33- والْزَمْنَ بيوتكن لا تخرجن إلا لحاجة شرع الله الخروج لقضائها ، ولا تُظْهرن محاسنكن وزينتكن للرجال إذا خرجتن . كما كانت تفعل أهل الجهالة الأولى ، وأدين الصلاة كاملة ، وأعطين الزكاة ، وامتثلن أمر الله ورسوله . إنما يريد الله - بكل ما يأمركن به وينهاكن عنه - الشرف والكرامة . ليذهب عنكم الإثم والمعصية - يا أهل بيت النبي - ويطهركم تطهيرا لا يخالطه شبهة .
ثم أمرهن - سبحانه - بعد ذلك بالاستقرار فى بيوتهن ، وعدم الخروج منها إلا لحاجة شرعية فقال { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } .
قال القرطبى ما ملخصه : قوله { وَقَرْنَ } قرأه الجمهور - بكسر القاف - من القرار تقول : قَرَرْتُ بالمكان - بفتح الراء أقِر - بكسر القاف - إذا نزلت فيه - والأصل - اقررن - بكسر الراء - فحذفت الراء الأولى تخفيفا . . ونقلوا حركتها إلى القاف ، واستغنى عن ألف الوصل لتحرك القاف . . فصارت الكلمة { قِرن } - بكسر القاف - .
وقرأ عاصم ونافع { وقَرْن } - بفتح القاف - من قررت فى المكان - بكسرر الراء - إذا أقمت فيه . . والأصل اقْرَرْن بفتح الراء - فحذفت الراء الأولى لثقل التضعيف ، وألقيت حركتها على القاف . . فتقول : { قَرن } - بالفتح - للقاف - .
والمعنى : الْزَمْنَ يا نساء النبى صلى الله عليه وسلم بيوتكن ، ولا تخرجن منها إلا لحاجة مشروعة ، ومثلهن فى ذلك جميع النساء المسلمات ، لأن الخطاب لهن فى مثل هذه الأمور ، هو خطاب لغيرهن من النساء المؤمنات من باب أولى ، وإنما خاطب - سبحانه - أمهات المؤمنين على سبيل التشريف ، واقتداء غيرهن بهن .
قال بعض العلماء : والحكمة فى هذا الأمر : أن ينصرفن إلى رعاية شئون بيوتهن ، وتوفير وسائل الحياة المنزلية التى هى من خصائصهن ، ولا يحسنها الرجال ، وإلى تربية الأولاد فى عهد الطفولة وهى من شأنهن . وقد جرت السنة الإِلهية بأن أمر الزوجين قسمة بينهما ، فللرجل أعمال من خصائصهم لا يحسنها النساء ، وللنساء أعمال خصائصهن لا يحسنها الرجال ، فإذا تعدى أحد الفريقين عمله ، اختل النظام فى البيت والمعيشة .
وقال صاحب الظلال ما ملخصه : والبيت هو مثابة المرأة التى تجد فيها نفسها على حقيقتها كما أرادها الله - تعالى - ولكى يهيئ الإِسلام للبيت جوه السليم ، ويهيئ للفراخ الناشئة فيه رعايتها ، أوجب على الرجل النفقة ، وجعلها فريضة ، كى يتاح للأم من الجهد ومن الوقت ومن هدوء البال ، ما تشرف به على هذه الفراخ الزغب ، وما تهيئ به للمثابة نظامها وعطرها وبشاشتها .
فالأم المكدودة بالعمل وبمقتضياته وبمواعيده . . لا يمكن أن تهيئ للبيت جوه وعطره ، ولا يمكن أن تهيئ للطفولة النابتة فيه حقها ورعايتها .
إن خروج المرأة للعمل كارثة على البيت قد تبيحها الضرورة ، أما أن يتطوع بها الناس وهم قادرون على اجتنابها ، فتلك هى اللعنة التى تصيب الأرواح والضمائر والعقول ، فى عصور الانتكاس والشرور والضلال .
وهذه الجملة الكريمة ليس المقصود بها ملازمة البيوت فلا يبرحنها بإطلاق وإنما المقصود بها أن يكون البيت هو الأصل فى حياتهن ، ولا يخرجن إلا لحاجة مشروعة ، كأداء الصلاة فى المسجد ، وكأداء فريضة الحج وكزيارة الوالدين والآقارب ، وكقضاء مصالحهن التى لا تقضى إلا بهن .
. بشرط أن يكون خروجهن مصوحبا بالتستر والاحتشام وعدم التبذل .
ولذا قال - سبحانه - بعد هذا الأمر ، { وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى } .
وقوله : { تَبَرَّجْنَ } مأخوذ من البَرَج - بفتح الباء والراء - وهو سعة العين وحسنها ، ومنه قولهم : سفينة برجاء ، أى : متسعة ولا غطاء عليها .
والمراد به هنا : إظهار ما ينبغى ستره من جسد المرأة ، مع التكلف والتصنع فى ذلك .
والجاهلية الأولى ، بمعنى المتقدمة ، إذ يقال لكل متقدم ومتقدمة : أول وأولى .
أو المراد بها : الجاهلية الجهلاء التى كانت ترتكب فيها الفواحش بدون تحرج .
وقد فسروها بتفسيرات متعددة ، منها : قول مجاهد : كانت المرأة تخرج فتمشى بين يدي الرجال ، فذلك تبرج الجاهلية .
ومنها قول قتادة : كانت المرأة فى الجاهلية تمشى مشية فيها تكسر .
ومنها قول مقاتل : والتبرج : أنها تلقي الخمار على رأسها ، ولا تشده فيوارى قلائدها وعنقها .
