تفسّحوا في المجالس : توسّعوا . ولْيفسحْ بعضكم لبعض . فسح له في المجلس : وسّع له ليجلس . يفسح الله لكم : في رحمته ويوسع لكم في أرزاقكم .
انشُزوا : انهضوا لتوسعوا للقادمين .
يرفع الله الذين آمنوا : يعلي مكانتهم ، ويرفع أهل العلم كذلك .
بعد أن أدّب الكتابُ المؤمنين بأدب الحديث والبعدِ عما يكون سبباً للتباغض من التناجي بالإثم والعدوان ، علّمهم كيف يعاملون بعضَهم في المجالس ، من التوسُّع فيها للقادمين ، والنهوض إذا طُلب إليهم ذلك ، وأشار إلى أن الله يُعلي مكانة المؤمنين المخلصين ، والذين أوتوا العلم بدرجاتٍ من عنده { والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .
فالآية فيها أدبٌ جَمٌّ وتشمل التوسع في إيصال جميع أنواع الخير إلى المسلم وإدخال السرور عليه ، كما قال الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام : لا يزالُ اللهُ في عَوْنِ العبد ما دام العبدُ في عون أخيه .
قرأ عاصم : بالمجالس بالجمع ، وقرأ الباقون : بالمجلس على الإفراد ، وقرأ عاصم ونافع وابن عامر انشزوا بضم الشين ، والباقون : انشِزوا بكسر الشين ، وهما لغتان .
عن مالك قال: إن الآية في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ومجالسنا هذه، وإن الآية عامة في كل مجلس. قوله تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات}... عن مالك: إن قوله: {يرفع الله الذين آمنوا} الصحابة، {والذين أوتوا العلم درجات}، يرفع الله بها العالم والطالب للحق...
قال الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن عبيد الله ابن عمر ابن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يقيمن أحدكم الرجل من مجلسه ثم يخلفه فيه، ولكن تفسحوا وتوسعوا». قال الشافعي: وأكره الرجل من كان إماما أو غير إمام أن يقيم رجلا من مجلسه ثم يجلس فيه، ولكن نأمرهم أن يتفسحوا. (الأم: 1/204.)...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله" إذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسّحُوا فِي المَجالِسِ "يعني بقوله "تفسّحُوا": توسعوا، من قولهم: مكان فسيح إذا كان واسعا.
واختلف أهل التأويل في المجلس الذي أمر الله المؤمنين بالتفسح فيه؛ فقال بعضهم: ذلك كان مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة...
عن قتادة، في قوله "تَفَسّحُوا فِي المَجْلِسِ" قال: كان الناس يتنافسون في مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم فقيل لهم: {إذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسّحُوا فِي المَجْلِس فافْسَحُوا}...
وقال آخرون: بل عُنِي بذلك في مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب...
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أمر المؤمنين أن يتفسحوا في المجلس، ولم يخصص بذلك مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم دون مجلس القتال، وكلا الموضعين يقال له مجلس، فذلك على جميع المجالس من مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومجالس القتال...
وقوله: {فافْسَحُوا} يقول: فوسعوا "يَفْسَحِ اللّهُ لَكُمْ" يقول: يوسع الله منازلكم في الجنة.
{وإذَا قِيلَ انْشُزُوا فانْشُزُوا} يقول تعالى ذكره: وإذا قيل ارتفعوا، وإنما يُراد بذلك: وإذا قيل لكم قوموا إلى قتال عدوّ، أو صلاة، أو عمل خير، أو تفرّقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقوموا...
وقوله: {يَرْفَعِ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالّذِينَ أُوتُوا العِلْم دَرَجاتٍ} يقول تعالى ذكره: يرفع الله المؤمنين منكم أيها القوم بطاعتهم ربهم فما أمرهم به من التفسح في المجلس إذا قيل لهم تفسحوا، أو بنشوزهم إلى الخيرات إذا قيل لهم انشزوا إليها، ويرفع الله الذين أوتوا العلم من أهل الإيمان على المؤمنين الذين لم يؤتوا العلم بفضل علمهم درجات، إذا عملوا بما أمروا به..
وقوله: {واللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} يقول تعالى ذكره: والله بأعمالكم أيها الناس ذو خبرة، لا يخفى عليه المطيع منكم ربه من العاصي، وهو مجاز جميعكم بعمله المحسن بإحسانه، والمسيئ بالذي هو أهله، أو يعفو.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم} الآية: يخرج على وجهين:
أحدهما: {إذا قيل لكم تفسحوا} أي إذا قيل لكم: تأخروا في المجالس فتأخروا، {وإذا قيل انشزوا فانشزوا} أي ارتفعوا، وتقدموا، فيكون قوله: {تفسحوا} إذا كان الحضور أولا هم الذين همهم السماع والعمل به دون أخذه والتفقه فيه، قيل لهم: تأخروا حتى يقرب من يصير إماما للناس وفقيها لهم. وإذا كان الحضور هم الذين، همهم التفقه، وهم الأئمة، ثم جاء بعد ذلك من كان همهم السماع والعمل به، قيل للذين تقدموا أولا: ارتفعوا، أو تقدموا، حتى يسمع من حضر بعدكم قول النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.
