في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{أَفَرَءَيۡتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَٰهَهُۥ هَوَىٰهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلۡمٖ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمۡعِهِۦ وَقَلۡبِهِۦ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِۦ غِشَٰوَةٗ فَمَن يَهۡدِيهِ مِنۢ بَعۡدِ ٱللَّهِۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (23)

وإلى جوار هذا الأصل الثابت يشير إلى الهوى المتقلب . الهوى الذي يجعل منه بعضهم إلها يتعبده ، فيضل ضلالا لا اهتداء بعده ، والعياذ بالله :

( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ، وأضله الله على علم ، وختم على سمعه وقلبه ، وجعل على بصره غشاوة ? فمن يهديه من بعد الله ? أفلا تذكرون ? ) . .

والتعبير القرآني المبدع يرسم نموذجاً عجيباً للنفس البشرية حين تترك الأصل الثابت ، وتتبع الهوى المتقلب وحين تتعبد هواها ، وتخضع له ، وتجعله مصدر تصوراتها وأحكامها ومشاعرها وتحركاتها . وتقيمه إلهاً قاهراً لها ، مستولياً عليها ، تتلقى إشاراته المتقلبة بالطاعة والتسليم والقبول . يرسم هذه الصورة ويعجِّب منها في استنكار شديد :

( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ? ) . .

أفرأيته ? إنه كائن عجيب يستحق الفرجة والتعجيب ! وهو يستحق من الله أن يضله ، فلا يتداركه برحمة الهدى . فما أبقى في قلبه مكاناً للهدى وهو يتعبد هواه المريض !

( وأضله الله على علم ) . .

على علم من الله باستحقاقه للضلالة . أو على علم منه بالحق ، لا يقوم لهواه ولا يصده عن اتخاذه إلهاً يطاع . وهذا يقتضي إضلال الله له والإملاء له في عماه :

( وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة ) . .

فانطمست فيه تلك المنافذ التي يدخل منها النور ؛ وتلك المدارك التي يتسرب منها الهدى . وتعطلت فيه أدوات الإدراك بطاعة للهوى طاعته العبادة والتسليم .

( فمن يهديه من بعد الله ? ) . .

والهدى هدى الله . وما من أحد يملك لأحد هدى أو ضلالة . فذلك من شأن الله ، الذي لا يشاركه فيه أحد ، حتى رسله المختارون .

( أفلا تذكرون ? ) . .

ومن تذكر صحا وتنبه ، وتخلص من ربقة الهوى ، وعاد إلى النهج الثابت الواضح ، الذي لا يضل سالكوه .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{أَفَرَءَيۡتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَٰهَهُۥ هَوَىٰهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلۡمٖ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمۡعِهِۦ وَقَلۡبِهِۦ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِۦ غِشَٰوَةٗ فَمَن يَهۡدِيهِ مِنۢ بَعۡدِ ٱللَّهِۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (23)

ثم قال [ تعالى ] {[26329]} { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } أي : إنما يأتمر بهواه ، فمهما رآه حسنا فعله ، ومهما رآه قبيحا تركه : وهذا قد يستدل به على المعتزلة في قولهم بالتحسين والتقبيح العقليين .

وعن مالك فيما روي عنه من التفسير : لا يهوى شيئا إلا عبده .

وقوله : { وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ } يحتمل قولين :

أحدها{[26330]} وأضله الله لعلمه أنه يستحق ذلك . والآخر : وأضله الله بعد بلوغ العلم إليه ، وقيام الحجة عليه . والثاني يستلزم الأول ، ولا ينعكس .

{ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً } أي : فلا يسمع ما ينفعه ، ولا يعي شيئا يهتدي به ، ولا يرى حجة يستضيء بها ؛ ولهذا قال : { فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } كقوله : { مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ{[26331]} وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الأعراف : 186 ] .