ويبدو لنا أن التبرج المنهي عنه فى الآية الكريمة ، يشمل كل ذلك ، كما يشمل كل فعل تفعله المرأة ، ويكون هذا الفعل متنافيا مع آداب الإِسلام وتشريعاته .
والمعنى : الزمن يا نساء النبى بيوتكن ، فلا تخرجن إلا لحاجة مشروعة ، وإذا خرجتن فاخرجن فى لباس الحشمة والوقار ، ولا تبدي إحداكن شيئا أمرها الله - تعالى - بسرته وإخفائه ، واحذرن التشبيه بنساء أهل الجاهلية الأولى ، حيث كن يفعلن ما يثير شهوة الرجال ، ويلفت أنظارهم اليهن .
ثم أتبع - سبحانه - هذا المنهى بما يجعلهن على صلة طيبة بخالقهن - عز وجل - فقال : { وَأَقِمْنَ الصلاة } أى : داومن على إقامتها فى أوقاتها بخشوع وإخلاص . { وَآتِينَ الزكاة } التى فرضها الله - تعالى - عليكن . وخص - سبحانه - هاتين الفريضيتين بالذكر من بين سائر الفرائض ، لأنهما أساس العبادات البدنية والمالية .
{ وَأَطِعْنَ الله وَرَسُولَهُ } أى : فى كل ما تأتين وتتركن ، لا سيما فيما أمرتن به ، ونهيتين عنه .
وقوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } تعليل لما أمرن به من طاعات ، ولما نهين عنه من سيئات .
والرجس فى الأصل : يطلق على كل شئ مستقذر . وأريد به هنا : الذنوب والآثام وما يشبه ذلك من النقائص والأدناس .
وقوله { أَهْلَ البيت } منصوب على النداء ، أو على المدح . ويدخل فى أهل البيت هنا دخولا أوليا : نساؤه صلى الله عليه وسلم بقرينة سياق الآيات .
أى : إنما يريده الله - تعالى - بتلك الأوامر التى أمركن بها ، و بتلك النواهى التى نهاكن عنها ، أن يذهب عنكن الآثام والذنوب والنقائص ، وأن يطهركن من كل ذلك تطهيرا تاما كاملا .
قال الإِمام ابن كثير ما ملخصه : قوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت . . . } هذا نص فى دخول أزواج النبى صلى الله عليه وسلم فى أهل البيت ها هنا ، لأنهن سبب نزول هذه الآية .
وقدوردت أحاديث تدل على أن المراد أعم من ذلك ، فقد روى الإِمام أحمد بسنده - عن أنس بن مالك قال :
" إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمر بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر ، يقول : الصلاة يا أهل البيت : ثم يتلو هذه الآية . . " .
وقال بعض العلماء : والتحقيق - إن شاء الله - أنهن داخلات فى الآية ، بدليل السياق ، وإن كانت الآية تتناول غيرهن من أهل البيت .
ونظير ذلك من دخول الزوجات فى اسم أهل البيت ، قوله - تعالى - فى زوجة إبراهيم : { قالوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله رَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البيت } وأما الدليل على دخول غيرهن فى الآية ، فهو أحاديث جاءت " عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال فى على وفاطمة والحسن والحسين - رضى الله عنهم - : " إنهم أهل البيت " ودعا الله أن يذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيرا " .
وبما ذكرنا تعلم أن الصواب شمول الآية الكريمة لأزواج النبى صلى الله عليه وسلم ولعلى وفاطمة والحسن والحسين .
فإن قيل : الضمير فى قوله : { لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس } وفى قوله : { وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } ضمير الذكور ، فلو كان المراد أزواج النبى صلى الله عليه وسلم لقيل ليذهب عنكن ويطهركن ؟
فالجواب : ما ذكرناه من أن الآية تشملهن وتشمل فاطمة وعلى والحسن والحسين ، وقد أجمع أهل اللسان العربى على تغليب الذكور على الإِناث فى الجموع ونحوها . .
ومن أساليب اللغة العربية التى نزل بها القرآن ، أن زوجة الرجل يطلق عليها أهل ، وباعتبار لفظ الأهل تخاطب مخاطبة الجمع المذكر ، ومنه قوله - تعالى - فى موسى { فَقَالَ لأَهْلِهِ امكثوا } وقوله { سَآتِيكُمْ } والمخاطب امرأته كما قال غير واحد . .
وقال بعض أهل العلم : إن أهل البيت فى الآية هم من تحرم عليهم الصدقة .
من وقر . يقر . أي ثقل واستقر . وليس معنى هذا الأمر ملازمة البيوت فلا يبرحنها إطلاقا . إنما هي إيماءة لطيفة إلى أن يكون البيت هو الأصل في حياتهن ، وهو المقر وما عداه استثناء طارئا لا يثقلن فيه ولا يستقررن . إنما هي الحاجة تقضى ، وبقدرها .
والبيت هو مثابة المرأة التي تجد فيها نفسها على حقيقتها كما أرادها الله تعالى . غير مشوهة ولا منحرفة ولا ملوثة ، ولا مكدودة في غير وظيفتها التي هيأها الله لها بالفطرة .