والثاني: أنه إذا كان في المجلس أدنى سعة أو فسحة ما يمكن غيره من التحريك والتفسح دون القيام يقال لهم: تفسحوا، وإذا لم يمكن ذلك إلا بالقيام قيل لهم: قوموا وارتفعوا، وتقدموا.
وقوله تعالى: {يفسح الله لكم} يحتمل وجوها؛
أحدها: {يفسح الله لكم} في القبر.
{والثالث}: {يفسح الله لكم} في المجلس، وهو فسحة للقلب وتوسعة للعلم والحكم، والله أعلم...
{يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} أخبر أنه يرفع الله الذين أوتوا العلم من المؤمنين على الذين لم يؤتوا العلم درجات لفضل العلم على سائر العبادات...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
السبب مجلس النبي عليه السلام، والحكم في سائر المجالس التي هي للطاعات...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
فِي تَفْسِيرِ الْمَجْلِسِ: فِيهِ أَرْبَعَة أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَجْلِسُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ...وَكَانَ قَوْمٌ إذَا أَخَذُوا فِيهِ مَقَاعِدَهُمْ شَحُّوا عَلَى الدَّاخِلِ أَنْ يَفْسَحُوا لَهُ...
[عَنْ أَنَسٍ] قَالَ: «بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فِي الْمَسْجِدِ، وَقَدْ أَطَافَ بِهِ أَصْحَابُهُ إذْ أَقْبَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَوَقَفَ وَسَلَّمَ، ثُمَّ نَظَرَ مَجْلِسًا يُشْبِهُهُ؛ فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ أَيُّهُمْ يُوَسِّعُ لَهُ؛ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ جَالِسًا عَلَى يَمِينِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فَتَزَحْزَحَ لَهُ عَنْ مَجْلِسِهِ، وَقَالَ: هَا هُنَا يَا أَبَا الْحَسَنِ، فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وَبَيْنَ أَبِي بَكْرٍ. قَالَ: فَرَأَيْنَا السُّرُورَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ؛ إنَّمَا يَعْرِفُ الْفَضْلَ لِأَهْلِ الْفَضْلِ ذَوُو الْفَضْلِ»...
الثَّانِي: أَنَّهُ الْمَسْجِدُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَجْلِسُ الذِّكْرِ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ مَوْقِفُ الصَّفِّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي الْقِتَالِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْجَمِيعَ مُرَادٌ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ مُحْتَمِلٌ لَهُ، وَالتَّفَسُّحُ وَاجِبٌ فِيهِ...
المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {اُنْشُزُوا فَانْشُزُوا}: فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا جَلَسُوا مَعَ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فِي مَجْلِسِهِ أَطَالُوا، يَرْغَبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ آخِرَ عَهْدِهِ بِالنَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فَأَمَرَهُمْ اللَّهُ أَنْ يَرْتَفِعُوا.
الثَّانِي: أَنَّهُ الْأَمْرُ بِالِارْتِفَاعِ إلَى الْقِتَالِ...
الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَوْضِعُ الصَّلَاةِ...الرَّابِعُ: أَنَّهُ الْخَيْرُ كُلُّهُ...وَهُوَ الصَّحِيحُ، كَمَا بَيَّنَّاهُ.
المسألة الثَّالِثَةُ: الْفُسْحَةُ كُلُّ فَرَاغٍ بَيْنَ مَلَأَيْنِ...
وَالنَّشْزُ: مَا ارْتَفَعَ من الْأَرْضِ. ذَكَرَ الْأَوَّلَ بِلَفْظِهِ وَحَقِيقَتِهِ، وَضَرَبَ الْمَثَلَ لِلثَّانِي فِي الِارْتِفَاعِ؛ فَصَارَ مَجَازًا فِي اللَّفْظِ حَقِيقَةً فِي الْمَعْنَى.
المسألة الرَّابِعَةُ: كَيْفِيَّةُ التَّفَسُّحِ فِي الْمَجَالِسِ مُشْكِلَةٌ، وَتَفَاصِيلُهَا كَثِيرَةٌ:
الْأَوَّلُ مَجْلِسُ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -يُفْسَحُ فِيهِ بِالْهِجْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالسِّنِّ. الثَّانِي مَجْلِسُ الْجُمُعَاتِ يتَقَدَّمُ فِيهِ بِالْبُكُورِ إلَّا مَا يَلِي الْإِمَامَ، فَإِنَّهُ لِذَوِي الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى.
