من وقر . يقر . أي ثقل واستقر . وليس معنى هذا الأمر ملازمة البيوت فلا يبرحنها إطلاقا . إنما هي إيماءة لطيفة إلى أن يكون البيت هو الأصل في حياتهن ، وهو المقر وما عداه استثناء طارئا لا يثقلن فيه ولا يستقررن . إنما هي الحاجة تقضى ، وبقدرها .
والبيت هو مثابة المرأة التي تجد فيها نفسها على حقيقتها كما أرادها الله تعالى . غير مشوهة ولا منحرفة ولا ملوثة ، ولا مكدودة في غير وظيفتها التي هيأها الله لها بالفطرة .
" ولكي يهيئ الإسلام للبيت جوه ويهيىء للفراخ الناشئة فيه رعايتها ، أوجب على الرجل النفقة ، وجعلهافريضة ، كي يتاح للأم من الجهد ، ومن الوقت ، ومن هدوء البال ، ما تشرف به على هذه الفراخ الزغب ، وما تهيئ به للمثابة نظامها وعطرها وبشاشتها . فالأم المكدودة بالعمل للكسب ، المرهقة بمقتضيات العمل ، المقيدة بمواعيده ، المستغرقة الطاقة فيه . . لا يمكن أن تهب للبيت جوه وعطره ، ولا يمكن أن تمنح الطفولة النابتة فيه حقها ورعايتها . وبيوت الموظفات والعاملات ما تزيد على جو الفنادق والخانات ؛ وما يشيع فيها ذلك الأرج الذي يشيع في البيت . فحقيقة البيت لا توجد إلا أن تخلقها امرأة ، وأرج البيت لا يفوح إلا أن تطلقه زوجة ، وحنان البيت لا يشيع إلا أن تتولاه أم . والمرأة أو الزوجة أو الأم التي تقضي وقتها وجهدها وطاقتها الروحية في العمل لن تطلق في جو البيت إلا الإرهاق والكلال والملال .
" وإن خروج المرأة لتعمل كارثة على البيت قد تبيحها الضرورة . أما أن يتطوع بها الناس وهم قادرون على اجتنابها ، فتلك هي اللعنة التي تصيب الأرواح والضمائر والعقول ، في عصور الانتكاس والشرور والضلال " .
فأما خروج المرأة لغير العمل . خروجها للاختلاط ومزاولة الملاهي . والتسكع في النوادي والمجتمعات . . . فذلك هو الارتكاس في الحمأة الذي يرد البشر إلى مراتع الحيوان !
ولقد كان النساء على عهد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يخرجن للصلاة غير ممنوعات شرعا من هذا . ولكنه كان زمان فيه عفة ، وفيه تقوى ، وكانت المرأة تخرج إلى الصلاة متلفعة لا يعرفها أحد ، ولا يبرز من مفاتنها شيء . ومع هذا فقد كرهت عائشة لهن أن يخرجن بعد وفاة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] !
في الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت : كان نساء المؤمنين يشهدن الفجر مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ثم يرجعن متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس .
وفي الصحيحين أيضا أنها قالت : لو أدرك رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ما أحدث النساء لمنعهن من المساجد ، كما منعت نساء بني إسرائيل !
فماذا أحدث النساء في حياة عائشة - رضي الله عنها - ? وماذا كان يمكن أن يحدثن حتى ترى أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كان مانعهن من الصلاة ? ! ماذا بالقياس إلى ما نراه في هذه الأيام ? !
( ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ) . .
ذلك حين الاضطرار إلى الخروج ، بعد الأمر بالقرار في البيوت . ولقد كانت المرأة في الجاهلية تتبرج . ولكن جميع الصور التي تروى عن تبرج الجاهلية الأولى تبدو ساذجة أو محتشمة حين تقاس إلى تبرج أيامنا هذه في جاهليتنا الحاضرة !
قال مجاهد : كانت المرأة تخرج تمشي بين الرجال . فذلك تبرج الجاهلية !