" ولكي يهيئ الإسلام للبيت جوه ويهيىء للفراخ الناشئة فيه رعايتها ، أوجب على الرجل النفقة ، وجعلهافريضة ، كي يتاح للأم من الجهد ، ومن الوقت ، ومن هدوء البال ، ما تشرف به على هذه الفراخ الزغب ، وما تهيئ به للمثابة نظامها وعطرها وبشاشتها . فالأم المكدودة بالعمل للكسب ، المرهقة بمقتضيات العمل ، المقيدة بمواعيده ، المستغرقة الطاقة فيه . . لا يمكن أن تهب للبيت جوه وعطره ، ولا يمكن أن تمنح الطفولة النابتة فيه حقها ورعايتها . وبيوت الموظفات والعاملات ما تزيد على جو الفنادق والخانات ؛ وما يشيع فيها ذلك الأرج الذي يشيع في البيت . فحقيقة البيت لا توجد إلا أن تخلقها امرأة ، وأرج البيت لا يفوح إلا أن تطلقه زوجة ، وحنان البيت لا يشيع إلا أن تتولاه أم . والمرأة أو الزوجة أو الأم التي تقضي وقتها وجهدها وطاقتها الروحية في العمل لن تطلق في جو البيت إلا الإرهاق والكلال والملال .
" وإن خروج المرأة لتعمل كارثة على البيت قد تبيحها الضرورة . أما أن يتطوع بها الناس وهم قادرون على اجتنابها ، فتلك هي اللعنة التي تصيب الأرواح والضمائر والعقول ، في عصور الانتكاس والشرور والضلال " .
فأما خروج المرأة لغير العمل . خروجها للاختلاط ومزاولة الملاهي . والتسكع في النوادي والمجتمعات . . . فذلك هو الارتكاس في الحمأة الذي يرد البشر إلى مراتع الحيوان !
ولقد كان النساء على عهد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يخرجن للصلاة غير ممنوعات شرعا من هذا . ولكنه كان زمان فيه عفة ، وفيه تقوى ، وكانت المرأة تخرج إلى الصلاة متلفعة لا يعرفها أحد ، ولا يبرز من مفاتنها شيء . ومع هذا فقد كرهت عائشة لهن أن يخرجن بعد وفاة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] !
في الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت : كان نساء المؤمنين يشهدن الفجر مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ثم يرجعن متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس .
وفي الصحيحين أيضا أنها قالت : لو أدرك رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ما أحدث النساء لمنعهن من المساجد ، كما منعت نساء بني إسرائيل !
فماذا أحدث النساء في حياة عائشة - رضي الله عنها - ? وماذا كان يمكن أن يحدثن حتى ترى أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كان مانعهن من الصلاة ? ! ماذا بالقياس إلى ما نراه في هذه الأيام ? !
( ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ) . .
ذلك حين الاضطرار إلى الخروج ، بعد الأمر بالقرار في البيوت . ولقد كانت المرأة في الجاهلية تتبرج . ولكن جميع الصور التي تروى عن تبرج الجاهلية الأولى تبدو ساذجة أو محتشمة حين تقاس إلى تبرج أيامنا هذه في جاهليتنا الحاضرة !
قال مجاهد : كانت المرأة تخرج تمشي بين الرجال . فذلك تبرج الجاهلية !
وقال قتادة : وكانت لهن مشية تكسر وتغنج . فنهى الله تعالى عن ذلك !
وقال مقاتل بن حيان : والتبرج أنها تلقي الخمار على رأسها ولا تشده فيداري قلائدها وقرطها وعنقها ، ويبدو ذلك كله منها . وذلك التبرج !
وقال ابن كثير في التفسير : كانت المرأة منهن تمر بين الرجال مسفحة بصدرها لا يواريه شيء ؛ وربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها وأقرطة آذانها . فأمر الله المؤمنات أن يستترن في هيئاتهن وأحوالهن .
هذه هي صور التبرج في الجاهلية التي عالجها القرآن الكريم . ليطهر المجتمع الإسلامي من آثارها ويبعد عنه عوامل الفتنة ، ودواعي الغواية ؛ ويرفع آدابه وتصوراته ومشاعره وذوقه كذلك !
ونقول : ذوقه . . فالذوق الإنساني الذي يعجب بمفاتن الجسد العاري ذوق بدائي غليظ . وهو من غير شك أحط من الذوق الذي يعجب بجمال الحشمة الهادئ ، وما يشي به من جمال الروح ، وجمال العفة ، وجمال المشاعر .
وهذا المقياس لا يخطئ في معرفة ارتفاع المستوى الإنساني وتقدمه . فالحشمة جميلة جمالا حقيقيا رفيعا . ولكن هذا الجمال الراقي لا يدركه أصحاب الذوق الجاهلي الغليظ ، الذي لا يرى إلا جمال اللحم العاري ، ولا يسمع إلا هتاف اللحم الجاهر !
ويشير النص القرآني إلى تبرج الجاهلية ، فيوحي بأن هذا التبرج من مخلفات الجاهلية . التي يرتفع عنها من تجاوز عصر الجاهلية ، وارتفعت تصوراته ومثله ومشاعره عن تصورات الجاهلية ومثلها ومشاعرها .
والجاهلية ليست فترة معينة من الزمان . إنما هي حالة اجتماعية معينة ، ذات تصورات معينة للحياة . ويمكن أن توجد هذه الحالة ، وأن يوجد هذا التصور في أي زمان وفي أي مكان ، فيكون دليلا على الجاهلية حيث كان !
وبهذا المقياس نجد أننا نعيش الآن في فترة جاهلية عمياء ، غليظة الحس ، حيوانية التصور ، هابطة في درك البشرية إلى حضيض مهين . وندرك أنه لا طهارة ولا زكاة ولا بركة في مجتمع يحيا هذه الحياة ؛ ولا يأخذ بوسائل التطهر والنظافة التي جعلها الله سبيل البشرية إلى التطهر من الرجس ، والتخلص من الجاهلية الأولى ؛ وأخذ بها ، أول من أخذ ، أهل بيت النبي [ صلى الله عليه وسلم ] على طهارته ووضاءته ونظافته .
