومتى استقر هذا التصور الذي لا يرى في الوجود إلا حقيقة الله ، فستصحبه رؤية هذه الحقيقة في كل وجود آخر انبثق عنها - وهذه درجة يرى فيها القلب يد الله في كل شيء يراه . وورائها الدرجة التي لا يرى فيها شيئا في الكون إلا الله . لأنه لا حقيقة هناك يراها إلا حقيقة الله .
كذلك سيصحبه نفي فاعلية الأسباب . ورد كل شيء وكل حدث وكل حركة إلى السبب الأول الذي منه صدرت ، وبه تأثرت . . وهذه هي الحقيقة التي عني القرآن عناية كبيرة بتقريرها في التصور الإيماني . ومن ثم كان ينحي الأسباب الظاهرة دائما ويصل الأمور مباشرة بمشيئة الله : ( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) . . ( وما النصر إلا من عند الله ) . . ( وما تشاءون إلا أن يشاء الله ) . . وغيرها كثير . .
وبتنحية الأسباب الظاهرة كلها ، ورد الأمر إلى مشيئة الله وحدها ، تنسكب في القلب الطمأنينة ، ويعرف المتجه الوحيد الذي يطلب عنده ما يرغب ، ويتقي عنده ما يرهب ، ويسكن تجاه الفواعل والمؤثرات والأسباب الظاهرة التي لا حقيقة لها ولا وجود !
وهذه هي مدارج الطريق التي حاولها المتصوفة ، فجذبتهم إلى بعيد ! ذلك أن الإسلام يريد من الناس أن يسلكوا الطريق إلى هذه الحقيقة وهم يكابدون الحياة الواقعية بكل خصائصها ، ويزاولون الحياة البشرية ، والخلافة الأرضية بكل مقوماتها ، شاعرين مع هذا أن لا حقيقة إلا الله . وأن لا وجود إلا وجوده . وأن لا فاعلية إلا فاعليته . . ولا يريد طريقا غير هذا الطريق !
من هنا ينبثق منهج كامل للحياة ، قائم على ذلك التفسير وما يشيعه في النفس من تصورات ومشاعر واتجاهات : منهج لعبادة الله وحده . الذي لا حقيقة لوجود إلا وجوده ، ولا حقيقة لفاعلية إلا فاعليته ، ولا أثر لإرادة إلا إرادته .
ومنهج للاتجاه إلى الله وحده في الرغبة والرهبة . في السراء والضراء . في النعماء والبأساء . وإلا فما جدوى التوجه إلى غير موجود وجودا حقيقيا ، وإلى غير فاعل في الوجود أصلا ? !
ومنهج للتلقي عن الله وحده . تلقي العقيدة والتصور والقيم والموازين ، والشرائع والقوانين والأوضاع والنظم ، والآداب والتقاليد . فالتلقي لا يكون إلا عن الوجود الواحد والحقيقة المفردة في الواقع وفي الضمير .
ومنهج للتحرك والعمل لله وحده . . ابتغاء القرب من الحقيقة ، وتطلعا إلى الخلاص من الحواجز المعوقة والشوائب المضللة . سواء في قرارة النفس أو فيما حولها من الأشياء والنفوس . ومن بينها حاجز الذات ، وقيد الرغبة والرهبة لشيء من أشياء هذا الوجود !
ومنهج يربط - مع هذا - بين القلب البشري وبين كل موجود برباط الحب والأنس والتعاطف والتجاوب . فليس معنى الخلاص من قيودها هو كراهيتها والنفور منها والهروب من مزاولتها . . فكلها خارجة من يد الله ؛ وكلها تستمد وجودها من وجوده ، وكلها تفيض عليها أنوار هذه الحقيقة . فكلها إذن حبيب ، إذ كلها هدية من الحبيب !
وهو منهج رفيق طليق . . الأرض فيه صغيرة ، والحياة الدنيا قصيرة ، ومتاع الحياة الدنيا زهيد ، والانطلاق من هذه الحواجز والشوائب غاية وأمنية . . ولكن الانطلاق عند الإسلام ليس معناه الاعتزال ولا الإهمال ، ولا الكراهية ولا الهروب . . إنما معناه المحاولة المستمرة ، والكفاح الدائم لترقية البشرية كلها ، وإطلاق الحياة البشرية جميعها . . ومن ثم فهي الخلافة والقيادة بكل أعبائهما ، مع التحرر والانطلاق بكل مقوماتهما . كما أسلفنا .
إن الخلاص عن طريق الصومعة سهل يسير . ولكن الإسلام لا يريده . لأن الخلافة في الأرض والقيادة للبشر طرف من المنهج الإلهي للخلاص . إنه طريق أشق ، ولكنه هو الذي يحقق إنسانية الإنسان . أي يحقق انتصار النفخة العلوية في كيانه . . وهذا هو الانطلاق . انطلاق الروح إلى مصدرها الإلهي ، وتحقيق حقيقتها العلوية . وهي تعمل في الميدان الذي اختاره لها خالقها الحكيم . .