وقال قتادة : وكانت لهن مشية تكسر وتغنج . فنهى الله تعالى عن ذلك !
وقال مقاتل بن حيان : والتبرج أنها تلقي الخمار على رأسها ولا تشده فيداري قلائدها وقرطها وعنقها ، ويبدو ذلك كله منها . وذلك التبرج !
وقال ابن كثير في التفسير : كانت المرأة منهن تمر بين الرجال مسفحة بصدرها لا يواريه شيء ؛ وربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها وأقرطة آذانها . فأمر الله المؤمنات أن يستترن في هيئاتهن وأحوالهن .
هذه هي صور التبرج في الجاهلية التي عالجها القرآن الكريم . ليطهر المجتمع الإسلامي من آثارها ويبعد عنه عوامل الفتنة ، ودواعي الغواية ؛ ويرفع آدابه وتصوراته ومشاعره وذوقه كذلك !
ونقول : ذوقه . . فالذوق الإنساني الذي يعجب بمفاتن الجسد العاري ذوق بدائي غليظ . وهو من غير شك أحط من الذوق الذي يعجب بجمال الحشمة الهادئ ، وما يشي به من جمال الروح ، وجمال العفة ، وجمال المشاعر .
وهذا المقياس لا يخطئ في معرفة ارتفاع المستوى الإنساني وتقدمه . فالحشمة جميلة جمالا حقيقيا رفيعا . ولكن هذا الجمال الراقي لا يدركه أصحاب الذوق الجاهلي الغليظ ، الذي لا يرى إلا جمال اللحم العاري ، ولا يسمع إلا هتاف اللحم الجاهر !
ويشير النص القرآني إلى تبرج الجاهلية ، فيوحي بأن هذا التبرج من مخلفات الجاهلية . التي يرتفع عنها من تجاوز عصر الجاهلية ، وارتفعت تصوراته ومثله ومشاعره عن تصورات الجاهلية ومثلها ومشاعرها .
والجاهلية ليست فترة معينة من الزمان . إنما هي حالة اجتماعية معينة ، ذات تصورات معينة للحياة . ويمكن أن توجد هذه الحالة ، وأن يوجد هذا التصور في أي زمان وفي أي مكان ، فيكون دليلا على الجاهلية حيث كان !
وبهذا المقياس نجد أننا نعيش الآن في فترة جاهلية عمياء ، غليظة الحس ، حيوانية التصور ، هابطة في درك البشرية إلى حضيض مهين . وندرك أنه لا طهارة ولا زكاة ولا بركة في مجتمع يحيا هذه الحياة ؛ ولا يأخذ بوسائل التطهر والنظافة التي جعلها الله سبيل البشرية إلى التطهر من الرجس ، والتخلص من الجاهلية الأولى ؛ وأخذ بها ، أول من أخذ ، أهل بيت النبي [ صلى الله عليه وسلم ] على طهارته ووضاءته ونظافته .
والقرآن الكريم يوجه نساء النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إلى تلك الوسائل ؛ ثم يربط قلوبهن بالله ، ويرفع أبصارهن إلى الأفق الوضيء الذي يستمددن منه النور ، والعون على التدرج في مراقي ذلك الأفق الوضيء :
( وأقمن الصلاة ، وآتين الزكاة ، وأطعن الله ورسوله ) . .
وعبادة الله ليست بمعزل عن السلوك الاجتماعي أو الأخلاقي في الحياة ؛ إنما هي الطريق للإرتفاع إلى ذلك المستوى ؛ والزاد الذي يقطع به السالك الطريق . فلا بد من صلة بالله يأتي منها المدد والزاد . ولا بد من صلة بالله تطهر القلب وتزكيه . ولا بد من صلة بالله يرتفع بها الفرد على عرف الناس وتقاليد المجتمع وضغط البيئة ؛ ويشعر أنه أهدى وأعلى من الناس والمجتمع والبيئة . وأنه حري أن يقود الآخرين إلى النور الذي يراه ؛ لا أن يقوده الآخرون إلى الظلمات وإلى الجاهلية التي تغرق فيها الحياة ، كلما انحرفت عن طريق الله .