والقرآن الكريم يوجه نساء النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إلى تلك الوسائل ؛ ثم يربط قلوبهن بالله ، ويرفع أبصارهن إلى الأفق الوضيء الذي يستمددن منه النور ، والعون على التدرج في مراقي ذلك الأفق الوضيء :
( وأقمن الصلاة ، وآتين الزكاة ، وأطعن الله ورسوله ) . .
وعبادة الله ليست بمعزل عن السلوك الاجتماعي أو الأخلاقي في الحياة ؛ إنما هي الطريق للإرتفاع إلى ذلك المستوى ؛ والزاد الذي يقطع به السالك الطريق . فلا بد من صلة بالله يأتي منها المدد والزاد . ولا بد من صلة بالله تطهر القلب وتزكيه . ولا بد من صلة بالله يرتفع بها الفرد على عرف الناس وتقاليد المجتمع وضغط البيئة ؛ ويشعر أنه أهدى وأعلى من الناس والمجتمع والبيئة . وأنه حري أن يقود الآخرين إلى النور الذي يراه ؛ لا أن يقوده الآخرون إلى الظلمات وإلى الجاهلية التي تغرق فيها الحياة ، كلما انحرفت عن طريق الله .
والإسلام وحدة تجمع الشعائر والآداب والأخلاق والتشريعات والنظم . . كلها في نطاق العقيدة . ولكل منها دور تؤديه في تحقيق هذه العقيدة ؛ وتتناسق كلها في اتجاه واحد ؛ ومن هذا التجمع والتناسق يقوم الكيان العام لهذا الدين . وبدونهما لا يقوم هذا الكيان .
ومن ثم كان الأمر بإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وطاعة الله ورسوله ، هو خاتمة التوجيهات الشعورية والأخلاقية والسلوكية لأهل البيت الكريم . لأنه لا يقوم شيء من تلك التوجيهات بغير العبادة والطاعة . . وكل ذلك لحكمة وقصد وهدف :
( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) . .
وفي التعبير إيحاءات كثيرة ، كلها رفاف ، رفيق ، حنون . .
فهو يسميهم ( أهل البيت )بدون وصف للبيت ولا إضافة . كأنما هذا البيت هو( البيت )الواحد في هذا العالم ، المستحق لهذه الصفة . فإذا قيل( البيت )فقد عرف وحدد ووصف . ومثل هذا قيل عن الكعبة . بيت الله . فسميت البيت . والبيت الحرام . فالتعبير عن بيت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كذلك تكريم وتشريف واختصاص عظيم .
وهو يقول : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس - أهل البيت - ويطهركم تطهيرا ) . . وفي العبارة تلطف ببيان علة التكليف وغايته . تلطف يشي بأن الله سبحانه - يشعرهم بأنه بذاته العلية - يتولى تطهيرهم وإذهاب الرجس عنهم . وهي رعاية علوية مباشرة بأهل هذا البيت . وحين نتصور من هو القائل - سبحانه وتعالى - رب هذا الكون . الذي قال للكون : كن . فكان . الله ذو الجلال والإكرام . المهيمن العزيز الجبار المتكبر . . حين نتصور من هو القائل - جل وعلا - ندرك مدى هذا التكريم العظيم .
وهو - سبحانه - يقول هذا في كتابه الذي يتلى في الملأ الأعلى ، ويتلى في هذه الأرض ، في كل بقعة وفي كل أوان ؛ وتتعبد به ملايين القلوب ، وتتحرك به ملايين الشفاه .
وأخيرا فإنه يجعل تلك الأوامر والتوجيهات وسيلة لإذهاب الرجس وتطهير البيت . فالتطهير من التطهر ، وإذهاب الرجس يتم بوسائل يأخذ الناس بها أنفسهم ، ويحققونها في واقع الحياة العملي . وهذا هو طريق الإسلام . . شعور وتقوى في الضمير . وسلوك وعمل في الحياة . يتم بهما معا تمام الإسلام ، وتتحقق بهما أهدافه واتجاهاته في الحياة .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنّ ، فقرأته عامة قرّاء المدينة وبعض الكوفيين : وَقَرْنَ بفتح القاف ، بمعنى : واقررن في بيوتكنّ ، وكأن من قرأ ذلك كذلك حذف الراء الأولى من اقررن ، وهي مفتوحة ، ثم نقلها إلى القاف ، كما قيل : فَظَلْتُمْ تَفَكّهُونَ ، وهو يريد فظللتم ، فأسقطت اللام الأولى ، وهي مكسورة ، ثم نُقلت كسرتها إلى الظاء . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة والبصرة «وَقِرْنَ » بكسر القاف ، بمعنى : كنّ أهل وقار وسكينة فِي بُيُوتِكُنّ .
وهذه القراءة ، وهي الكسر في القاف أَولى عندنا بالصواب ، لأن ذلك إن كان من الوقار على ما اخترنا ، فلا شكّ أن القراءة بكسر القاف ، لأنه يقال : وقر فلان في منزله فهو يقر وقورا ، فتكسر القاف في تفعل فإذا أمر منه قيل : قرّ ، كما يقال من وزن : يزن زن ، ومن وَعد : يعِد عِد . وإن كان من القرار ، فإن الوجه أن يقال : اقررن ، لأن من قال من العرب : ظلت أفعل كذا ، وأحست بكذا ، فأسقط عين الفعل ، وحوّل حركتها إلى فائه في فعل وفعلنا وفعلتم ، لم يفعل ذلك في الأمر والنهِي ، فلا يقول : ظلّ قائما ، ولا تظلّ قائما ، فليس الذي اعتلّ به من اعتلّ لصحة القراءة بفتح القاف في ذلك يقول العرب في ظللت وأحسست ظلت ، وأحست بعلة توجب صحته لما وصفت من العلة . وقد حكى بعضهم عن بعض الأعراب سماعا منه : ينحطن من الجبل ، وهو يريد : ينحططن . فإن يكن ذلك صحيحا ، فهو أقرب إلى أن يكون حجة لأهل هذه القراءة من الحجة الأخرى .