الثَّالِثُ: مَجْلِسُ الذِّكْرِ يَجْلِسُ فِيهِ كُلُّ أَحَدٍ حَيْثُ انْتَهَى بِهِ الْمَجْلِسُ...
الرَّابِعُ مَجْلِسُ الْحَرْبِ يَتَقَدَّمُ فِيهِ ذَوُو النَّجْدَةِ وَالْمِرَاسِ من النَّاسِ. الْخَامِسُ مَجْلِسُ الرَّأْيِ وَالْمُشَاوَرَةِ يَتَقَدَّمُ فِيهِ مَنْ لَهُ بَصَرٌ بِالشُّورَى، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي مَجْلِسِ الذِّكْرِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ يَتَضَمَّنُهُ قَوْلُهُ: {يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} فَيَرْتَفِعُ الْمَرْءُ بِإِيمَانِهِ أَوَّلًا، ثُمَّ بِعِلْمِهِ ثَانِيًا...
وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يُقَدِّمُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَلَى الصَّحَابَةِ، فَكَلَّمُوهُ فِي ذَلِكَ، فَدَعَاهُمْ وَدَعَاهُ، وَسَأَلَهُمْ عَنْ تَفْسِيرِ {إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فَسَكَتُوا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -أَعْلَمَهُ اللَّهُ إيَّاهُ، فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إلَّا مَا تَعْلَمُ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{يا أيها الذين آمنوا} حداهم بهذا الوصف على الامتثال، {إذا قيل لكم} أي من أيّ قائل كان فإن الخير يرغب فيه لذاته: {تفسحوا} أي توسعوا أي كلفوا أنفسكم في إيساع المواضع {في المجلس} أي الجلوس أو مكانه لأجل من يأتي فلا يجد مجلساً يجلس فيه {فافسحوا} أي وسعوا فيه عن سعة صدر {يفسح الله} أي الذي له الأمر كله والعظمة الكاملة {لكم} في كل ما تكرهون ضيقه من الدارين. ولما كانت التوسعة يكفي فيها التزحزح مع دوام الجلوس تارة، وأخرى تدعو الحاجة فيها إلى القيام للتحول من مكان إلى آخر قال: {وإذا قيل} أيّ من قائل كان -كما مضى- إذا كان يريد الإصلاح و الخير {انشزوا} أي ارتفعوا وانهضوا إلى الموضع الذي تؤمرون به أو يقتضيه الحال للتوسعة أو غيرها من الأوامر {يرفع الله} الذي له جميع صفات الكمال، عبر بالجلالة وأعاد إظهارها موضع الضمير ترغيباً في الامتثال لما للنفس من الشح بما يخالف المألوف {الذين آمنوا} وإن كانوا غير علماء، {منكم} أيها المأمورون بالتفسح السامعون للأوامر، المبادرون إليها في الدنيا والآخرة بالنصر وحسن الذكر بالتمكن في وصف الإيمان الموجب لعلو الشأن بطاعتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم في سعة صدورهم بتوسعتهم لإخوانهم. ولما كان المؤمن قد لا يكون من المشهورين بالعلم قال: {والذين} ولما كان العلم في نفسه كافياً في الإعلاء من غير نظر إلى مؤت معين، بنى للمفعول قوله: {أوتوا العلم} أي وهم مؤمنون {درجات}، درجة بامتثال الأمر وأخرى بالإيمان، ودرجة بفضل علمهم وسابقتهم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويظهر من بعض الروايات التي حكت سبب نزول الآية أن لها علاقة واقعية بالمنافقين، مما يجعل بينها وبين الآيات قبلها أكثر من ارتباط واحد في السياق. قال قتادة: نزلت هذه الآية في مجالس الذكر، وذلك أنهم كانوا إذا رأوا أحدهم مقبلا ضنوا بمجالسهم عند رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فأمرهم الله تعالى أن يفسح بعضهم لبعض... (فافسحوا يفسح الله لكم).. ويعد الناشزين الذين يرفعون من المكان ويخلونه عن طاعة لأمر الرسول برفعة في المقام: (وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات).. وذلك جزاء تواضعهم وقيامهم عند تلقي الأمر بالقيام. وقد كانت المناسبة مناسبة قرب من الرسول [صلى الله عليه وسلم] لتلقي العلم في مجلسه. فالآية تعلمهم: أن الإيمان الذي يدفع إلى فسحة الصدر وطاعة الأمر، والعلم الذي يهذب القلب فيتسع ويطيع؛ يؤديان إلى الرفعة عند الله درجات. وفي هذا مقابل لرفعة المكان الذي تطوعوا بتركه ورفعوا عنه لاعتبار رآه الرسول [صلى الله عليه وسلم] (والله بما تعملون خبير).. فهو يجزي به عن علم ومعرفة بحقيقة ما تعملون، وبما وراءه من شعور مكنون. وهكذا يتولى القرآن تربية النفوس وتهذيبها، وتعليمها الفسحة والسماحة والطاعة بأسلوب التشويق والاستجاشة. فالدين ليس بالتكاليف الحرفية، ولكنه تحول في الشعور، وحساسية في الضمير...
{ يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس } ، توسعوا في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم { فافسحوا } أوسعوا المجلس ، { يفسح الله لكم } يوسعه عليكم نزلت في قوم كانوا يبكرون إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأخذون مجالسهم بالقرب منه فإذا دخل غيرهم ضنوا بمجالسهم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن
12 13 يكرم أهل بدر ، فدخلوا يوما فقاموا بين يديه ولم يجدوا عنده مجلسا ولم يقم لهم أحد من هؤلاء الذين أخذوا مجالسهم ، فكره النبي عليه السلام ذلك فنزلت هذه الآية ، وأمرهم أن يوسعوا في المجلس لمن أراد النبي صلى الله عليه وسلم { وإذا قيل انشزوا فانشزوا } وإذا قيل لكم قوموا إلى صلاة أو جهاد أو عمل خير فانهضوا { يرفع الله الذين آمنوا منكم } بطاعة الرسول { والذين أوتوا العلم درجات } في الجنة .
الأولى- قوله تعالى :{ يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس{[14777]} } لما بين أن اليهود يحيونه بما لم يحيه به الله وذمهم على ذلك وصل به الأمر بتحسين الأدب في مجالسة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى لا يضيقوا عليه المجلس ، وأمر المسلمين بالتعاطف والتآلف حتى يفسح بعضهم لبعض ، حتى يتمكنوا من الاستماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم والنظر إليه . قال قتادة ومجاهد : كانوا يتنافسون في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ، فأمروا أن يفسح بعضهم لبعض . وقاله الضحاك . وقال ابن عباس : المراد بذلك مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب . قال الحسن ويزيد بن أبي حبيب : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قاتل المشركين تشاح أصحابه على الصف الأول{[14778]} فلا يوسع بعضهم لبعض ، رغبة في القتال والشهادة فنزلت . فيكون كقوله : { مقاعد للقتال{[14779]} } [ آل عمران : 121 ] . وقال مقاتل : كان النبي صلى الله عليه وسلم في الصفة ، وكان في المكان ضيق يوم الجمعة ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فجاء أناس من أهل بدر فيهم ثابت بن قيس بن شماس وقد سبقوا في المجلس ، فقاموا حيال النبي صلى الله عليه وسلم على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم فلم يفسحوا لهم ، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لمن حول من غير{[14780]} أهل بدر : ( قم يا فلان وأنت يا فلان ) بعدد القائمين من أهل بدر ، فشق ذلك على من أقيم ، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الكراهية في وجوههم ، فغمز المنافقون وتكلموا بأن قالوا : ما أنصف هؤلاء وقد أحبوا القرب من نبيهم فسبقوا إلى المكان ، فأنزل الله عز وجل هذه الآية . { تفسحوا }أي توسعوا ، وفسح فلان لأخيه في مجلسه يفسح فسحا أي وسع له ، ومنه قولهم : بلد فسيح ولك في كذا فسحة ، وفسح يفسح مثل منع يمنع ، أي وسع في المجلس ، وفسح يفسح فساحة مثل كرم يكرم كرامة{[14781]} أي صار واسعا ، ومنه مكان فسيح .
الثانية- قرأ السلمي وزر بن حبيش وعاصم { في المجالس } . وقرأ قتادة وداود بن أبي هند والحسن باختلاف عنه { إذا قيل لكم تفاسحوا } الباقون { تفسحوا في المجلس } فمن جمع فلأن قوله : { تفسحوا في المجالس } ينبيء أن لكل واحد مجلسا . وكذلك إن أريد به الحرب . وكذلك يجوز أن يراد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وجمع ؛ لأن لكل جالس مجلسا . وكذلك يجوز إن أريد بالمجلس المفرد مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ، ويجوز أن يراد به الجمع على مذهب الجنس ، كقولهم : كثر الدينار والدرهم .
قلت : الصحيح في الآية أنها عامة في كل مجلس اجتمع المسلمون فيه للخير والأجر ، سواء كان مجلس حرب أو ذكر أو مجلس يوم الجمعة ، فإن كل واحد أحق بمكانه الذي سبق إليه قال صلى الله عليه وسلم : ( من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به{[14782]} ) ولكن يوسع لأخيه ما لم يتأذ فيخرجه الضيق عن موضعه . روى البخاري ومسلم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه ) . وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يقام الرجل من مجلسه ويجلس فيه آخر ، ولكن تفسحوا وتوسعوا . وكان ابن عمر يكره أن يقوم الرجل من مجلسه ثم يجلس مكانه . لفظ البخاري .