والإسلام وحدة تجمع الشعائر والآداب والأخلاق والتشريعات والنظم . . كلها في نطاق العقيدة . ولكل منها دور تؤديه في تحقيق هذه العقيدة ؛ وتتناسق كلها في اتجاه واحد ؛ ومن هذا التجمع والتناسق يقوم الكيان العام لهذا الدين . وبدونهما لا يقوم هذا الكيان .
ومن ثم كان الأمر بإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وطاعة الله ورسوله ، هو خاتمة التوجيهات الشعورية والأخلاقية والسلوكية لأهل البيت الكريم . لأنه لا يقوم شيء من تلك التوجيهات بغير العبادة والطاعة . . وكل ذلك لحكمة وقصد وهدف :
( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) . .
وفي التعبير إيحاءات كثيرة ، كلها رفاف ، رفيق ، حنون . .
فهو يسميهم ( أهل البيت )بدون وصف للبيت ولا إضافة . كأنما هذا البيت هو( البيت )الواحد في هذا العالم ، المستحق لهذه الصفة . فإذا قيل( البيت )فقد عرف وحدد ووصف . ومثل هذا قيل عن الكعبة . بيت الله . فسميت البيت . والبيت الحرام . فالتعبير عن بيت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كذلك تكريم وتشريف واختصاص عظيم .
وهو يقول : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس - أهل البيت - ويطهركم تطهيرا ) . . وفي العبارة تلطف ببيان علة التكليف وغايته . تلطف يشي بأن الله سبحانه - يشعرهم بأنه بذاته العلية - يتولى تطهيرهم وإذهاب الرجس عنهم . وهي رعاية علوية مباشرة بأهل هذا البيت . وحين نتصور من هو القائل - سبحانه وتعالى - رب هذا الكون . الذي قال للكون : كن . فكان . الله ذو الجلال والإكرام . المهيمن العزيز الجبار المتكبر . . حين نتصور من هو القائل - جل وعلا - ندرك مدى هذا التكريم العظيم .
وهو - سبحانه - يقول هذا في كتابه الذي يتلى في الملأ الأعلى ، ويتلى في هذه الأرض ، في كل بقعة وفي كل أوان ؛ وتتعبد به ملايين القلوب ، وتتحرك به ملايين الشفاه .
وأخيرا فإنه يجعل تلك الأوامر والتوجيهات وسيلة لإذهاب الرجس وتطهير البيت . فالتطهير من التطهر ، وإذهاب الرجس يتم بوسائل يأخذ الناس بها أنفسهم ، ويحققونها في واقع الحياة العملي . وهذا هو طريق الإسلام . . شعور وتقوى في الضمير . وسلوك وعمل في الحياة . يتم بهما معا تمام الإسلام ، وتتحقق بهما أهدافه واتجاهاته في الحياة .