وقوله : وَلا تَبَرّجْنَ تُبرّجَ الجاهِلِيّةِ الأُولى قيل : إن التبرّج في هذا الموضع التبخْتُر والتكسّر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَلا تَبرّجْنَ تَبرّجَ الجاهِلِيّةِ الأُولى : أي إذا خرجتن من بيوتكنّ قال : كانت لهن مشية وتكسّر وتغنّج ، يعني بذلك الجاهلية الأولى فنهاهنّ الله عن ذلك .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : سمعت ابن أبي نجيح ، يقول في قوله : وَلا تَبَرّجْنَ تَبرّجَ الجاهِلِيّةِ الأُولى قال : التبختر . وقيل : إن التبرّج هو إظهار الزينة ، وإبراز المرأة محاسنها للرجال .
وأما قوله : تَبرّجَ الجاهِلِيّةِ الأُولى فإن أهل التأويل اختلفوا في الجاهلية الأولى ، فقال بعضهم : ذلك ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن زكريا ، عن عامر وَلا تَبرّجْنَ تَبرّجَ الجاهِلِيّةِ الأُولى قال : الجاهلية الأولى : ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام .
وقال آخرون : ذلك ما بين آدم ونوح . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن أبيه ، عن الحكم وَلا تَبرّجْنَ تَبرّجَ الجاهِلِيّةِ الأُولى قال : وكان بين آدم ونوح ثمان مائة سنة ، فكان نساؤهم من أقبح ما يكون من النساء ، ورجالهم حسان ، فكانت المرأة تريد الرجل على نفسه ، فأنزلت هذه الاَية : وَلا تَبرّجْنَ تَبرّجَ الجاهِلِيّةِ الأُولى .
وقال آخرون : بل ذلك بين نوح وإدريس . ذكر من قال ذلك :
حدثني ابن زهير ، قال : حدثنا موسى بن إسماعيل ، قال : حدثنا داود ، يعني ابن أبي الفرات ، قال : حدثنا علباء بن أحمر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : تلا هذه الاَية : وَلا تَبرّجْنَ تَبرّجَ الجاهِلِيّةِ الأُولى قال : كان فيما بين نوح وإدريس ، وكانت ألف سنة ، وإن بطنين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل ، والاَخر يسكن الجبل ، وكان رجال الجبل صباحا ، وفي النساء دمامة ، وكان نساء السهل صباحا ، وفي الرجال دمامة ، وإن إبليس أتى رجلاً من أهل السهل في صورة غلام ، فأجر نفسه منه ، وكان يخدمه ، واتخذ إبليس شيئا مثل ذلك الذي يزمر فيه الرّعاء ، فجاء فيه بصوت لم يسمع مثله ، فبلغ ذلك من حولهم ، فانتابوهم يسمعون إليه ، واتخذوا عيدا يجتمعون إليه في السنة ، فتتبرّج الرجال للنساء . قال : ويتزين النساء للرجال ، وإن رجلاً من أهل الجبل هجم عليهم وهم في عيدهم ذلك ، فرأى النساء ، فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك ، فتحوّلوا إليهنّ ، فنزلوا معهنّ ، فظهرت الفاحشة فيهنّ ، فهو قول الله : وَلا تَبرّجْنَ تَبرّجَ الجاهِلِيّةِ الأُولى .
وأَولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره نهى نساء النبيّ أن يتبرّجن تبرّج الجاهلية الأولى ، وجائز أن يكون ذلك ما بين آدم وعيسى ، فيكون معنى ذلك : ولا تبرّجن تبرّج الجاهلية الأولى التي قبل الإسلام .
فإن قال قائل : أَوَ في الإسلام جاهلية حتى يقال : عنى بقوله الجاهِلِيّةِ الأولى التي قبل الإسلام ؟ قيل : فيه أخلاقٌ من أخلاق الجاهلية . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلا تَبرّجْنَ تَبرّجَ الجاهِلِيّةِ الأُولى قال : يقول : التي كانت قبل الإسلام ، قال : وفي الإسلام جاهلية ؟ قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي الدرداء ، وقال للرجل وهو ينازعه : يا ابْن فلانة ، لأُمّ كان يعيره بها في الجاهلية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا أبا الدّرْدَاءِ إنّ فِيكَ جاهِلِيّةً » ، قال : أجاهلية كفر أو إسلام ؟ قال : «بل جاهِلِيّةُ كُفْرٍ » ، قال : فتمنيت أن لو كنت ابتدأت إسلامي يومئذ . قال : وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «ثَلاثٌ مِنْ عَمَلِ أهْلِ الجاهِلِيّةِ لا يَدَعُهُنّ النّاسُ : الطّعْنُ بالأنْساب ، والإسْتِمْطارُ بالكَوَاكِبِ ، والنّياحَةُ » .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، قال : أخبرني سليمان بن بلال ، عن ثور ، عن عبد الله بن عباس ، أن عمر بن الخطاب ، قال له : أرأيت قول الله لأزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم : وَلا تَبرّجْنَ تَبرّجَ الجاهِلِيّةِ الأُولى هل كانت إلا واحدة ، فقال ابن عباس : وهل كانت من أُولى إلا ولها آخرة ؟ فقال عمر : لله درك يابن عباس ، كيف قلت ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، هل كانت من أُولى إلا ولها آخرة ؟ قال : فأت بتصديق ما تقول من كتاب الله ، قال : نعم وَجاهِدُوا فِي اللّهِ حَقّ جِهادِهِ : كمَا جاهَدْتُمْ أوّلَ مَرّةٍ . قال عمر : فمن أُمر بالجهاد ؟ قال : قبيلتان من قريش : مخزوم ، وبنو عبد شمس ، فقال عمر : صدقت .