من أجل هذا كله كانت الدعوة الأولى قاصرة على تقرير حقيقة التوحيد بصورتها هذه في القلوب . لأن التوحيد في هذه الصورة عقيدة للضمير ، وتفسير للوجود ، ومنهج للحياة . وليس كلمة تقال باللسان أو حتى صورة تستقر في الضمير . إنما هو الأمر كله ، والدين كله ؛ وما بعده من تفصيلات وتفريعات لا يعدو أن يكون الثمرة الطبيعية لاستقرار هذه الحقيقة بهذه الصورة في القلوب .
والانحرافات التي أصابت أهل الكتاب من قبل ، والتي أفسدت عقائدهم وتصوراتهم وحياتهم ، نشأت أول ما نشأت عن انطماس صورة التوحيد الخالص . ثم تبع هذا الانطماس ما تبعه من سائر الانحرافات .
على أن الذي تمتاز به صورة التوحيد في العقيدة الإسلامية هو تعمقها للحياة كلها ، وقيام الحياة على أساسها ، واتخاذها قاعدة للمنهج العملي الواقعي في الحياة ، تبدو آثاره في التشريع كما تبدو في الاعتقاد سواء . وأول هذه الآثار أن تكون شريعة الله وحدها هي التي تحكم الحياة . فإذا تخلفت هذه الآثار فإن عقيدة التوحيد لا تكون قائمة ، فإنها لا تقوم إلا ومعها آثارها محققة في كل ركن من أركان الحياة . .
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
افتتاح هذه السورة بالأمر بالقول لإِظهار العناية بما بعد فعل القول كما علمت ذلك عند قوله تعالى : { قل يا أيها الكافرون } [ الكافرون : 1 ]
ولذلك الأمر في هذه السورة فائدة أخرى ، وهي أنها نزلت على سبب قول المشركين : انْسُبْ لنا ربك ، فكانت جواباً عن سؤالهم فلذلك قيل له : { قل } كما قال تعالى : { قل الروح من أمر ربي } [ الإسراء : 85 ] فكان للأمر بفعل { قل } فائدتان .
وضمير { هو } ضمير الشأن لإِفادة الاهتمام بالجملة التي بعده ، وإذا سمعه الذين سألوا تطلعوا إلى ما بعده .
ويجوز أن يكون { هو } أيضاً عائداً إلى الرب في سؤال المشركين حين قالوا : انسب لنا ربك ...
فاسمه تعالى العلَم ابتدئ به قبل إجراء الأخبار عليه ليكون ذلك طريق استحضار صفاته كلّها عند التخاطب بين المسلمين وعند المحاجَّة بينهم وبين المشركين ، فإن هذا الاسم معروف عند جميع العرب فمسماه لا نزاع في وجوده ولكنهم كانوا يصفونه بصفات تَنَزَّه عنها .
أما { أحد } فاسم بمعنى ( وَاحِد ) ...
فوصف الله بأنه { أحد } معناه : أنه منفرد بالحقيقة التي لوحظت في اسمه العلَم وهي الإلهية المعروفة ، فإذا قيل : { اللَّه أحد } فالمراد أنه منفرد بالإلهية ، وإذا قيل : الله واحد ، فالمراد أنه واحد لا متعدد، فمَن دونه ليس بإله . ومآل الوصفين إلى معنى نفي الشريك له تعالى في إلهيته .
فلما أريد في صدر البعثة إثبات الوحدة الكاملة لله تعليماً للناس كلهم ، وإبطالاً لعقيدة الشرك وُصف الله في هذه السورة ب { أحد } ولم يوصف ب ( واحد ) لأن الصفة المشبهة نهايةُ ما يُمكن به تقريب معنى وحدة الله تعالى إلى عقول أهل اللسان العربي المبين ...
والمعنى : أن الله منفرد بالإلهية لا يشاركه فيها شيء من الموجودات . وهذا إبطال للشرك الذي يدين به أهل الشرك ، وللتثليث الذي أحدثه النصارى المَلْكانية وللثانوية عند المجوس ، وللعَدَد الذي لا يُحصى عند البراهمة .
فقوله : { اللَّه أحد } نظير قوله في الآية الأخرى : { إنما الله إله واحد } [ النساء : 171 ] . وهذا هو المعنى الذي يدركه المخاطبون بهذه الآية السائلون عن نسبة الله ، أي حقيقته فابتدئ لهم بأنه واحد ليعلموا أن الأصنام ليست من الإلهية في شيء .
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } قل لكلِّ هؤلاء الذين قد يريدون التفلسف في السؤال عن الله من هو ؛ لأنهم يريدون أن يتصوروه بصورة مادية تتحدث عن ملامحه في شكله تبعاً لما هو المألوف عندهم من صفات المخلوقات في تفاصيل الجسد ونحوه . قل لهم : هو الله ، المتفرد في كل صفاته ، الأحد في ذاته ، العالي عن كل ما يتصل بالمادة من صلة ، فلا تدركه الأبصار ، ولا تحيط به العقول ، ولا تقترب منه عناصر التركيب والتجزئة . ....