قوله تعالى : { وقرن في بيوتكن } قرأ أهل المدينة وعاصم : وقرن بفتح القاف ، وقرأ الآخرون بكسرها ، فمن فتح القاف فمعناه ، اقررن أي : الزمن بيوتكن ، من قولهم : قررت بالمكان أقر قراراً ، يقال : قررت أقر وقررت أقر ، وهما لغتان ، فحذفت الراء الأولى التي هي عين الفعل لثقل التضعيف ونقلت حركتها إلى القاف كقولهم : في ظللت ظلت ، قال الله تعالى : { فظلتم تفكهون } { وظلت عليه عاكفا } ومن كسر القاف فقد قيل : هو من قررت أقر ، معناه اقررن بكسر الراء ، فحذفت الأولى ونقلت حركتها إلى القاف كما ذكرنا ، وقيل : هو الأصح أنه أمر من الوقار ، كقولهم من الوعد : عدن ، ومن الوصل : صلن ، أي : كن أهل وقار وسكون ، من قولهم وقر فلان يقر وقوراً إذا سكن واطمأن . { ولا تبرجن } قال مجاهد وقتادة : التبرج هو التكسر والتغنج ، وقال ابن أبي نجيح : هو التبختر . وقيل : هو إظهار الزينة وإبراز المحاسن للرجال ، { تبرج الجاهلية الأولى } . اختلفوا في الجاهلية الأولى . قال الشعبي : هي ما بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم . وقال أبو العالية : هي في زمن داود وسليمان عليهما السلام ، كانت المرأة تلبس قميصاً من الدر غير مخيط من الجانبين فيرى خلقها فيه . وقال الكلبي : كان ذلك في زمن نمرود الجبار ، كانت المرأة تتخذ الدرع من اللؤلؤ فتلبسه وتمشي وسط الطريق ليس عليها شيء غيره وتعرض نفسها على الرجال . وروى عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال : الجاهلية الأولى بين نوح وإدريس ، وكانت ألف سنة ، وأن بطنين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل والآخر يسكن الجبل ، وكان رجال الجبل صباحاً وفي النساء دمامة ، وكان نساء السهل صباحاً وفي الرجال دمامة ، وأن إبليس أتى رجلاً من أهل السهل وأجر نفسه منه ، فكان يخدمه واتخذ شيئاً مثل الذي يزمر به الرعاء فجاء بصوت لم يسمع الناس مثله ، فبلغ ذلك من حولهم فأتوهم يستمعون إليه ، فاتخذوا عيداً يجتمعون إليه فيه في السنة ، فتتبرج النساء للرجال ويتزين الرجال لهن ، وأن رجلاً من أهل الجبل هجم عليهم في عيدهم ذلك فرأى النساء وصباحتهن فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك فتحولوا إليهم فنزلوا معهم فظهرت الفاحشة فيهم ، فذلك قوله تعالى : { ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى } . وقال قتادة : هي ما قبل الإسلام . وقيل : الجاهلية الأولى : ما ذكرنا ، والجاهلية الأخرى : قوم يفعلون مثل فعلهم في آخر الزمان . وقيل : قد تذكر الأولى وإن لم يكن لها أخرى ، كقوله تعالى : { وأنه أهلك عاداً الأولى } ولم يكن لها أخرى . قوله عز وجل : { وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا } أراد بالرجس : الإثم الذي نهى الله النساء عنه ، قاله مقاتل : وقال ابن عباس : يعني : عمل الشيطان وما ليس لله فيه رضا ، وقال قتادة : يعني : السوء . وقال مجاهد : الرجس الشك . وأراد بأهل البيت : نساء النبي صلى الله عليه وسلم لأنهن في بيته ، وهو رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وتلا قوله : { واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله } وهو قول عكرمة ومقاتل . وذهب أبو سعيد الخدري ، وجماعة من التابعين ، منهم مجاهد ، وقتادة ، وغيرهما : إلى أنهم علي وفاطمة والحسن والحسين .
حدثنا أبو الفضل زياد بن محمد الحنفي ، أنبأنا أبو محمد عبد الرحمن بن محمد الأنصاري ، أنبأنا أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعدي ، أنبأنا أبو همام الوليد بن شجاع ، أنبأنا يحيى بن زكريا بن زائدة ، أنبأنا أبي عن مصعب بن شيبة عن صفية بنت شيبة الحجبية ، عن عائشة أم المؤمنين قالت : " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة وعليه مرط مرجل من شعر أسود ، فجلس فأتت فاطمة فأدخلها فيه ثم جاء علي فأدخله فيه ، ثم جاء حسن فأدخله فيه ، ثم جاء حسين فأدخله فيه ، ثم قال : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً } .
أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد الحميدي ، أنبأنا أبو عبد الله الحافظ ، أنبأنا أبو العباس محمد بن يعقوب أنبأنا الحسن بن مكرم ، أنبأنا عثمان بن عمر ، أنبأنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار ، عن شريك بن أبي نمر ، عن عطاء بن يسار ، عن أم سلمة قالت : " في بيتي نزلت : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت } قالت : فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فاطمة وعلي والحسن والحسين ، فقال : هؤلاء أهل بيتي ، قالت : فقلت يا رسول الله أما أنا من أهل البيت ؟ قال : بلى إن شاء الله " . قال زيد بن أرقم : أهل بيته من حرم الصدقة عليه بعده ، آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس .
قوله تعالى : " وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى " فيه أربع مسائل :
الأولى- قوله تعالى : " وقرن " قرأ الجمهور " وقرن " بكسر القاف . وقرأ عاصم ونافع بفتحها . فأما القراءة الأولى فتحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون من الوقار ، تقول : وقر يقر وقارا أي سكن ، والأمر قر ، وللنساء قرن ، مثل عدن وزن . والوجه الثاني : وهو قول المبرد{[12809]} ، أن يكون من القرار ، تقول : قررت بالمكان ( بفتح الراء ) أقر ، والأصل أقررن ، بكسر الراء ، فحذفت الراء الأولى تخفيفا ، كما قالوا في ظللت : ظلت ، ومسست : مست ، ونقلوا حركتها إلى القاف ، واستغنى عن ألف الوصل لتحرك القاف . قال أبو علي : بل على إن أبدلت الراء ياء كراهة التضعيف ، كما أبدلت في قيراط ودينار ، ويصير للياء حركة الحرف المبدل منه ، فالتقدير : اقيرن ، ثم تلقى حركة الياء على القاف كراهة تحرك الياء بالكسر ، فتسقط الياء لاجتماع الساكنين ، وتسقط همزة الوصل لتحرك ما بعدها فيصير " قرن " . وأما قراءة أهل المدينة وعاصم ، فعلى لغة العرب : قررت في المكان إذا أقمت فيه ( بكسر الراء ) أقر ( بفتح القاف ) ، من باب حمد يحمد ، وهي لغة أهل الحجاز ذكرها أبو عبيد في " الغريب المصنف " عن الكسائي ، وهو من أجل مشايخه ، وذكرها الزجاج وغيره ، والأصل " اقررن " حذفت الراء الأولى لثقل التضعيف ، وألقيت حركتها على القاف فتقول : قرن . قال الفراء : هو كنا تقول : أحست صاحبك ، أي هل أحسست . وقال أبو عثمان المازني : قررت به عينا ( بالكسر لا غير ) ، من قرة العين . ولا يجوز قررت في المكان ( بالكسر ) وإنما هو قررت ( بفتح الراء ) ، وما أنكره من هذا لا يقدح في القراءة إذا ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فيستدل بما ثبت عنه من القراءة على صحة اللغة . وذهب{[12810]} أبو حاتم أيضا أن " قرن " لا مذهب له في كلام العرب . قال النحاس : وأما قول أبي حاتم : " لا مذهب له " فقد خولف فيه ، وفيه مذهبان : أحدهما ما حكاه الكسائي ، والآخر ما سمعت علي بن سليمان يقول ، قال : وهو من قررت به عينا أقر ، والمعنى : وأقررن به عينا في بيوتكن . وهو وجه حسن ، إلا أن الحديث يدل على أنه من الأول . كما روي أن عمارا قال لعائشة رضي الله عنها : إن الله قد أمرك أن تقري في منزلك ، فقالت : يا أبا اليقظان ، ما زلت قوالا بالحق ! فقال : الحمد لله الذي جعلني كذلك على لسانك . وقرأ ابن أبي عبلة " وأقررن " بألف وصل وراءين ، الأولى مكسورة .