وجائز أن يكون ذلك ما بين آدم ونوح . وجائز أن يكون ما بين إدريس ونوح ، فتكون الجاهلية الاَخرة ، ما بين عيسى ومحمد ، وإذا كان ذلك مما يحتمله ظاهر التنزيل . فالصواب أن يقال في ذلك ، كما قال الله : إنه نهى عن تبرّج الجاهلية الأولى .
وقوله : وأقِمْنَ الصّلاةَ وآتِينَ الزّكاةَ يقول : وأقمن الصلاة المفروضة ، وآتين الزكاة الواجبة عليكنّ في أموالكنّ ، وَأطِعْنَ اللّهَ وَرَسُولهُ فيما أمراكنّ ونهياكنّ . إنّمَا يُريدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أهْلَ البَيْتِ يقول : إنما يريد الله ليذهب عنكم السوء والفحشاء يا أهل بيت محمد ، ويطهركم من الدنس الذي يكون في أهل معاصي الله تطهيرا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّمَا يَرِيدُ اللّهُ ليُذْهبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهّركُمْ تَطْهيرا . فهم أهل بيت طهرهم الله من السوء ، وخصهم برحمة منه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنّمَا يُرِيدُ اللّهُ ليُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهيرا ، قال : الرجس ههنا : الشيطان ، وسوى ذلك من الرجس : الشرك .
اختلف أهل التأويل في الذين عنوا بقوله أهْلَ البَيْتِ فقال بعضهم : عني به رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليّ وفاطمة والحسن والحسين رضوان الله عليهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا بكر بن يحيى بن زبان العنزي ، قال : حدثنا مندل ، عن الأعمش ، عن عطية ، عن أبي سعيد الخدريّ ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «نَزَلَتْ هَذِهِ الاَيَةُ فِي خَمْسَةٍ : فِيّ ، وفِي عليّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ ، وَحَسَنٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ ، وَحُسَيْنٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ ، وَفاطِمَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْها » إنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيرا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن بشر ، عن زكريا ، عن مصعب بن شيبة ، عن صفية بنت شيبة قالت : قالت عائشة : خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم ذات غداة ، وعليه مِرْطٌ مُرَجّلٌ من شعر أسود ، فجاء الحسن ، فأدخله معه ، ثم قال : إنّمَا يُريدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيرا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، عن حماد بن سلمة ، عن عليّ بن زيد ، عن أنس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يمرّ ببيت فاطمة ستة أشهر ، كلما خرج إلى الصلاة فيقول : «الصّلاةَ أهْلَ البَيْتِ » إنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهيرَا .
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : حدثنا يحيى بن إبراهيم بن سويد النخعي ، عن هلال ، يعني ابن مقلاص ، عن زبيد ، عن شهر بن حوشب ، عن أمّ سلمة ، قالت : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم عندي ، وعليّ وفاطمة والحسن والحسين ، فجعلت لهم خزيرة ، فأكلوا وناموا ، وغطى عليهم عباءة أو قطيفة ، ثم قال : «اللّهُمّ هَؤُلاءِ أهْلُ بَيْتِي ، أذْهِبْ عَنْهُمُ الرّجْسَ وَطَهّرْهُمْ تَطْهِيرا » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا يونس بن أبي إسحاق ، قال : أخبرني أبو داود ، عن أبي الحمراء ، قال : رابطت المدينة سبعة أشهر على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا طلع الفجر ، جاء إلى باب عليّ وفاطمة فقال : «الصّلاةَ الصّلاةَ » إنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيرا .
حدثني عبد الأعلى بن واصل ، قال : حدثنا الفضل بن دكين ، قال : حدثنا يونس بن أبي إسحاق ، بإسناده عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، مثله .
حدثني عبد الأعلى بن واصل ، قال : حدثنا الفضل بن دكين ، قال : حدثنا عبد السلام بن حرب ، عن كلثوم المحاربي ، عن أبي عمار ، قال : إني لجالس عند واثلة بن الأسقع إذ ذكروا عليا رضي الله عنه ، فشتموه فلما قاموا ، قال : اجلس حتى أخبرك عن هذا الذي شتموا ، إني عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ جاءه عليّ وفاطمة وحسن وحسين ، فألقى عليهم كساء له ، ثم قال : «اللّهُمّ هَؤُلاءِ أهْلُ بَيْتِي ، اللّهُمّ أذْهِبْ عَنْهُمُ الرّجْسَ وَطَهّرْهُمْ تَطْهيرا » . قلت : يا رسول الله وأنا ؟ قال : «وأنْتَ » قال : فوالله إنها لأوثق عملي عندي .
حدثني عبد الكريم بن أبي عمير ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : حدثنا أبو عمرو ، قال : ثني شدّاد أبو عمار قال : سمعت واثلة بن الأسقع يحدّث ، قال : سألت عن عليّ بن أبي طالب في منزله ، فقالت فاطمة : قد ذهب يأتي برسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ جاء ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلت ، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على الفراش وأجلس فاطمة عن يمينه ، وعليا عن يساره وحسنا وحسينا بين يديه ، فلفع عليهم بثوبه وقال : «إنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيرا . اللّهُمّ هَؤلاءِ أهْلي ، اللّهُمّ أهْلي أحَقّ » . قال واثلة : فقلت من ناحية البيت : وأنا يا رسول الله من أهلك ؟ قال : «وأنت من أهلي » ، قال واثلة : إنها لمن أَرْجَى ما أرتجي .