الثالثة- إذا قعد واحد من الناس في موضع من المسجد لا يجوز لغيره أن يقيمه حتى يقعد مكانه ، لما روى مسلم عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة ثم يخالف إلى مقعده فيقعد فيه ولكن يقول : افسحوا ) .
فرع : القاعد في المكان إذا قام حتى يقعد غيره موضعه نُظِر ، فإن كان الموضع الذي قام إليه مثل الأول في سماع كلام الإمام لم يكره له ذلك ، وإن كان أبعد من الإمام كره له ذلك ؛ لأن فيه تفويت حظه .
الرابعة- إذا أمر إنسان إنسانا أن يبكر إلى الجامع فيأخذ له مكانا يقعد فيه لا يكره ، فإذا جاء الآمر يقوم من الموضع ، لما روي : أن ابن سيرين كان يرسل غلامه إلى مجلس له في يوم الجمعة فيجلس له فيه ، فإذا جاء قام له منه .
فرع : وعلى هذا من أرسل بساطا أو سجادة فتبسط له في موضع من المسجد{[14783]} .
الخامسة- روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا قام أحدكم - وفي حديث أبي عوانة من قام من مجلسه - ثم رجع إليه فهو أحق به ) قال علماؤنا : هذا يدل على صحة القول بوجوب اختصاص الجالس بموضعه إلى أن يقوم منه ، لأنه إذا كان أولى به بعد قيامه فقبله أولى به وأحرى . وقد قيل : إن ذلك على الندب ؛ لأنه موضع غير متملك لأحد لا قبل الجلوس ولا بعد ، وهذا فيه نظر ، وهو أن يقال : سلمنا أنه غير متملك لكنه يختص به إلى أن يفرغ غرضه منه ، فصار كأنه يملك منفعته ، إذ قد منع غيره من يزاحمه عليه . والله أعلم .
السادسة- قوله تعالى :{ يفسح الله لكم } أي في قبوركم ، وقيل : في قلوبكم ، وقيل : يوسع عليكم في الدنيا والآخرة . { وإذا قيل انشزوا فانشزوا } ، قرأ نافع وابن عامر وعاصم بضم الشين فيهما . وكسر الباقون ، وهما لغتان مثل { يعكفون{[14784]} }[ الأعراف : 138 ] و{ يعرشون{[14785]} } [ الأعراف : 137 ] ، والمعنى انهضوا إلى الصلاة والجهاد وعمل الخير ، قاله أكثر المفسرين . وقال مجاهد والضحاك : إذا نودي للصلاة فقوموا إليها ، وذلك أن رجالا تثاقلوا عن الصلاة فنزلت . وقال الحسن ومجاهد أيضا : أي انهضوا إلى الحرب . وقال ابن زيد : هذا في بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، كان كل رجل منهم يحب أن يكون آخر عهده بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال الله تعالى : { وإذا قيل انشزوا } ، عن النبي صلى الله عليه وسلم { فانشزوا } فإن له حوائج فلا تمكثوا . وقال قتادة : المعنى أجيبوا إذا دعيتم إلى أمر بمعروف ، وهذا هو الصحيح ، لأنه يعم . والنشز الارتفاع ، مأخوذ من نشز الأرض وهو ارتفاعها ، يقال نشز ينشز وينشز إذا انتحى من موضعه ، أي ارتفع منه ، وامرأة ناشز منتحية عن زوجها ، وأصل هذا من النشز ، والنشز هو ما ارتفع من الأرض وتنحى ، ذكره النحاس .
السابعة- قوله تعالى : { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات{[14786]} } ، أي في الثواب في الآخرة وفي الكرامة في الدنيا ، فيرفع المؤمن على من ليس بمؤمن والعالم على من ليس بعالم . وقال ابن مسعود : مدح الله العلماء في هذه الآية . والمعنى أنه يرفع الله الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم { درجات } أي درجات في دينهم إذا فعلوا ما أمروا به ، وقيل : كان أهل الغنى يكرهون أن يزاحمهم من يلبس الصوف فيستبقون إلى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فالخطاب لهم . ورأى عليه الصلاة والسلام رجلا من الأغنياء يقبض ثوبه نفورا من بعض الفقراء أراد أن يجلس إليه فقال : ( يا فلان خشيت أن يتعدى غناك إليه أو فقره إليك ) ، وبين في هذه الآية أن الرفعة عند الله تعالى بالعلم والإيمان لا بالسبق إلى صدور المجالس . وقيل : أراد بالذين أوتوا العلم الذين قرؤوا القرآن . وقال يحيى بن يحيى عن مالك : { يرفع الله الذين آمنوا منكم } الصحابة { والذين أوتوا العلم درجات }يرفع الله بها العالم والطالب للحق .