الثانية- معنى هذه الآية الأمر بلزوم البيت ، وإن كان الخطاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى . هذا لو لم يرد دليل يخص جميع النساء ، كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن ، والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة ، على ما تقدم في غير موضع . فأمر الله تعالى نساء النبي صلى الله عليه وسلم بملازمة بيوتهن ، وخاطبهن بذلك تشريفا لهن ، ونهاهن عن التبرج ، وأعلم أنه فعل الجاهلية الأولى فقال : " ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى " . وقد تقدم معنى التبرج في " النور " {[12811]} . وحقيقته إظهار ما ستره أحسن ، وهو مأخوذ من السعة ، يقال : في أسنانه برج إذا كانت متفرقة . قاله المبرد . واختلف الناس في " الجاهلية الأولى ، فقيل : هي الزمن الذي ولد فيه إبراهيم عليه السلام ، كانت المرأة تلبس الدرع من اللؤلؤ ، فتمشي وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال . وقال الحكم بن عيينة : ما بين آدم ونوح ، وهي ثمانمائة سنة ، وحكيت لهم سير ذميمة . وقال ابن عباس : ما بين نوح وإدريس . الكلبي : ما بين نوج وإبراهيم . قيل : إن المرأة كانت تلبس الدرع من اللؤلؤ غير مخيط الجانبين ، وتلبس الثياب الرقاق ولا تواري بدنها . وقالت فرقة : ما بين موسى وعيسى . الشعبي : ما بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم . أبو العالية : هي زمان داود وسليمان ، كان فيه للمرأة قميص من الدر غير مخيط الجانبين . وقال أبو العباس المبرد : والجاهلية الأولى كما تقول الجاهلية الجهلاء . قال : وكان النساء في الجاهلية الجهلاء يظهرن ما يقبح إظهاره ، حتى كانت المرأة تجلس مع زوجها وخلها{[12812]} ، فينفرد خلها بما فوق الإزار إلى الأعلى ، وينفرد زوجها بما دون الإزار إلى الأسفل ، وربما سأل أحدهما صاحبه البدل . وقال مجاهد : كان النساء يتمشين بين الرجال ، فذلك التبرج . قال ابن عطية : والذي يظهر عندي أنه أشار للجاهلية التي لحقنها ، فأمرن بالنقلة عن سيرتهن فيها ، وهي ما كان قبل الشرع من سيرة الكفرة ؛ لأنهم كانوا لا غيرة ، كان أمر النساء دون حجاب{[12813]} ، وجعلها أولى بالنسبة إلى ما كان عليه ، وليس المعنى أن ثم جاهلية أخرى ، وقد أوقع اسم الجاهلية على تلك المدة التي قبل الإسلام ، فقالوا : جاهلي في الشعراء . وقال ابن عباس في البخاري : سمعت أبي في الجاهلية يقول ، إلى غير هذا .
قلت : وهذا قول حسن . ويعترض بأن العرب كانت أهل قشف وضنك في الغالب ، وأن التنعم وإظهار الزينة إنما جرى في الأزمان السابقة ، وهي المراد بالجاهلية الأولى ، وأن المقصود من الآية مخالفة من قبلهن من المشية على تغنيج وتكسير وإظهار المحاسن للرجال ، إلى غير ذلك مما لا يجوز شرعا . وذلك يشمل الأقوال كلها ويعمها فيلزمن البيوت ، فإن مست الحاجة إلى الخروج فليكن على تبذل{[12814]} وتستر تام . والله الموفق .
الثالثة- ذكر الثعلبي وغيره : أن عائشة رضي الله عنها كانت إذا قرأت هذه الآية تبكي حتى تبل خمارها . وذكر أن سودة قيل لها : لم لا تحجين ولا تعتمرين كما يفعل أخواتك ؟ فقالت : قد حججت واعتمرت ، وأمرني الله أن أقر في بيتي . قال الراوي : فوالله ما خرجت من باب حجرتها حتى أخرجت جنازتها . رضوان الله عليها .