[26329]:- (8) زيادة من ت.
[26330]:- (9) في أ: "أحدهما".
[26331]:- (10) في ت، م: "ومن يضلل الله فما له من هاد" وهو خطأ.
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{أَفَرَءَيۡتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَٰهَهُۥ هَوَىٰهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلۡمٖ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمۡعِهِۦ وَقَلۡبِهِۦ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِۦ غِشَٰوَةٗ فَمَن يَهۡدِيهِ مِنۢ بَعۡدِ ٱللَّهِۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (23)

وقوله تعالى : { أفرأيت } سهل بعض القراء الهمزة وخففها قوم ، وكذلك هي في مصحف ابن مسعود مخففة ، وفي مصحف أبي بن كعب : «أفرايت » دون همز . وهذه الآية تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم عن المعرضين عن الإيمان ، أي لا تعجل بهم ولا تهتم بأمرهم ، فليس فيهم حيلة لبشر ، لأن الله تعالى أضلهم . وقال ابن جبير : قوله : { إلهه هواه } إشارة إلى الأصنام إذ كانوا يعبدون ما يهوون من الحجارة . وقال قتادة المعنى : لا يهوى شيئاً إلا ركبه ، لا يخاف الله ، وهذا كما يقال : الهوى إله معبود .

وقرأ الأعرج وابن جبير : «آلهة هواه » على التأنيث في «آلهة » .

وهذه الآية وإن كانت نزلت في هوى الكفر فهي متناولة جميع هوى النفس الأمارة ، قال ابن عباس : ما ذكر الله هوى إلا ذمه . وقال الشعبي : سمي هوى لهويه بصاحبه . وقال النبي عليه السلام : «والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله »{[10275]} وقال سهل التستري : هواك داؤك ، فإن خالفته فدواؤك . وقال سهل : إذا شككت في خير أمرين ، فانظر أبعدهما من هواك فأته . ومن حكمة الشعر في هذا قول القائل :

إذا أنت لم تعص الهوى قادك ال . . . هوى إلى كل ما فيه عليك مقال{[10276]}

وقوله تعالى : { على علم } قال ابن عباس المعنى : على علم من الله تعالى سابق . وقالت فرقة : أي على علم من هذا الضال بأن الحق هو الذي يترك ويعرض عنه ، فتكون الآية على هذا من آيات العناد من نحو قوله : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم }{[10277]} [ النمل : 14 ] وعلى كلا التأويلين : ف { على علم } ، حال .

وقوله تعالى : { وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة } استعارة كلها ، إذ هو الضال لا ينفعه ما يسمع ولا ما يفهم ولا ما يرى ، فكأنه بهذه الأوصاف المذكورة ، وهذه الآية لا حجة للجبرية فيها ، لأن التكسب فيها منصوص عليه في قوله : { اتخذ } وفي قوله : { على علم } على التأويل الأخير فيه ، ولو لم ينص على الاكتساب لكان مراداً في المعنى .

وقرأ أكثر القراء «غِشاوة » بكسر الغين . وقرأ عبد الله بن مسعود : «غَشاوة » بفتح الغين وهي لغة ربيعة ، وحكي عن الحسن وعكرمة : «غُشاوة » بضم الغين وهي لغة عكل ، وقرأ حمزة والكسائي : «غَشْوة » بفتح الغين وإسكان الشين .

و قرأ الأعمش وابن مصرف بكسر الغين دون ألف .

وقوله : { من بعد الله } فيه حذف مضاف تقديره : من بعد إضلال الله إياه .

وقرأ عاصم وأراه الجحدري : «تذكرون » بتخفيف الذال . وقرأ جمهور الناس : «تذّكرون » على الخطاب أيضاً بتشديد الذال . وقرأ الأعمش : «تتذكرون » بتاءين .


[10275]:أخرجه الترمذي في القيامة، وابن ماجه في الزهد، وأحمد في مسنده(4-124)، عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله).
[10276]:هذا البيت قاله هشام بن عبد الملك، ولم يقل غيره، قال ذلك صاحب كتاب "عيون الأخبار". والهوى: ما تريده النفس وتحبه، وإذا أطلق كان مذموما حتى يوصف بما يجعله حسنا، والمقال: قالة السوء عليه، يقول الشاعر: إذا لم تخالف رغبات نفسك وشهواتها قادك هواك إلى الخطأ فيتقول الناس عليك وينسبون لك كل قبيح مرذول.
[10277]:من الآية(14) من سورة (النمل).