قلت : والعموم أوقع في المسألة وأولى بمعنى الآية ، فيرفع المؤمن{[14787]} بإيمانه أولا ثم بعلمه ثانيا . وفي الصحيح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقدم عبدالله بن عباس على الصحابة ، فكلموا في ذلك فدعاهم ودعاه ، وسألهم عن تفسير { إذا جاء نصر الله والفتح{[14788]} }[ النصر : 1 ] فسكتوا ، فقال ابن عباس : هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله إياه . فقال عمر : ما أعلم منها إلا ما تعلم . وفي البخاري عن عبدالله بن عباس قال : قدم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس بن حصن ، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر ، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته كهولا كانوا أو شبانا . الحديث وقد مضى في آخر " الأعراف{[14789]} " . وفي صحيح مسلم أن نافع بن الحرث لقي عمر بعسفان وكان عمر يستعمله على مكة فقال : من استعملته على أهل الوادي ؟ فقال : ابن أبزى . فقال : ومن ابن أبزى ؟ قال : مولى من موالينا . قال : فاستخلفت عليهم مولى ! قال : إنه قارئ لكتاب الله وإنه عالم بالفرائض . قال عمر : أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال : ( إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين ) ، وقد مضى أول الكتاب{[14790]} ، ومضى القول في فضل العلم والعلماء في غير موضع من هذا الكتاب{[14791]} والحمد لله{[14792]} . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( بين العالم والعابد مائة درجة بين كل درجتين حَضْر الجواد المُضَمَّر سبعين سنة ) ، وعنه صلى الله عليه وسلم : ( فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب ) ، وعنه عليه الصلاة والسلام : ( يشفع يوم القيامة ثلاثة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء ) فأعظم بمنزلة هي واسطة بين النبوة والشهادة بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعن ابن عباس : خير سليمان عليه السلام بين العلم والمال والملك فاختار العلم فأعطي المال والملك معه .
ولما ذكر ما يحزن من السر لكونه اختصاصاً عن الجليس{[63316]} بالمقال فينشأ عنه ظن الكدر وتباعد القلوب ، أتبعه الاختصاص بالمجلس{[63317]} الذي هو مباعدة الأجسام اللازم لها من الظن ما لزم من الاختصاص بالسر في الكلام فينشأ عنه الحزن ، معلماً لهم بكمال رحمته وتمام رأفته بمراعاة حسن الأدب{[63318]} بينهم وإن كان من أمور العادة دون أحكام العبادة ، فقال مخاطباً لأهل الدرجة الدنيا في الإيمان لأنهم المحتاجون لمثل هذا الأدب : { يا أيها الذين آمنوا } حداهم بهذا الوصف على الامتثال ، { إذا قيل لكم } أي من أيّ قائل كان فإن الخير يرغب فيه لذاته :{ تفسحوا } أي توسعوا{[63319]} أي كلفوا أنفسكم في إيساع المواضع { في المجلس } أي الجلوس أو مكانه لأجل من يأتي فلا يجد مجلساً يجلس فيه ، والمراد بالمجلس جنس{[63320]} المكان الذي هم ماكثون به بجلوس{[63321]} أو قيام في صلاة أو غيرها لأنه أهل لأن يجلس فيه . وذلك في كل عصر ، ومجلس النبي صلى الله عليه وسلم أولى بذلك ، وقراءة عاصم{[63322]} بالجمع موضحة لإرادة الجنس { فافسحوا } أي وسعوا فيه عن سعة صدر { يفسح الله } أي الذي له الأمر كله والعظمة الكاملة { لكم } في كل ما تكرهون ضيقه{[63323]} من الدارين .
ولما كانت{[63324]} التوسعة يكفي فيها التزحزح مع دوام الجلوس تارة ، وأخرى تدعو الحاجة فيها إلى القيام للتحول{[63325]} من مكان إلى آخر قال : { وإذا قيل } أيّ من قائل كان - كما مضى - إذا{[63326]} كان يريد الإصلاح و{[63327]}الخير { انشزوا } أي ارتفعوا وانهضوا إلى الموضع الذي تؤمرون به أو يقتضيه الحال للتوسعة أو غيرها من الأوامر كالصلاة أو الجهاد وغيرهما { فانشزوا } أي{[63328]} فارتفعوا وانهضوا ، { يرفع الله } الذي له جميع صفات الكمال ، عبر بالجلالة وأعاد{[63329]} إظهارها موضع الضمير ترغيباً في الامتثال لما للنفس من الشح بما يخالف المألوف { الذين آمنوا } وإن كانوا غير علماء ، { منكم } أيها المأمورون بالتفسح{[63330]} السامعون للأوامر ، المبادرون إليها{[63331]} في الدنيا والآخرة بالنصر وحسن الذكر بالتمكن في وصف الإيمان الموجب لعلو الشأن بطاعتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم في سعة صدورهم بتوسعتهم لإخوانهم .