حدثني أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن عبد الحميد بن بهرام ، عن شهر بن حوشب ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية ، عن أبي سعيد الخدري ، عن أمّ سلمة ، قالت : لما نزلت هذه الاَية : إنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيرا ، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا ، فجلل عليهم كساء خَيبريا ، فقال : «اللّهُمّ هَؤُلاءِ أهْلُ بَيْتِي ، اللّهُمّ أذْهِبْ عَنْهُمُ الرّجْسَ وَطَهّرْهُمْ تَطْهِيرا » قالت أمّ سلمة : ألستُ منهم ؟ قال : أنت إلى خَيْرٍ .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا مصعب بن المقدام ، قال : حدثنا سعيد بن زربي ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة ، عن أمّ سلمة ، قالت : جاءت فاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بُبْرَمة لها قد صنعت فيها عصيدة تحلها على طبق ، فوضعته بين يديه ، فقال : «أين ابن عمك وابناك ؟ » فقالت : في البيت ، فقال : «ادعيهم » ، فجاءت إلى عليّ ، فقالت : أجب النبيّ صلى الله عليه وسلم أنت وابناك . قالت أمّ سلمة : فلما رآهم مقبلين مدّ يده إلى كساء كان على المنامة فمدّه وبسطه وأجلسهم عليه ، ثم أخذ بأطراف الكساء الأربعة بشماله ، فضمه فوق رؤوسهم وأومأ بيده اليمنى إلى ربه ، فقال : «هَؤُلاءِ أهْلُ البَيْتِ ، فأذْهِبْ عَنْهُمُ الرّجْسَ وَطَهّرْهُمْ تَطْهِيرا » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا حسن بن عطية ، قال : حدثنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية ، عن أبي سعيد عن أمّ سلمة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم أن هذه الاَية نزلت في بيتها { إنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيرا } قالت : وأنا جالسة على باب البيت ، فقلت : أنا يا رسول الله ألست من أهل البيت ؟ قال : «إنّكِ إلى خَيْرٍ ، أنْتِ مِنْ أزْوَاجِ النّبِيّ صلى اللّهُ عليهِ وسلّمَ » قالت : وفي البيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليّ وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا خالد بن مخلد ، قال : حدثنا موسى بن يعقوب ، قال : ثني هاشم بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، عن عبد الله بن وهب بن زمعة ، قال : أخبرتني أمّ سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع عليا والحَسنين ، ثم أدخلهم تحت ثوبه ، ثم جأر إلى الله ، ثم قال : «هؤلاء أهل بيتي » ، فقالت أمّ سلمة : يا رسول الله أدخلني معهم ، قال : «إنّكِ مِنْ أهْلِي » .
حدثني أحمد بن محمد الطوسي ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن صالح ، قال : حدثنا محمد بن سليمان الأصبهاني ، عن يحيى بن عبيد المكي ، عن عطاء ، عن عمر بن أبي سلمة ، قال : نزلت هذه الاَية على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو في بيت أمّ سلمة إنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيرا فدعا حسنا وحُسينا وفاطمة ، فأجلسهم بين يديه ، ودعا عليا فأجلسه خلفه ، فتجلّل هو وهم بالكساء ثم قال : «هَؤُلاءِ أهْلُ بَيْتِي ، فَأذْهِبْ عَنْهُمُ الرّجْسَ وَطَهّرْهُمْ تَطْهِيرا » قالت أم سلمة : أنا معهم . قال : مكانك وأنْتِ على خَيْرٍ .
حدثني محمد بن عمارة ، قال : حدثنا إسماعيل بن أبان ، قال : حدثنا الصباح بن يحيى المرّيّ ، عن السديّ ، عن أبي الديلم ، قال : قال عليّ بن الحسين لرجل من أهل الشام : أما قرأت في الأحزاب : إنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيرا قال : ولأنتم هم ؟ قال : نعم .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، قال : حدثنا بكير بن مسمار ، قال : سمعت عامر بن سعد ، قال : قال سعد : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزل عليه الوحي ، فأخذ عليا وابنيه وفاطمة ، وأدخلهم تحت ثوبه ، ثم قال : «رَبّ هَؤُلاءِ أهْلِي وأهْلُ بَيْتِي » .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا عبد الله بن عبد القدوس ، عن الأعمش ، عن حكيم بن سعد ، قال : ذكرنا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه عند أمّ سلمة قالت : فيه نزلت : إنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيرا . قالت أمّ سلمة : جاء النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى بيتي ، فقال : «لا تَأْذَنِي لأَحَدٍ » ، فجاءت فاطمة ، فلم أستطع أن أحجبها عن أبيها ، ثم جاء الحسن ، فلم أستطع أن أمنعه أن يدخل على جدّه وأمه ، وجاء الحسين ، فلم أستطع أن أحجبه ، فاجتمعوا حول النبيّ صلى الله عليه وسلم على بساط ، فجللهم نبيّ الله بكساء كان عليه ، ثم قال : «هَؤُلاءِ أهْلُ بَيْتِي ، فَأذْهِبْ عَنْهُمُ الرّجْسَ وَطَهّرْهُمْ تَطْهِيرا » ، فنزلت هذه الاَية حين اجتمعوا على البساط . قالت : فقلت : يا رسول الله : وأنا ، قالت : فوالله ما أنعم . وقال : «إنّكِ إلى خَيْرٍ » .