قال ابن العربي : لقد دخلت نيفا على ألف قرية فما رأيت نساء أصون عيالا ولا أعف نساء من نساء نابلس ، التي رمي بها الخليل صلى الله عليه وسلم بالنار ، فإني أقمت فيها فما رأيت امرأة في طريق نهارا إلا يوم الجمعة ، فإنهن يخرجن إليها حتى يمتلئ المسجد منهن ، فإذا قضيت الصلاة وانقلبن إلى منازلهن لم تقع عيني على واحدة منهن إلى الجمعة الأخرى . وقد رأيت بالمسجد الأقصى عفائف ما خرجن معتكفهن حتى استشهدن فيه .
الرابعة- قال ابن عطية : بكاء عائشة رضي الله عنها إنما كان بسبب سفرها أيام الجمل ، وحينئذ قال لها عمار : إن الله قد أمرك أن تقري في بيتك . قال ابن العربي : تعلق الرافضة لعنهم الله - بهذه الآية على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إذ قالوا : إنها خالفت أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجت تقود الجيوش ، وتباشر الحروب ، وتقتحم مأزق الطعن والضرب فيما لم يفرض عليها ولا يجوز لها . قالوا : ولقد حصر عثمان ، فلما رأت ذلك أمرت برواحلها فقربت لتخرج إلى مكة ، فقال لها مروان : أقيمي هنا يا أم المؤمنين ، وردي هؤلاء الرعاع ، فإن الإصلاح بين الناس خير من حجك . قال ابن العربي : قال علماؤنا رحمة الله عليهم : إن عائشة رضي الله عنها نذرت الحج قبل الفتنة ، فلم تر التخلف عن نذرها ، ولو خرجت في تلك الثائرة لكان ذلك صوابا لها . وأما خروجها إلى حرب الجمل فما خرجت لحرب ، ولكن تعلق الناس بها ، وشكوا إليها ما صاروا إليه من عظيم الفتنة وتهارج الناس ، ورجوا بركتها ، وطمعوا في الاستحياء منها إذا وقفت إلى الخلق ، وظنت هي ذلك فخرجت{[12815]} مقتدية بالله في قوله : " لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس " {[12816]} [ النساء : 114 ] ، وقوله : " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما " {[12817]} [ الحجرات : 9 ] والأمر بالإصلاح مخاطب به جميع الناس من ذكر وأنثى ، حر أو عبد ، فلم يرد الله تعالى بسابق قضائه ونافذ حكمه أن يقع إصلاح ، ولكن جرت مطاعنات وجراحات ، حتى كاد يفني الفريقان ، فعمد بعضهم إلى الجمل فعرقبه ، فلما سقط الجمل لجنبه أدرك محمد بن أبي بكر عائشة رضي الله تعالى عنها ، فاحتملها إلى البصرة ، وخرجت في ثلاثين امرأة ، قرنهن علي بها حتى أوصلوها إلى المدينة برة تقية مجتهدة ، مصيبة مثابة فيما تأولت ، مأجورة فيما فعلت ، إذ كل مجتهد في الأحكام مصيب . وقد تقدم في " النحل " {[12818]} اسم هذا الجمل ، وبه يعرف ذلك اليوم .
قوله تعالى : " وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله " أي فيما أمر ونهى " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " قال الزجاج : قيل يراد به نساء النبي صلى الله عليه وسلم وقيل : يراد به نساؤه وأهله الذين هم أهل بيته ، على ما يأتي بيانه بعد و " أهل البيت " نصب على المدح قال : وإن شئت على البدل . قال : ويجوز الرفع والخفض . قال النحاس : إن خفض على أنه بدل من الكاف والميم لم يجز عند أبي العباس محمد بن يزيد ، قال لا يبدل من المخاطبة ولا من المخاطب ، لأنهما لا يحتاجان إلى تبيين . " ويطهركم تطهيرا " مصدر فيه معنى التوكيد .