ولما كان المؤمن قد لا يكون{[63332]} من المشهورين{[63333]} بالعلم قال :{ والذين } ولما كان العلم في نفسه كافياً في الإعلاء من غير نظر إلى مؤت معين ، بنى للمفعول قوله :{ أوتوا العلم } أي وهم مؤمنون { درجات } ، درجة بامتثال الأمر وأخرى بالإيمان ، ودرجة بفضل علمهم وسابقتهم {[63334]} .
- روى الطبراني{[63335]} وأبو نعيم في كتاب العلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من جاءه أجله{[63336]} وهو يطلب العلم ليحيى به الإسلام لم يفضله النبيون إلا بدرجة واحدة " ، رواه الدارمي{[63337]} وابن السني في رياضة المتعلمين عن الحسن غير منسوب ، قال شيخنا : فقيل : هو البصري فيكون مرسلاً ، وعن الزبير : العلم ذكر فلا يحبه{[63338]} إلا ذكور{[63339]} الرجال .
وكلما كان الإنسان أعلم كان أذكر{[63340]} ، ولعله ترك التقييد ب " من " في هذا وإن كانت مرادة{[63341]} ليفهم أن العلم يعلي صاحبه مطلقاً ، فإن كان مؤمناً عاملاً بعلمه كان النهاية ، وإن كان عاصياً كان أرفع من مؤمن عاص وعار عن العلم ، وإن كان كافراً كانت رفعته دنيوية بالنسبة إلى كافر لا يعلم ، ودل على ذلك بختم الآية بقوله مرغباً مرهباً : { والله } أي والحال أن المحيط بكل شيء قدرة وعلماً { بما تعملون } أي حال الأمر وغيره { خبير * } أي عالم بظاهره وباطنه ، فإن كان العلم مزيناً بالعمل بامتثال الأوامر واجتناب النواهي وتصفية الباطن{[63342]} كانت الرفعة على حسبه ، وإن كان{[63343]} على غير ذلك فكذلك ، {[63344]}وقدم الجار ومدخوله وإن كان علمه سبحانه بالأشياء كلها على حد سواء تنبيهاً على مزيد الاعتناء بالأعمال{[63345]} ، لا سيما الباطنة من الإيمان والعلم اللذين هما الروح الأعظم ، لأن المقام لنزول الإنسان عن مكانه{[63346]} بالتفسح والانخفاض والارتفاع ، ولا يخفى ما في ذلك من حظ النفس الحامل على الجري مع الدسائس ، فكان جديراً بمزيد الترهيب ، وسبب الآية أن أهل العلم لما كانوا أحق بصدر المجلس لأنهم أوعى لما يقول صاحب المجلس ، كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " ليليني أولو الأحلام منكم والنهى {[63347]} " ، وكان صلى الله عليه وسلم يكرم أهل بدر{[63348]} من المهاجرين والأنصار ، فجاء أناس من أهل بدر منهم ثابت بن قيس بن شماس وقد سبق غيرهم إلى المجلس فقاموا حيال النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، فرد عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ثم سلموا على القوم فردوا عليهم فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع{[63349]} لهم فلم يفعلوا فقال لمن حوله من غير{[63350]} أهل بدر : قم يا فلان وأنت يا فلان ، فأقام من المجلس بقدر القادمين من أهل بدر ، فشق ذلك على من أقيم ، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الكراهية في وجوههم ، فقال المنافقون : ألستم تزعمون أن صاحبكم يعدل ، فوالله ما عدل على هؤلاء ، إن قوماً أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب من نبيهم فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه مكانهم ، فأنزل الله هذه الآية ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يقيم الرجل الرجل{[63351]} من مجلسه ثم يجلس فيه ، ولكن افسحوا يفسح الله لكم " رواه مسلم{[63352]} عن ابن عمر رضي الله عنهما ، وقال الحسن{[63353]} : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قاتل المشركين فصف{[63354]} أصحابه رضي الله عنهم للقتال تشاحوا{[63355]} على الصف الأول فيقول الرجل لإخوانه : توسعوا لنلقى العدو فنصيب الشهادة ، فلا يوسعون له رغبة منهم في الجهاد والشهادة ، فأنزل الله هذه الآية ، وهي دالة على {[63356]}أن الصالح{[63357]} إن كره مجاورة فاسق منع من مجاورته لأنه يؤذيه ويشغله عن كثير من مهماته ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا ضرر ولا ضرار " وقال : " أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة فإن جار البادية يتحول " وقال : " شر الناس من لا يآمن جاره بوائقه " فقال{[63358]} تعالى معظماً لرسوله صلى الله عليه وسلم وناهياً عن إبرامه صلى الله عليه وسلم بالسؤال والمناجاة ، ونافعاً للفقراء والتمييز{[63359]} بين المخلص والمنافق ومحب الآخرة ومحب الدنيا ،
قوله تعالى : { ياأيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسّحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير } .
يأمر الله عباده المؤمنين بحسن الأدب في مجالس العلم والذكر ، فما ينبغي أن تكون بينهم أثرة أو فظاظة في الأسلوب والتخاطب ، وإنما يأمرهم ربهم بالتعاطف والتآلف والتواضع فيما بينهم ، ليكونوا على الدوام إخوة مؤتلفين متحابين .
وفي سبب نزول هذه الآية قال قتادة : نزلت هذه الآية في مجالس الذكر وذلك أنهم كانوا إذا رأوا أحدهم مقبلا ضنوا بمجالسهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم الله تعالى أن يفسح بعضهم لبعض .
وقيل : أنزلت هذه الآية يوم الجمعة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ في الصفة وفي المكان ضيق ، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فأتى ناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجالس فقاموا حيال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، فرد النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم سلموا على القوم بعد ذلك فردوا عليهم فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم ، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ما يحملهم على القيام فلم يفسح لهم فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر : " قم يا فلان فلم يزل يقيمهم بعدّة النفر الذين هم قيام بين يديه من المهاجرين والأنصار أهل بدر ، فشق ذلك على من أقيم من مجلسه وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الكراهة في وجوههم فقال المنافقون : ألستم تزعمون أن صاحبكم هذا يعدل بين الناس ؟ {[4484]} فوالله ما عدل على هؤلاء قوم أخذوا مجالسهم ، وأحبهم القرب من نبيهم أقامهم وأجلس من أبطأ عنهم مقامهم فأنزل الله تعالى هذه الآية وهو قوله : { ياأيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم } تفسحوا ، من الفسحة وهي السعة . وفسح له في المجلس أي وسع له ، وتفسحوا في المجلس وتفاسحوا أي توسعوا{[4485]} .
والآية عامة في سائر المجالس التي يجتمع فيها المسلمون للخير والبر والصلاح سواء جلسوا للذكر أو العلم أو الحرب . فكل مسلم هو أحق بمكانه الذي سبق إليه ، وفي الحديث : " من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به " ومع ذلك فإن على المسلم أن يفسح لأخيه في المجلس وهو أن يوسع له ، ليمكنه الجلوس فيه من أجل الاستفادة وكسب الأجر ، وفي النهي عن أن يقام المرء من مجلسه ليجلس فيه آخر ، روى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ليجلس فيه آخر ، ولكن تفسحوا وتوسعوا " وعلى هذا إذا قعد الرجل في موضع من المسجد فليس لغيره أن يقيمه حتى يقعد مكانه ، وفي ذلك روى مسلم عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة ثم يخالف إلى مقعده فيقعد فيه ولكن يقول : " افسحوا " .
قوله : { يفسح الله لكم } أن يوسع الله منازلكم في الجنة ، أو في قبوركم ، أو يوسع الله عليكم في الدنيا والآخرة .
قوله : { وإذا قيل انشزوا فانشزوا } انشزوا ، من النشز وهو المكان المرتفع من الأرض . ونشز الرجل ، أي ارتفع في المكان ، وإنشاز عظام الميت رفعها إلى مواضعها وتركيب بعضها على بعض ، ونشزت المرأة ، أي استعصت على بعلها وأبغضته{[4486]} .
والمعنى : إذا دعيتم إلى خير أو معروف أو إصلاح فأجيبوا ، أو إذا قيل لكم : انهضوا إلى الصلاة أو إلى قتال العدو ، أو قيل لكم : تفرقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقوموا .
قوله : { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتو العلم درجات } وذلك تكريم من الله للعلم وأهله ، فهم أولو درجات عالية في الآخرة ولهم من الله في الدنيا حسن الثواب .
وإنما يكون التكريم والاعتبار للناس بحسب ما في قلوبهم من الإيمان والعقيدة والتقوى ، وبما أوتوه من رصيد العلم في مختلف علوم الإسلام ، وغير ذلك من العلوم الكونية التي لا مناص للمسلمين من تعلمها والاستفادة منها لتقووا بها على رد العدوان من المعتدين ، ودفع الشر والكيد عن أنفسهم من الظالمين المتربصين .
ويستفاد من الآية أيضا أن المؤمن العالم خير من المؤمن غير العالم ، وإن كان في كل منهما خير . وبذلك فإن العالم لذو شأن عظيم في ميزان الله ، وكذلك العلماء المؤمنون فإنهم أولو كرامة ظاهرة ومميزة يفوقون بها غيرهم درجات ، وفي الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم : " فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب " وعنه صلى الله عليه وسلم : " يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ، ثم العلماء ، ثم الشهداء " .
قوله : { والله بما تعملون خبير } الله خبير بأهل الإيمان والعلم والطاعة الذين يخشون ربهم ويخافون عقابه ويبتغون بعلمهم وجه ربهم{[4487]} .