وقال آخرون : بل عنى بذلك أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الأصبغ ، عن علقمة ، قال : كان عكرمة ينادي في السوق : إنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيرا . قال : نزلت في نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة .
قرأ الجمهور «وقِرن » بكسر القاف ، وقرأ عاصم ونافع «وقَرن » بالفتح ، فأما الأولى فيصح أن تكون من الوقار تقول وقر يقر فقرن مثل عدن أصله أو قرن ، ويصح أن تكون من القرار وهو قول المبرد تقول قررت بالمكان بفتح القاف والراء أقر ، فأصله أقررن حذفت الراء الواحدة تخفيفاً ، كما قالوا في ظللت ظلت ، ونقلوا حركتها إلى القاف ، واستغني عن الألف{[9509]} ، وقال أبو علي : بل أعل بأن أبدلت الراء ياء ونقلت حركتها إلى القاف ثم حذفت الياء لسكونها وسكون الراء بعدها ، وأما من فتح القاف فعلى لغة العرب قرِرت بكسر الراء أقر بفتح القاف في المكان وهي لغة ذكرها أبو عبيد في الغريب المصنف ، وذكرها الزجاج وغيره ، وأنكرها قوم ، منهم المازني وغيره ، قالوا وإنما يقال قررت بكسر الراء من قرت العين ، وأما من القرار فإنما هو من قررت بفتح الراء ، وقرأ عاصم «في بِيوتكن » بكسر الباء ، وقرأ ابن أبي عبلة «واقرِرن » بألف وصل وراءين الأولى مكسورة ، فأمر الله تعالى في هذه الآية نساء النبي بملازمة بيوتهن ونهاهن عن التبرج وأعلمهن أنه فعل { الجاهلة الأولى } ، وذكر الثعلبي وغيره أن عائشة رضي الله عنها كانت إذا قرأت هذه الآية تبكي حتى تبل خمارها ، وذكر أن سودة قيل لها لم لا تحجين ولا تعتمرين كما يفعل أخواتك ، فقالت قد حججت واعتمرت وأمرني الله تعالى أن أقر في بيتي قال الراوي : فوالله ما خرجت من باب حجرتها حتى خرجت جنازتها .
قال القاضي أبو محمد : وبكاء عائشة رضي الله عنها إنما كان بسبب سفرها أيام الجمل وحينئذ قال لها عمار : إن الله أمرك أن تقري في بيتك ، و «التبرج » ، إظهار الزينة والتصنع بها ومنه البروج لظهورها وانكشافها للعيون ، واختلف الناس في { الجاهلية الأولى } فقال الحكم بن عيينة ما بين آدم ونوح وهي ثمانمائة سنة ، وحكيت لهم سير ذميمة ، وقال الكلبي وغيره ما بين نوح وإبراهيم ، وقال ابن عباس ما بين نوح وإدريس وذكر قصصاً ، وقالت فرقة ما بين موسى وعيسى ، وقال عامر الشعبي ما بين عيسى ومحمد ، وقال أبو العالية هو زمان سليمان وداود كان فيه للمرأة قميص من الدر غير مخيط الجانبيين .
قال الفقيه الإمام القاضي : والذي يظهر عندي أنه أشار إلى الجاهلية التي لحقتها فأمرن بالنقلة عن سيرتهن فيها ، وهي ما كان قبل الشرع من سيرة الكفرة لأنهم كانوا لا غيرة عندهم فكان أمر النساء دون حجبة ، وجعلها أولى بالإضافة إلى حالة الإسلام ، وليس المعنى أن ثم جاهلية أخرى ، وقد مر اسم الجاهلية على تلك المدة التي قبيل الإسلام فقالوا جاهلي في الشعراء ، وقال ابن عباس في البخاري سمعت أبي في { الجاهلية } يقول إلى غير هذا ، و { الرجس } اسم يقع على الإثم وعلى العذاب وعلى النجاسات والنقائص ، فأذهب الله جميع ذلك عن { أهل البيت } ، ونصب { أهل البيت } على المدح أو على النداء المضاف ، أو بإضمار أعني ، واختلف الناس في { أهل البيت } من هم ، فقال عكرمة ومقاتل وابن عباس هم زوجاته خاصة لا رجل معهن ، وذهبوا إلى أن البيت أريد به مساكن النبي صلى الله عليه وسلم .
وقالت فرقة : هي الجمهور { أهل البيت } علي وفاطمة والحسن والحسين ، وفي هذا أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال أبو سعيد الخدري : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «نزلت هذه الآية في خمسة فيّ وفي علي وفاطمة والحسن والحسين {[9510]} » رضي الله عنهم ، ومن حجة الجمهور قوله { عنكم } و { يطهركم } بالميم ، ولو كان النساء خاصة لكان عنكن .
قال القاضي أبو محمد : والذي يظهر إليّ أن زوجاته لا يخرجن عن ذلك البتة ، ف { أهل البيت } زوجاته وبنته وبنوها وزوجها ، وهذه الآية تقضي أن الزوجات من { أهل البيت } لأن الآية فيهن والمخاطبة لهن ، أما أن أم سلمة قالت نزلت هذه الآية في بيتي فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فدخل معهم تحت كساء خيبري وقال «هؤلاء أهل بيتي » ، وقرأ الآية وقال اللهم «أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً » ، قالت أم سلمة فقلت : وأنا يا رسول الله ، فقال «أنت من أزواج النبي وأنت إلي خير »{[9511]} ، وقال الثعلبي قيل هم بنو هاشم فهذا على أن { البيت } يراد به بيت النسب ، فيكون العباس وأعمامه وبنو أعمامه منهم ، وروي نحوه عن زيد بن أرقم رضي الله عنه .